نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

الاجتماع ، وإلّا انقلب الجائز ممتنعا ، وإذا جاز الكذب على كلّ واحد حالة الاجتماع ، والجملة عبارة عن الآحاد مجتمعة ، جاز الكذب عليها فلا نعلم صدقهم.

وأيضا هذا العلم يمتنع أن يكون يقينا لوجوه :

الأوّل : أنّه يجوز أن يخبرنا جماعة مثلهم بنقيض خبرهم ، مثلا يخبر جماعة لا يجوز تواطؤهم على الكذب بوجود زيد ويخبرنا مثلهم بموته ، ويستحيل حصول العلم بالنقيضين وعدم الأولوية في أحدهما.

الثاني : لو أفاد خبر الجماعة العلم يحصل العلم بما ينقله اليهود عن موسى عليه‌السلام والنصارى عن عيسى عليه‌السلام من الأمور المكذّبة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا علمناه بالتواتر ويستحيل تناقض العلوم.

الثالث : لو حصل العلم الضروري بخبر المتواتر لما خالف في نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد ، لأنّ عاقلا لا يخالف ما يعلم ولا يعاند في اعتقاده.

الرابع : لو كان معلوما لما وقع الفرق بين علمنا بوجود جالينوس (١)

__________________

(١) جالينوس : هو أشهر الأطباء اليونانيين القدماء بعد أبقراط ، وكان أيضا من الحكماء في الدولة القيصرية ، وقد ولد ونشأ بفرغامس (وهي مدينة من مدن آسيا شرقي القسطنطينية) وهم روم إغريقيون. وكان أسمر اللون حسن التخاطيط ، عريض الأكتاف ، واسع الراحتين ، طويل الأصابع ، حسن الشعر ، معتدل المشية ، ضاحك السن ، كثير الهزل ، كثير الأشعار ، نقي الثياب ، مداخلا للملوك والرؤساء من غير أن يتقيد في خدمة أحد. له تصانيف كثيرة ، منها : كتاب الفصل ، العصب ، العروق ، وكتاب المزاج ، وغيرها كثير. انظر دائرة معارف القرن العشرين : ٣ / ٣.

٣٠١

وأقليدس (١) ، وبين علمنا بأنّ الواحد نصف الاثنين ، وانّه لا واسطة بين النفي والإثبات ، لكن التفاوت معلوم وإنّما يحصل لو تطرق احتمال إلى الاعتقاد الثاني ، وقيام الاحتمال فيه كيف كان يخرجه عن كونه يقينا.

الخامس : الجزم بوجود مقتضى الخبر ليس أقوى من الجزم بأنّ ما شاهدناه ثانيا هو الذي شاهدناه بالأمس مع أنّه ليس بقطعي ، لجواز أن يخلق الله تعالى مثله من كلّ وجه ، وهذا التجويز ثابت عند المسلمين والفلاسفة.

لا يقال : تجويز كونه مغايرا لما شهدته بالأمس يؤدي إلى الشكّ في المشاهدات ، والله تعالى وإن كان قادرا ، لكن يمتنع منه تعالى لإفضائه إلى التلبيس.

لأنّا نقول : لا نسلّم كون تجويزه يفضي إلى الشك في المشاهدات ، فإنّ المشاهد هو وجود هذان ، أمّا أنّ هذا هو ذلك فليس بمشاهد لكن حكم من النفس يقع فيه الخطاء ، ولا يلزم من الشكّ فيه الشك في المشاهد.

ودليل الامتناع لا يدفع الإلزام ، لأنّ هذا الجزم إن كان بناء على ذلك البرهان كان الجاهل بالبرهان جاهلا بذلك الجزم ، والعوام لا يعرفون هذا الدّليل ، فكان يجب أن لا يحصل لهم ذلك الجزم.

السادس : لو كان العلم الضروري حاصلا من خبر التواتر لم يخالف

__________________

(١) أقليدس بن نوقطرس بن بزنيقس فيلسوف يوناني ، من علماء الرياضيات في القرن الثالث قبل الميلاد ، مظهر الهندسة والمبرز فيها ومدرّسها في الاسكندرية على أيام بطلميوس الأوّل. فهرست ابن النديم : ٣٢٥ ، المنجد «قسم الأعلام» : ٥٧.

٣٠٢

فيه أحد ، لأنّ الضروريات لا يخالف فيها.

والجواب من حيث الإجمال ، ومن حيث التفصيل.

