نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

السابع : الأمّة إنّما عصمت عن الخطأ في استدلالها ، لأنّ إثبات الأحكام الشرعية من غير دليل خطأ ، والعامي ليس من أهل الاستدلال ، فلا يتصوّر ثبوت العصمة في حقّه. (١)

وفي الأوّل نظر ، لأنّ تخطئة العالم في الحكم مغايرة لتخطئة العامّي في القول بغير دليل ، وذلك يستلزم تخطئة كلّ واحد لا فيما اتّفقوا عليه ، فيكون بمنزلة الثالث إذا لم يرفع إجماعا ، وإنّما هو محال عند الإمامية.

واعترض على الثاني باحتمال أن يكون العامّي لا يتصوّر منه الإصابة لو انفرد بالحكم ، فما المانع من تصويبه مع الجماعة بتقدير موافقته لهم في أقوالهم ، ولا شك في أنّ العامّي مصيب في موافقته للعلماء ، وعلى هذا جاز أن تكون موافقته شرطا في جعل الإجماع حجّة.

وفيه نظر ، لأنّ قول العلماء إن كان حقّا لم يعتبر موافقة العامّي فيه ، فاستحال جعلها شرطا في كونه حجّة ، بل شرط كونه حجّة كونه حقّا ؛ وإن كان خطأ لم يصر بموافقة العامّي حقّا ، فلا يكون شرطا في كونه حجّة.

وعلى الثالث : نمنع إجماع الصحابة عليه.

وعلى الرابع : أنّه وإن كان لا بدّ في الإجماع من الاستدلال ، لكن من أهل الاستدلال أو مطلقا ، والأوّل مسلم والثاني ممنوع. وعلى هذا أمكن أن يكون موافقة العامّة للعلماء المستدلّين شرطا في جعل الإجماع حجّة وإن

__________________

(١) ذكر الآمدي ستة من هذه الوجوه مع الاعتراضات الواردة عليها والأجوبة عنها في الإحكام : ١ / ٢٨٤ ، المسألة الخامسة.

٢٦١

لم يكن العامي مستدلّا ، ولا يلزم من عدم اشتراط موافقة الصبيان والمجانين عدم اشتراط موافقة العامّة ، لما بينهما من التفاوت في قرب الفهم في حقّ العامة الموجب للتكليف وبعده في حقّ الصبيان والمجانين المانع من التكليف.

وفيه نظر ، فإنّ الإجماع إذا توقّف على الدليل وجب الرجوع إليه ، سواء انضم إليه قول العامّي أو لا ، فإنّ انضمام قول العامّي اتّفاقي كطلوع الشمس معه ، وكما لا يجوز جعل طلوع الشمس شرطا فكذا انضمام قول العامّي.

وعلى الخامس : أنّه وإن كان يجب على العامّي الرّجوع إلى قول العلماء ، فليس في ذلك ما يدلّ على أنّ أقوال العلماء دونه حجّة قاطعة على غيرهم من المجتهدين من بعدهم ، لجواز أن يكون الاحتجاج بأقوالهم على من بعدهم مشروطا بموافقة العامة لهم وإن لم يكن ذلك شرطا في وجوب اتّباع العامّة لهم فيما يفتون به.

وفيه نظر ، لأنّ قول العامّي ليس حجّة لا بانفراده ولا مع انضمامه ، والعبرة في قول العلماء خاصة ، فلا يجوز أن يكون شرطا في أصله.

وعلى السادس : أنّ قول العامّي في الدين من غير دليل وإن كان خطأ ، لكن لا نمنع من كون موافقته للعلماء في أقوالهم شرطا في الاحتجاج بها على غيرهم.

وفيه نظر ، فإنّ ما يعلم كونه خطأ لا يجوز جعله شرطا في الحجة.

٢٦٢

وعلى السابع : أنّ العامّي وإن لم يكن من أهل الاستدلال فلا يمتنع أن تكون موافقته من غير استدلال شرطا في كون الإجماع حجّة ، وقد تقدّم الكلام عليه.

