نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

لربيعة : لا أدري ، فكان يقول : حدّثني ربيعة عنّي. واعترض بالتسليم وليس فيه وجوب العمل.

وإن لم يكن الفرع جازما بل يقول : أظنّ أنّي سمعته منك ، فإن جزم الأصل بعدم الرواية ، تعيّن الرد ، وكذا إن قال : أظنّ أنّي ما رويته لتعارض الظن بمثله ، والأصل العدم.

وإن شكّ الأصل أو سكت أو ظنّ أنّه رواه ، فالأقرب القبول إن سوّغنا العمل بظنّ الرواية ، لأنّ المقتضي موجود ولا معارض.

والضابط أنّ القولين إن تعارضا أو ترجّح قول الأصل وجب الرد وإلّا القبول.

احتجّ المانعون (١) مطلقا بأنّ الدليل ينفي قبول الخبر الواحد ، خولف فيما إذا سلم عن معارضة التكذيب لقوّة الظن ، فيبقى فيما عداه على الأصل ، وبأنّه لو جاز ذلك في الرواية لجاز في الشهادة ؛ ولأنّه لو عمل به لعمل الحاكم بحكمه إذا شهد شاهدان به ونسيه.

والجواب عن الأوّل : ما تقدّم.

وعن الثاني : أنّ الشهادة أضيق.

وعن الثالث : بالتزامه ، وهو قول مالك وأحمد وأبي يوسف ، وإنّما يلزم الشافعي.

__________________

(١) ذكره الرازي في المحصول : ٢ / ٢٠٧.

٤٤١

البحث الثالث : في أنّه لا يشترط فقه الراوي ولا يعقل روايته ولا معرفة نسبه

ذهب أكثر المحقّقين إلى أنّه لا يشترط كون الراوي فقيها ، سواء وافقت روايته القياس أو لا. وقال أبو حنيفة : لا يقبل إلّا الفقيه إذا خالفت روايته القياس.

لنا (١) وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٢) أمر بالتثبّت عند مجيء الفاسق ، فينتفي وجوب التثبّت في غير الفاسق ، سواء كان عالما أو جاهلا ، وهو مبني على أنّ المفهوم حجّة وأنّه يدخله العموم.

الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها ، فرب حامل فقه ليس بفقيه» (٣).

وفيه نظر ، إذ لا يدلّ على وجوب القبول فيما خالف القياس.

الثالث : خبر الواحد يفيد ظن الصدق ، فوجب العمل به ، لما تقدّم من أنّ العمل بالظن واجب.

__________________

(١) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٢٠٨.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٨٩ ، الحديث ٣٣٢٨٨ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ؛ مسند أحمد : ٣ / ٢٢٥ ، وج ٤ / ٨٠ و ٨٢.

٤٤٢

احتجّ الخصم بوجهين (١) :

الأوّل : الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد ، خالفناه إذا كان الراوي فقيها ، لأنّ روايته أوثق.

الثاني : الأصل أن لا يرد الخبر على مخالفة القياس ، والأصل أيضا صدق الراوي فإذا تعارضا تساقطا ، ولم يجز التمسّك بأحدهما ؛ ولأنّه على تقدير صدق الراوي لا يلزم القطع بكون الخبر حجّة ، فإنّه لو جرى حديث منافق عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا جاء المنافق وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقتلوا الرجل ، فهم الفقيه العهد والعامي الاستغراق.

والجواب عن الأوّل : ما مرّ من وجوب العمل بخبر الواحد.

وعن الثاني : أنّ في التعارض تسليم صحة الخبر ، والتمييز بين العهد والاستغراق لا يتوقف على الفقه بل كلّ من له تمييز وفطنة فرق بينهما ، ولأنّ ذلك يقتضي اعتبار الفقه في كلّ خبر وإن وافق القياس ، بل وفي المتواتر.

ولا يشترط أن يكون عالما بالعربية ولا معنى الخبر ، فإنّ الحجّة في لفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأعجمي والعامي يمكنهما نقل اللفظ كما سمعاه كما يمكنهما حفظ القرآن.