أمّا من حيث الإجمال : فهو أنّ ذلك تشكيك في مقابلة الضروري ، فلا يسمع كشبه السوفسطائية. (١)

وأمّا من حيث التفصيل : فلو جوّزنا مساواته للظنّ لتطرق في كلّ ضروري ذلك ، واجتماع الخلق الكثير على الإخبار بمحسوس ليس بمحال ، لجواز وقوعه بينهم بخلاف اجتماعهم على أكل شيء معين. وجواز الكذب على كلّ واحد لا يستلزم جوازه على المجموع من حيث هو مجموع ، والمجموع وإن كان هو الآحاد لكن لا كلّ واحد ، ولا يمكن اجتماع الخلق الكثير على الإخبار بما يناقض ما أخبر به الخلق الكثير إذا كان كلّ منهما مفيدا للعلم ، ففرضه محال.

وتواتر اليهود انقطع في قضية بخت نصر (٢) ، والنصارى لا تواتر لهم في المبدأ لقلّتهم جدّا.

__________________

(١) السوفسطائية وهم طائفة من اليونان عرفوا بالحكمة المموهة وتعني المغالطة وجحد العلوم ، وبالعربية : التناقضية ، يقولون : لا علم ومعلوم ، واحتجّوا باختلاف الناس وانتصاف بعضهم من بعض. انظر تلبيس ابليس : ٤٩ ـ ٥١ ؛ تاريخ اليعقوبي : ١ / ١٤٨.

(٢) بخت نصر ـ بالتشديد ـ ملك بابل (٦٠٥ ـ ٥٦٢ ق. م) احتلّ فلسطين وخرب اورشليم وسبى اليهود ٥٨٦ ق. م وأحرق التوراة وقتل منهم مقتلة عظيمة. بخت نصر يعني ابن الصنم لأنّه وجد عند صنم ولم يعرف له أب فنسب إليه ويعرف بنبوخذنصّر. راجع المنجد قسم الاعلام : ٧٠٦ ؛ تاج العروس : ٧ / ٥٢٩ ، مادة «نصر».

٣٠٣

والضروريات المحسوسة أو التي هي مبدأ الإحساس لا يجب اشتراك الناس فيها ، والتواتر يفيد العلم في الأمور المحسوسة لا في النبوة المستفادة بالبحث والنظر ، ونمنع التفاوت.

سلّمنا ، لكن لا ينافي العلم الضروري فإنّ الضروريات متفاوتة ، والضرورة باتحاد ما شاهدناه ثانيا مع ما شاهدنا أوّلا ضروري لا يقبل الشك ، والتجويز بالنسبة إلى القدرة لا ينافي عدمه بالنسبة إلى الاعتقاد ، على أنّ جماعة قالوا العلم العادي قاصر عن الضروري. والخلاف من المكابر لا يرفع الحكم الضروري ، كخلاف السوفسطائيّة.

البحث الثاني : في أنّ العلم المستفاد منه ضروري

أكثر العقلاء على ذلك. وقال أبو الحسين البصري (١) وأبو القاسم البلخي من المعتزلة والجويني والغزالي (٢) والدقّاق من الأشاعرة : إنّه كسبي. وتوقّف المرتضى (٣) فيها.

لنا وجوه :

الأوّل : لو كان نظريا لما حصل إلّا لمن كان من أهل النظر والتأمّل والبحث ، والتالي باطل فإنّه حاصل للصّبيان والبله ، فيكون ضروريا.

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٨١.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٨١.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٤٨٥.

٣٠٤

اعترض (١) أبو الحسين والمرتضى بشيء واحد وهو : أنّ الدليل ليس إلّا ترتيب العلوم بأحوال المخبرين ، وهذا أمر حاصل للعامّة والمراهقين بحصول علوم كثيرة لهم ، وهم قادرون على استنتاج علوم أخر من تركيبها اذا كانت مقدّماتها قريبة من الطبع ، وإن عجزوا عن المسائل الغامضة كحدوث العالم ووجود الصانع والاستدلال على صفاته ، وسيأتي بيان غموض الدليل لو كان.

الثاني : كلّ عاقل يجد من نفسه العلم بوجود مكة وبغداد والبلاد النائية عند تواتر الأخبار عليه ، مع أنّه لا يجد من نفسه سابقة فكر ونظر فيما يناسبه من العلوم المتقدّمة عليه ولا في ترتيبها المفضي إليه ، ولو كان نظريا لتوقّف على المقدّمات وترتيبها.

الثالث : العلم بخبر المتواتر لا ينتفي بالشبهة ، وهذه هي أمارة الضرورة.