احتجّ المخالف بأنّ أدلّة الإجماع تقتضي وجوب متابعة الكلّ الذي من جملته العامّي ، ولا يمتنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة ، فلا تكون العصمة الثابتة للكلّ ثابتة للبعض ، لأنّ الثابت للكلّ لا يجب كونه ثابتا للبعض.

والجواب : إيجاب متابعة الكلّ لا يقتضي أن لا يجب متابعة غيرهم ، ولأنّ العامّي في العلم بخروجه كالصّبي والمجنون ، وأدلّة الإجماع المقتضية لوجوب الاتّباع يقتضي وجوب متابعة العلماء ، فوجب القول به.

البحث الرّابع : في اشتراط إجماع أهل كلّ فن بأهله

ذهب المحقّقون من الجمهور إلى أنّ المعتبر بالإجماع في كلّ فنّ بأهل الاجتهاد من ذلك الفن ، وإن لم يكونوا مجتهدين في غيره.

فمسائل الكلام يعتبر في إجماعها اتّفاق المجتهدين في علم الكلام ، ومسائل الفقه يعتبر في إجماعها اتّفاق المجتهدين في علم الفقه ، ولا عبرة بالمتكلّم في الفقه ولا بالعكس ، بل كلّ مجتهد في فن من الفنون يشترط إجماعه في ذلك الفن ، فالعالم بمسائل الفرائض خاصة يشترط موافقته في علم الفرائض لا الحج.

ولا عبرة بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب إذا لم يكن متمكّنا من

٢٦٣

الاجتهاد ، لأنّ كلّ هؤلاء كالعوام فيما لا يتمكّنون من الاجتهاد فيه فلا عبرة بقولهم ، وأمّا الأصولي المتمكّن من الاجتهاد إذا لم يكن حافظا للأحكام ، فإنّ خلافه معتبر عند المحقّقين لتمكّنه من الاجتهاد الّذي هو الطريق إلى التمييز بين الحقّ والباطل ، خلافا لقوم.

البحث الخامس : في عدم اشتراط عدد التواتر

اختلف الناس في ذلك فمن أخذ الإجماع من دليل العقل واستحالة الخطأ بحكم العادة كالجويني (١) فيلزمه الاشتراط ، ومن أخذه من السمع اختلفوا : فمنهم من شرط ، ومنهم من لم يشترط ، وهو الأشهر.

لنا : تناول الأدلّة للمؤمنين والأمّة وإن قلّوا ، وانّهم معصومون وإن بلغوا ـ والعياذ بالله ـ إلى الواحد. (٢)

احتجّ المخالف بوجهين (٣) :

الأوّل : إذا نقص عددهم لم يعلم إيمانهم بقولهم فضلا عن غيره.

الثاني : لو نقص عدد المسلمين ـ والعياذ بالله ـ عن عدد التواتر أدّى إلى انقطاع التكليف ، فإنّ التكليف يدوم بدوام الحجّة ، والحجة تقوم بخبر التواتر عن أعلام النبوة وعن وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحدّيه بالنبوة ، والكفّار لا

__________________

(١) البرهان في أصول الفقه : ١ / ٤٤٣.

(٢) وهو رأي الرازي في المحصول : ٢ / ٩٣ ، المسألة الخامسة ؛ والآمدي في الإحكام : ١ / ٣١٠ ، المسألة ١٣.

(٣) ذكرها الآمدي أيضا في الإحكام : ١ / ٣١٠ ـ ٣١١.

٢٦٤

يقومون بنشر اعلام النبوة ، بل يجتهدون في طمسها ، والسلف مجمعون على دوام التكليف إلى يوم القيامة.

والجواب [عن الأوّل :] قد يعلم إيمان الواحد بالقرائن أو بخلق علم ضروري ، فينا على أنّه آت في الكثير على ما تقدّم.

