نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

الإجماع حذفوا هذا الشرط عند حصول الاتّفاق على حكم ولم يحذفوه عند الاتّفاق على جواز الاختلاف ، وأهل الإجماع لمّا أثبتوا الحكم بدليل غير الإجماع فعلوا أمرين : إثبات الحكم بدليل ، وتمسّكهم بغير الإجماع ، والآية دلّت على العموم وترك العمل به في أحدهما لانعقاد الإجماع على عدم وجوب الاستدلال بدليلهم فيبقى الباقي ، ولا يفهم من قوله : «اتّبع سبيل الصالحين» وجوب المتابعة فيما به صاروا صالحين ، لأنّ سبيل الصالح (١) يضاف إلى الصالح فهو خارج عنه ، والصلاح جزء من ماهية الصالح داخل فيه ، والخارج غير الداخل.

سلّمنا لكن المتابعة في الصلاح ممكنة دون المتابعة في الإيمان ، لأنّه لا يحصل بالتقليد (٢) ، والاتّباع هو الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أنّه فعله.

قوله : لو حمل على الإيمان كان حاصلا في الحال.

قلنا : لمّا بيّنا عدم جواز حمله على الإيمان صار مجازا باسم ما يؤول إليه ، ولا امتناع فيه. وقول السلطان : من يشاقق وزيري ويتبع غير سبيل هؤلاء ـ ويعني المطيعين ـ إنّما يفهم من ذلك سبيلهم في طاعته ، لوجود قرينة عرفية ، واللفظ عام فهو راجح على القرينة العرفية المخصّصة.

وفيه نظر ، لما تقدّم من أنّ الاستثناء لإخراج الصلاحية لا الدخول ، وثبوت النهي عن متابعة كلّ ما هو غير سبيل المؤمنين مبني على العموم وهو المتنازع ويمتنع اشتراط جواز وقوع الشيء بوقوعه وإلّا دار ، و (نمنع

__________________

(١) في «أ» : الصالحين.

(٢) في «أ» : إلّا بالتقليد.

١٦١

انّ) (١) إثبات الحكم بغير الإجماع مخصوص من الآية والمضاف لا يجب خروجه عن المضاف إليه. نعم يجب المغايرة والجزء مغاير فصحّت الإضافة ، والصلاح ليس جزءا من الصّالح ، (٢) بل عارض له فصحّت الإضافة ، والمتابعة وان كانت حقيقة فيما قلتم لكنّها مجاز في المماثلة.

وليس القول بالتخصيص أولى من هذا المجاز ، خصوصا وقد بيّنا أولوية التخصيص مطلقا. وليس استعمال المجاز في الإيمان أولى منه في الاتّباع ونمنع رجحان اللفظ على القرينة العرفية ، فإنّ القرائن تصرف الذّهن عن مقتضى الألفاظ.

وعن الثامن : نمنع (٣) كون كلّ المؤمنين هم الموجودون إلى يوم القيامة ، لأنّ المؤمن هو المتّصف بالإيمان فيكون موجودا ، وما سيوجد مستقبلا ليس بموجود.

قوله : الموجودون في العصر الأوّل لا يصدق عليهم في العصر الثاني أنّهم كلّ المؤمنين.

قلنا : لمّا صدق عليهم أوّلا أنّهم كلّ المؤمنين وقد اتّفقوا في العصر الأوّل على تحريم مخالفتهم في جميع الأعصار ، وجب صدق الحكم في العصر الأوّل فيثبت (٤) في كلّ الأعصار ، إذ لو لم يكن حقّا في العصر الثاني

__________________

(١) في «ب» : يمتنع عن.

(٢) في «أ» : الصلاح.

(٣) في «ب» : من يمنع.

(٤) في «أ» : فثبت.

١٦٢

لما صدق في العصر الأوّل انّه حق في كلّ الأعصار ، ولأنّه تعالى علّق العقاب على مخالفة كلّ المؤمنين زجرا عن مخالفتهم وترغيبا في الأخذ بقولهم ، فلا يكون المراد كلّ المؤمنين إلى يوم القيامة ، لانتفاء الفائدة في التمسّك بقولهم بعد قيام السّاعة.