الرابع : لو كان نظريا لأمكن الإضراب عنه كما في سائر النظريات ، وحيث لم يمكن ذلك دلّ على كونه ضروريا.

الخامس : لو كان نظريا لوقع فيه الخلاف بين العقلاء كغيره ، وحيث لم يقع كان ضروريا.

احتجّ القائلون بأنّه نظري بوجوه (٢) :

__________________

(١) ذكر الوجه الأوّل والاعتراض عليه والجواب عنه الرازي في المحصول : ٢ / ١١٠ ، المسألة ٣.

(٢) ذكر هذه الوجوه والأجوبة عنها الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٢.

٣٠٥

الأوّل : لو كان ضروريا لما اختلف فيه العقلاء كغيره من الضروريات.

الثاني : خبر المتواتر لا يزيد في القوة على خبر الله تعالى وخبر رسوله ، بل هو مماثل أو أدنى ، والعلم بخبر الله ورسوله نظري ، فالمماثل الأدنى أولى.

الثالث : استدلّ أبو الحسين بأنّ الاستدلال ترتيب علوم ليتوصل به إلى آخر ، فكلّ ما توقّف وجوده على ترتيب فهو نظري ، والعلم الواقع بخبر المتواتر كذلك فكان نظريا.

وبيانه أنّه إنّما يعلم عقيب الخبر لو علمنا أنّ المخبر لم يخبر عن رأيه ، بل عن أمر محسوس لا لبس فيه وأنّه لا داعي له إلى الكذب ، فعلم أنّه لا يكون كذبا فيكون صدقا ، ومهما اختلّ شيء من هذه الأمور لم يعلم صحّة الخبر ، وهذا هو معنى النظري.

والجواب عن الأوّل : بالمنع من الملازمة ، فإنّ كثيرا من الضروريات قد اختلف العقلاء فيها إمّا لقصور فهمهم عن تصوّراتها ، أو لعدم أسبابها عندهم كالأعمى والأخرس.

وعن الثاني : بالمنع ، فإنّ خبر الله تعالى ورسوله متوقّف على العلم بهما ، وهو نظري ، فكذلك كان ما يتوقّف عليه نظريا.

وعن الثالث : أنّ كلّ ضروريّ يمكن فرض مثل هذا التوسط فيه وهذا الترتيب.

٣٠٦

البحث الثالث : في احتجاج من ادّعى الاكتساب

احتجّ أبو الحسين (١) على أنّ خبر التواتر صدق بأنّه لو كان كذبا لكان المخبرون إمّا أن يخبروا مع علمهم بكونه كذبا ، أو لا معه. والتالي بقسميه باطل ، فالمقدّم مثله ، وإذا بطل كونه كذبا وجب أن يكون صدقا ، فكان مفيدا.

أمّا بطلان الأوّل ، فلأنّهم إن قصدوا الكذب لا لغرض ومرجّح لزم حصول الفعل عن القادر مع ثبوت الصارف ، وهو الكذب الّذي هو قبح ، وجهة القبح صارفة ، وانتفاء الدّاعي فرضا ، وهو محال.

وإن قصدوه لغرض ، فإمّا نفس كونه كذبا ، وهو محال ، لأنّه جهة صرف لادعاء ؛ وإمّا غيره ، فإمّا أن يكون دينيا أو دنيويا.

وعلى التقديرين فإمّا أن يكون رغبة أو رهبة.

وعلى التقديرات فإمّا أن يقال كلّهم كذبوا لداع واحد من هذه الأقسام ، أو يختلفون فيه.

وعلى كلّ التقديرات فإمّا أن تحصل تلك الدواعي بالمشافهة ، أو بالتراسل. والأقسام كلّها باطلة.

أمّا انتفاء داعية الدين فلأنّ قبح الكذب متّفق عليه بين الأديان ، سواء كان ذلك عقليا أو شرعيا ، فكان صارفا دينيا لا داعيا دينيا.

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٨٦ ـ ٨٨.

٣٠٧

وأمّا الرغبة الدنيوية فإمّا رجاء عوض على الكذب ، وهو باطل ، لأنّ بعض الناس لا يرضى على الكذب العوض الكبير وإن احتاج ، أو لأجل أن يسمع غيره شيئا غريبا وإن لم يكن له أصل ، والأكثر لا يرضى لنفسه ذلك.