وعن الثاني : إن قلنا : إنّ أهل الإجماع هم أهل الحلّ والعقد فلا يلزم من نقصان عددهم عن عدد التواتر انقطاع الحجة بالتكليف ، لإمكان حصول المعرفة بذلك من أخبار المجتهدين والعامة جميعا ، فإنّه ليس من شرط التواتر أن يكون ناقله مجتهدا.

وإن قلنا : إنّ العوام داخلة في الإجماع ومع ذلك فعدد الجميع دون عدد التواتر ، فلا يلزم أيضا انقطاع ذلك لإمكان أن يديم الله تعالى ذلك بإخبار المسلمين ، والكفّار معهم ولم يعترفوا بالنبوة لكن يخبرون بظهوره ووجود معجزاته وإن لم يعترفوا بكونه معجزا ، وبخبر العدد القليل المحتف بالقرائن المفيدة للعلم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزال طائفة من أمّتي تقوم بالحقّ حتى يأتي أمر الله». (١)

أمّا الواحد فقد اختلف فيه : فقال بعضهم : إنّ قوله حجّة متبعة ، لأنّه إذا لم يوجد سواه صدق عليه اسم الأمة ، لقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً)(٢).

ومنهم من منع ، لأنّ الإجماع مشعر بالاجتماع وإنّما يكون بين اثنين فصاعدا.

__________________

(١) مر الحديث مع مصادره ص ١٨٢.

(٢) النحل : ١٢٠.

٢٦٥

البحث السادس : في عدم اشتراط كون المجمعين من الصحابة

ذهب المحقّقون إلى أنّ الإجماع لا يختصّ بالصحابة ، بل لو فرض في كلّ عصر كان حجّة ، وخالف داود ومتابعوه من الظاهرية وقالوا : إنّ إجماع التابعين ومن بعدهم ليس بحجّة وإنّما الحجّة إجماع الصحابة خاصة.

لنا : أدلّة الإجماع وهي : الكتاب والسنّة والمعقول تتناول أهل كلّ عصر ، لأنّ قولهم سبيل المؤمنين فيجب اتّباعه ، ولأنّهم أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيدخل تحت قوله : «لا تجتمع أمّتي على خطاء» [وقوله تعالى :] (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ،) ولأنّ العادة تحيل اجتماع الخلق العظيم على الكذب ، ولأنّ المعصوم موجود في كلّ عصر.

احتجّ [المخالف] بأمور تسعة :

الأوّل : أدلّة الإجماع إنّما تتناول الصحابة ، لأنّ قوله : (جَعَلْناكُمْ ، كُنْتُمْ) خطاب مواجهة فلا يتناول إلّا الحاضرين. وكذا قوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ،) لأنّ من سيوجد (١) بعد [ذلك] لا يصدق عليه في الحال أنّه مؤمن ، فلا تتناول الآية إلّا من كان مؤمنا حال نزولها ، فلا يجوز القطع بأنّ إجماع غيرهم حجّة لعدم الدّليل عليه.

الثاني : إجماع التابعين إن كان لقياس فهو باطل ، لأنّه ليس حجّة عند

__________________

(١) في «أ» : يوجد.

٢٦٦

الكلّ فلا يكون طريقا إلى صدور الإجماع من الكلّ ؛ وإن كان لنص ، وهو إنّما وصل إليهم من الصحابة ، فكان إجماع الصحابة على ذلك الحكم لأجل ذلك النص أولى ، فلمّا لم يوجد علم عدمه.

الثالث : يشترط في الإجماع اتّفاق كلّ أهل العصر ، وذلك لا يحصل إلّا مع المشاهدة والعلم بقول كلّ واحد وموافقته للباقين ، وهو ممتنع لانتشارهم في الأرض ، وإنّما يتم في زمن الصحابة لانحصارهم وقلّتهم.

الرابع : أجمع الصحابة على تسويغ الاجتهاد في كلّ ما لم يجمع عليه ، فالمسألة التي لم يجمع الصحابة عليها محلّ الاجتهاد بإجماع الصحابة ، فلو أجمع التابعون فيها على حكم خرجت عن محل الاجتهاد ، فيتصادم الإجماعان.

