نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

مجموعها التواتر كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع أمّتي على خطاء». (١)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. (٢)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : لا تجتمع أمّتي على الضلالة. (٣)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : يد الله على الجماعة. (٤)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : سألت ربي ان لا تجتمع أمّتي على ضلالة فأعطانيها. (٥)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : لم يكن الله ليجمع أمّتي على ضلال.

وروي : ولا على خطأ. (٦)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : عليكم بالسّواد الأعظم. (٧) وذلك جماعة الأمّة ، لأنّ الأمّة أعظم من كلّ من دونهم.

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : يد الله على الجماعة ، ولا نبالي بشذوذ من شذ. (٨)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٨ / ١٢٣ و ٢٠ / ٣٤ ؛ نهج الإيمان : ٦١٨ ؛ وراجع الذريعة للسيد المرتضى : ٢ / ٥١٠ و ٦٨٠ ؛ وقوانين الأصول للميرزا القمي : ٣٥٤ و ٣٦١ ؛ والميزان : ٤ / ٣٩٣.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٣٧٩ ؛ مستدرك الحاكم : ٣ / ٧٨ ؛ مجمع الزوائد : ١ / ١٧٧.

(٣) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٠٣ ح ٣٩٥٠ ؛ سنن الترمذي : ٤ / ٤٠٥ برقم ٢١٦٧ ؛ كنز العمال : ١ / ٢٠٦ برقم ١٠٢٩ و ١٠٣١.

(٤) سنن الترمذي : ٤ / ٤٠٥ برقم ٢١٦٦ و ٢١٦٧ ؛ سنن النسائي : ٧ / ٩٢ ؛ مستدرك الحاكم : ١ / ١١٥.

(٥) كنز العمال : ١٤ / ٤٩ برقم ٣٧٩٠٤ ؛ شرح نهج البلاغة : ٨ / ١٢٣.

(٦) شرح نهج البلاغة : ٨ / ١٢٣. راجع الأصول العامّة للفقه المقارن : ٢٦١.

(٧) مسند أحمد : ٤ / ٢٧٨ و ٣٧٥ ؛ مجمع الزوائد : ٥ / ٢١٧.

(٨) المحصول : ٢ / ٣٨.

١٨١

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. (١)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية. (٢)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : لا يزال طائفة من أمّتي على الحق لا يضرهم من خالفهم. (٣)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : لا تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحق حتى يقاتلون الدجّال. (٤)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : لا يزال طائفة من أمّتي على الحق حتى يأتي أمر الله. (٥)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن إخلاص العمل لله ، والنصح لأئمة المسلمين ، ولزوم الجماعة فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم. (٦)

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ١٣٠ و ٢٠٢ ؛ مستدرك الحاكم : ١ / ٧٧ و ١١٧ ؛ كنز العمال : ١ / ٢٠٧ برقم ١٠٣٥.

(٢) صحيح مسلم : ٦ / ٢١ ، باب الأمر بلزوم الجماعة ، كتاب الإمارة ؛ مسند أحمد : ٢ / ٢٩٦ و ٤٨٨ ؛ سنن النسائي : ٧ / ١٢٣ ؛ كنز العمال : ٦ / ٥٢ برقم ١٤٨٠٩.

(٣) سنن البيهقي : ٩ / ٢٢٦ ؛ دلائل النبوة : ٢٢٥.

(٤) مسند أحمد : ٤ / ٤٣٤ و ٤٣٧ نحوه ؛ نيل الأوطار : ٨ / ٣١ ؛ طبقات ابن سعد : ٢ / ١٦٧ نحوه.

(٥) صحيح البخاري : ٨ / ١٤٩ ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ؛ مسند أبي داود الطيالسي : ٩٤.

(٦) مسند أحمد : ٣ / ٢٢٥ و ٤ / ٨٢ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٨٤ برقم ٢٣٠ ، وج ٢ / ١٠١٦ برقم ٣٠٥٦ ؛ مستدرك الحاكم : ١ / ٨٧ و ٨٨ ؛ سنن الدارمي : ١ / ٧٥ و ٧٦.

١٨٢

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، فإنّ الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد (١).

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : لا يزال طائفة من أمّتي على الحق لا يضرّهم من ناواهم إلى يوم القيامة. (٢)

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : ستفترق أمّتي كذا وكذا فرقة كلّها في النار إلّا فرقة واحدة ، قيل : ومن تلك الفرقة؟ قال : هي الجماعة. (٣)

فقد اشتركت هذه الأحاديث في الدلالة على معنى واحد ، وهو أنّ الأمّة بأسرها لا تتفق على الخطاء.