وأمّا الرهبة فإنّما تكون من السّلطان ، ويتعذّر عليه جمع الخلق العظيم على الكذب ، فإنّا نشاهد عجزه عن ذلك في أهل بلد واحد لعدم علمه بكلّ واحد فلا يجعله مضطرا إلى الكذب. ولأنّ السلطان كثيرا ما يخوّف الرّعية عن التحدّث بشيء ثمّ يظهر منهم آخر الأمر.

ولأنّا نعلم في كثير من الأمور انتفاء غرض السّلطان في الحمل على الكذب. ولا يجوز أن يقال : الجماعة الكثيرة كذب بعضهم للرغبة وبعضهم للرهبة وبعضهم للتديّن ، لأنّ كلامنا في جماعة عظيمة أبعاضها جماعات عظيمة يمتنع تساوي أحوالها في قوة هذه الدواعي.

وأمّا بطلان كذبهم لا مع العلم بالكذب ، فلأنّه غير ممكن إلّا مع الاشتباه ، ولا يمكن وقوع الاشتباه في الضروريات ، وشرط التواتر استناده إلى ضروري محسوس ، هذا إن أخبرونا عن المشاهدة.

وإن أخبرونا عن جماعة أخبروهم عن المحسوس ، أو عن جماعة أخرى أيضا ، فإنّه لا يحصل العلم إلّا بعد اتّصاف الوسائط والطرفين بشرائط التواتر.

وإنّما يعلم بأن يخبرنا أهل التواتر أنّ أولئك الماضين كانوا جامعين للشرائط.

٣٠٨

وأنّ كلّ ما ظهر بعد خفاء ، وقوي بعد ضعف فلا بدّ وأن يشتهر بين الناس حدوثه ووقت حدوثه ، كما اشتهرت مقالة الكرّامية والجهمية وحدوثها ووقت حدوثها ، ولمّا لم يظهر شيء من ذلك عرف أنّ الأمر كذلك في كلّ الأزمنة.

وهذا على طوله لا يفيد اليقين لوجوه :

الأوّل : التقسيم إنّما يكون قطعيا لو اشتمل على طرفي النقيض وبطلان ما عدا المطلوب ، وهذه التقسيمات ليست كذلك.

الثاني : يجوز أن يكذبوا لا لغرض ولا يفتقر الفعل إلى المرجّح وإلّا لزم الجبر ، لأنّ قدرة العبد صالحة للضدين وإلّا لزم الجبر ؛ فإن افتقر في ترجيح أحدهما إلى مرجّح ، فإن كان من العبد تسلسل ، وإن كان منه تعالى فإن وجب ترتّب أثره عليه لزم الجبر ، وإلّا كان اختصاص وقت الترتّب دون الآخر إن كان لمزية اختصّ بها ذلك الوقت ، فقبلها لم يكن المرجّح التام حاصلا ، وقد فرضناه حاصلا ، هذا خلف.

ثمّ ينقل الكلام إلى تلك المزية ، إمّا أن يكون من فعله تعالى أو من فعل العبد. وإن لم يكن لمزية تساوت الأوقات ، فالترجيح في بعضها يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن لا لمرجح ، وهو محال.

فظهر أنّ العبد إن لم يحصل له مرجّح من الغير امتنع أن يكون فاعلا ، ومع المرجّح من الغير يجب فعله ، وهو عين الجبر.

سلّمنا انّ بتقدير حصول المرجّح من الغير لا يجب ترتّب الأثر عليه

٣٠٩

لكن الإشكال باق ، لأنّ حصول مرجّح الوجود إذا جاز أن لا يوجد كان العدم واقعا لا عن مرجّح ، لأنّ عند حصول مرجّح الوجود يستحيل حصول مرجّح العدم ، فعند حصول مرجّح الوجود لو حصل العدم لكان لا عن مرجّح ، وإذا جاز ذلك بطل قولك : الفعل لا يقع إلّا عن الداعي ، فجاز من أهل التواتر أن يكذبوا لا لداع.

وفيه نظر ، لما تقدّم مرارا من أنّ الوجوب المستند إلى الداعي لا ينافي القدرة.

الثالث : عند حصول الصارف إن وجب الترك لزم الجبر ، وإلّا جاز الكذب عند الصارف.

وفيه نظر ، لعدم الجبر والوجوب بالنظر إلى الدّاعي.

الرابع : سلّمنا وجود الصارف لكن يجوز وجود شهوة متعلّقة بالكذب لكونه كذبا فيقدّم عليه لا لغرض سواه.