الخامس : إذا اختلف الصحابة على قولين ثمّ أجمع التابعون على أحدهما لم يصر القول الثاني مهجورا على ما تقدّم في المسائل السابقة وحينئذ نقول : المسألة التي أجمع التابعون عليها جاز أن يكون لبعض الصحابة فيها قول بخلاف قول التابعين ولم ينقل إلينا فلا يثبت الإجماع.

لا يقال : فتح هذا الباب يقتضي عدم بقاء شيء من النصوص ، لاحتمال تطرّق النسخ والتخصيص ولم ينقل.

لأنّا نقول : الفرق انّ إجماع التابعين مشروط بعدم قول لبعض الصحابة يخالف قولهم ، فالشك فيه شك في شرط الإجماع ، فيكون شكّا في الإجماع ، والأصل بقاؤه على العدم ؛ أمّا النصّ فظاهر اللفظ يقتضي العموم

٢٦٧

والشك وقع في طريان المزيل والأصل عدم طريانه ، فافترقا. (١)

السادس : الأدلّة تتناول اتّباع كلّ المؤمنين وكلّ الأمّة وليس التابعون كلّ الأمّة ، فإنّ الصحابة لم يخرجوا بموتهم عن الأمّة ، ولذلك لو خالف واحد من الصحابة فيما أجمع عليه التابعون لا يكون قول جميع الأمّة ولا يحرم الأخذ بقول الصحابي ، فإذا كان خلاف بعض الصحابة يرفع إجماع التابعين فعدم وفاقهم أيضا يرفعه ، لأنّهم بالموت لم يخرجوا من الأمة.

لا يقال : يتبعّض بالصحابة.

لأنّا نقول : مقتضى الدليل ذلك وانتظار التابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة لكن اعتباره يرفع الانتفاع بالإجماع ، فثبت أنّ وصف الكلية لمن دخل في الوجود وهم الصحابة خاصة.

السابع : الأصل عدم الرجوع إلى قول أحد سوى الصادق المعصوم لتطرّق الخطأ والكذب إلى من عداه لكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثنى على أصحابه لقوله : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ، «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين بعدي» (٢) ، وذمّ الأعصار المتأخّرة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثم يفشو الكذب ، وانّ الرّجل يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ، وانّ الواحد منهم يحلف على ما لا يعلم ، ويشهد قبل أن يستشهد» (٣) وغير ذلك ، فوجب أن يقتصر بالإجماع على قول أصحابه.

__________________

(١) هذه الوجوه الخمسة ذكرها الرازي أيضا مع الأجوبة عنها في المحصول : ٢ / ٩٤ ـ ٩٦ ، المسألة السادسة.

(٢) تقدّم الحديث عنهما ص ٢٣٨.

(٣) مسند أحمد : ١ / ١٨ ؛ الإحكام : ١ / ٢٣٢.

٢٦٨

الثامن : لو كان في الأمّة من هو غائب لم ينعقد الإجماع دونه وإن لم يكن له في المسألة قول بنفي ولا إثبات ، لكونه لو كان حاضرا لكان له فيها قول ، فكذلك الميت من الصحابة قبل التابعين.

التاسع : الصحابة اختصّت بمشاهدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحضور عند الوحي فلهم مزية على غيرهم. (١)

والجواب عن الأوّل : انّه يقتضي أنّه لو مات واحد من الحاضرين عند نزول الآية أخرج إجماع الباقين عن كونه حجّة ، وذلك يفضي إلى سقوط العمل بالإجماع ، وهم لا يقولون به. ويقتضي أيضا أن لا يعتدّ بخلاف من أسلم بعد نزولها بخروجه عن المخاطبين.

وعن الثاني : جاز أن يصدر إجماعهم عن نص نقله بعض الصحابة ولم يعلم به الباقون لعدم حدوث الواقعة عندهم فلم يبحثوا عنه ، أو بعضهم عن ذلك النصّ وبعضهم عن قياس أو اجتهاد.

وعن الثالث : نمنع عدم معرفة كلّ المجتهدين فإنّهم مشهورون وإن تباعدت أمكنتهم.