الثاني : الاستدلال وهو من وجهين :

الأوّل : هذه الأحاديث لو صحّت لثبت بها أصل عظيم مقدّم على الكتاب والسنّة ، فيتوفّر الدواعي على البحث عنه بأقصى الوجوه ، أمّا الأولياء فلتصحيح مثل هذا الأصل العظيم بها ؛ وأمّا الأعداء فلدفعه ، فلو كان في متنها خلل امتنع ذهولهم عنه ، فلمّا لم يقدر أحد على الطعن فيها مع شدة بحثهم وطلبهم علمنا صحّتها.

الثاني : ظهر من التابعين إجماعهم على أنّ الإجماع حجّة بهذه

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٢٦ ؛ سنن الترمذي : ٣ / ٣١٥ ؛ مستدرك الحاكم : ١ / ١١٤ و ١١٥ ؛ مجمع الزوائد : ٥ / ٢٢٥.

(٢) كنز العمال : ١٢ / ١٧٩ برقم ٣٤٥٦١ ؛ المعجم الكبير : ٨ / ١٤٥.

(٣) مسند أحمد : ٤ / ١٠٢ ؛ سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٢٢ ؛ مستدرك الحاكم : ١ / ١٢٨ ؛ مجمع الزوائد : ٦ / ٢٢٦ ؛ كشف الغطاء : ١ / ١٥١.

١٨٣

الأخبار ، والاستقراء دلّ على أنّ أمتنا إذا أجمعوا لأجل خبر ، كان مقطوعا بصحّته.

الثالث : سلّمنا أنّ هذه أخبار آحاد ، لكنّها تدلّ على أنّ الإجماع حجّة ، فيحصل ظن أنّه حجّة ، فيجب العمل به لوجوب دفع الضرر المظنون ، وهو أجود الطرق.

أمّا الطريق الأوّل وهو ادّعاء التواتر ، فبعيد ، لمنع بلوغ مجموعها حدّه ولو كانت ألفا ، لجواز صدور الكذب عن الجماعة.

ثمّ ادّعاء الضرورة إمّا في لفظها بأن يقال : يجوز في كلّ واحد من هذه أن يكون كذبا ، لكنّا نعلم أنّ مجموعها يستحيل أن يكون كذبا ، فيكون بعضها صحيحا ؛ أو في معناها بأن يقال : الألفاظ اشتركت في إفادة معنى واحد منقول بالتواتر.

والأوّل مسلّم لكن يجب إبانة أنّ كلّ واحد من هذه الألفاظ يدلّ على الإجماع حجّة قطعا ، إذ لو دلّ البعض ظاهرا لم يحصل الغرض ، لاحتمال أن يكون ذلك البعض هو الصحيح. لكنّا نرى المستدلّين بهذه الأخبار يتمسّكون بواحد منها عينا ، وهو : «لا تجتمع أمّتي على خطأ» ويبالغون في الاعتراض عليه والجواب.

وأمّا الثاني فإن كان المشترك هو أنّ الإجماع حجّة فقد ادّعيتم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الإجماع حجّة» وهو معلوم البطلان ولا يجري مجرى غزاة بدر وأحد وانتفى الخلاف ، ولأنّكم تتمسكون بهذا الحديث وتوردون عليه

١٨٤

الأسئلة والأجوبة ، ولو كان متواترا كان الاستدلال عليه عبثا ، بخلاف شجاعة علي عليه‌السلام وسخاء حاتم فإنّه متواتر المعنى بسبب أخبار متفرّقة لم يحتج إلى الاستدلال ببعض تلك الأخبار على شجاعة علي عليه‌السلام ، بل يحصل العلم الضروري بذلك ، وهنا يفتقر إلى الاستدلال ببعضها على المطلوب بعد سماعه ، فيكون الإجماع حجة ليس جزءا من مفهومها وإن كان المشترك معنى يلزم منه كون الإجماع حجّة وجبت الإشارة إلى ذلك المعنى وإقامة الدلالة على الاستلزام.

لا يقال : المشترك تعظيم الأمّة وبعدها عن الخطأ.

لأنّا نقول : مطلق التعظيم مسلّم لا التعظيم المنافي لإقدامهم على الخطأ والمطلوب الثاني.

وأمّا الطريق الثاني فضعيف ، ونمنع عدم الطعن فيها فقد طعن بأنّها آحاد.

لا يقال : اتّفق الصحابة بأنّها متواترة.

سلّمنا ، لكن يجب الطعن فيها على التفصيل.