وفيه نظر ، لأنّ الحقيقة إن كانت للموجودين وقت الخطاب ولم يكن غيرها مرادا اندفع الاستدلال في باقي الأعصار ، وإن كانت لمن وجد أو سيوجد أو أريد المجاز لوجه السؤال ، ولا منافاة بين الزجر وإرادة المؤمنين إلى يوم القيامة إذا كان الغرض ويتبع غير سبيل المؤمنين فيما يعلم اتّفاقهم عليه أو (ما ينافي عدمه الإيمان) (١).

وعن التاسع : أنّه لا يجوز إرادة إيجاب اتّباع مؤمني عصر نزول الآية ، لأنّ قولهم إن طابق قول الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت الحجّة في قوله فيصير قولهم لغوا ، وإلّا كان باطلا ، بل المراد إيجاب العمل بقول الموجودين في أي عصر كان.

وفيه نظر ، لأنّ عدم جواز إرادة مؤمني عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متوقّف على صحّة الاستدلال بالآية على ثبوت الإجماع ، فإنّ من يحمل الآية على مفهومها وهو يتّبع غير سبيل المؤمنين في نصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والانقياد له وتوله ما تولّى يكون لقولهم فائدة وإن اختصت الآية بهم.

وعن العاشر : انّ عدم اعتبار قول العوام والأطفال أو المجانين لا يخرج

__________________

(١) في «ب» : ينافي في عدمه الإيمان.

١٦٣

اللفظ عن إرادة الكلّ بخروجهم بدليل ، ولا يجوز حمله على المعصوم ، لأنّ الوعيد على مخالفة المؤمنين ، فحمله على الواحد ترك الظاهر.

وفيه نظر ، لأنّ خروجهم لدليل ينافي إرادة الكلّ ، فإنّا لم نشرط في إرادة الكلّ إرادة من لا يخرج لدليل ، والمعصوم لا نسلّم وحدته فإنّه متعدّد في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده من الأئمّة ، لوجود أولادهم المعصومين معهم ، أو باعتبار تعدّدهم وإن تعدّدت أزمنتهم ، أو يحمل على الواحد مجازا كما في قوله : (وَهُمْ راكِعُونَ)(١) والمراد علي عليه‌السلام.

وكذا قوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(٢) ، والمراد علي عليه‌السلام أيضا.

وقوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ)(٣) ، والمراد واحد وهو نعيم بن مسعود الأشجعي.

وليس ترك ظاهر الجمع أولى من ترك ظاهر العلم بالإيمان الثابت في حقّ المعصوم خاصة ، بل ذلك أولى لوجهين :

الأوّل : انّه يستلزم المجاز في الجمع ، (٤) لعدم دخول العوام والمجانين والصّبيان في المؤمنين ، وما قلناه يستلزم مجازا ثبت مثله في مواضع كثيرة من القرآن ، فيكون أولى.

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) البقرة : ١٥٧.

(٣) آل عمران : ١٧٣.

(٤) في «ب» و «ج» : الجميع.

١٦٤

الثاني : اختصاص الجمع بالمجاز ان اعتبر مؤمني كلّ زمان لتعدد المعصومين حينئذ ، وإلّا اختصت الآية بمؤمني عصره عليه‌السلام.

سلّمنا ، لكنّ الأمر بالاتّباع إمّا مع العلم بصدقهم أو لا.

والثاني قبيح لجواز الخطأ عليهم ، فالأمر بالاتّباع مطلقا أمر بالاتّباع فيما يجوز كونه خطأ ، وهو قبيح.

والأوّل إمّا أن يعلم باعتبار قولهم وليس ذلك إلّا المعصوم ، أو بموافقة الدّليل لقولهم فتضيع فائدة الإجماع.

وعن الحادي عشر : انّ المؤمن لغة المصدق بلسانه فيحمل عليه إلى أن يقوم المعارض ، ويدلّ عليه أنّه تعالى أوجب علينا اتّباع سبيلهم ، والاطّلاع على الباطن ممتنع ، فلو لم يحمل على التصديق باللسان لزم تكليف المحال ولا يجوز حمله على السبيل الّذي من شأنه أن يكون سبيلا للمؤمنين ، لأنّه عدول عن الظاهر لغير ضرورة.

