نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)

التوبة : ١٢٢

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

التشريع الإسلامي

و

المسائل المستجدّة

كلّما تكاملت الحضارة الإنسانية وتعددت ألوانها واجه التشريع الإسلامي أحداثا جديدة لا عهد للأزمنة السابقة بها ولم تتعرض لها المصادر فلذلك صارت حاجة المجتمع إلى تأسيس أصول جديدة أمرا قطعيا لا ينكر وذلك لأنّ نصوص الكتاب والسنّة محدودة وحوادث المجتمع غير محدودة ؛ فكيف يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية؟

هذا ما دعا الفقهاء العظام ـ أنار الله برهانهم ـ إلى سد هذا الفراغ في التشريع الإسلامي بتأسيس أصول وقواعد يستنبط منها أحكام هذه الموضوعات ومن أهم هذه الأصول هو القياس.

٧

وهذا الجزء الّذي يزفه الطبع إلى القراء الكرام أخذ على عاتقه البحث عن القياس وقد أغرق في البحث فلم يبق في القوس منزعا.

فناسب أن أقدّم شيئا حول القياس حتّى يقف القارئ الكريم على موقف الفقه الإمامي من هذه القاعدة الّتي هي الركن الركين للفقه السنّي وأشير في هذا التقديم إلى أقسام القياس وأنّ موضع الفقه الإمامي بالنسبة إليه هو القول الوسط فلا يرفضه بتاتا ولا يأخذ به بدون شرط وقيد ، ولعلّ القارئ الكريم يلمس ما ذكرنا من قراءة هذه المقدمة المتواضعة.

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أمورا تسلّط الضوء عليه.

١. القياس لغة

القياس لغة يستعمل في معنيين :

١. التقدير : قال في «لسان العرب» : قاس الشيء يقيسه قيسا إذا قدّره على مثاله ، والمقياس المقدار. (١)

ومن ذلك يقال : قاس الثوب بالذراع إذا قدّره به.

٢. المساواة : يقال : فلان لا يقاس بفلان ، أي لا يساوى به.

قال الإمام علي عليه‌السلام : «لا يقاس بآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأمّة أحد». (٢) أي لا يساوى بهم أحد.

__________________

(١) لسان العرب : مادة «قاس».

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٢.

٨

ويمكن إرجاع المعنى الثاني إلى المعنى الأوّل ، لأنّ الحكم بالمساواة وعدمها يلازم التقدير قبله ، فمعنى قول الإمام : أي لا يقدر أحد بآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يصحّ أن يقال : علم فلان مثل علم الإمام أو جزء منه ، ويؤيد ذلك ما ذكره أبو الحسين أحمد بن فارس في «مقاييس اللغة» الّذي ألّفه لتوحيد أصول المعاني قال : قوس ، أصل واحد يدلّ على تقدير شيء بشيء ثمّ يصرّف فتقلب واوه ياء ، المعنى في جميعه واحد.

فالقوس الذراع ، وسمّيت بذلك لأنّه بها يقدر بها المذروع. (١)

وبذلك يعلم أنّ ما ذكروه له من معان أخرى ، كالاعتبار والتمثيل والتشبيه والمماثلة كلّها مشتق من معنى واحد.

٢. القياس اصطلاحا

قد عرّف القياس بتعاريف مختلفة منذ زمن قديم إلى يومنا هذا ، ومن هذه التعاريف :

١. حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما. (٢)

٢. مساواة فرع بأصل في علّة حكمه. وهو خيرة الآمدي في «الإحكام». (٣)

__________________

(١) مقاييس اللغة : ٥ / ٤٠ ، مادة «قوس».

(٢) تقريب الوصول إلى علم الأصول : ١٢٢. وقد ذكر محقّق الكتاب في الهامش أنّ هذا التعريف لأبي بكر الباقلاني ووافقه عليه أكثر المالكية.

(٣) الإحكام في أصول الأحكام : ٣ / ١٧٠.

٩

٣. إثبات حكم مثل المقيس عليه للمقيس. وهو خيرة السيّد المرتضى في «الذريعة» (١) والشيخ الطوسي في «العدّة». (٢)

٤. إثبات مثل حكم الأصل في الفرع بعلّة جامعة بينهما. وهو خيرة أبي الحسين البصري في «المعتمد». (٣)

٥. إثبات حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في علّة الحكم. وهو خيرة الغزالي في «شفاء الغليل». (٤)

وأوضح التعاريف هو أن يقال : استنباط حكم واقعة لم يرد فيها نصّ من حكم واقعة ورد فيها نصّ ، لتساويهما في علّة الحكم ومناطه وملاكه.