لأنّا نقول : النقل بأنّها متواترة إن كان متواترا فهي متواترة عندنا ، لأنّ الخبر متى كان متواترا وصحّ بالتواتر أنّه متواتر كانت متواترة عندنا ، لكنّكم سلّمتم عدم تواترها عندنا. وإن كان آحادا كانت أخبار آحاد ، لأنّ تواترها عند الصحابة والتابعين إذا لم يثبت إلّا بالآحاد كانت من باب الآحاد ، لاشتراط استواء الطّرفين والواسطة في التواتر.

١٨٥

قوله : يجب الطعن فيها على التفصيل.

قلنا : ليس كلّ ما لا يعلم بصحّته وجب أن يعلم فساده ، فالصحابة والتابعون ما عرفوا صحّة هذه الأخبار ولا فسادها ، بل ظنّوا صحّتها فلم يجب عليهم الطعن فيها على التفصيل.

قوله : أجمع التابعون على صحّة الإجماع بناء على صحّة هذه الأخبار.

قلنا : نمنع الإجماع على صحّة الإجماع.

سلّمنا ، لكن لا لصحّة هذه الأخبار ، بل للآيات ، فإن ادّعوا تواتر هذين كان مكابرة ، فإنّ تلك الأخبار أظهر من ادّعاء هذين المقامين ، ولمّا لم يدّعوا التواتر في تلك الأخبار كان عدمه فيها أولى.

سلّمنا لكن نمنع جريان عادتهم بعدم إجماعهم على موجب خبر ، لأجله إلّا وقد قطعوا بصحّته ، فإنّ الصحابة أجمعوا على حكم المجوس بخبر عبد الرحمن ، وعلى أنّ المرأة لا تنكح على عمّتها وخالتها بخبر واحد ، فثبت أنّ أجودها الطريق الثالث.

وأمّا كيفية الاستدلال فيتمسّك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع أمّتي على الخطأ». واعترض من وجوه :

الأوّل : إن أراد بأمّته كلّ مؤمن إلى يوم القيامة خرج الإجماع عن كونه حجّة ، وإن أراد الموجودين وقت الخبر كان إجماعهم حجّة ؛ لكنّا لا نعرف أعيانهم وبقاءهم بعده عليه‌السلام.

الثاني : سلمنا انّ المراد بالأمّة أهل كلّ عصر ، لكن نمنع دلالتها على

١٨٦

نفي الخطأ ، لاحتمال أن يكون نهيا لأمّته عن الاجتماع على الخطأ بسكون العين ، فاشتبه على الراوي فنقله مرفوعا على أنّه خبر.

الثالث : سلّمنا أنّه خبر ، لكن لم قلتم : إنّه يدلّ على نفي كلّ الخطاء عنهم؟! ونمنع عموم النكرة المنفية ، فيحمل على نفي السهو أو الكفر جمعا بينه وبين قوله : لا تجتمع أمّتي على ضلال.

الرابع : سلّمنا إصابتهم ، لكن يجوز مخالفتهم ، فإنّ المجتهد قد يكون مصيبا ويتمكّن آخر من مخالفته.

والجواب عن الأوّل : أنّه مدفوع بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تزال طائفة من أمّتي متظاهرين على الحق.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.

[وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.

وعن الثاني : أنّ عدالة الراوي تفيد ظن صحّة الرواية وهو كاف ، ولو جوّزنا ذلك انسد باب الاستدلال بأكثر النصوص ، مع أنّه مدفوع بباقي الروايات.

وعن الثالث : قد تقدّم أنّ النكرة المنفية للعموم.

وفيه نظر ، لورود النفي على «تجتمع» لا على خطأ ، والحمل على السهو باطل لامتناع اجتماع الخلق العظيم على السهو فلا يذكر للتعظيم ، ولعدم اختصاص أمّته به ، وكذا على الكفر ، وقوله : «لا تجتمع أمّتي على

١٨٧

الضلال» خبر مستقل بنفسه ، ولأنّ الضلال لا يقتضي الكفر لقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا)(١) [وقوله تعالى :] (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)(٢).

وعن الرابع : أنّ الأمّة على قولين : كون الإجماع حجّة لا يجوز مخالفته ، ومنع كونه حجّة. فالقول بأنّه حجّة يجوز مخالفته خارج عن قول كلّ الأمّة ولو كان حقّا لكانت الأمّة متّفقين على الخطأ ، وهو ينافي الخبر.