ولا تشترط الذكورة ، فإنّ الصحابة رووا عن عائشة وغيرها من النساء.

ولا الحرية ، فإنّ العبد تقبل روايته مع العدالة الّتي هي مناط قبول الرواية.

__________________

(١) ذكرهما الرازي مع الأجوبة عنهما في المحصول : ٢ / ٢٠٨.

٤٤٣

ولا البصر ، فقد قبل الصحابة رواية الأعمى ، ولا خلاف في ذلك كلّه.

ولا يعتبر كثرة روايته ، فقد تقبل رواية من لم يرو سوى خبر واحد ؛ ولو أكثر الرواية ، فإن عرف مخالطته بأهل الحديث وأمكنه تحصيل ذلك القدر في مثل زمانه ، قبلت رواياته ، وإلّا فلا في الجميع ، لتوجّه الطعن فيها.

وإذا عرف من الراوي التساهل في أمر حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقبل خبره إجماعا. ولو عرف التساهل في غيره والاحتياط في خبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإن نقل فيما تساهل فيه الكذب وأصرّ عليه لم تقبل روايته لفسقه ، وإلّا قبلت على خلاف لإفادته الظن مع عدم المعارض.

ولا يشترط في الراوي أن يكون معروف النسب ، بل لو لم يعرف نسبه وحصلت الشرائط قبلت روايته عملا بالمقتضي السالم عن معارضة الفسق ، ولو كان له اسمان وهو بأحدهما أشهر جازت الرواية عنه ، ولو كان متردّدا بينهما وهو بأحدهما مجروح وبالآخر معدل لم تقبل ، لأجل التردّد.

البحث الرابع : في حكم الخبر مع المعارض (١)

اعلم أنّ المعارض للخبر إمّا دليل قطعي أو ظني.

فالأوّل يقتضي ترك العمل بالخبر ، لأنّ شرطه عدم دليل قطعي يعارضه.

والمعارض إمّا بأن ينفي ما أثبته الآخر كأن يأمر بقتل زيد في وقت

__________________

(١) في «ب» : العارض ، وفي «ج» : المتعارض.

٤٤٤

ومكان معينين على وجه معين ، وينهى عن ذلك على ذلك الحد في ذلك الوقت ؛ أو بأن يثبت أحدهما ضد ما أثبته الآخر على الحدّ الّذي أثبته بأن يوجب علينا صلاة في مكان معين ووقت معين ، ويوجب الثاني صلاة أخرى في ذلك الوقت في غير ذلك المكان.

ثمّ المعارض القطعي إن كان عقليا وقبل الخبر التأويل ـ ولو على أبعد الوجوه ـ تأوّلناه ولم نحكم بردّه ، وإن لم يقبل التأويل على أي وجه كان حكم بفساده ، لعدم تطرّق التكذيب في العقل القطعي واحتماله في الراوي إمّا سهوا أو عمدا ، إذ التقدير أنّه غير محتمل للنقيض في دلالته ، فلو لم يحتمله في متنه وقع الكذب في كلام الشارع ، وهو محال.

وإن كان سمعيا وهو الكتاب والسنة المتواترة والإجماع ، فغير ممتنع عقلا أن يقول الله تعالى : أمرتكم بالعمل بالكتاب والسنّة والإجماع بشرط أن لا يرد خبر واحد على مناقضته ، فإذا ورد ذلك فاعملوا بخبره لا بالأدلّة القطعية ؛ لكن الإجماع دلّ على نفي هذا المحتمل ، فحينئذ أن قبل أحدهما التأويل أوّلناه ، والّا عملنا بالقطعي ، للإجماع على أنّ الدليلين إذا تساويا واختص أحدهما بمزيد قوة تعيّن العمل به.

وهذه الأدلّة الثلاثة لمّا ساوت خبر الواحد في الدلالة واختصّت بقوة في متنها وهي كونها قطعية فيه ، وجب تقديمها على خبر الواحد.

وأمّا المعارض الظني فإن كان خبرا مثله وجب الترجيح بالوجوه الآتية في باب التراجيح ، فإن كان قياسا فسيأتي إن شاء الله.

