نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

لا يقال (١) : إذا علم كونه فاسقا دلّ إقدامه عليه على جرأته على المعصية ، بخلاف ما إذا لم يعلم.

لأنّا نقول : إنّه وإن لم يعلم لا يخرج عن كونه فاسقا ، فيجب التثبّت عند خبره.

وإن كان مظنونا قبلت روايته إجماعا. قال الشافعي : أقبل شهادة الحنفي ، وأحدّه إذا شرب النبيذ ، وأقبل رواية أهل الأهواء ، كالرافضة وغيرهم وإن كان فسقهم معلوما ، إلّا الخطابية ، لأنّهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. (٢)

وأمّا المخالف الّذي لا نكفّره ولكن ظهر عناده ، فإنّه لا تقبل روايته إجماعا ، لأنّ المعاند يكذب مع علمه بكونه كذبا ، فينتفي الظنّ بوقوع مخبره.

البحث الرّابع : في رواية المجهول

اختلف الناس في المجهول حاله هل تقبل روايته أم لا؟

فذهب الشافعي وأحمد وأكثر العلماء إلى أنّه غير مقبول الرواية ، وهو الحقّ ، بل لا بدّ فيه من خبرة باطنة بحاله ، ومعرفة سيرته وكشف سريرته أو تزكية من عرف عدالته.

__________________

(١) القائل هو الرازي في المحصول : ٢ / ١٩٧.

(٢) نقله عنه الرازي في المحصول : ٢ / ١٩٧.

٤٢١

وقال أبو حنيفة وأصحابه : يكفي في قبول الرواية الإسلام ، وسلامة الظاهر عن الفسق.

لنا وجوه (١) :

الأوّل : الدليل يقتضي نفي العمل بخبر الواحد ، لقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢) ، خالفناه في حق من عرفنا عدالته ، لقوة الظن هناك ، فيبقى المجهول على الأصل.

الثاني : عدم الفسق شرط جواز الرواية ، لقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٣) دلّ على المنع من قبول رواية الفاسق ، فيجب أن يكون العلم بعدم الفسق شرطا لجواز الرواية ، لأنّ الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط ، والمجهول حاله لا يعلم تحقّق الشرط فيه فلا يعلم جواز الرواية فيه.

الثالث : الدليل ينفي جواز العمل إلّا إذا قطعنا بأنّ الراوي ليس بفاسق ترك العمل به فيما إذا غلب على ظنّنا أنّه ليس بفاسق بكثرة الاختبار ، فيبقى فيما عداه على الأصل.

بيان الثاني : أنّ عدم الفسق شرط جواز الرواية ، فالعلم به شرط ، لأنّ جهل الشرط يقتضي جهل المشروط.

وبيان الفارق : أنّ العدالة من الأمور الباطنة لا يمكن الاطّلاع عليها

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ؛ والآمدي في الإحكام : ٢ / ٩٠.

(٢) النجم : ٢٨.

(٣) الحجرات : ٦.

٤٢٢

حقيقة ، وإنّما الممكن الاستدلال بالأفعال الظاهرة ، وهو وإن لم يفد العلم ، لكنّه يفيد الظن ، ثم إنّ الظن الحاصل بعد طول الاختبار أقوى من الظن الحاصل قبله ، ولا يلزم من مخالفة الدليل للمعارض القوي مخالفته عند الضعيف.

الرابع : لمّا دلّ الإجماع على أنّ الصبي والرق والكفر والحد في القذف موانع من الشهادة ، اعتبر في قبول الشهادة العلم بعدمها ظاهرا ، فكذا العدالة بجامع الاحتراز عن احتمال المفسدة.

الخامس : إجماع الصحابة على ردّ المجهول ؛ ردّ عليّ عليه‌السلام خبر الأشجعي في المفوضة وكان عليه‌السلام يحلّف الراوي ، وردّ عمر خبر فاطمة بنت قيس وقال : كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ، ولم ينكر باقي الصحابة هذا الردّ ، فيكون إجماعا.