الوجه السّابع : دليل العقل

وهو الذي عوّل عليه الجويني فقال : اجتماع الخلق العظيم على الحكم الواحد يستحيل أن يكون لا لدلالة ولا أمارة ؛ فإن كان لدلالة كشف الإجماع عن وجودها فخلافه خلاف الدلالة ، وهو باطل ؛ وإن كان لأمارة والتابعون قطعوا بالمنع من مخالفة هذا الإجماع ، فلو لا اطّلاعهم على دلالة قاطعة مانعة من مخالفة مثل هذا الإجماع ، وإلّا لاستحال اتّفاقهم على المنع من المخالفة. (٣)

والاعتراض لعلّهم اتّفقوا لا لدلالة ولا لأمارة ، والمبطلون اتّفقوا على الحكم الباطل وهم منتشرون في الشرق والغرب.

سلّمنا ، لكن جاز أن يكون لأمارة ونمنع الاتّفاق على المنع من المخالفة.

__________________

(١) الضحى : ٧.

(٢) الشعراء : ٢٠.

(٣) نقله الرازي في المحصول : ٢ / ٤٦.

١٨٨

سلّمنا ، لكن لما جاز الإجماع لأمارة جاز أن يكون إجماع المخالفة عنها.

لا يقال : إنّهم لا يتعصّبون في الإجماع الصادر عن الأمارة وقد تعصّبوا في هذا الإجماع فدلّ على أنّه ليس عن أمارة.

لأنّا نقول : إذا سلمت أنّهم لا يتعصّبون في إجماع صادر عن أمارة بطل قولكم إنّهم منعوا من مخالفة هذا الإجماع.

واعترض أيضا بأنّ فيه إثبات الإجماع بالإجماع وإثبات الإجماع بنص يتوقّف عليه.

وأجيب بأنّ المثبت كونه حجّة ثبوت نص عن وجود صورة منه بطريق عادي لا يتوقّف وجودها ولا دلالتها على ثبوت كونه حجّة ، فلا دور.

الوجه الثامن : أجمعوا على تقديم الإجماع على القاطع فدلّ على أنّه قاطع وإلّا (١) تعارض الإجماعان ، لأنّ القاطع مقدّم.

لا يقال : يلزم أن يكون المجمع عليه عدد التواتر في هذا الدليل وفيما سبق.

لأنّا نقول : لو سلم لم يضر.

الوجه التاسع : قد ثبت دوام شرعنا إلى انقضاء التكليف فوجب أن يكون قول الأمّة حجّة لدوام قيام الدلالة على اتصال الشرع.

والاعتراض : الحجّة عند الإمامية قول المعصوم ، وغيرهم القرآن

__________________

(١) في «أ» : لا.

١٨٩

وأخبار الآحاد والاجتهاد ، على أنّ شرعنا منقطع بانقطاع التكليف كانقطاع شرع من قبلنا بالنسخ ، فدوام كلّ واحد من الشرعين كدوام الآخر أو يقاربه ، فكما لا يجب قول إحدى الأمّتين حجّة لم يجب في الأخرى مثله.

احتج المنكرون بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(١) ، وصف الكتاب العزيز بأنّه مبيّن لكلّ شيء ، ومن جملته الأحكام التي أجمعوا عليها ، فلا حاجة إلى الإجماع.

الثاني : قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(٢) اقتصر على الكتاب والسنّة ، وهو ينفي الحاجة إلى الإجماع.

الثالث : الآيات الدالّة على وقوع الذنب من مجموع الأمّة كقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣) ، و [قوله :] (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(٤) ، وغيرهما يدلّ على وقوع الخطاء من مجموع الأمّة فجاز أن يكون إجماعهم منه.

الرابع : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ» (٥) دلّ على خلو الزمان من جمع تقوم الحجّة بقولهم. وكذا : «ولا ترجعوا بعدي كفارا». وقوله : «تعلّموا الفرائض وعلّموها الناس بعدي فإنّها أوّل ما ينسى» وقال :

__________________

(١) النحل : ٨٩.

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) البقرة : ١٦٩.

(٤) البقرة : ١٨٨.

(٥) صحيح مسلم : ١ / ٩٠ ، باب بيان أنّ الإسلام بدأ غريبا ؛ كنز العمال : ١ / ٢٣٨ برقم ١١٩٣ و ٣٩٢ برقم ١٦٨٩ ؛ الغيبة للنعماني : ٣٢٢ ؛ بحار الأنوار : ٥٢ / ٣٦٧ ح ١٥٠.

١٩٠

«خير القرون القرن الّذي أنا فيه ، ثمّ الذي يليه ، ثمّ يبقى حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم».

الخامس : كلّ واحد يجوز عليه الخطاء فكذا المجموع.

السادس : أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كغيرهم من الأمم ، فلا يكون إجماعهم حجّة كغيرهم.