وعامّة التعاريف تشير إلى حقيقة واحدة ، ولا جدوى في النقض والإبرام وانّها غير جامعة ولا مانعة.

٣. اصطلاح آخر في القياس

وهناك اصطلاح آخر للقياس صار مهجورا بين الأصوليّين ، وهو : التماس العلل لغاية تصحيح النصوص وعرضها عليها ، والقياس بهذا المعنى كان رائجا في عصر الإمام الصادق عليه‌السلام.

وقد استعمل هذا المصطلح في رواية أبان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع امرأة كم فيها؟ قال : «عشرة من الإبل» ، قلت : قطع اثنين؟ قال : «عشرون». قلت : قطع ثلاثا؟ قال :

__________________

(١) الذريعة : ٢ / ٦٦٩.

(٢) العدة : ٢ / ٦٤٧.

(٣) المعتمد : ٢ / ٤٤٦.

(٤) شفاء الغليل : ١٨.

١٠

«ثلاثون». قلت : قطع أربعا؟ قال : «عشرون». قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : إنّ الّذي جاء به شيطان.

قال عليه‌السلام : «مهلا يا أبان! هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين». (١)

والقياس في هذا الحديث هو بهذا المعنى ، أي التماس العلل ، ثمّ عرض النصوص على العلل المستنبطة والقضاء فيها بالقبول إن وافق ، والرد إن خالف. وهذا النوع من القياس محظور في الشريعة الإسلامية ، وأنّى للعقول هذه المنزلة.

وعلى هذا الأصل رفض الشيطان السجود لآدم قائلا بأنّه أفضل منه ومخاطبا الله سبحانه وتعالى : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(٢) ، ولو قيل : إنّ أوّل من قاس هو الشيطان ، فالمراد به ، هو القياس بهذا المعنى المهجور.

٤. إمكان التعبّد بالقياس

اختلفت كلمة الفقهاء في شأن العمل بالقياس ، وأهمّ المذاهب في ذلك مذهبان :

__________________

(١) الوسائل : ج ١٩ ، الباب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث ١.

(٢) الأعراف : ١٢.

١١

الأوّل : القياس أصل من أصول التشريع ومصدر لاستنباط الأحكام الشرعية يجوز التعبّد به عقلا وشرعا. وهو رأي جمهور أهل السنّة سلفا وخلفا.

الثاني : جواز التعبّد به عقلا ، ولكنّه ممنوع في الشريعة. وهو مذهب الإمامية.

قال المرتضى : والّذي نذهب إليه أنّ القياس محظور في الشريعة استعماله ، لأنّ العبادة لم ترد به ، وإن كان العقل مجوّزا ورود العبادة باستعماله. (١)

وعلى هذا درج الإمامية عبر العصور ، ونكتفي هنا بما قاله الشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍) في هذا المجال ، وتبعه فيه السيد ابن زهرة الحلبي (٥١١ ـ ٥٨٥ ه‍) ، إذ صرّحا بجواز التعبّد به عقلا ، وإليك النصّ : ويجوز من جهة العقل التعبّد بالقياس في الشرعيات ، لأنّه يمكن أن يكون طريقا إلى معرفة الأحكام الشرعية ودليلا عليها ، ألا ترى أنّه لا فرق في العلم بتحريم النبيذ المسكر مثلا بين أن ينصّ الشارع على تحريم جميع المسكر ، وبين أن ينصّ على تحريم الخمر بعينها ، وينص على أنّ العلّة في هذا التحريم الشدّة.

ولا فرق بين أن ينص على العلّة ، وبين أن يدلّ بغير النص على أنّ تحريم الخمر لشدّتها ، أو ينصب لنا أمارة تغلب في الظن عندها انّ تحريم

__________________

(١) الذريعة في أصول الشريعة : ٢ / ٦٧٥.