٤٤٥

البحث الخامس : في الخبر المعارض بالقياس

اعلم أنّ أكثر علمائنا وجماعة من غيرهم منعوا من العمل بالقياس مطلقا ، وهؤلاء لا نزاع معهم لوجوب العمل بالخبر وإن عارضه القياس ، لأنّه لا يصلح للمانعية ؛ وعند آخرين من علمائنا وغيرهم جواز العمل بالقياس إذا نصّ على علّته ؛ وعند آخرين العمل به مطلقا ، والنزاع بين هؤلاء.

فنقول : خبر الواحد والقياس إذا تعارضا ، فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر خصّ به. أمّا الخبر فظاهر ، وأمّا القياس فعند من يجوز تخصيص العلّة يجمع بينهما ، ومن منع كان حكم الخبر المخصّص للقياس كالمنافي له. وإن لم يمكن الجمع بينهما ولو بوجه ما ولا اقتضى أحدهما تخصيص الآخر ، تنافيا بالكلية ، وكان كل واحد منهما مبطلا لكلّ مقتضيات الآخر ، فأصل ذلك القياس إن ثبت بذلك الخبر قدّم الخبر إجماعا ؛ وإن كان قد ثبت بغيره ، فالقياس يستدعي ثبوت حكم الأصل والتعليل بالعلّة المخصوصة وحصولها في الفرع.

فإن كان كلّ من الثلاثة قطعيّا ، قدّم القياس على الخبر قطعا ، لاقتضائه القطع واقتضاء خبر الواحد الظنّ ، ومفيد القطع مقدّم على مفيد الظن.

وإن كان كلّ من الثلاثة ظنيّا ، قدّم الخبر ، لأنّ الظن إذا قلّ كان أولى بالاعتبار.

وإن كان البعض قطعيا والبعض ظنّيا ، فقد اختلفوا فقال الشافعي

٤٤٦

وأحمد والكرخي وجماعة من الفقهاء : يقدّم خبر الواحد على القياس.

وقال أصحاب مالك يقدّم القياس.

وقال عيسى بن أبان : إن كان الراوي ضابطا عالما غير متساهل فيما يرويه ، قدّم خبره على القياس ، وإلّا فهو موضع اجتهاد.

وقال أبو الحسين : العلّة الجامعة إن كانت منصوصة بنص قاطع قدّم القياس ، لأنّ النّص على العلّة كالنصّ على حكمها ، وهو مقطوع به وخبر الواحد مظنون. وإن لم يكن مقطوعا به ولا حكمها في الأصل مقطوعا به ، قدّم الخبر لاستواء النصّين في الظنّ واختصاص الخبر بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة ، بخلاف النصّ الدالّ على العلّة ، فإنّ دلالته على الحكم بواسطة ـ وإن كان حكمها ثابتا قطعا ـ فهو موضع اجتهاد.

وإن كانت مستنبطة فحكم الأصل إن ثبت بخبر تعيّن العمل بالخبر ، وإن ثبت بقاطع فهو موضع الخلاف (١) بين الناس. واختياره أنّه موضع اجتهاد ، وتوقّف القاضي أبو بكر. (٢)

وقال بعضهم (٣) : متن الخبر إن كان قطعيا فعلّة الأصل إن كانت منصوصة وساوى دليلها الخبر ، فالخبر أولى لدلالته على الحكم من غير واسطة ، وإن كان مرجوحا فكذلك.

__________________

(١) في «أ» : موضوع للخلاف.

(٢) نقل هذه الآراء والأقوال الآمدي في الإحكام : ٢ / ١٣٠ ، المسألة التاسعة.

(٣) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ١٣١.

٤٤٧

وإن كان راجحا ، فوجود العلّة في الفرع إن كان قطعيا فالقياس أولى ، وإن كان ظنيا فالوقف ، وإن كانت مستنبطة فالخبر مقدّم لوجوه (١) :

الأوّل : لمّا بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاذا قاضيا إلى اليمن قال : بم تحكم؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال : بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فإن لم تجد؟ قال : اجتهد رأيي. اجتزأ (٢) بالقياس على السنّة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرّه على ذلك.