وفيه نظر ، لقبح تكليف اتّباع من لا يعلم صدقه ولا يلزم تكليف ما لا يطاق إذا حمل على المعصوم.

وعن الثاني عشر : انّ الاجتماع ظني ونمنع الإجماع على أنّه قطعي.

قوله : أعطيتم الفرع أقوى من الأصل.

قلنا : نحن لا نكفّر مخالف الإجماع ولا نفسّقه ، لأنّه عندنا ظني.

وفيه نظر ، لأنّ مخالف الإجماع إمّا كافر أو فاسق عند الأكثر.

١٦٥

وعن الثالث عشر : المعارضة بالآيات انّ النهي خطاب مع كلّ واحد لا مع الكلّ ، ونحن ندّعي عصمة الكلّ لا كلّ واحد.

سلّمنا ، لكن النهي لا يقتضي إمكان المنهي عنه من كلّ وجه ، لأنّ نهي المؤمن عن الكفر مع علمه بأنّه لا يفعله ، وما علم أنّه لا يوجد محال الوجود.

وفيه نظر ، لأنّ النهي كما يتناول كلّ واحد يتناول الكل ، والإمكان شرط لقبح النّهي (١) عن المحال ، وخلاف المعلوم ليس بمحال على ما تقدّم.

وعن الأحاديث أنّ قوله عليه‌السلام : «لا تقوم الساعة إلّا على شرار أمّتي» يدلّ على حصول الشرار في ذلك الوقت لا أنّ كلّهم شرار.

وحديث معاذ بأنّه لم يذكر الإجماع ، لأنّه ليس حجّة في زمانه عليه‌السلام.

وقوله : «لا ترجعوا بعدي كفّارا» في صحّته كلام.

سلّمناه ، ولكن ربّما كان خطابا لقوم معينين ، ولا يستلزم تجويز الخطأ على كلّ واحد تجويزه على الكلّ ، والمثال لا يدلّ على عمومية.

سلّمنا ، لكن الكلّ يجوز عليه الخطأ ، وليس كلّ جائز واقعا ، والله تعالى لمّا أخبر أنّه لا يقع منهم الخطأ علمنا انّهم لا يفعلونه.

قوله : إجماعهم إمّا لدليل أو الأمارة.

__________________

(١) في «ب» : شرط القبح والنهي.

١٦٦

قلنا : جاز أن يكون لدليل إلّا أنّهم لم ينقلوه اكتفاء بالإجماع فإنّه مغن عن غيره.

الوجه الثاني : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)(١).

والوسط العدل ، لأنّ وسط كلّ شيء خياره ، وقد أخبر تعالى أنّ هذه الأمّة خير فلو اتفقوا على محرّم لم يكونوا خيرا فقولهم : حق.

والاعتراض من وجوه :

الأوّل : الآية متروكة الظاهر ، لأنّ وصف الأمّة بالعدالة يقتضي اتصاف كلّ واحد بها ، وهو معلوم البطلان ، فيحمل على البعض وهو المعصوم.

الثاني : يمنع أنّ وسط كلّ شيء خياره ، لأنّ العدالة هي فعل الواجب واجتناب المحرم وهو من أفعال العبد لكن الله تعالى أخبر أنّه جعلهم وسطا فيغاير العدالة ، ولأنّ وسط حقيقة في المتوسط بين الشيئين فلو كان حقيقة في العدل لزم الاشتراك.

الثالث : الخيرية يكفي فيها اجتناب الكبائر فيصدق مع فعل الصغائر وجاز أن يكون الإجماع صغيرة.

ويؤيده انّه جعلهم عدولا ليكونوا شهداء على الناس ، والشهادة تسمع مع الصغائر.

الرابع : سلّمنا اجتنابهم عن الصغائر أيضا ، لكنّه تعالى إنّما جعلهم عدولا كذلك للشهادة على الناس وانّما يتحقّق في الآخرة فتثبت (٢)

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) في «أ» : فثبت.