لا يقال : يستحيل أن يشتهي العاقل الكذب بمجرد كونه كذبا ، ولو جاز في الواحد والاثنين لم يجز في الخلق الكثير كما جاز في الواحد أكل طعام معين في وقت بعينه ويمتنع اجتماع الخلق كلّهم عليه.

لأنّا نقول : يمتنع امتناع ذلك ، فإنا نرى جماعة اعتادوا الكذب ولا يصبرون عنه وهم يعلمون ضرره عاجلا وآجلا ، واجتماع الخلق العظيم على أكل طعام معيّن وإن كان مظنون العدم لكنّه ليس معلومه ، كيف وانّه جائز على كلّ واحد؟ وجوازه على كلّ واحد لا يمنع صدوره عن الباقين ،

٣١٠

فيكون صدوره عن الكلّ كصدوره عن كلّ واحد ، ومع هذه الحجّة القطعية كيف يدّعى الامتناع منه؟

وفيه نظر ، لأنّ الجواز هنا كالجواز في العلوم العادّية ، وكما أنّ ذلك الجواز لا ينافي القطع بالعدم كذا هنا.

الخامس : لا نسلّم الحصر في الغرض الديني والدنيوي والرغبة والرهبة.

وفيه نظر ، فإنّ الغرض ثابت بين ما يتعلّق بمصالح الدنيا وبين ما يتعلّق بمصالح الآخرة ، وذلك الغرض إمّا جلب نفع أو دفع ضرر.

السادس : سلّمنا لكن جاز أن يكون لمصلحة دينية ، ونمنع اتّفاق الناس على تحريمه ، فإنّ منهم من اعتقد جوازه ، بل وجوبه إذا أفضى إلى مصلحة في الدين والدنيا ، ولهذا فإنّ كثيرا من الزهاد وضعوا أشياء كثيرة من الأحاديث في فضائل الأوقات لغرض حمل الناس على العبادات ، فلعلّهم اتّفقوا على الكذب لما اعتقدوا فيه مصلحة دينية.

السابع : جاز أن يكون لرغبة دنيوية ولا ينحصر في أخذ المال وإسماع الغير كلاما غريبا ومع الحصر نمنع فسادهما ، ونمنع القطع بامتناع اشتراك الخلق العظيم في الرغبة إلى أحدهما ، فإن حصل اعتقاد فظني فإنّه إذا جاز في العشرة والمائة جاز في الكلّ ، لأنّ ثبوت الحكم للبعض لا يمنع من ثبوته للباقي ؛ فإنّا نعلم لو أنّ أهل بلد علموا أنّ سائر البلاد لو عرّفوهم ما في بلدهم من الوباء العامّ لامتنعوا من المضيّ إليهم فتختل معيشتهم ، فإنّه يجوز

٣١١

حينئذ تطابق أهل البلدة على الكذب وإن كثروا جدا ، فقد اتّفق الخلق العظيم على الكذب للرغبة.

الثامن : جاز تطابقهم للرهبة ، ونمنع ادّعاء اليقين في عدم تمكّن السلطان من ذلك.

لا يقال : أخذ العلم الضروري بذلك من غير دلالة.

لأنّا نقول : هذا الاعتقاد ليس أقوى من اعتقاد وجود محمد وموسى وعيسى عليهم‌السلام فادّعوا الضرورة في ذلك.

التاسع : يجوز اختلاف دواعيهم فبعضهم للرغبة وبعضهم للرهبة وبعضهم بالمشافهة وبعضهم بالتراسل ، وليس من شرط التواتر أن يكون أبعاض عدده بالغين حد التواتر ، وإلّا لزم اشتراط ذلك في أبعاض الأبعاض ويتسلسل.

يجوز أن يكذبوا سهوا للاشتباه ، وهو جائز في المحسوسات عقلا ونقلا.

أمّا عقلا ، فلأنّه تعالى قادر على خلق مثل زيد في شكله وتخطيطه فينتفي الاعتماد على التواتر ، لجواز أن يشاهدوا مثل زيد فيخبروا بوجود زيد فإنّ الأجسام المعدنية والنباتية متشابهة بحيث يعسر التمييز بينهما ، فيجوز في الأشخاص مثله [وإن كان نادرا] ، والندرة لا تمنع الاحتمال.

ولأنّ غلط الناظر أمر مشهور ، فإنّ الإنسان قد يشاهد المتحرك ساكنا وبالعكس ، وهو يقتضي اللبس في الحسيّات.