سلّمنا ، لكن التقدير حصول الإجماع فيكون حجّة ولا نزاع في التعذّر.

وعن الرابع : نمنع الإجماع على تسويغ الاجتهاد.

__________________

(١) ذكر الآمدي في الإحكام : ١ / ٢٨٨ ، المسألة ٧ ، ستة من هذه الوجوه والأجوبة عنها ، فراجع.

٢٦٩

سلّمنا ، لكنّه مشروط بعدم تجدّد إجماع آخر.

وعن الخامس : بأنّه يتطرّق في الصحابة مثله لاحتمال أن يكون الصحابي الّذي مات قبل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له فيه قول فلا يكون إجماع الباقين حجّة.

وفيه نظر ، لعدم اعتبار الإجماع وأقوال الصحابة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل بعد وفاته.

وعن السادس : أنّ الماضي من الصحابة لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر ، وإلّا لم ينعقد إجماع بعد أن استشهد حمزة ، وقد اعترفوا بصحّة إجماع الصحابة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد موت من مات بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيكون وصف الكلّية حاصلا لكلّ الموجودين في كلّ وقت ، ونمنع جواز المصير إلى قول الصحابي الميت المخالف لإجماع التابعين.

وعن السابع : أدلّة الإجماع لا تفرّق بين أهل عصر وعصر ، ومدح الصحابة لا يقتضي ذمّ غيرهم ، وذمّ الأعصار المتأخّرة يقتضي ظهور الفساد والكذب لا على خلو كلّ عصر ممّن يقوم الحجّة بقوله.

وعن الثامن : أنّه ينتقض بالصحابة فإنّه لو مات واحد منهم انعقد إجماع الباقي ، ولو كان غائبا لم ينعقد ، والأصل أنّ الغائب في الحال له أهلية القول والحكم والموافقة والمخالفة بخلاف الميت.

وعن التاسع : لا نسلم أنّ ذلك يوجب لهم مزية في كون قولهم حجّة دون غيرهم.

٢٧٠

الفصل السادس

في الحكم الثابت بالإجماع

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في ضابط ما يثبت بالإجماع

قد ثبت أنّ الإجماع حجّة في الأحكام الشرعية ويجوز أن يكون حجّة في الأحكام العقلية لعموم الأدلّة ، ولا يجوز أن يكون حجّة في كلّ الأحكام لاستلزامه الدور ، لأنّ من الأحكام ما هو مقدّمة في حقيقة الإجماع ، فلو ثبت به دار.

والحاصل : أنّ كلّ ما لا يتوقّف العلم بكون الإجماع حجّة على العلم به أمكن إثباته بالإجماع ، وكلّ ما يتوقّف لا يمكن ثبوته به.

فإثبات الصانع وكونه تعالى عالما قادرا عالما بكلّ معلوم والنبوة لا يمكن إثباته بالإجماع ، لتوقّف كونه حجّة عليها ، إذ كونه حجّة إنّما عرف بالسّمع المتوقّف على هذه المطالب.

أمّا حدوث الأجسام فيمكن إثباته به ، لإمكان إثبات الصانع بحدوث

٢٧١

الأعراض ، ثمّ يعرف صحّة النبوة ثمّ يعرف به كون الإجماع حجّة ، ثمّ يعرف به حدوث الأجسام.

ويصحّ إثبات الوحدانية بالإجماع ، لإمكان العلم بصحّة الإجماع قبل العلم بالوحدانية.

أمّا الإمامية فلمّا كان دليل الإجماع عندهم كون المعصوم داخلا فيه ، أمكن إثبات هذه المطالب كلّها بالإجماع.

البحث الثاني : في الإجماع في الأمور الدنيوية

إذا أجمع أهل العصر على أمر يتعلّق بالدنيا كالإجماع على ما يتّفق عليه من الآراء في الحروب وتدبير الجيوش وترتيب أمور الرّعية ، كقولهم : لا حرب إلّا في الموضع الفلاني ، هل يكون حجّة يحرم مخالفته أم لا؟

اختلف قول قاضي القضاة فيه فتارة منع المخالفة ، وهو مذهب السيد المرتضى (١) وطائفة أخرى ؛ وتارة سوّغها ، وهو مذهب جماعة أخرى.