السابع : الأحكام الشرعية لا تثبت إلّا بدليل ، فلا يكون الإجماع دليلا كالتوحيد وغيره.

والجواب عن الأوّل : انّ كون الإجماع حجّة ثبت بالكتاب ، وهو قوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) كما في خبر الواحد وغيره من الأدلّة.

وعن الثاني : أنّ المجمع عليه لم يقع فيه تنازع فلا يجب ردّه ، ولأنّا رددناه إلى القرآن والسنّة حيث أثبتنا الإجماع بهما.

وعن الثالث : أنّها تتناول كلّ واحد من الأمّة ولا يستلزم جواز الذنب من المجموع ، ولأنّ التجويز لا ينافي الامتناع الشرعي.

وعن الرابع : انّ قوله : «بدأ الإسلام» يدل على أنّ أهل الاسلام هم الأقلّون لا على أنّه لا يبقى (١) من تقوم الحجّة بقوله : «ولا ترجعوا بعدي كفّارا» يحتمل أن يكون خطابا مع جماعة معيّنين ، أو أنّ النهي لا يستلزم الوقوع.

وقوله : «تعلّموا الفرائض» يعطي جواز انقراض العلماء ، ونحن نمنع

__________________

(١) في «أ» : ينتفي.

١٩١

من الإجماع مع الانقراض ، وكلامنا في اجتماع من كان من العلماء وكذا ما بعده. ومعارض لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزال طائفة من أمّتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجّال». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وا شوقاه إلى إخواني» قالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ فقال : «أنتم أصحابي ، إخواني قوم يأتون من بعدي يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ، ويصلحون إذا فسد الناس» (٢).

وعن الخامس : أنّ كلّ واحد منهم يجوز عليه الخطاء منفردا في قوله لا في القول الذي اتّفقوا عليه ، ونمنع أنّ كلّ واحد يجوز أن يخطأ في القول الذي اتّفقوا عليه.

وعن السادس : بالفرق ، فإنّه تعالى فضّل أمّة محمد على غيرهم وميّزهم من بينهم وجعلهم شهداء على الناس في تبليغ رسلهم إليهم ، على أنّ أبا إسحاق الأسفرائيني وجماعة من العلماء ذهبوا إلى أنّ إجماع علماء من تقدّم من الأمم حجّة قبل النسخ. (٣)

وعن السابع : يجوز إثبات التوحيد بالإجماع.

سلّمنا لكن الفرق تجويز التقليد في الأحكام الشرعية دون العقلية ، وإذا جاز تقليد الواحد في الحكم الشرعي فتقليد الكلّ أولى.

__________________

(١) راجع الإحكام : ١ / ٢٦٩.

(٢) ذكر مضمون الحديث في صحيح مسلم : ١ / ١٥٠ ، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل من كتاب الطهارة ؛ مسند أحمد : ٢ / ٣٠٠ و ٤٠٨ ؛ سنن ابن ماجة : ٢ / ١٤٣٩ برقم ٤٣٠٦ ؛ الموطأ : ١ / ٢٨ برقم ٢٨ ؛ وذكر نصّ الحديث الآمدي في الإحكام : ١ / ٢٦٩ وج ٤ / ٢٣٤.

(٣) راجع الإحكام للآمدي : ١ / ٢٦٩.

١٩٢

الفصل الثاني

فيما أخرج من الإجماع وهو منه

وفيه مباحث :

الأوّل : في إحداث القول الثالث

كلّ مسألة اشتملت على موضوع كلّي على الإطلاق فالحكم فيها إمّا بالإيجاب الكلّي ، أو السّلب الكلّي ، أو الإيجاب في البعض والسلب في الباقي ؛ فإذا اختلف أهل العصر على قولين من هذه الاحتمالات الثلاثة بأن يقول بعضهم بالإيجاب الكلّي والباقون بالسّلب الكلي ، أو بالاقتسام ، أو قال بعضهم بالسلب الكلّي والباقون بالاقتسام فهل يجوز لمن بعدهم أن يقول بالثالث؟

منعه الجمهور والإمامية ، وجوّزه أهل الظاهر وبعض الحنفية ؛ ونقل بعضهم (١) عن بعض الشيعة جوازه ، وهو غلط ؛ وحجّتهم (٢) في ذلك ظاهرة ، لأنّ الأمّة إذا اختلفت على قولين فالحق واحد منهما وهو الذي

__________________

(١) الآمدي في الإحكام : ١ / ٣٣٠.

(٢) أي الشيعة.

١٩٣

اشتمل على قول المعصوم ، فيكون الثاني باطلا ، فالثالث أولى بالبطلان.