٣١٢

وأمّا نقلا ، فإنّ المسيح شبّه بغيره ، وجبرئيل عليه‌السلام جاء إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صورة دحية الكلبي ، وتشكّلت الملائكة يوم بدر بأشكال بني آدم ، وقد يحصل للإنسان عند الخوف الشديد أو الفكر الشديد صور لا تحقّق لها في الخارج ، وكلّ ذلك يقتضي الاشتباه.

لا يقال : تشبّه المسيح بغيره كان في زمن عيسى عليه‌السلام وخرق العادة في زمن الأنبياء جائز لا في غيره ، ولأنّ المصلوب تتغيّر خلقته وتشكّله فيكون الاشتباه فيه أكثر ، والمباشرون لذلك العمل كانوا قليلين يجوز عليهم الكذب عمدا ، ولأنّهم نظروا إليه من بعيد وهو مظنة الاشتباه.

لأنّا نقول : جوازه في زمن الأنبياء يقتضي عموم الجواز فينتفي القطع ، ولأنّ الكرامات جائزة ، ومنعها لا يسمع من أبي الحسين لاعترافه بها ؛ ولأنّ امتناعها ليس بضروري بل ببرهان فقبل العلم به ، يبقى التجويز ثابتا ، والعلم بصحّة التواتر متوقّف على صحّة فساد هذا الاحتمال ، فمن لا يعرف امتناع الكرامات لا يحصل له العلم بالتواتر.

والتغيير إنّما هو بعد الصلب لا حالته ، والاشتباه حصل حال الصلب ، إذ لو ميّزوا بين ذلك الشخص وبين المسيح لم يصلبوه.

والذين مارسوا الصلب كانوا قريبين وناظرين إليه ، والنصارى تواتروا على أنّه بقي بعد الصلب وقبل الموت مدة طويلة بحيث يراه الجمع العظيم في بياض النهار.

وليس بجيّد ، لأنّ القرآن العزيز يدفع ذلك.

٣١٣

العاشر : سلّمنا حصول العلم عقيب التواتر عن الأمور الموجودة ، لكنّا نمنع الشرائط في الأمور الماضية ، ونمنع إخبار كلّ واحد من الّذين أخبروه باجتماع الشرائط فيمن أخبرهم ، أقصى ما يقال : إنّهم أسندوه إلى السماع من أشخاص كثيرة ، فإنّ أكثر الفقهاء والنحويين لا يعرفون هذه الدعوى ، فكيف يدّعى عليهم بذلك.

الحادي عشر : نمنع ظهور المقالات الحادثة ووقته ، لجواز أن يضع الواحد مقالة ويذكرها لجماعة قليلين ، وكلّ منهم يذكره لجماعة أخرى من غير اسناد إلى القائل الأوّل إلى أن يشتهر ذلك الخبر جدا ، مع أنّ واحدا منهم لا يعرف زمان حدوثها ، وباعتبار ذلك تحصل الأراجيف بين الناس ؛ ولأنّ الوقائع الكبار لعظماء الملوك قبل الإسلام وكيفية وقائع الأنبياء السابقين لم تنقل آحادا ، فكيف تواترا مع أنّها من العظائم.

لا يقال : عدم النقل لتطاول المدة أو لعدم الداعي إلى نقلها.

لأنّا نقول : لا بدّ من ضبط طول المدة وقصرها ، ولأنّه يلزم أن لا يكون خبر التواتر بوجود نوح وإبراهيم عليهما‌السلام مفيدا للعلم ، لأنّه لا يفيد ما لم يثبت استواء الطرفين والواسطة في نقل الرواة ، ولا يثبت ذلك إلّا بأنّه لو كان موضوعا لاشتهر الواضع وزمان الوضع ، فإذا لم يجب ذلك عند تطاول المدة لم يفد ذلك الخبر العلم.

سلّمنا ، لكن يعارض بوجوه :

الأوّل : لو أفاد العلم لكان إمّا ضروريا ، وهو باطل ، لأنّ الضروري لا

٣١٤

يلزم من الشكّ في غيره من القضايا الشك فيه ؛ وهنا يلزم ، لأنّا لو جوّزنا كذبهم إما لغرض أو لا له ، لم يحصل الجزم بأنّ الأمر كما أخبروا ، فلا يكون العلم ضروريا.

وأمّا نظريا ، وهو باطل ، لعدم النظر في حقّ الصبيان والمجانين فكان لا يحصل لهم العلم ، لكن اعتقاد العقلاء هنا لا يزيد في القوة على اعتقاد الصبيان والبله ، فإذا لم يكن اعتقادهم علما فكذا العقلاء.