السادس : أنّه مجهول الحال فلا يقبل إخباره في الرواية دفعا لاحتمال مفسدة الكذب كالشهادة ، فإن منعوا شهادة المال فقد سلّموا شهادة العقوبات ، ثم المجهول مردود في العقوبات وطريق في الرواية والشهادة واحد.

السابع : أجمعنا على أنّ العدالة شرط في قبول الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى أنّ بلوغ مرتبة الاجتهاد في الفقه شرط في قبول الفتوى ، فإذا لم يظهر حال الراوي بالاختبار ، فلا تقبل أخباره دفعا للمفسدة اللازمة من فوات الشرط ، كما إذا لم يظهر بالاختبار بلوغ المفتي رتبة الاجتهاد فإنّه لا يجب على المقلّد اتّباعه.

٤٢٣

وفي الجميع نظر. أمّا الأوّل فلما بينّا من أنّ المراد النهي عن اتّباع الظن في الأصول ، ولأنّ القوة والضعف تتفاوت باعتبار العدالة وقوتها وضعفها وباعتبار القرائن والأحوال والوقائع ، فجاز أن يكون خبر المجهول يفيد ظنّا قويا في واقعة ، وخبر العدل يفيد ظنا ضعيفا في غيرها فلا يبقى لوصف الجهالة أثر في ذلك.

وأمّا الثاني : فإنّ الآية دلّت على أنّ الفسق شرط التثبّت ، وليس المراد الفسق في نفس الأمر وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، بل في علمنا وهو يقتضي انتفاء المشروط عند عدم الشرط الّذي هو علم الفسق ، والمجهول ليس معلوم الفسق فلا يجب معه التثبّت.

وأمّا الثالث : فلما مرّ في الثاني.

وأما الرابع : فلأنّ الشهادة أضيق ، ولهذا اعتبر فيها العدد والحرية والبصر وغير ذلك ، بخلاف الرواية فلا يجوز الحمل عليها.

وأمّا الخامس : فيمتنع الإجماع وردّ علي عليه‌السلام خبر الأشجعي ، لعدم ظهور صدقه عنده ، ولهذا وصفه بكونه بوّالا على عقبيه ، أي غير متحرّز في أمر دينه ؛ وردّ عمر خبر فاطمة ، لعدم ظهور صدقها ، ولهذا قال : لا ندري أصدقت أم كذبت.

وأمّا السادس : فإنّ احتمال الصدق مع ظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا أظهر من احتمال الكذب فيكون القبول أولى ، بخلاف الشهادة لوجوب زيادة الاحتياط فيها.

٤٢٤

وأمّا السابع : المشترط في الرواية العدالة بمعنى ظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا والقياس ضعيف ، لأنّ بلوغ رتبة الاجتهاد أبعد في الحصول من حصول صفة العدالة ، ولهذا كانت العدالة أغلب وقوعا من رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية. وهاهنا وجوه أخر :

أ. الأصل عدم قبول قوله إلّا بدليل ، ولا دليل عليه.

ب. شهادة الفرع لا تسمع ما لم يعين الفرع شاهد الأصل ، ولو كان قول المجهول مقبولا لم يجب بعينه.

ج. ظهر من حاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب العدالة والصدق والفقه في من كان ينفذه إلى الأعمال وأداء الرسالة.

احتجّ المخالف بوجوه (١) :

الأوّل : قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٢) علّق التثبّت على الفسق والمعلّق على الشرط عدم عند عدمه ، فما لم يعلم فسقه لم يجب التثبّت.

الثاني : قبل الصحابة قول العبيد والنسوان ، لما عرفوهم بالإسلام ولم يعرفوا منهم الفسق.

الثالث : قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهادة الأعرابي على رؤية الهلال مع أنّه لم يظهر منه إلّا الإسلام وأمر بالنّداء بالصوم.

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ١٩٩.

(٢) الحجرات : ٦.