١٦٧

عدالتهم هناك ، لأنّ العدالة تعتبر حين الأداء لا التحمّل ، ونحن نقول به ، فإنّ الأمّة معصومون (١) في الآخرة.

الخامس : الخطاب توجّه للموجودين عند نزول الآية لاستحالة خطاب المعدوم ، وهو يقتضي عدالتهم دون غيرهم ، فإجماع أولئك حق ، فلا يتمسّك بالإجماع إلّا مع علم حصول قول أولئك فيه ، وهو يتضمّن العلم بأعيانهم وبقائهم بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولمّا تعذّر ذلك تعذّر التمسّك بشيء من الإجماعات.

السادس : قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ)(٢) ليس عاما يدلّ على قبول شهادتهم في كلّ شيء ، بل هو مطلق في المشهور به ، وهو غير معيّن فتكون الآية مجملة ، ولا حجة في المجمل.

السابع : سلّمنا عدم الإجمال ، لكنّا قد علمنا بها في قبول شهادتهم على من بعدهم بإيجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العبادات عليهم وتكليفهم بما كلّفهم به ، فلا يبقى حجّة في غيره لتوفية العمل بدلالة الآية.

الثامن : انّها مخصوصة بالفساق والنساء والصبيان والمجانين إجماعا ، والعام بعد التخصيص ليس حجّة.

التاسع : لا تدلّ على عصمتهم مطلقا ، بل فيما يشهدون به لا فيما يحكمون به من الأحكام الشرعية بطريق الاجتهاد ، فإنّ ذلك ليس من باب الشهادة في شيء وهو المتنازع.

__________________

(١) في «ب» : معصومة.

(٢) البقرة : ١٤٣.

١٦٨

العاشر : إمّا أن يكون خطابا مع جميع أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة ، أو مع الموجودين وقت الخطاب ؛ فإن كان الأوّل لم يبق حجّة في إجماع أهل كلّ عصر ، إذ ليس كلّ الأمّة ؛ وإن كان الثاني لم يكن إجماع غيرهم حجّة ، وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس حجّة ، فلا يكون الإجماع حجّة.

الحادي عشر : جاز أن يكون المراد انّ أكثرهم عدل.

والجواب عن الأوّل : نمنع أنّها متروكة الظاهر.

قوله : يقتضي كون كلّ واحد عدلا.

قلنا : لمّا ثبت أنّه لا يجوز إجراؤها على ظاهرها ، وجب أن يكون المراد منه امتناع خلو هذه الأمّة عن العدول ، وليس المعصوم ، لأنّ قوله (جَعَلْناكُمْ) صيغة جمع ، فحمله على الواحد خلاف الظاهر.

وفيه نظر ، فإنّه منع أنّها متروكة الظاهر ، ثم في بيانه اعترف به ، وعدالة بعض الأمّة لا يقتضي كون الإجماع حجّة لاحتمال عدم دخوله فيهم ، والخطاب وإن توجّه إلى مجموع الأمّة لكن المراد بعضهم على ما قلتم ، فجاز أن يكون واحدا ، ولأنّ المعصوم أكثر من واحد.

وعن الثاني : الوسط من كلّ شيء خياره ، لقوله تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ)(١) أي أعدلهم.

__________________

(١) القلم : ٢٨.

١٦٩

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خير الأمور أوسطها» (١) أي أعدلها. وقيل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوسط قريش نسبا. (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم بالنمط الأوسط». (٣)

وقول الشاعر : «هم وسط يرضى الأنام بحكمهم». (٤)

وقال الجوهري : وسطا أي عدلا ، (٥) ولأنّ الوسط حقيقة في البعد عن الطّرفين ، فالبعيد عن طرفي الإفراط والتفريط اللّذين هما رديّان متوسط ، فكان فضيلة ، ولهذا يسمّى الفاضل في كلّ شيء وسطا (٦) ،

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٩٦ ح ١٩٩ ؛ بحار الأنوار : ٧٤ / ١٦٦ ح ٢ وج ٧٥ / ١١ ح ٧٠ ؛ تفسير القرطبي : ٢ / ١٥٤ ؛ الدر المنثور : ٤ / ١٧٩ و ٢٠٨.