وفيه نظر ، فإنّ فرض الشك في سبب الضروري يقتضي الشك فيه ، وهنا الشك وقع في سببه.

الثاني : كون التواتر مفيدا للعلم يتوقّف على عدم تطرق اللبس على الحس ، لكنّ اللبس ثابت على ما مرّ فلا يفيد التواتر العلم.

الثالث : ان حصل العلم عقيب التواتر مع جواز أن لا يحصل امتنع القطع بحصوله ، فلا يمكن القطع بإفادة التواتر العلم ، بل جرى حصول العلم عقيب التواتر مجرى حصوله عند صرير الباب وسماع صوت الغراب.

وإن حصل مع وجوبه فالمستلزم ليس قول كلّ واحد للعلم الضروري بأنّ قول الواحد لا يفيد العلم ، ولأنّ قول كلّ واحد إذا استقلّ بالاستلزام فإن حصلت دفعة اجتمع على الأثر الواحد مؤثرات كثيرة ، وهو محال ؛ وإن تعاقبت فإن حصل بالسابق امتنع حصوله باللاحق لامتناع تحصيل الحاصل ومثله فيخلو اللاحق عن التأثير ، فالعلة القطعية منفكة عن معلولها ، وهو محال.

٣١٥

ولا قول المجموع ، لأنّ قول كلّ واحد إن بقي عند الاجتماع كما كان عند الانفراد ولم يحدث زائد عند الاجتماع ، فكما لم يكن الاستلزام حاصلا عند الانفراد لم يحصل عند الاجتماع.

وإن حصل زائد إمّا بالزوال أو الحدوث فالمقتضي له إن كان كلّ واحد عاد المحذور ، وإلّا تسلسل.

ولأنّ المستلزمية نقيض اللامستلزمية الّتي هي عدمي ، فالمستلزمية ثبوتية ، فلو كانت صفة للمجموع لزم حصول الصفة الواحدة في الأشياء الكثيرة ، وهو محال.

ولأنّ التواتر غالبا إنّما يكون بورود خبر عقيب آخر ، فعند حصول كلّ واحد يكون الباقي معدوما فلا وجود للمجموع في زمان البينة ، فيستحيل أن يكون المؤثر المجموع ، لأنّ إيجاد الغير موقوف على وجود المؤثر.

ولأنّ المشهور أنّ كلّ واحد لمّا لم يكن مؤثرا وجب أن لا يكون الكلّ كذلك ، كما أنّ كلّ واحد من الزنج لما لم يكن أبيض استحال أن يكون الكلّ أبيض.

وفيه نظر ، فإنّ المجموعية حاصلة بالضّرورة مع عود التقسيم فيها.

الرابع : المستلزم للعلم إمّا آحاد حروف الخبر وهو باطل قطعا ، أو المجموع ، ولا وجود له فلا يستلزم شيئا ولا الحرف الأخير بشرط وجود سائر الحروف قبله أو بشرط مسبوقية الحرف الأخير بسائر الحروف ، لأنّ الشرط لا بدّ من حصوله حال حصول المشروط ، والحروف السابقة غير

٣١٦

موجودة حال حصول الحرف الأخير ؛ ومسبوقية الشيء بغيره ليست صفة ، وإلّا لكانت حادثة ، فمسبوقيتها بالغير صفة أخرى وتسلسل ؛ وإذا كانت المسبوقية عدمية ، استحال أن يكون جزء العلة أو شرطها.

وفيه نظر ، فإنّ العلم الضروري حاصل عنه تعالى عقيب تواتر الأخبار لحصول العلم بالمحسوس عقيب الإحساس منه تعالى.

واحتجّ منكرو (إفادة التواتر عن الماضي العلم) (١) بوقوعه عن أمور باطلة ، كتواتر اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم مع كثرتهم وتفرّقهم في الشرق والغرب في أمور باطلة عند المسلمين ، وهو يقدح في التواتر.

لا يقال : شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة ، وهو منتف في هذه الفرق ، لقلّة اليهود في زمن بخت نصر والنصارى في الابتداء وكذا المجوس.

لأنّا نقول : ليس الطّريق إلى استواء الطّرفين والواسطة العقل المحض.

والنقل إن كان من الواحد لم يفد العلم إلّا أن يكون معصوما.

أو من الجمع بأنّ يخبر أهل التواتر على كثرتهم أنّهم كانوا كذلك أبدا ، لكن كما يدّعي المسلمون ذلك كذا هذه الفرق.