٤٢٥

الرابع : يقبل قول المسلم في تذكية اللحم وطهارة الماء ورق الجارية وكونه على طهارة والقبلة في الأعمى.

الخامس : لو أسلم كافر وروى خبرا عقيب إسلامه قبلت روايته ، لوجود الإسلام وعدم وجود ما يوجب فسقه ، فطول مدته في إسلامه أولى بالقبول.

السادس : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نحن نحكم بالظاهر» ورواية المجهول ظاهرة.

والجواب عن الأوّل : لمّا وجب التثبّت عند وجود الفسق ، وجب أن نعرف حاله هل هو فاسق أم لا ، حتى نعرف أنّه هل يجب التوقّف في قوله أم لا.

وعن الثاني : نمنع قبول الصحابة رواية المجاهيل ، فإنّه المتنازع بل الظاهر أنّهم ردّوا كما ردّ علي عليه‌السلام خبر الأشجعي ، وعمر خبر فاطمة بنت قيس.

وعن الثالث : نمنع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعرف من حال الأعرابي سوى الإسلام.

سلّمناه ، لكن فيه نظر ، فإنّه في ابتداء الإسلام هو عدل ، لسقوط العقاب عنه بالكفر السابق عند إسلامه وعدم تجدّد ذنب منه حينئذ.

وعن الرابع : لا نسلّم أنّ قبول قوله في هذه الأشياء يستلزم قبول قوله في الرواية ، والفرق علو منصب الرواية ، وأيضا الإخبار فيما ذكروه مقبول مع ظهور الفسق بخلاف الرواية.

٤٢٦

وعن الخامس : أنّه حال إسلامه عدل بخلاف ما إذا استمر ، لاحتمال صدور المعاصي عنه خصوصا وهو في ابتداء الإسلام شديد الحرص على امتثال أوامره واجتناب نواهيه.

وعن السادس : أنّه ليس للعموم ، لانتقاضه بالفاسق والصبي وإنكار المنكر حتى احتاج إلى اليمين ، ولأنّه أضاف إلى نفسه فلا يتعدّى إلى غيره إلّا بالقياس.

البحث الخامس : في طريق معرفة العدالة

وهي أمران : الاختبار ، والتزكية.

النظر الأوّل : الاختبار بالصحبة المتأكّدة والملازمة بحيث يظهر له أحواله ويطّلع على سريرة أمره بتكرار المعاشرة له ، حتى يظهر له من القرائن ما يستدلّ به على خوف في قلبه رادع من الكذب والإقدام على المعصية.

لا يقال : إذا رجعت العدالة إلى هيئة باطنة للنفس وأصلها الخوف وهو غير مشاهد ، بل يستدلّ عليه بما ليس بقاطع ، بل بما يغلب على الظن فليرجع إلى أصل الإيمان الدالّ على الخوف دلالة ظاهرة ويحصل به الاكتفاء.

لأنا نقول : الظن إذا كان قويا عمل به بخلاف الضعيف ، ولهذا حكم بشهادة اثنين دون الواحد ، ومع المعاشرة والصحبة ومشاهدة الأفعال البدنية

٤٢٧

يستدلّ على الأحوال النفسانية ، فيقوى ظنّ التعديل وعدمه والأيمان غير كاف في ذلك ، فإنّا نعلم بالمشاهدة والتجربة أنّ عدد فسّاق المؤمنين أكثر من عدد عدولهم.

إذا عرفت هذا فنقول : لا يشترط في العدالة اجتناب جميع المعاصي حتى الصغائر لتعذّره ، بل اجتناب الكبائر وبعض الصغائر وبعض المباحات. (١)

أمّا الكبائر فقد روى ابن عمر انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الكبائر تسع : أ. الشرك بالله ، ب. وقتل النفس المؤمنة ، ج. وقذف المحصنة ، د. والزنا ، ه. والفرار من الزحف ، و. والسحر ، ز. وأكل مال اليتيم ، ح. وعقوق الوالدين المسلمين ، ط. والإلحاد (٢) في البيت الحرام (٣). (٤)

وروي عن علي عليه‌السلام زيادة على ذلك : أكل الربا والسرقة وشرب الخمر.