(٢) المحصول : ٤ / ٧٠. وذكر نحوه في بحار الأنوار : ٨ / ١٥٦ وج ٣٥ / ١٢٧ وج ٤٩ / ٢٠٩ ح ٣.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٦٣ ؛ تفسير القرطبي : ٢ / ١٥٤ ؛ العين : ٧ / ٤٤٢.

(٤) القائل هو زهير بن أبي سلمى (المتوفّى ١٣ قبل الهجرة) من أهل نجد وأحد الشعراء الثلاثة المتقدّمين على الشعراء مع امرؤ القيس والنابغة الذبياني. كان لزهير أخلاق عالية ونفس كبيرة مع سعة صدر وعلم وورع ، فرفع القوم منزلته وجعلوه سيدا. وكثر ماله واتّسعت ثروته ، وكان مع ذلك عريقا في الشاعرية ، فكان أبوه شاعرا وكذلك خاله وأختاه وابناه. وكان لشعره تأثير كبير في نفوس العرب ، وكان مقربا من أمراء ذبيان. وكان شديد العناية بتنقيح شعره حتّى ضرب به المثل ، وسمّيت قصائده بالحوليات ، لأنّه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر ويهذّبها بنفسه في أربعة ويعرضها على الشعراء في أربعة. (معجم المطبوعات العربية : ١ / ٩٨٠ ؛ الأعلام : ٣ / ٥٢). وتمام البيت هو :

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

راجع ديوان زهير : ٢ / ٢٧ ؛ التبيان : ٢ / ٦ ؛ مجمع البيان : ١ / ٤١٦ ؛ الإحكام للآمدي : ١ / ٢١١.

(٥) صحاح الجوهري : ٣ / ١١٦٧ ، مادة «وسط».

(٦) في «أ» : أوسط.

١٧٠

وعدالتهم من الله تعالى إذ لا فعل لهم.

وفيه نظر ، لما تقدّم من اسناد الأفعال إلى العبد ، نعم لما خلق القدرة والآلات والألطاف المقربة إلى العدالة صحّ إضافة الفعل إليه تعالى.

وعن الثالث : أنّ بعضهم أنكر الصغيرة مطلقا ، بل كلّ ذنب صغير بالنسبة إلى ما فوقه كبير بالنّسبة إلى ما تحته ، فسقط السؤال.

ومن اعترف به قال : إنّه تعالى عالم بالباطن والظاهر فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد وصحّة شهادته إلّا مع مطابقة المخبر عنه للخبر ، فلمّا أطلق تعالى القول بعدالتهم وجب عدالتهم في كلّ شيء ، بخلاف شهود الحاكم حيث يجوز شهادتهم وإن جاز عليهم الصغيرة ، إذ لا سبيل للحاكم إلى معرفة الباطن فاكتفى بالظاهر.

وفيه نظر ، لأنّ علمه تعالى بالباطن والظاهر ووصفه بعدالتهم لا يقتضي امتناع الصغائر عليهم ، لأنّها لا تنافي العدالة ، وليس المقتضي لقبول الشهادة مع الصغائر خفاءها عن الحاكم ، ولا المقتضي لردّ الشهادة مع الكبائر ظهورها عند الحاكم ، فإنّه لو انعكس الفرض لم يتغيّر الحكم ، ووصفهم بالعدالة لا يقتضي الحكم بصحّة الشهادة وإن وجب الحكم بها ، ولو علم الحاكم الصغيرة لم يمتنع (١) عن قبول الشهادة.

وهذا الجواب ذكره أبو الحسين (٢) عن اعتراض (٣) آخر ، وهو أنّ

__________________

(١) في «أ» : يمنع.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٥ ـ ٦.

(٣) في «أ» : احتراز.

١٧١

المراد بذلك انّه جعل أكثرهم عدولا في الظاهر لا في الحقيقة ليشهدوا من جهة الخبر.