احتج الأوّلون بعمومات أدلّة الإجماع وأنّ الأمة معصومة عن الخطأ ، ويجب اتّباعهم في الذي أجمعوا عليه ، فيحمل على عمومه لعدم المخصّص.

احتج الآخرون بأنّ حالهم ليست أعظم من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعلوم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو رأى رأيا في الحرب لساغ مراجعته.

__________________

(١) الذريعة : ٢ / ٦٢٨.

٢٧٢

والجواب : المنع من مخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ، والمراجعة إن أرادوا بها المخالفة منعناه ، وإن أرادوا تأكيد المعرفة فهو مسلّم. (١)

قال أبو الحسين البصري (٢) : الفرق أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتنع عليه الخطأ فيما دلّ المعجز عليه وهو أمور الدين ، وذلك لا يتعلّق بأمور الدنيا ، وليس كذلك الأمّة. وهو بناء على عدم عصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد بيّنا أنّه معصوم في علم الكلام.

البحث الثالث : في الإجماع في الأديان السالفة

اختلف الأصوليون في الإجماع في الأديان السالفة هل كان حجّة أم لا؟ على قولين :

منهم من قال : إنّه حجّة ، وهو قول من يثبت الإجماع بالدليل العقلي ويشترط في ذلك عدد التواتر ، والإمامية أيضا قائلون به لوجوب المعصوم عندهم في كلّ وقت.

وأمّا من أثبت الإجماع بالدلائل السمعية فإنّه في محل التوقّف ، لعدم دليل عقلي وسمعي على كلّ واحد من طرفي النقيض ، فيبقى الشك. (٣)

وبعضهم جزم بالمنع ، والّا لم يبق مزية لهذه الأمّة على سائر الأمم السالفة مع أنّ الله تعالى قد جعلهم شهداء عليهم. (٤)

__________________

(١) راجع الإحكام : ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٣٥.

(٣) وهو رأي القاضي على ما في البرهان ، والآمدي في الإحكام : ١ / ٣٤٦.

(٤) راجع البرهان في أصول الفقه : ١ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

٢٧٣

البحث الرابع : في أنّه لا يجوز تخطئة الأمّة في الأحكام المتعدّدة

إذا انقسمت الأمّة إلى قسمين وقال كلّ قسم منهما بحكمين متقابلين في مسألتين متعدّدتين هل يجوز تخطئة كلّ قسم في مسألة والأخرى في الأخرى ، كما لو قال نصف الأمّة بأنّ القاتل لا يرث والعبد يرث ، وقال النصف الآخر بأنّ القاتل يرث والعبد لا يرث.

اختلفوا في ذلك فالأكثر على عدم الجواز ، وهو قول الإمامية ، لأنّ المعصوم داخل في أحد القسمين وقوله صواب في الحكمين.

واستدلّ الآخرون بأنّ خطاءهم في مسألتين لا يخرجهم عن الاتّفاق على الخطاء ، وهو منفي عنهم.

احتجّ المجوزون بأنّ الممتنع الخطأ على كلّ الأمّة لا البعض ، والمخطئ في كلّ واحدة من المسألتين بعض الأمّة. (١)

البحث الخامس : في امتناع الكفر على الأمّة

هذا على مذهب الإمامية ظاهر لامتناع الارتداد على المعصوم.

وأمّا غيرهم فقد اختلفوا فالأكثر على ذلك أيضا ، لأنّه تعالى أوجب علينا اتّباع سبيل المؤمنين ، وهو مشروط بوجودهم ، وما لا يتمّ الواجب

__________________

(١) راجع المحصول : ٢ / ٩٧ ، المسألة الثالثة.