وأمّا بعض الصغائر فما يدلّ فعله على نقص اليدين وعدم الرفع عن الكذب كسرقة لقمة والتطفيف بحبة.

__________________

(١) وهو رأي الرازي في المحصول : ٢ / ١٩٦ ؛ والآمدي في الإحكام : ٢ / ٨٨.

(٢) أي بالميل والظلم.

(٣) في بعض المصادر : واستحلال البيت الحرام.

(٤) نقله عن الإحكام : ٢ / ٨٨ ، وجاء هذا الحديث مسندا عن عتبة بن عمير في تاريخ مدينة دمشق : ٤٧ / ٢٢٩. ونقل نحوه وباختلاف في السنن الكبرى : ١٠ / ١٨٦ ؛ كنز العمال : ٣ / ٥٤٠ برقم ٧٨٠٠ ؛ الدر المنثور : ٢ / ١٤٦ ؛ وسائل الشيعة : ١٥ / ٣٣٢ ، الحديث ٣٧ ، باب تعيين الكبائر ؛ بحار الأنوار : ٧٤ / ١٧٠.

٤٢٨

وأمّا بعض المباحات فما يدل على نقص المروءة ودناءة الهمّة ، كالأكل في الأسواق والبول في الشوارع وصحبة الأراذل والإفراط في المزاح ، وما أشبه ذلك بما يدلّ على [سرعة] الإقدام على الكذب ، فلا يحصل ظن الصدق.

النظر الثاني : التزكية ولها مراتب أربع (١) :

الأولى : أعلاها الحكم بشهادته.

الثانية : أن يقول : هو عدل ، لأنّي عرفت منه كذا وكذا ، فإن لم يذكر السبب وكان عارفا بشرائط العدالة كفى.

الثالثة : أن يروي عنه ، والحق أنّه لا يكون تعديلا إلّا إذا عرف إمّا بصريح قوله أو بعادته أنّه لا يستجيز الرواية إلّا عن عدل ، فحينئذ تكون روايته عنه تعديلا له ، وإلّا فلا ، إذ من عادة أكثرهم الرواية عن كلّ أحد ولو كلّفوا الثناء عليه سكتوا.

ولا يكون ذلك غشا في الدين ؛ لأنّه لم يوجب على غيره العمل ، بل قال : سمعت فلانا قال كذا ، وصدق فيه ، ثمّ لعلّه لم يعرفه بالفسق والعدالة فروى عنه وأحال البحث عن حاله إلى من يريد العمل بالرواية.

الرابعة : العمل بروايته فإن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر فليس بتعديل إجماعا ، وإن عرف يقينا أنّه عمل بالخبر فهو تعديل ، إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق.

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.

٤٢٩

وفيه نظر ، لاحتمال أن يعمل برواية المسلم إذا لم يعلم فسقه ولا تشترط العدالة.

والمرتبة الأولى متّفق عليها ، وكذا الثانية مع ذكر السبب ، واختلفوا فيما إذا أطلق التعديل وأهمل السبب وهو أنقص رتبة من ذكر السبب للاختلاف فيه والاتّفاق في الأوّل ، واختلفوا في الثالثة ، فقيل : إنّه تعديل ، وقيل : ليس بتعديل ، والحقّ التفصيل ، وقد تقدّم.

البحث السّادس : في أحكام التزكية والجرح

وهي أربعة (١) :

الأوّل : اختلف الناس في أنّه هل يجب ذكر سبب الجرح والتعديل؟

فقال قوم : يجب ذكر السبب فيهما ولا يكفي الإطلاق ، لاختلاف الناس في سبب الجرح ، فقد يجرح بما لا يكون جارحا ، ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لمسارعة الناس إلى الثناء بناء على الظاهر.

وقال قوم : يجب ذكر سبب التعديل دون الجرح ، لأنّ مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصّل الثقة.