احتجّ النافون بوجوه :

الأوّل : القول الثالث إنّما يجوز لو أمكن كونه حقّا ، ولا يمكن ذلك إلّا عند بطلان الأوّلين ضرورة انّ الحقّ واحد ، فيلزم إجماعهم على الباطل.

الثاني : الأمّة لمّا اختلفت أوجب كلّ من الفريقين الأخذ إمّا بقوله أو بقول الآخر ، فتجويز الثالث يبطل ذلك وهو حجّة القاضي عبد الجبار. (١)

الثالث : القول الثالث إن لم يكن عن دليل كان خطاء فيمتنع القول به ، وإن كان لزم نسبة الأمّة إلى الخطاء بتضييعه وغفلتهم عنه ، وهو حجّة الغزالي. (٢)

والاعتراض على الأوّل : أنّه غير وارد على القائل بأنّ كلّ مجتهد مصيب ، فإنّه لا يلزم من حقّية أحد الأقسام بطلان الباقي ؛ وأمّا من يعتقد وحدة المصيب لم يلزم من التمكّن من إظهار القول الثالث كونه حقّا ، لأنّ المجتهد قد تمكّن من العمل بالاجتهاد الخطأ.

وفيه نظر ، لأنّ المجتهد إنّما يتمكّن من العمل بالاجتهاد الخطأ إذا لم يعلم كونه خطأ أمّا مع علمه فلا ، وهنا لمّا اتّفقت الأمّة على قولين فإن كان الحق خارجا عنهما لزم اتّفاقهم على الخطأ ، وإن لم يكن كان الثالث معلوم الخطأ فلا يمكن العمل به.

__________________

(١) الإحكام للآمدي : ١ / ٣٣١.

(٢) المنخول من تعليقات الأصول للغزالي : ٤١٧ ؛ الإحكام للآمدي : ١ / ٣٣٠.

١٩٤

وعلى الثاني : أنّ إيجاب الأخذ بأحد القولين مشروط بأن لا يظهر الثالث ، فإذا ظهر زال شرط ذلك الإجماع.

لا يقال : لو جاز ذلك لجاز أن يقال : إنّما أوجبوا التمسّك بالإجماع على القول الواحد بشرط أن لا يظهر وجه القول الثاني ، فإذا ظهر زال شرط ذلك الإجماع ، فجاز الخلاف.

لأنّا نقول : إنّه جائز لكنّهم منعوا من اعتباره فليس لنا ان نحكم عليهم بوجوب التسوية.

وفيه نظر ، لأنّ كلّ واحد منهما يعتقد أنّه على الحق وأنّ القول المخالف له غلط ، فقد أجمعوا على تخطئة الثالث ، ونمنع أنّ كلّ منهما سوّغ الأخذ بقوله أو بقول صاحبه.

وعلى الثالث : انّما يلزم نسبة الأمّة إلى الخطأ لو كان الحقّ في المسألة معيّنا ، أمّا على تقدير إصابة كلّ مجتهد فلا.

احتج المجوّزون بوجوه : (١)

الأوّل : الاختلاف على قولين دليل تسويغ الاجتهاد ، والثالث صدر عن اجتهاد فكان سائغا.

الثاني : لو استدلّ الصحابة بدليل جاز للتابعين الاستدلال بغيره ، فكذا القول هنا.

الثالث : الوقوع ثابت فيكون جائزا والملازمة ظاهرة. وبيان المقدّمة : انّ الصّحابة اختلفوا في زوج وأبوين وفي زوجة وأبوين ، فقال ابن عباس :

__________________

(١) ذكر الآمدي الوجوه والجواب عنها في الإحكام : ١ / ٣٣٣.

١٩٥

للأم ثلث الأصل بعد فرض الزّوجين ، وقال الباقون : للأم ثلث الباقي بعد فرضهما ، وأحدث التابعون ثالثا ، فقال ابن سيرين بقول ابن عبّاس في الزوج دون الزوجة ، وقال تابعيّ آخر بالعكس.

واختلف الصحابة في قوله : «أنت عليّ حرام» على ستة أوجه ، فأحدث مسروق التابعي سابعا هو : انّه لا يتعلّق به حكم.

والجواب عن الأوّل : انّه يدلّ على تسويغ الاجتهاد منهم أو من غيرهم ، الأوّل مسلّم والثاني ممنوع.

وعن الثاني : الفرق ظاهر بين الدّليل المؤكّد لما صار إليه الأمّة من الحكم وبين القول الثالث ، ولأنّ اتّفاقهم على دليل واحد لا يمنع من دليل آخر ، واتّفاقهم على حكم واحد مانع من إبداع حكم آخر مخالف له ، فافترقا.