وأجاب بأنّ الظاهر من قوله : (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) انّهم كذلك على الحقيقة ، لأنّ الخبر يقتضي كون المخبر على ما تناوله (١) ، كما لو أخبر أنّه جعلهم بيضا وسودا.

وعن الرابع : لو كان المراد عدالتهم في الآخرة لقال سيجعلكم ، ولأنّ جميع الأمم عدول في الآخرة ، فلا يبقى في الآية تخصيص لأمّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الفضيلة.

وعن الخامس : انّه لا سبيل إلى حمل لفظ الأمّة على كلّ من آمن بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة لما تقدّم ، ولا على من كان موجودا في زمانه عليه‌السلام لعدم العبرة بقولهم في زمانه ، ولا وجود لهم بعد وفاته لموت كثير منهم قبله ، فلا يبقى لقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) فائدة ، فيحمل على أهل كلّ عصر ، تحقيقا لفائدة كونهم شهداء.

وعن السادس : يجب اعتقاد العموم في قبول الشهادة دفعا للإجمال ، ولأنّ الاحتجاج في الوصف بالعدالة ، وإذا كانوا عدولا وجب قبولهم في كلّ شيء وهو جواب السابع.

وعن الثامن : أنّ العام المخصوص حجّة في الباقي على ما تقدّم.

__________________

(١) في «أ» : يتناوله.

١٧٢

وعن التاسع : أنّ عدالتهم تمنع من الخطاء في الشهادة وفيما يروونه من الأحكام ويخبرون به منها.

وعن العاشر : ما تقدّم.

وعن الحادي عشر : انّ الخطاب للجميع فيكونون عدولا لا أكثرهم خاصة.

سلّمنا ، لكن إذا أجمع الكلّ دخل الأكثر.

الوجه الثالث : قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(١).

ولام الجنس للاستغراق ، فيكونون آمرين بكلّ معروف وناهين عن كلّ منكر ، فلو كان إجماعهم خطأ لكانوا آمرين بالمنكر ناهين عن المعروف.

والاعتراض من وجوه :

الأوّل : أنّها متروكة الظاهر لاقتضاء اتّصاف كلّ واحد بذلك والمعلوم خلافه ، وإذا لم يجز إجراؤها على ظاهرها حمل على بعض الأمّة ، وهو المعصوم.

الثاني : المفرد المعرف بلام الجنس ليس للعموم ، على ما تقدّم.

الثالث : أنّها تقتضي اتّصافهم بذلك في الماضي ونمنع بقاؤهم عليه في الحال.

__________________

(١) آل عمران : ١١٠.

١٧٣

لا يقال : إنّها خرجت مخرج المدح في الحال ، ولا يجوز المدح بما فعل في الماضي مع الخروج عنه ، فإنّ الأمر بالمعروف إذا نهى عنه استحقّ الذم.

لأنّا نقول : نمنع خروجها مخرج المدح ، بل بمجرد الإخبار بأنّ هذه الأمّة كانت خيرا من سائر الأمم ومجرد الخبر لا يقتضي المدح ، أو يجوز المدح في الحال بما صدر في الماضي وإن استحقّ الذم في الحال بذنب يقع في الحال ، فإنّ الجمع بين استحقاق المدح والذم جائز لما ثبت في مسألة الإحباط.

الرابع : قوله : (كُنْتُمْ) منطوقه حصول الوصف في الماضي ومفهومه عدم حصوله في الحال عليه ، فيدلّ عليه كما دلّ على المنطوق.

الخامس : اتّصافهم في الحال لا يقتضي عدم الخروج عنه فيما بعد ، فيجوز خروجهم ويحسن مدح الإنسان بصفة حالية وإن علم زوالها (١) مستقبلا.

لا يقال : يصير إجماعهم حجّة في ذلك الزمان.

لأنّا نقول : لا نعلم أي الإجماعات حصل في ذلك الزمان ، وإذا وقع الشك في الجميع خرج عن كونه حجّة.

السادس : أنّها خطاب مع الموجودين في ذلك الوقت فيكون قولهم حجّة دون غيرهم.