وقال الشافعي : يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل ، إذ قد يجرح بما لا يكون جارحا ، لاختلاف المذاهب فيه ، وأمّا العدالة فلها سبب واحد.

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٢٠٠.

٤٣٠

وقال القاضي أبو بكر : لا يجب ذكر السبب فيهما ، لأنّه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية ، وإن كان بصيرا به فلا معنى للسؤال.

والوجه أنّ المزكّي والجارح إن كانا عارفين بالأسباب قبل الإطلاق فيهما ، وإلّا وجب ذكر السّبب فيهما.

الثاني : ذهب الأكثر إلى أنّه لا يشترط العدد في المزكّي والجارح في الرواية ويشترط في الشهادة فيهما ، لأنّ العدالة الّتي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية وشرط الشيء لا يزيد على أصله ، فالإحصان يثبت بشاهدين والزنا لا يثبت إلّا بأربعة ، وأمّا الشهادة فإنّ الواجب فيها الاستظهار بعدد المزكي.

وقال قوم : العدد معتبر في المزكّي والجارح في الرواية والشهادة ، لأنّ الجرح والتعديل شهادة فيعتبر العدد فيهما كالشهادة على الحقوق ، وهو معارض بأنّهما إخبار فلا يعتبر العدد في قبولهما كالرواية.

لا يقال : في العدد زيادة احتياط فيكون أولى.

لأنّا نقول : إنّ فيه تضييع أوامر الله تعالى ونواهيه ، فيكون مرجوحا.

وقال القاضي أبو بكر : لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا الراوي ، لأنّها نوع إخبار ، وهو ممنوع.

إذا عرفت هذا فمن جعلهما ملحقين بالشهادة يلزمه عدم قبول تزكية العبد والمرأة في الرواية ، ومن ألحقهما بالرواية جوّز تزكيتهما كما يقبل روايتهما.

٤٣١

الثالث : إذا تعارض الجرح والتعديل فقد لا يتنافيان بأن يطلق المعدل التزكية ويذكر الجارح سببا في الجرح قد يخفى عن المعدل ، فهنا يقدّم قول الجارح لاطّلاعه على ما لم يطّلع عليه المعدّل ولا نفاه ، ولو نفاه لم يقبل لأنّها شهادة على النفي إلّا مع سبب يمكن معرفته ، كما لو أسند الجرح إلى أنّه قتل فلانا مثلا في يوم كذا فيقول المعدل : إنّني رأيته بعد ذلك حيّا ، وهنا يتعارضان ، ويجب الترجيح بكثرة العدد وشدة الورع والضبط إلى غير ذلك من المرجّحات.

ولا يقدّم تعدّد المعدل إذا زاد على عدد الجارح من غير تناف بينهما خلافا لقوم ، لأنّ سبب تقديم الجرح اطّلاع الجارح على ما لم يطّلع عليه المعدل ، فلا ينتفي ذكره بكثرة العدد.

الرابع : ترك الحكم بالشهادة ليس جرحا ولا قدحا في الرواية ، لأنّ الرواية والشهادة يشتركان في العقل والتكليف والإسلام والعدالة ، وتختص الشهادة بأمور غير معتبرة في الرواية ، كالحرية والذكورة والبصر والعدد وانتفاء العداوة. فإنّ للعبد أن يروي وإن ردّت شهادته مطلقا عند قوم ، وفي البعض عند آخرين ؛ والأنثى أن تروي وقد لا تقبل شهادتها.

والأعمى لا تقبل شهادته فيما يشترط فيه البصر ، ومطلقا عند قوم ، وتقبل روايته فإنّ الصحابة رووا عن زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّهم في حقّهن كالضرير. وترك العمل بروايته ليس جرحا أيضا ، لجواز معارض.

والحد في شهادة الزنا ليس جرحا لعدم النصاب ، لأنّه لم يأت بالقذف صريحا وإنّما جاء ذلك مجيء الشهادة.