والمركّب من العقل والنقل بأن يقال : لو كان خبرنا موضوعا لعرّفنا أنّ الأمر كذلك. وقد عرفت ضعف ذلك.

__________________

(١) ما بين القوسين يعني : كون التواتر عن الأمور الماضية مفيدا للعلم.

٣١٧

ثمّ إنّ جميع الفرق يصحّحون تواترهم بهذه الطريقة ، فلا أولوية في قبول أحدهم دون الباقين.

ونمنع استيصال بخت نصّر ، لأنّهم أمّة عظيمة يمتنع فيهم ذلك.

ولو لم يكن النصارى في المبدأ قد بلغوا حد التواتر لم يكن شرعه حجة إلى زمان ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذه الأسئلة والمعارضات لا شك في فساد بعضها ، لكن ذلك إنّما يكفي في ادّعاء الظنّ القوي لا اليقين التام.

وقول أبي الحسين : «إنّ الاستدلال بخبر التواتر على صدق المخبرين سهل متقرر في العقول حتى الصبيان والبله» ليس بحق ، ولا يتمّ مقصوده إلّا بعد الجواب عن هذه الإشكالات. وإنّما يمكن بعد تدقيق عظيم ، وكلّ عاقل يعلم أنّ علمه بوجود مكة ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهر من علمه بصحّة هذه الدلالة ، وإبطال ما فيها من الأقسام سوى القسم المطلوب ، ولا يجوز بناء الواضح على الخفي.

فالحقّ أنّ العلم الحاصل عقيبه ضروري ، ولا يحتاج إلى الجواب حينئذ. (١)

__________________

(١) بحث الرازي هذه المسألة بصورة موسعة وذكر الوجوه والاعتراض عليها والأجوبة عنها. راجع المحصول : ٢ / ١١١ ـ ١٢٧ ، المسألة ٤.

٣١٨

البحث الرابع : في شرائط التواتر

وفيه مطلبان :

المطلب الأوّل : في الشرائط الصحيحة

الضابط في اجتماع الشرائط حصول العلم عقيب الإخبار ، فإن حصل علم أنّه متواتر ، وإلّا فلا حاجة إلى اعتبار حال المخبرين ، بل الواجب أن يعتبر السامع حال نفسه ، فإن حصل العلم عرف حصول الشرائط فيهم ، فنقول :

لو لم يكونوا على هذه الصفة لم يقع العلم بخبرهم ، ثمّ الشرائط المتّفق عليها إمّا أن ترجع إلى المخبرين ، أو إلى السامعين :

أمّا الأوّل فأربعة :

١. أن ينتهوا في الكثرة إلى حدّ يمتنع تواطؤهم على الكذب.

٢. أن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانّين.

٣. أن يستند علمهم إلى الحسّ لا إلى العقل.

٤. استواء الطّرفين والواسطة في هذه الشروط ، لأنّ خبر أهل كلّ عصر مستقل بنفسه وكانت هذه الشروط معتبرة.

وأمّا الثاني فأمران :

٣١٩

١. أن لا يكونوا عالمين بما أخبروا عنه اضطرارا ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، ومثله التقوية في الضروري.

٢. قال السيد المرتضى : يجب أن لا يكون السّامع قد سبق بشبهة أو تقليد إلى اعتقاد نفي موجب الخبر ، لأنّ العلم الحاصل عقيب التواتر إذا كان بالعادة جاز أن يختلف باختلاف الأحوال ، فيحصل للسامع إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك الحكم قبل ذلك ، ولا يحصل له إذا اعتقد ذلك.

قال السيّد : وإنّما احتجنا إلى هذا الشرط لئلّا يقال لنا : أيّ فرق بين خبر البلدان والأخبار الواردة بمعجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير القرآن ، كحنين الجذع وانشقاق القمر ، وتسبيح الحصى ، وأي فرق أيضا بين الخبر عن البلدان وعن النصّ الجلي على أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي ينقله الإمامية ، وإلّا جاز أن يكون العلم بذلك كلّه ضروريا. (١)

لا يقال : يلزمكم أن تجوزوا صدق من أخبر بأنّه لم يعلم بوجود البلدان الكبار والحوادث العظام بالأخبار المتواترة ، لأجل شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء.

لأنّا نقول : لا داعي يدعو العقلاء إلى سبق اعتقاد نفي هذه الأشياء ، ولا شبهة في نفيها (٢).

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٤٩١.

(٢) راجع المحصول : ٢ / ١٢٧ ـ ١٢٨ ، المسألة ٥.

٣٢٠