__________________

(١) في «أ» : بزوالها.

١٧٤

والجواب عن الأوّل : المخاطب ليس كلّ واحد ، لأنّه وصف المخاطب بهذا (١) الخطاب بكونه خير أمّة ، فلو كان كلّ واحد من الأمّة لزم وصف كلّ واحد بأنّه أمّة ، وليس كذلك إلّا على المجاز ، لتبادر فهم المجموع في قولهم حكمت الأمة بكذا ؛ ولأنّه يلزم أن يكون كلّ واحد خير أمّة أخرجت للناس ، فيكون كلّ واحد خيرا من صاحبه الذي هو خير منه ، فإذن الخطاب للمجموع كقول الملك لعسكره : أنتم خير عسكر تفتحون البلاد وتكسرون الجيوش ، ولا يفهم وصف الملك كلّ واحد بذلك ، بل المجموع بمعنى أنّ في العسكر من هو كذلك ، فكذا هنا وصف الله تعالى المجموع بالآمر بالمعروف بمعنى أنّ فيهم من هو كذلك ، وحمله على المعصوم باطل ، لأنّه واحد ولفظ الأمّة للجمع.

وفيه نظر ، لأنّ المعنى إذا كان في الأمّة من هو كذلك جاز أن يكون واحدا.

وعن الثاني : أنّ في الأمّة من يحمله على العموم ، ولأنّ المعروف إن لم يكن للاستغراق كان للماهية ، فيكفي في العمل به ثبوته في صورة واحدة ، فيكون معناه أنّهم أمروا بمعروف واحد ونهوا عن منكر واحد ، وهو حاصل في جميع الأمم ، لأنّ كلّ واحد منهم قد أمر بمعروف واحد ونهى عن منكر واحد وهو الكفر ، فلا تكون هذه الأمّة خيرا من جميع الأمم ، فيحمل على الاستغراق تحصيلا للغرض.

__________________

(١) في «أ» : بعد.

١٧٥

وفيه نظر ، لجواز حمله على الماهية ، ولا يصدق هنا في الواحد ، لأنّ مفهوم قولنا : «كان فلان يتهجّد» المداومة عليه في أكثر أحواله فكذا هنا ، ولا يلزم التعميم ولا الوحدة ولا مساواة الأمّة لمن تقدّمها.

وعن الثالث : أنّ قوله : «يأمرون وينهون» ليس للماضي.

وفيه نظر ، لأنّه حكاية حال لقوله : (كُنْتُمْ) كما يقال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل كذا».

وعن الرابع : منع كون (كُنْتُمْ) للماضي ، لأنّها إن كانت ناقصة فهي ، وإن كانت تفيد المضي لكن قوله : (تَأْمُرُونَ) يقتضي كونهم كذلك مستقبلا ، ودلالة (كُنْتُمْ) على ما تقدّم الوصف لا يمنع من حصوله مستقبلا ، فتبقى دلالة (تَأْمُرُونَ) على الاستقبال سليما عن المعارض ، وإن كانت زائدة أو تامة تمّ الاستدلال.

وفيه نظر ، لما بيّنّا من عدم دلالة تأمرون المحكية على الاستقبال.

وعن الخامس : أنّ صيغة المضارع كالعام بالنسبة إلى الحال أو المستقبل فيتناولهما معا.

وفيه نظر ، لأنّها كالمشترك أو المطلق فيكفي الواحد.

وعن السادس : ما تقدّم.

١٧٦

الوجه الرابع : قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(١).

نهي عن التفرّق ، ومخالفة الإجماع تفرّق فيكون منهيّا عنه ، ولا معنى لكون الإجماع حجّة سوى النهي عن مخالفته.

والاعتراض من وجوه :

الأوّل : نمنع عموم النهي عن التفرق في كلّ شيء ، بل في الاعتصام بحبل الله لأنّه المفهوم ، ولهذا لو قال : «ادخلوا البلد أجمعين ولا تفرّقوا» حمل على (٢) النهي عن التفرّق في الدخول ، وما لم يعلم أنّ ما أجمع أهل العصر عليه اعتصام بحبل الله لم يكن التفرّق منهيا عنه.