وعن الثالث : بأنّ مسألة الزوج والزّوجة مع الأبوين من قبيل ما لا يرفع ما اتفق عليه الفريقان ، بل قول ابن سيرين وغيره غير مخالف للإجماع ، بل هو قائل في كلّ صورة بمذهب ذي مذهب ، ولأنّه لم يخالف بعد استقرار الإجماع على أحدهما بل حالة الاتفاق فلا يكون خارقا للإجماع لأنّه منهم ، وقال آخرون : إحداث الثالث إن لزم منه الخروج عن ما أجمعوا عليه لم يجز ؛ كالجد مع الأخ على قولين ، منهم من قال المال كلّه للجد ، ومنهم من قال بمقاسمة (١) الأخ ، فحرمان الجد ثالث يستلزم رفع الإجماع ، وهو إعطاء الجد قسطا من المال.

__________________

(١) في «أ» : يقاسمه.

١٩٦

وكالجارية إذا وطأها المشتري فوجد بها عيبا ، قال بعضهم : نمنع الردّ ، وقال آخرون بالردّ مع العقر (١) ، فالقول بالردّ مجانا خارق للإجماع.

وكالنّية في الطهارات قيل إنّها معتبرة في الجميع ، وقيل في البعض ، فالقول بعدم اعتبارها في شيء منها خارق للإجماع ، وإن لم يلزم من إحداث الثالث رفع ما اتّفقوا عليه جاز ، لأنّ المحذور مخالفة الإجماع أو ما يستلزمها ، فإذا لم يكن الثالث كذلك جاز ، كما لو قال بعضهم باعتبار النية في جميع الطهارات وقال الباقون بعدم اعتبارها في الجميع جاز أن يقول متجدّد باعتبارها في البعض موافقة لمعتبرها في الجميع في تلك الصورة وبعدم اعتبارها في البعض الآخر موافقة لمن لم يعتبرها في الجميع في ذلك البعض ، وليس في ذلك رفع حكم مجمع عليه.

وكنسخ النكاح بالعيوب الخمسة ، وهي : الجذام والجنون والبرص مع الرتق والقرن في الزوجة والجب والعنّة في الزوج ، فقال بعضهم بالفسخ بها أجمع ، وقال آخرون بعدمه فيها أجمع ، فالفرق لا يرفع إجماعا.

وكالأبوين مع الزوج قال بعضهم : للزوج حصّته من الأصل وللأم ثلث الأصل وللأب الباقي ، وقال آخرون : للزوج حقّه وللأمّ ثلث الباقي وللأب الثلثان ، ثمّ جعلوا حكم الزوجة حكم الزّوج ، فمن جعل للأم ثلث الأصل مع الزوج جعله لها مع الزوجة ، ومن أعطاها ثلث الباقي في الأوّل أعطاها ثلثه هنا ، فإعطاؤه ثلث الأصل في إحدى المسألتين وثلث الباقي في الأخرى ثالث لا يرفع إجماعا ، وهو الوجه.

__________________

(١) في «أ» : العقد.

١٩٧

لا يقال : إنّه فصل ، ولم يفصل أحد فقد خالف الإجماع.

لأنّا نقول : عدم القول بالفصل ليس قولا بعدمه ، وإلّا لامتنع القول في واقعه يتحدد فإنّ عدم القول حينئذ يكون قولا بالعدم. (١)

البحث الثاني : في عدم الفصل بين المسألتين

إذا لم تفصل الأمّة بين مسألتين فهل لمن بعدهم الفصل بينهما؟

وتحقيقه أنّ الأمّة ان نصّوا على عدم الفصل بينهما فإنّه لا يجوز الفصل ، سواء حكموا بعدمه في كلّ شيء ، أو في بعض الأحكام.

وأقسامه ثلاثة : ان تحكم الأمّة بحكم واحد فيهما إمّا بالتحليل أو الحرمة ، أو أن يحكم البعض فيهما بالتحريم والآخر بالتحليل ، أو أن لا ينقل إلينا منهم حكم فيهما.

ففي هذه الصور إذا دلّ دليل على حكم في إحداهما كان في الأخرى كذلك ، وإن لم ينصّوا على عدم الفرق لكن لم يكن فيهم من فرّق بينهما فإن علم اتّحاد طريقة الحكم فيهما جرى مجرى النصّ على عدم الفرق.