١٢

الخمر لهذه العلّة مع إيجابه القياس علينا في هذه الوجوه كلّها ، لأنّ كلّ طريق منها ، يوصل إلى العلم بتحريم النبيذ المسكر ، ومن منع من جواز ورود العبادة بأحدها كمن صنع من جواز ورودها بالباقي. (١)

هذان المذهبان هما المهمان ، وهناك مذاهب أخرى أشار إليها الشيخ الطوسي في «العدّة» فمن أراد التفصيل فليرجع إليها. (٢)

وخلاصة الكلام : أنّ القياس دليل ظنّي كسائر الظنون : مثل خبر الواحد ، والإجماع المنقول به ، فكما يجوز ـ عند العقل ـ أن يأمر الشارع بالعمل بهما ، كذلك القياس ، والمحاذير المتوهمة في العمل بالقياس ، أعني : المحاذير الملاكية.

والمحاذير المبادئية.

والمحاذير الخطابية. (٣)

مشتركة بين عامّة الأدلّة الطبيعية ، وقد فرغنا من حلّها في أبحاثنا العليا

__________________

(١) غنية النزوع : ٣٨٦ ، قسم الأصول ، الطبعة الحديثة. قوله : «يوصل إلى العلم» أي إذا كان الدليل الدالّ على هذه التسوية دليلا قطعيّا.

(٢) عدة الأصول : ٢ / ٦٥٠ ـ ٦٩٢ ؛ ولاحظ الذريعة : ٢ / ٦٧٥ ـ ٦٨٠.

(٣) إذا كان الحكم الواقعي هو وجوب شيء ، ودلّ خبر الواحد أو القياس ـ على القول بحجّيته ـ على حرمته فتتوهم عندئذ محاذير ثلاثة :

أ. المحذور الملاكي : اجتماع المصلحة باعتبار كون الحكم الواقعي هو الوجوب ، والمفسدة باعتبار كون الحكم المستفاد منهما هو الحرمة.

ب. المحذور المبادئيّ : اجتماع الإرادة أو الحب في نفس المشرّع باعتبار كونه واجبا ، والكراهة والبغض باعتبار كونه حراما.

ج. المحذور الخطابي : اجتماع الوجوب والحرمة وهو بمنزلة اجتماع الضدين في شيء واحد.

١٣

في مبحث الجمع (١) بين الحكم الواقعي والظاهري ، وفي وسع القارئ أن يرجع إلى المصدر أدناه.

وبذلك يعلم عدم صحّة ما ذكره الدكتور عبد الحكيم عبد الرحمن أسعد السعدي مؤلف كتاب «مباحث العلّة في القياس عند الأصوليّين» حيث نسب إلى جمهور الإمامية والظاهرية ، انّ التعبّد بالقياس مستحيل عقلا وشرعا. (٢)

أمّا الإماميّة فإنّهم مجمعون على الإمكان العقلي ، ولكن ينكرون وقوعه شرعا. وأما الظاهرية ، فتقع صحّة النسبة إليهم على عاتق مؤلّف «مباحث العلّة في القياس».

٥. أقسام القياس

القياس ينقسم إلى منصوص العلّة ومستنبطها.

فالأوّل : عبارة عمّا إذا نصّ الشارع على علّة الحكم وملاكه على وجه علم ، انّه علّة الحكم الّتي يدور الحكم مدارها ، لا حكمته الّتي ربّما يتخلّف الحكم عنها.

والثاني : عبارة عمّا إذا لم يكن هناك تنصيص من الشارع عليها ، وإنّما قام الفقيه باستخراج علّة الحكم بفكره وجهده ، فيطلق على هذا النوع من القياس ، مستنبط العلّة.

__________________

(١) إرشاد العقول : ٣ / ١١٢ ـ ١٢٧.

(٢) مباحث العلّة في القياس : ٤٣.

١٤

وينقسم مستنبط العلّة إلى قسمين :

تارة يصل الفقيه إلى حدّ القطع بأنّ ما استخرجه علّة الحكم ومناطه ، وأخرى لا يصل إلّا إلى حدّ الظن بكونه كذلك.

وقلّما يتّفق لأحد أن يقطع بأنّ ما وصل إليه من العلّة هو علّة التشريع ومناطه واقعا ، وانّه ليس فيه ضمائم أخرى لها مدخلية في الحكم ، وراء ما أدرك.

وسيوافيك أنّ القياس في منصوص العلّة خارج عن محط النزاع ، إذ ليس هو من باب ضم الفرع إلى الأصل ، أو استخراج حكم الفرع من حكم الأصل بجهة جامعة بينهما ، بل هو عمل بالنصّ في كلا الموردين ، دون أن يتشكل هناك فرع وأصل.