٤٣٢

ولا يحصل الجرح بمسائل الاجتهاد ، لأنّ كلّ واحد مكلّف بما أدّى إليه اجتهاده وإن كان مخطئا عند الآخر في الحكم لا في التكليف.

ولا بالتدليس ، كقول من لم يعاصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنه روى عمّن عاصره قولا يوهم أنّه لقيه ، وكذا قوله : حدّثنا فلان من وراء النهر ، موهما أنّه يريد جيحان ويشير به إلى غيره ، لأنّه ليس بكذب ، بل من المعاريض.

البحث السابع : في الضبط

وهو من أعظم الشرائط في الرواية ، فإنّ من لا ضبط له قد يسهو عن بعض الحديث ويكون ممّا يتم به فائدته ويختلف الحكم بعدمه ، أو يسهو فيزيد في الحديث ما يضطرب به معناه ، أو يبدل لفظا بآخر ، أو يروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسهو عن الواسطة ، أو يروي عن شخص فيسهو عنه ويروي عن آخر. فيجب أن يكون بحيث لا يقع له كذب على سبيل الخطأ بأن يكون ضابطا بحيث لا يكون سهوه أكثر من ذكره ولا مساويا.

ويعرف ضبطه بكثرة استعلام الأشياء منه مرة بعد أخرى على سبيل التكرير ، ويطلب منه إعادة ما حفظه بعد وقت.

ولو قدر على ضبط قصار الأحاديث دون مطوّلاتها ، قبل فيما عرف ضبطه فيه دون غيره.

والفرق بين عدم الضبط وعروض السهو ظاهر ، فإنّ عادم الضبط لا يحصّل الحديث حال سماعه ، ومن يعرض له السهو قد يضبط الحديث

٤٣٣

حال سماعه ويحصله ، إلّا أنّه يشذّ عنه بعارض السهو.

لا يقال : لم لا يقبل حديثه لأنّه لو لم يكن قد ضبطه أو ضبطه ثمّ سها عنه لم يروه مع عدالته.

لأنّا نقول : عدالته تمنع من تعمّد الكذب والخطأ لا من سهوه ، فجاز أن يتوهّم فيما لم يضبطه أنّه قد ضبطه ، وفيما سها عنه أنّه لم يسهو وإن كان عدلا.

لا يقال (١) : أنكرت الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته ، وقالت عائشة : رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلا مهذارا في حديث المهراس ، ومع ذلك قبلوا أخباره ؛ ولأنّ الخبر دليل والأصل فيه الصحّة. وتساوي الضبط والاختلال والذكر والنسيان غايته أنّه يوجب الشك في الصحّة ، وذلك لا يقدح في الأصل كما لو كان متطهرا ثمّ شك بعد ذلك في الحديث فإنّه لا يترك الأصل بهذا الشك.

لأنّا نقول : الإنكار على أبي هريرة ليس لعدم ضبطه وغلبة النسيان عليه ، بل لأنّ الإكثار لا يؤمن معه اختلال الضبط الّذي لا يعرض لقليل الرواية.

والخبر إنّما يكون دليلا إذا حصل معه الظنّ بصدق الراوي وضبطه ، فإذا لم يعلم ترجيح ذكره على نسيانه لم يغلب على الظنّ مقتضاه فلا يكون دليلا لوقوع الشكّ في كونه دليلا لا في أمر خارج عنه ، ويقين الطهارة

__________________

(١) ذكره الآمدي في الإحكام : ٢ / ٨٧.

٤٣٤

السابقة لا يقدح فيه شك الحدث الطارئ ، فيترجّح طرف الطهارة ، فلا يبقى معه الشك في الدوام حتى أنّه لو بقي معه الشك مع النظر إلى الأصل لما حكم بالطهارة.

البحث الثامن : في مسوّغات الرواية

الأمور التي يجب ثبوتها حتى يجوز للراوي رواية الخبر لها أحوال (١) :

الأوّل : أعلاها ؛ أن يعلم أنّه قرأه على شيخه ، أو حدّثه ، ويذكر ألفاظ قراءته ووقت القراءة ، وهذا لا شبهة في أنّه يجوز له روايته والأخذ به.