مثاله : من ورّث العمة ورّث الخالة ، ومن منع إحداهما منع الأخرى ، لاتّحادهما في الطريقة وهي حكم ذوي الأرحام. فهذا لا يسوّغ خلافهم فيه بتفريق ما جمعوا بينهما ، إلّا أنّه متأخّر عن سائر الإجماعات لضعفه.

__________________

(١) ذكر هذا المبحث مع أدلّة النافين والمجوّزين والجواب عنها : الرازي في محصوله : ٢ / ٦٢ ـ ٦٣ ؛ والآمدي في إحكامه : ١ / ٣٢٩ ، المسألة التاسعة عشرة.

١٩٨

وإن لم يعلم اتّحاد الطريقة فالحق جواز الفرق لمن بعدهم ، عملا بالأصل السالم عن معارضة مخالفة حكم مجمع عليه ، أو علّته (١) ؛ ولأنّ منع المخالفة يستلزم أن من قلّد مجتهدا في حكم أن يوافقه في كلّ حكم ذهب إليه ، وهو ظاهر البطلان.

احتجّ المانعون من الفصل مطلقا بأمرين :

الأوّل : إذا قال نصف الأمّة بالتحريم في المسألتين ونصفها بالتحليل فيهما ، فقد اتّفقوا على أنّه لا فصل بين المسألتين ، فيكون الفصل ردا للإجماع.

الثاني : إذا اختلفت الأمّة على قولين فقد أوجبت كلّ طائفة منهما القول بقولها أو بقول الأخرى ومنعت من غيرهما ، فتسويغه رفع لهذا الإجماع.

والجواب عن الأوّل : ليس النزاع فيما إذا نصّوا على اتّحاد الحكم أو علّته ، فإن أردتم أنّ كلّ قائل بأحد المسألتين قائل بالأخرى فهو مسلّم ، لكن نمنع (٢) عدم الفصل حينئذ فإنّه المتنازع.

وعن الثاني : أنّهم أوجبوا بشرط عدم الفرق من بعض المجتهدين بين المسألتين ، فإن منعوا الالتفات إلى هذا الشرط ، فهو النزاع.

وقال بعض العلماء : يجوز الفصل مطلقا ، لأنّ ابن سيرين قال في زوج وأبوين : للأمّ ثلث الباقي ، وقال في زوجة وأبوين : للأم ثلث الأصل ؛ فقال

__________________

(١) في «ج» : عليّته.

(٢) في «أ» : يمنع ، وفي «ب» : منع.

١٩٩

في إحداهما بقول ابن عباس ، وفي الأخرى بقول باقي الصحابة.

وقال الثوري : الجماع ناسيا يفطر والأكل ناسيا لا يفطر ، ففرّق بين المسألتين مع اتّحاد الطريقة. (١)

البحث الثالث : في جواز الإجماع بعد الخلاف (٢)

إذا اختلف أهل كلّ عصر في المسألة على قولين فهل يجوز لهم أن يتفقوا بعد استقرار خلافهم على أحد القولين والمنع من الآخر ويكون إجماعا كالمبتدإ؟

اختلفوا فمن اعتبر انقراض العصر في الإجماع قطع بجوازه ؛ ومن لم يعتبره اختلفوا ، فمنهم من جوّزه بشرط أن يكون مستند اتّفاقهم على الخلاف القياس والاجتهاد لا دليل قاطع ، ومنهم من منع من ذلك مطلقا ، وهو قول أبي بكر الصيرفي (٣) ، والحق الجواز.

لنا : إنّ الحق لم يتعيّن في أحد القولين بعينه لعدم الاتّفاق عليه أوّلا ، فجاز العدول عنه إلى الآخر ، لأنّه لا يخرج بذلك عن قول كلّ الأمّة وبعد الاتّفاق تصير إجماعا يحرم مخالفته كالمبتدإ.

__________________

(١) ذكر هذا البحث مع حجج المانعين والجواب عنها الرازي في محصوله : ٢ / ٦٤ ـ ٦٦.

(٢) راجع المحصول : ٢ / ٦٦ ؛ الإحكام : ١ / ٣٣٦ ، المسألة الحادية والعشرون.

(٣) هو محمد بن عبد الله البغدادي الشافعي ، تفقّه على ابن سريج ، له : شرح الرسالة ، وكتاب في الشروط ، وفي أصول الفقه. سمع الحديث من أحمد بن منصور الرمادي ، وروى عنه علي بن محمد الحلبي ، توفّي سنة ٣٣٠ ه‍. طبقات الشافعية : ٢ / ١٧٠ ؛ شذرات الذهب : ٢ / ٣٢٥ ؛ مرآة الجنان : ٢ / ٢٩٧.

٢٠٠