٦. الفرق بين علّة الحكم وحكمته

التفريق بين العلّة والحكمة هو أحد الأمور الّتي يجب على الفقيه أن يميّز بينها. والفرق بينهما كالتالي :

أ. لو كان الحكم دائرا مدار شيء وجودا وعدما فهو علّة الحكم ومناطه ، كالإسكار بالنسبة إلى الخمر ، ولذلك لو انقلب الخمر خلا لحلّ شربه.

فإن قلت : اتّفق الفقهاء على أنّ ما يسكر كثيره فقليله أيضا حرام. وعلى هذا فالقليل من الخمر ـ كالقطرة ـ حرام ، ولكنّه ليس بمسكر ، فصار الحكم أعمّ من العلّة.

١٥

قلت : قد دلّ الدليل الخارجي على حرمته ، ولولاه لما قلنا بحرمته. وإنّما حرّم الشارع القليل منه ، لأنّ الإنسان إذا شرب القليل فسوف تدعوه نفسه إلى شرب أكثر وربّما ينتهي الأمر إلى شرب ما يسكر.

ب. إذا لم يكن الحكم دائرا مدار ما يتوهم أنّه علّة ، بل كان أوسع منها ، فهي حكمة الحكم ، وهذا كما في المثال التالي :

إنّه سبحانه تبارك وتعالى فرض على المطلّقة تربص ثلاثة قروء بغية استعلام حالها من حيث الحمل وعدمه ، وأضاف سبحانه بأنّها لو كانت حاملا فعدتها وضع حملها. قال تعالى:

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). (١)

وقال في آية أخرى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).(٢)

ولكن ليس استعلام حال المطلقة ملاكا للحكم وعلّة لوجوب الاعتداد ، وإنّما هو من حكم الحكم الّتي تلازمه في أكثر موارده. ولذلك لو علم حال المطلقة وخلوّ رحمها عن الحمل بسبب غيبة زوجها عنها مدّة سنة ، أو انكشفت حالها بواسطة الطرق العلمية المفيدة لليقين ، فمع ذلك كلّه يجب عليها الاعتداد ، وليس لها ترك الاعتداد بحجة أنّ رحمها خال عن الحمل فلا فائدة في الاعتداد.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) الطلاق : ٤.

١٦

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الاستعلام يمثّل حكمة الحكم لا علّته ، فليس الحكم دائرا مداره.

قال أبو زهرة : الفارق بين العلّة والحكمة ، هو أنّ الحكمة غير منضبطة ، بمعنى أنّها وصف مناسب للحكم يتحقّق في أكثر الأحوال ، وأمّا العلّة فهي وصف ظاهر منضبط محدود ، أقامه الشارع أمارة على الحكم. (١)

ومن ذلك يعلم فساد من حرّم المتعة أو الزواج المؤقّت بتوهّم أنّ الهدف من تشريع النكاح هو تكون الأسرة وإيجاد النسل وهو يختص بالنكاح الدائم دون المنقطع الّذي لا يترتّب عليه سوى الاستجابة للغريزة الجنسية وصبّ الماء وسفحه.

قال الدكتور الدريني : شرّع النكاح في الإسلام لمقاصد أساسية قد نصّ عليها القرآن الكريم صراحة ترجع كلّها إلى تكوين الأسرة الفاضلة الّتي تشكّل النواة الأولى للمجتمع الإسلامي بخصائصه الذاتية من العفّة والطهر والولاية والنصرة والتكافل الاجتماعي ، ثمّ يقول : إنّ الله إذ يربط الزواج بغريزة الجنس لم يكن ليقصد مجرّد قضاء الشهوة ، بل قصد أن يكون على النحو الّذي يحقّق ذلك المقصد بخصائصه من تكوين الأسرة الّتي شرع أحكامها التفصيلية في القرآن الكريم.

وعلى هذا الأساس فإنّ الاستمتاع مجرّدا عن الإنجاب وبناء الأسرة ، يحبط مقصد الشارع من كلّ أصل تشريع النكاح. (٢)

__________________

(١) أصول الفقه : ٢٢٣ ، ولاحظ أيضا ص ٢٣٣ منه.

(٢) الدكتور الدريني في تقديمه لكتاب «الأصل في الأشياء الحلية».