الثاني : أن يعلم أنّه قرأ جميع ما في الكتاب ، أو حدّثه به ، ولا يتذكّر ألفاظ قراءته ، ولا وقت ذلك فيجوز له روايته أيضا ، لأنّه عالم في الحال أنّه سمعه.

الثالث : أن يعلم أنّه لم يسمع ذلك ، ولا ظن أنّه سمعه ، أو شك فلا يجوز له أن يروي ، لأنّه لا يجوز له أن يخبر بما يعلم أنّه كاذب فيه ، أو ظان ، أو شاك.

الرابع : ان لا يتذكر قراءته ولا سماعه لما فيه ، لكنّه يظن ذلك لما يرى من خطّه ؛ فقال الشافعي : يجوز له الرواية ، وبه قال أبو يوسف ومحمد للإجماع فإنّ الصحابة كانت تعمل على كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو كتابه

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٤٣٥

لعمرو بن حزم من غير أن يقال : إنّ راويا روى ذلك الكتاب لهم وإنّما عملوا لأجل الخط ، وأنّه منسوب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاز مثله في سائر الرواة ؛ ولأنّ الظنّ هنا حاصل والعمل بالظن واجب.

وقال أبو حنيفة : لا يجوز ، لأنّه إذا لم يعلم السامع لم يأمن الكذب.

٤٣٦

الفصل السابع

فيما ظن أنّه شرط وليس كذلك

وفيه مباحث :

الأوّل : العدد

ذهب أبو علي الجبائي إلى أنّه لا يشترط في الراوي الكثرة ، فلا يقبل رواية الواحد العدل عنده إلّا إذا عضّده ظاهر ، أو عمل بعض الصحابة ، أو اجتهاد أو كان منتشرا بينهم ؛ ويقبل رواية العدلين مطلقا.

وحكى عنه القاضي عبد الجبار أنّه لا يقبل في الزنا إلّا خبر أربعة ، كالشهادة عليه. (١)

والحق قبول الواحد العدل في الزنا وغيره.

لنا (٢) : انّ خبر الواحد العدل يتضمن العمل به دفع ضرر مظنون فيكون واجبا.

__________________

(١) نقله عنهما الرازي في المحصول : ٢ / ٢٠٥.

(٢) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٢٠٥.

٤٣٧

ولأنّ الصحابة عملوا عليه عمل علي عليه‌السلام على خبر المقداد ، وأبو بكر على خبر بلال ، وعمر على خبر حمل بن مالك وعلى خبر عبد الرحمن في المجوس ، وعمل الصحابة على خبر عائشة في التقاء الختانين ، ولم ينكر أحد فكان إجماعا.

لا يقال : إنّما قبلوا ما اعتضد بالاجتهاد.

لأنّا نقول : إنّهم كانوا يتركون الاجتهاد لهذه الأخبار ، كما قال عمر : لو لا هذا لقضينا فيه برأينا ، وكانوا لا يرون بالمخابرة بأسا حتى روى لهم رافع بن خديج نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها.

احتجّ الخصم بوجوه (١) :

الأوّل : لم يقبل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر ذي اليدين حتى شهد له أبو بكر وعمر.

الثاني : اعتبرت الصحابة العدد ، حيث ردّ أبو بكر وعمر خبر عثمان في رد الحكم بن أبي العاص ، ولم يقبل أبو بكر خبر المغيرة في الجدّة حتى رواه محمد بن مسلمة ، ولم يعمل عمر على خبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه أبو سعيد الخدري.

الثالث : لا يقبل في الشهادة الواحد فكذا الرواية ، بل هي أولى ، لأنّها تقتضي شرعا عامّا ، والشهادة تقتضي شرعا خاصّا ، فإذا لم يقبل الواحد في الثاني ففي الأوّل أولى.

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٢٠٥.