وفيه نظر ، لإمكان حمل الاجتهاد على استنباط الفروع من الأصول ، وإدراج الجزئيات تحت العمومات لا القياس ، أو بحمل السنّة على المتواتر أو ما سمعه من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : الإجماع على تقديم الخبر ، قال عمر : لو لا هذا لقضينا فيه برأينا ، وقال : أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا.

الثالث : احتمال الخطأ في الخبر أقل ، لتوقّفه على عدالة الراوي ، ودلالة لفظه على الحكم ، وكونه حجّة معمولا بها.

والقياس على هذه (٣) إن كان أصله خبر واحد. وإن كان دليلا قطعيا افتقر إلى الاجتهاد في إمكان تعليل حكم الأصل ، وإلى استنباط وصف صالح للتعليل ، وإلى نفي المعارض في الأصل ، وإلى وجوده في الفرع ، وإلى

__________________

(١) ذكرها الآمدي في الإحكام : ٢ / ١٣١ ـ ١٣٢.

(٢) في «أ» و «ب» : اجزاء.

(٣) في الإحكام : ٢ / ١٣٣ : وأما القياس فإنّه إن كان حكم أصله ثابتا بخبر الواحد ، فهو مفتقر إلى الاجتهاد في الأمور الثلاثة.

٤٤٨

نفي المعارض في الفرع ، وإلى النظر في كونه حجّة ، وهذه سنّة ، فالخبر أولى.

اعترض (١) بانتقاض خبر معاذ بما إذا كانت العلة مقطوعا بها وبوجودها في الفرع.

والإجماع ممنوع ، فإنّ ابن عباس خالف رواية أبي هريرة : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ، لما خالف القياس.

وردّ أيضا خبره في التوضّي ممّا (٢) مسّته النار بالقياس ، وقال : ألسنا نتوضّأ بماء الحمام. (٣)

ومفاسد الخبر أكثر لتطرق كذب الراوي وكفره وفسقه وخطائه ، وتطرّق الإجمال في المتن ، والتجوّز والإضمار والنسخ ، وشيء منها لا يتأتى في القياس.

ولأنّ القياس يخصّص عموم الكتاب ، وهو أقوى من خبر الواحد ، فترك خبر الواحد به أولى.

ولأنّ الظنّ المستند إلى القياس يحصل للمجتهد من نفسه واجتهاده ، والظن الحاصل من خبر الواحد يحصل له من جهة غيره ، وثقة الإنسان بنفسه أتمّ من ثقته بغيره.

__________________

(١) ذكره الآمدي والجواب عنه في الإحكام : ٢ / ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) في «ب» : بماء.

(٣) في الإحكام : الحميم.

٤٤٩

ولأنّ خبر الواحد بتقدير إكذاب المخبر لنفسه يخرج عن كونه شرعيا ، ولا كذلك القياس.

والجواب : تخصيص خبر معاذ في صورة لمعنى غير موجود في الخبر ليس بنقض ، ولا إبطال للدليل في غير صورة التخصيص.

وردّ ابن عباس خبر غسل اليدين ليس بالقياس ، بل لعدم إمكان الامتثال ، ولهذا قال: فكيف يصنع بالمهراس ، وكان حجرا عظيما يصب فيه الماء لأجل الوضوء ، ووافقته عائشة.

لا يقال (١) : قد يمكن الامتثال بأن يغسل يده من إناء آخر ثم يدخلها في المهراس.

لأنّا نقول : من أين يعلم أنّ قياس الأصول يقتضي غسل اليدين من ذلك الإناء حتى يكون قد ردّه لذلك القياس.

وردّ خبر التوضّي بما مسّت النار ليس بالقياس ، بل بما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل كتف شاة مصلية وصلّى ولم يتوضّأ. ثم ذكر القياس بعد معارضته بالخبر.

ومفاسد الخبر انه في أصل القياس إذا ثبت بخبر الواحد وهو من جملة صور النزاع (٢) ، وإن ثبت بقطعي فتطرق الخطأ إلى من ظهرت عدالته

__________________

(١) ذكره الرازي مع الجواب عنه في المحصول : ٢ / ٢١٣.