١٧

أقول : عزب عن الدكتور أنّ الإنجاب وتشكيل الأسرة من فوائد النكاح ومصالحه ، ولأجل ذلك نرى أنّ الحكم أوسع منه بشهادة أنّه يصحّ الزواج مع القطع بعدم الإنجاب ، كما في الصور التالية :

١. زواج العقيم بالمرأة الولود.

٢. زواج المرأة العقيم بالرجل المنجب.

٣. زواج العقيمين.

٤. زواج اليائسة.

٥. زواج الصغيرة.

٦. نكاح الشاب بالشابة مع العزم على عدم الإنجاب إلى آخر العمر.

ولأجل انقسام ما يدلل به الأحكام إلى قسمين : علّة وحكمة ، اختلف الفقهاء في تفسير الحكمة الواردة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الهرّة : «إنّها ليست بنجس ، إنّها من الطّوافين عليكم والطّوافات». (١)

فلو كان المفهوم من الرواية أنّ الطواف علّة الحكم وأنّه يدور مداره صحّ إلحاق الحيوانات الأخرى كالفأرة وغيرها بها ، وأمّا لو قلنا بأنّه حكمة الحكم لا علّته لتوقف الإلحاق.

__________________

(١) سنن الترمذي : ١ / ١٥٤ ، كتاب الطهارة ، رقم الحديث ٩٢.

١٨

٧. منصوص العلّة والعمل بالسنّة

إذا نصّ الشارع على علّة الحكم وملاكه ، أي ما يدور الحكم مداره على نحو لا يتخلّف الحكم عنه ، كما إذا قال الخمر حرام لأنّه مسكر ، فإلحاق سائر المسكرات به ليس عملا بالقياس المصطلح ، بل عمل بالسنّة الشريفة والضابطة الكلية ، ولنذكر مثالا على ذلك :

روى محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، أنّه قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه ، فينزح حتّى يذهب الريح ، ويطيب طعمه ، لأنّ له مادة». (١)

فإنّ قوله : «لأنّ له مادة» بما أنّه تعليل لقوله : «لا يفسده شيء» يكون حجّة في غير ماء البئر أيضا ، فيشمل التعليل بعمومه ، ماء البئر ، وماء الحمام والعيون وصنبور الخزّان الكرّ وغيرها ، فلا ينجس الماء إذا كان له مادة ، فالعمل عندئذ بظاهر السنّة لا بالقياس ، فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع ، بل موضوع الحكم هو العلّة والفروع بأجمعها داخلة تحته دفعة واحدة.

وبعبارة أخرى : يكون العمل بالملاك المنصوص ، عملا بظاهر السنّة لا بالقياس ، وشأن المجتهد وعمله ليس إلّا تطبيق الضابطة الّتي أعطاها الشارع على جميع الموارد دفعة واحدة ، فليس هناك أصل ولا فرع ، ولا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦.

١٩

انتقال من حكم الأصل إلى الفرع ، بل موضوع الحكم هو العلّة والفروع بأجمعها داخلة تحتها.

وإن شئت قلت : هناك فرق بين استنباط الحكم عن طريق القياس وبين استنباط الحكم عن طريق تطبيق القاعدة المعطاة على مواردها.

ففي الأوّل ـ أي استنباط الحكم عن طريق القياس ـ يتحمّل المجتهد جهدا في تخريج المناط ، ثمّ يجعل الموضوع الوارد في الدليل أصلا ، والّذي يريد إلحاقه به فرعا.

وأمّا الثاني فيكفي فيه فهم النصّ لغة بلا حاجة إلى الاجتهاد ، ولا إلى تخريج المناط ، فيكون النصّ دالا على الحكمين بدلالة واحدة.

يقول سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١) دلّت الآية على وجوب الاعتزال في المحيض ، وعلّل بكونه أذى ، فلو دلّت الآية على كونه تمام الموضوع للحكم فيتمسّك بها في غير المحيض إذا كان المسّ أذى كالنفاس وليس ذلك من مقولة العمل بالقياس ، بل من باب تطبيق الضابطة على مواردها.

وبذلك يعلم ما في كلام الأستاذ : «محمد أبو زهرة» حيث زعم أنّ نفاة القياس يرفضون النص وقال : إنّ تعليل النصوص هو أساس الخلاف بين مثبتي القياس ونفاته ، فنفاته نفوا التعليل فقصروا النصوص على العبارة ،

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

٢٠