٤٣٨

الرابع : الدليل ينفي العمل بالظن ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١) وغيره ، ترك العمل به في خبر العدلين ؛ لقوة الظنّ ، ولاعتبار الشارع به في الشهادة ، فيبقى خبر الواحد على أصل المنع ، إذ ليس هو في معناه لضعف الظن فيه.

والجواب عن الأوّل : أنّ ذلك إن دلّ فإنّما يدلّ على اعتبار ثلاثة : أبي بكر وعمر وذي اليدين ، ولقيام التهمة هناك حيث اختصّ (بخبر من) (٢) بين جماعة عظيمة يجب اشتهاره بخلاف الرواية.

وفي الأوّل نظر ، لأنّ المحقّقين من علمائنا منعوا من هذه الرواية ، ومع ذلك فلا يلزم ما قالوه ، لجواز أن تكون شهادة الثاني اتّفاقية.

وعن الثاني : انّ اعتبارهم العدد هنا مع أنّا بيّنّا قبولهم خبر الواحد إنّما كان لحصول التهمة ، لأنّ قبول الواحد يدلّ على أنّ العدد ليس شرطا.

وعن الثالث : أنّه منقوض بالأمور المعتبرة في الشهادة دون الرّواية ، كالحرية والذكورة والبصر وغيرها.

وعن الرابع : أنّ الله تعالى أمر بالتمسّك بخبر الواحد ، فيكون التمسّك به معلوما لا مظنونا ، لئلّا يندرج تحت النهي عن العمل بالظنّ.

__________________

(١) يونس : ٣٦.

(٢) في «ب» : المخبر ؛ وفي المحصول : ٢ / ٢٠٦ وردت العبارة كما يلي : ولأنّ التهمة كانت قائمة هناك لأنّها كانت واقعة في محفل عظيم ، والواجب فيها الاشتهار.

٤٣٩

البحث الثاني : في عدم تكذيب الأصل

ذهب أكثر الحنفية إلى أنّ راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث قدح ذلك في رواية الفرع ، سواء جزم بالتكذيب أو قال : لا أدري وهو رواية عن أحمد.

والوجه أن يقول : الفرع إن كان جازما بالرواية وكان الأصل بفسادها لم يقبل ، لأنّ قبول الفرع لا يمكن إلّا بالقدح في الأصل وهو قدح في الحديث ، ولأنّ أحدهما كاذب ولا يقدح في عدالتهما. وإن لم يجزم بالفساد قبلت الرواية ، سواء قال الأصل : تغلب على ظنّي أنّي رويته ، أو الأغلب على ظني أنّني ما رويته ، أو شك في الأمرين على السواء ، أو لا يقول شيئا من ذلك عملا بالمقتضي ، وهو رواية الفرع العدل السالم عن معارضة تكذيب الأصل فأشبه موت الأصل وحياته.

ولأنّ ربيعة بن أبي عبد الرحمن (١) روى عن سهيل بن أبي صالح (٢) ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنّه قضى باليمين مع الشاهد ، ثم نسيه سهيل فقال

__________________

(١) هو أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي ، واسم أبي عبد الرحمن : فروخ ، مولى التيميين تيم قريش ، مفتي المدينة ، المعروف بربيعة الرأي ، روى عن أنس والسائب بن يزيد ، وروى عنه سفيان وشعبة ومالك وسهيل. الجرح والتعديل : ٣ / ٤٧٥ برقم ٢١٣١ ؛ سير أعلام النبلاء : ٦ / ٨٩ برقم ٢٣.

(٢) سهيل بن أبي صالح ، واسمه ذكوان السمان ، أبو يزيد المدني ، مولى جويرية بنت الأحمس امرأة من غطفان ، روى عن أبيه والحارث بن مخلد الأنصاري الزرقي وحبيب بن حسان وغيرهم ، وروى عنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن وإبراهيم بن محمد الفزاري ، وإسماعيل بن جعفر وغيرهم. تهذيب الكمال : ١٢ / ٢٢٤ برقم ٢٦٢٩.

٤٤٠