٢٧٤

المطلق إلّا به فهو واجب. هذا إذا حملنا لفظ المؤمنين على الإيمان بالقلب ؛ أمّا إذا حملناه على التصديق باللسان كان أظهر وتصير الآية دالّة على أنّ المصدّقين في الظاهر لا يجوز اجتماعهم على الخطاء وهو يؤمننا من إجماعهم على الكفر. (١)

وفيه نظر ، لأنّ وجوب الاتّباع ليس مطلقا ، بل مشروط بوجود المتبوع ، إذ هو المفهوم من الاتّباع ولا يلزم وجوب شرط (٢) الوجوب بل شرط (٣) وقوع الواجب.

احتجّ الآخرون بأنّه جائز على كلّ واحد فكان جائزا على الجميع ، والأدلّة لا تتناولهم حينئذ ، لأنّهم خرجوا بذلك عن كونهم أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن كونهم مؤمنين ، فيبطل الاستدلال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع أمّتي على خطاء» وبقوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) وبقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) ، وهذا لا يتصوّر عند الإمامية كما بيّناه. (٤)

__________________

(١) وهو ما ذهب إليه الآمدي في الإحكام : ١ / ٣٤٢ ، المسألة ٢٤.

(٢) في «أ» : بشرط.

(٣) في «أ» : بشرط.

(٤) لاحظ المحصول : ٢ / ٩٧ ـ ٩٨ ، المسألة الرابعة.

٢٧٥

البحث السادس : في جواز اشتراك الأمّة في عدم العلم بما لم يكلّفوا به

اختلف الناس في ذلك ، فالأكثر على جوازه ، (١) لأنّ عدم العلم بذلك الشيء إذا كان صوابا لم يلزم من اجتماعهم عليه محذور.

احتجّوا بأنّهم لو اجتمعوا على عدم العلم بذلك الشيء لكان عدم العلم به سبيلا لهم ، فكان يجب اتّباعهم فيه حتى يحرم تحصيل العلم به.

ومن هذا الباب إمكان وجود خبر أو دليل ولا معارض له وتشترك الأمّة في عدم العلم به ، والخلاف ما تقدّم ، والوجه جوازه إن كان عملهم موافقا لمقتضاه ، لعدم تكليفهم بمعرفة ما لم يبلغهم ولم يظهر لهم ، وقوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) لا يتناول ذلك ، لأنّ المفهوم من السّبيل الفعل المقصود المعصوم ، وعدم العلم ليس مقصودا فلا يكون سبيلا ، فيجوز اتّفاقهم فيه وان يخالفهم في طلبه ، كيف؟ والشرع لا يحثّ على الجهل بأدلّته الشرعية.

أمّا لو عملوا على خلافه فإنّه محال ، لما فيه من إجماع الأمّة على الخطأ.

__________________

(١) وهو مذهب الرازي في المحصول : ٢ / ٩٨ ، المسألة الخامسة ؛ والآمدي في الإحكام : ١ / ٣٤١ ، المسألة ٢٣.

٢٧٦

البحث السابع : في أنّ الأخذ بالأقل ليس للإجماع

اختلف الناس في دية الذمّيّ ، فقال قوم : إنّ ديته مثل دية المسلم ، وقال آخرون : إنّها نصفه ، وقال آخرون : إنّها ثلثه ، وعند الإمامية : ثمانمائة درهم.

وقال الشافعي بالثلث ، وهو الأقلّ عند الجمهور مجمع عليه عندهم ، فقيل : إنّه تمسك فيه بالإجماع ، إذ القول بالكلّ والنصف يشتملان على الثلث ، وليس بصحيح ، لأنّ الحصر في الثلث مشتمل على حكمين : وجوب الثلث ونفي الزيادة ؛ والأوّل وإن كان مجمعا عليه فالثاني ليس كذلك ، بل مستفاد إمّا من دليل أو من أصالة براءة الذمّة ، وليس ذلك من الإجماع. (١)

__________________

(١) لاحظ الإحكام : ١ / ٣٤٢ ، المسألة ٢٥.