(٢) في الإحكام : ٢ / ١٣٤ ذكر العبارة كما يلي : أمّا تطرّق احتمال الكذب والفسق والخطأ إلى الراوي ، وإن كان منقدحا ، فمثله متطرق إلى دليل حكم الأصل إذا كان ثابتا بخبر الواحد ، وهو من جملة صور النزاع.

٤٥٠

أبعد من تطرّق الخطأ إلى القياس في اجتهاده فيما ذكرناه من احتمال الخطأ في القياس ، لكونه معاقبا على الكذب والكفر والفسق بخلاف الخطأ في الاجتهاد فإنّه غير معاقب عليه، بل يثاب عليه.

وتطرّق التجوّز والاشتراك والتخصيص والنسخ في الخبر لا يقتضي ترجيح القياس عليه ، لتطرّقها في الكتاب والسنّة المتواترة ، وهو مقدّم على القياس.

وكما يجوز تخصيص الكتاب بالقياس فكذا الخبر الواحد ، ولأنّ تخصيصه للكتاب ليس تعطيلا له بخلاف ما إذا عارض خبر الواحد من كلّ وجه فإنّه يكون معطلا للخبر ؛ وكون ظن القياس من جهة نفسه لا يقتضي الترجيح ، لأنّ تطرق الخطأ إليه أقرب من تطرّقه إلى خبر الواحد ؛ وتكذيب المخبر وإن أبطل الخبر ، إلّا أنّ الخبر يترجّح لاستناده إلى المعصوم ، والقياس مستندا إلى اجتهاد المجتهد.

ولو قال : قصّرت في الاجتهاد ، خرج عن كونه دليلا شرعيا كما قلتم في الخبر.

ولأنّ القياس مفتقر إلى جنس النص في حكم الأصل ، وفي كونه حجّة ، وخبر الواحد لا يفتقر إلى شيء من القياس.

ولأنّ خبر الواحد قد يصير قطعيا إذا اعتضد بجنسه حتى صار متواترا ، بخلاف القياس فإنّه لا ينتهي إلى القطعي بانضمام جنسه إليه.

٤٥١

البحث السادس : في الخبر المعارض لفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعمل الأكثر

إذا روي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه عمل بخلاف موجب الخبر لم يقدح في الخبر إن لم يتناوله ولا ثبت التأسي ؛ لجواز أن يكون ذلك الحكم من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يتنافى العمل والخبر ، لعدم اتّحاد الموضوع ، فلا يردّ الخبر بذلك.

وإن ثبت التأسّي فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر خصّص ؛ وإن لم يمكن فإن كان أحدهما متواترا عمل به ، وإن لم يكونا متواترين رجع إلى الترجيح بين الخبرين ، فيعمل بالراجح من فعله ومقتضى الخبر.

وعمل أكثر الأمة بخلافه لا يوجب ردّه ، لأنّ أكثر الأمّة بعض الأمّة ، فلا يكون قولهم حجّة ، إلّا أنّ ذلك من المرجّحات.

ولو خالف بعض الحفّاظ في بعض الخبر لم يقتض المنع من قبول الباقي إجماعا ، لوجود المقتضي ، وهو رواية العدل السالم عن معارضة التكذيب ، والمخالفة في البعض لا تستلزم المخالفة في الباقي.

أمّا القدر الّذي خالفوه فيه فالأقوى عدم قبوله ، لأنّ تطرّق السهو والخطأ إلى الجماعة أبعد من تطرقه إلى الواحد ، وقيل بالوقف ، لمعارضة هذا بأنّ تطرّق السهو إلى ما لم يسمعه أنّه سمع أبعد من تطرّقه إلى ما سمع أنّه لم يسمع.

٤٥٢

البحث السابع : في عدم وجوب عرضه على الكتاب

إذا ورد خبر واحد لا ينافي الكتاب وتكاملت شروط صحّته لم يجب عرضه على الكتاب. وبه قال الشافعي ، لأنّه لا تتكامل شرائطه إلّا وهو غير مخالف للكتاب ، فلا يجب عرضه عليه.

وقال عيسى بن أبان : يجب عرضه عليه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا روي لكم عنّي حديث ، فأعرضوه على كتاب الله ، فإن وافقه فاقبلوه ، وإلّا فردّوه». (١)

والتحقيق أن يقال : إن كان النزاع في خبر يخالف الكتاب من كلّ وجه ، فهذا يجب ردّه قطعا ؛ وإن لم يكن بل من بعض الوجوه وأمكن الجمع بأن يكون مخصّصا لعمومه ، فهذا يجب قبوله إن جوزنا التخصيص به ، وإلّا فلا ، وكذا يعمل به لو لم تحصل منه المخالفة من وجه ما.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الناسخ يجب تأخّره عن المنسوخ ؛ فإن علم أنّ خبر الواحد غير مقارن للكتاب لم يقبل لامتناع نسخ الكتاب به.

وإن شك في المقارنة وعدمها ، قال القاضي عبد الجبّار : يقبل لأنّ الصحابة رفعت بعض أحكام القرآن بأخبار الآحاد ، ولم تسأل عن المقارنة وعدمها. (٢)

وفيه نظر ، لإمكان اطّلاعهم فيما رفعوه بالمقارنة ، ولأنّ شرط العمل

__________________

(١) نقله الرازي في المحصول : ٢ / ٢١٥.

(٢) نقله عنه الرازي في المحصول : ٢ / ٢١٥.

٤٥٣

بالخبر المخالف ، المقارنة لوجوب ردّه عند عدمها ، والشك في الشرط شك في المشروط فلا يجوز العمل إلّا مع علم (١) المقارنة ولا يكفي الشكّ ، بل الظنّ ، نعم يمكن أن يقال تقدير التأخير يقتضي تكذيب الراوي ، لوجوب إبلاغ الناسخ للمتواتر عدم (٢) التواتر والأصل عدالته ، فيبعد تقديره.

البحث الثامن : في معارضة عمل الراوي للخبر

إذا كان مذهب الراوي يخالف روايته ، قال بعض الحنفية : الراوي للحديث العام إذا خصّه رجع إليه ، لأنّه لما شاهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أعرف بمقاصده ، ولذلك حملوا رواية أبي هريرة في ولوغ الكلب «أنّه يغسل سبعا» على الندب ، لأنّ أبا هريرة كان يقتصر على الثلاث.

وفيه نظر ، لأنّه يجوز التخصيص.

وقال الكرخي : ظاهر الخبر أولى.

وقال الشافعي : إن كان تأويل الراوي بخلاف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث ، وإن كان أحد محتملي الظاهر رجع إلى تأويله.

وقال القاضي عبد الجبار : إن لم يكن لتأويله ومذهبه وجه إلّا أنّه علم بالضرورة قصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجب المصير إليه ، وإن لم يعلم ذلك ، بل جوّزنا أن يكون قد صار إليه لنصّ أو قياس ، وجب النظر فيه ، فإن اقتضى ما ذهب

__________________

(١) في «ب» : عدم.

(٢) في «أ» و «ب» : عدد.

٤٥٤

إليه صير إليه ، وإلّا فلا ، وكذا إن كان الحديث مجملا ، وبيّنه الراوي كان بيانه أولى.

احتج الشافعي بأنّ المقتضي وهو ظاهر اللّفظ موجود ، والمعارض وهو مخالفة الراوي لا يصلح للمانعية ، لاحتمال رجوعه إلى ما ظنه دليلا ، وليس كذلك ، فيجب العمل بمقتضى اللفظ. (١)

لا يقال : ظاهر دينه يقتضي رجوعه إلى دليل.

لأنّا نقول : الدين يمنع من تعمد (٢) الخطأ لا من سهوه ، ولا دليل على نفي الغلط هنا.

تنبيه

المجمل إذا حمله الراوي له على أحد محمليه تعيّن ، لأنّ الظاهر من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لا يتكلّم بالمجمل ، لقصد التشريع وتعريف الأحكام من غير ذكر قرينة حاليّة أو مقالية تعيّن المقصود من الكلام ، والراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره.

والوجه عدم التعيين ، بل يجب على المجتهد النظر ، فإن ظهر له وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال اتبعه ، وإلّا كان تعيين الراوي صالحا للترجيح.