٢٧٧

الفصل السابع

في حكم الإجماع

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في حكم جاحده

اختلف الناس في جاحد الحكم المجمع عليه ، فقال قوم من الفقهاء : إنّه كافر مطلقا ؛ ومنعه آخرون ، (١) لأنّ أصل أدلّة الإجماع لا يفيد العلم ، فما يفرع عليه أولى أن لا يكون كذلك ، فغايته الظن ، وجاحد المظنون ليس بكافر إجماعا.

سلّمنا كونه معلوما لكن العلم به غير داخل في ماهية الإسلام ، وإلّا لوجب على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يحكم بإسلام أحد حتى يعرّفه كون الإجماع حجّة ، ولمّا لم يفعل ذلك ولم يصرّح بهذه المسألة طول عمره علمنا عدم دخوله في الإسلام ، وإذا لم يكن العلم بأصل الإجماع معتبرا في الإسلام فكذا تفاريعه.

__________________

(١) وهو ما ذهب إليه الرازي في المحصول : ٢ / ٩٨ ، المسألة الأولى ، القسم السابع.

٢٧٨

وقيل : إن كان حكم الإجماع داخلا في مفهوم اسم الإسلام ، كالعبادات الخمس واعتقاد التوحيد والرسالة ، كان جاحده كافرا ، وإلّا فلا. (١)

البحث الثاني : في امتناع تجدّد إجماع مخالف لسابق

ذهب الأكثر الى امتناع انعقاد الإجماع بعد إجماع سابق يخالفه ، وجوّزه أبو عبد الله البصري. (٢)

لنا : إنّ أحدهما يكون خطاء فلا تجتمع الأمّة عليه.

احتجّ بإمكان إجماع الأمّة على قول بشرط عدم طريان إجماع آخر ، لكن أهل الإجماع لمّا اتّفقوا على أنّ جميع ما أجمعوا عليه يجب دوام العمل به لم يقع هذا الجائز ، وهذا لا يتأتى على مذهبنا لوجود المعصوم فيهما وأقواله غير متناقضة.

وفخر الدين قوى مذهب البصري ، (٣) وهو خطأ ، لأنّ تجويزه يقتضي تطرّقه إلى الإجماع بوجوب الدوام ، فلا يستقر الإجماع البتة ، ولا يمكن الاستدلال به.

__________________

(١) وهو ما ذهب إليه الآمدي في الإحكام : ١ / ٣٤٤ ، المسألة ٢٧.

(٢) نقله عنه الرازي في المحصول : ٢ / ٩٩.

(٣) المحصول : ٢ / ٩٩ ، المسألة الثالثة.

٢٧٩

البحث الثالث : في الإجماع إذا عارضه قول الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

اعلم أنّه يمتنع تناقض الأدلّة ، وكلّ من الإجماع وقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دليل قطعي ؛ فإن علم أنّ قصد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامه ظاهره ، وكذا أهل الإجماع وتنافيا ، امتنع ذلك.

وإن علم أنّ أحدهما أراد الظاهر وجهلنا الآخر ، قدّم ما علم ظاهره وتأوّلنا الآخر ، لأنّه أولى من حذفه.

وإن لم يعلم أنّ واحدا منهما أراد ظاهره ، فإن كان أحدهما أخصّ خصصنا به الآخر جمعا بين الدليلين ، وإلّا تعارضا ، لأنّا نقطع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمّة أراد أحدهما بكلامه غير ظاهره لكنّا جهلنا تعيينه ، فتساقطا ووجب الرجوع إلى غيرهما.

* * *

إلى هنا انتهى الجزء الثاني حسب تقسيم المؤلّف قدس‌سره حيث قال الناسخ : تمّ الجزء الثاني من كتاب «نهاية الوصول في علم الأصول» ويتلوه الجزء الثالث بعون الله تعالى وتوفيقه المقصد العاشر في الخبر وفيه فصول الأوّل في ماهيته ، وقد فرغت من تسويده غرّة شهر صفر ختم بالخير والظفر سنة إحدى وأربعين وألف.

* * *

٢٨٠