__________________

(١) ذكر هذه الأقوال والنقول الرازي في المحصول : ٢ / ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٢) في «أ» و «ب» : وقوع.

٤٥٥

ولو كان ظاهرا في معنى وحمله الراوي على غيره ، فذهب الشافعي والكرخي وأكثر الفقهاء إلى وجوب الحمل على الظاهر دون تأويل الراوي.

قال الشافعي : كيف اترك الحديث لقول قوم لو عاصرتهم لحاججتهم بالحديث. (١)

البحث التاسع : في نسبة المتن إلى المعلوم وغيره ممّا تعم البلوى به

خبر الواحد إن اقتضى علما ، وكان في الأدلة القاطعة ما يدلّ عليه ، جاز لإمكان أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله واقتصر به على آحاد الناس واقتصر بغيرهم على الدليل القطعي ؛ وإن لم يوجد ما يدل عليه قطعا ، وجب رده ، سواء اقتضى عملا أو لا ، لأنّه لما قصر عن إفادة العلم مع ورود التكليف بالعلم لزم تكليف ما لا يطاق ، إلّا أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوجب العلم به على من شافهه دون غيره ، وإن اقتضى عملا قبل ؛ سواء عمّت البلوى به كخبر ابن مسعود في نقض الوضوء بمسّ الذكر ، وخبر أبي هريرة في غسل اليدين عند القيام من النوم ، وخبر المقداد في المذي وغير ذلك ، أم لا.

وقالت الحنفية (٢) : لا يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى.

لنا : وجوه (٣) :

__________________

(١) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٢ / ١٢٨.

(٢) المجموع للنووي : ٥ / ٢٦٥.

(٣) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٢١٧.

٤٥٦

الأوّل : قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ)(١) ، وهو عام فيما تعمّ به البلوى وغيره. وقوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٢) ، وغير ذلك من النصوص العامة الدالّة على العمل بخبر الواحد مطلقا.

الثاني : خبر العدل يفيد الظن فتعين العمل به.

وفيه نظر ، لأنّ إيراده (٣) فيما يعمّ به البلوى يقابل ظن صدقه.

الثالث : رجع الصحابة إلى قول عائشة في التقاء الختانين مع عموم البلوى فيه ، وكذا رجوعهم إلى أخبار الآحاد في أحكام القيء والرعاف والقهقهة في الصلاة ، ووجوب الوتر ، وقبل الحنفية الآحاد فيها.

احتجّ الخصم بوجوه :

الأوّل : ردّ أبو بكر خبر المغيرة في الجدّة ، وردّ عمر خبر أبي موسى في الاستيذان ، ولم ينكر عليهما أحد فكان إجماعا.

الثاني : ما يعمّ به البلوى كمسّ الذكر ونقض الخارج من السبيلين ممّا يتكرر في كلّ وقت لأشخاص البشر المنتشرين ، فلو كانت الطهارة ممّا ينتقض به لوجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشاعته وان لا يقتصر على مخاطبة الآحاد ، بل كان يبلغ مبلغ التواتر لئلّا يفضي ذلك إلى إبطال صلاة أكثر الناس من حيث لا يشعرون ، وهو ينافي شفقته على الخلق.

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) في «أ» : انفراده.

٤٥٧

الثالث : لمّا كان القرآن ممّا تعم به البلوى نقله وامتنع إثباته بخبر الواحد.

والجواب عن الأوّل : إنّما يجب ما قلتم لو لم يقبلوا فيه إلّا خبرا متواترا ، لكنّهم قبلوا خبر الاثنين.

وعن الثاني : أنّه إنّما يجب لو كان يتضمّن علما وأوجب (١) العمل به على كلّ حال ، أمّا إذا أوجبه بشرط أن يبلغه فلا ؛ وكذا لو كان مكلّفا بالعمل بالظن لم يجب إبلاغه إلى الجميع. ولا يستلزم ذلك إبطال طهارة أكثر الناس لوصول الخبر الواحد إلى الجميع ، ولو وجب ذلك فيما يعمّ به البلوى وجب في غيره لجواز أن لا يصل إلى من كلّف به.

فإن قلتم : إنّه كلّف العمل به بشرط أن يبلغه.

قلنا : فكذا فيما يعمّ به البلوى.

وأعلم أنّ السّمعيات إذا استقرأناها وجدناها على أقسام أربعة :

الأوّل : القرآن ومعلوم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتنى بالمبالغة في إشاعته ، لأنّه المعجزة الدالّة على صدقه.

الثاني : مباني الإسلام الخمس الّتي هي أركان الشريعة ، كالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج ، وقد أشاعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشاعة اشترك في معرفته الخاص والعام.

__________________

(١) في «د» : ووجب.

٤٥٨

الثالث : أصول المعاملات الّتي ليست ضرورية ، كأصل البيع والنكاح والطلاق والعتاق والاستيلاد والتدبير والكتابة ، وهذه متواترة النقل عند العلماء وقامت بها الحجّة القاطعة إمّا بالتواتر ، أو بنقل آحاد في مشهد عظيم مع سكوتهم لكن العوام لم يشاركوا العلماء في العلم ، بل فرضهم قبول قول العلماء فيه.

الرابع : تفاصيل هذه الأصول كالمفسد للصلاة وغيرها وناقض الطهارة وما يجب فيه الزكاة وشرائط الصوم وجزئيات أفعال الحجّ ، فمنه ما نقل بالآحاد ، ومنه ما شاع وذاع واشتهر ، ومنه ما تواتر.

البحث العاشر : في المرسل

اختلف الناس في الخبر المرسل ، وصورته ؛ قول العدل ـ الّذي لم يلق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا ، وقول من لم يلق ابن عباس : قال ابن عباس كذا ، فقبله أبو حنيفة ومالك وأحمد في أشهر الروايتين ، وجماهير المعتزلة كأبي هاشم وأتباعه (١) ، وهو قول محمّد بن خالد من قدماء الإمامية.

وقال الشافعي (٢) : لا يقبل إلّا على إحدى الشرائط :

أ. أن يكون الّذي أرسله مرة أسنده أخرى : أقبل مرسله.

__________________

(١) ذكرها الآمدي في الإحكام : ٢ / ١٣٦ ، المسألة العاشرة.

(٢) نقله عنه الرازي في المحصول : ٢ / ٢٢٨.

٤٥٩

ب. أن يرسله هو ويسنده غيره ، وهذا إذا لم تقم الحجّة بإسناده.

ج. أن يرسله راو آخر ويعلم أنّ رجال أحدهما غير رجال الآخر.

د. أن يعضده قول صحابي أو فتوى أكثر العلماء.

ه. أن يعلم أنّه لو نصّ لم ينص إلّا على من يسوغ قبول خبره.

قال : وأقبل مراسيل سعيد بن المسيب ، لأنّي اعتبرتها فوجدتها بهذه الشرائط ، ومن هذا حاله أحببت قبول مراسيله.

و. ولا أستطيع أن أقول : إنّ الحجّة تثبت به كثبوتها بالمتصل.

اعترضه (١) الحنفية بأنّ قوله : «يقبل مرسل الراوي إذا كان قد أسنده مرة» فبعيد ، لأنّه إذا أسنده قبل من حيث الإسناد ، ولا تأثير لإرساله.

وقوله : «يقبل المرسل إذا أسنده غيره» باطل ، لأنّ ما ليس بحجّة لا يصير حجّة إذا عضّدته الحجّة.

وقوله : «يقبل المرسل إذا أرسله اثنان (٢) واختلف شيوخهما» باطل ، لأنّ ما ليس بحجّة إذا انضاف إلى ما ليس بحجّة لا يصير حجّة ، إذا كان المانع من كونه حجة عند الانفراد ثابتا عند الاجتماع ، وهو الجهل بعدالة الواسطة ، بخلاف الشاهد الواحد فإنّ مانع قبول شهادته الوحدة ، فإذا انضم إليه شاهد آخر زال المانع.

__________________

(١) ذكره الرازي مع الجواب عنه في المحصول : ٢ / ٢٢٨.

(٢) في «ب» : راويان.

٤٦٠