الثاني : لا يجوز حمله على العموم ، لأنّ قبل الإجماع كلّ واحد من المجتهدين مأمور باتّباع اجتهاده المستند إلى ظنّه ، والظنون مختلفة فيكون التفرّق مأمورا به لا منهيا عنه.

الثالث : انّه متناول للموجودين في حال الخطاب.

والجواب عن الأوّل : انّه أمر بالاعتصام ونهي عن التفرّق مطلقا في كلّ شيء ويجب الحمل عليه ، وإلّا كان النهي عن التفرّق في الاعتصام بحبله مفيدا لما أفاده الأمر بالاعتصام ، فيكون تأكيدا والأصل التأسيس.

وفيه نظر ، لمنع عموم التفرّق.

وعن الثاني : أنّ العام حجّة بعد التخصيص ، فيبقى حجّة في امتناع التفرّق بعد الإجماع.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٣.

(٢) ليس في «أ».

١٧٧

وعن الثالث : بما تقدّم.

قال أبو الحسين (١) استدلّ بهذه الآية بأنّ أمره بالاعتصام بحبل الله تعالى يدلّ على أنّهم قد اعتصموا به وهو باطل ، لأنّ الأمر لا يدلّ على وقوع امتثاله.

قال : ويمكن أن يستدل من وجوه.

الأوّل : أهل العصر إذا أجمعوا على قول لم يجز لبعضهم تركه وإلّا كانوا قد تفرقوا وقد نهي عنه.

الثاني : إذا أجمع أهل العصر على قول لم يجز لأهل الثاني أن يخالفوهم وإلّا كان أهل العصر الثاني قد تفرّقوا.

الثالث : إذا خالف أهل العصر الثاني أهل الأوّل صار أهل الأوّل مع الثاني متفرّقين ، والنهي يمنع منه.

وأجاب عن الأوّل : بأنّ ما أجمعوا عليه إن كان حقّا فقد حرم عليهم التفرّق عنه ، وإن كان خطاء وجب عليهم بأجمعهم العدول عنه والاجتماع على الحق وأن لا يتفرّقوا عنه ، فالمخالف يقول : إنّه محرم عليهم التفرّق وإن لم يجعل الإجماع حقّا.

وعن الثاني : أنّه لا يوصفون بأنّهم متفرّقون إذا أجمعوا على مخالفة أهل الأوّل ، فإن افترقوا هم على قولين فقد نهوا عن ذلك ، لأنّه يجب عليهم الاجتماع على الحق.

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ١٤.

١٧٨

وعن الثالث : أنّ أهل العصر الأوّل غير موجودين في هذه الحال فيقال انّهم مع أهل الثاني منهيون عن التفرق ، وأيضا فالمفهوم من قوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) هو أن لا يتفرّقوا في الاعتصام ، فيجب أن يبيّن المستدلّ أنّ ما أجمع عليه أهل العصر اعتصام بحبل الله حتى يعلم من بعدهم أنّهم قد نهوا عن مفارقتهم فيه ، وهو غير ظاهر.

الوجه الخامس : قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ).(١)

شرط في الرد إلى الكتاب والسنّة التنازع ، فإذا عدم التنازع وحصل الاتفاق لم يجب (٢) الرد إليهما قضية للشرط ، بل يكفي الاتّفاق ، وهو معنى كون الإجماع حجّة.

واعترض بأنّ سقوط وجوب الرد إلى الكتاب والسنّة عند الاتّفاق على الحكم إن كان بناء على الكتاب والسنّة كفيا في الحكم ولا حاجة إلى الإجماع ، وإن كان لا (٣) بالبناء عليهما لزم تجويز وقوع الإجماع من غير دليل وهو مانع من صحّة الإجماع ، كيف وانّا لا نسلّم بقاء الشرط فإنّ الكلام إنّما هو مفروض فيما إذا وجد النزاع ممّن تأخر إجماع المتقدمين.

وأجيب بجواز الاستناد إلى غير الكتاب والسنّة من القياس والاستنباط.

سلّمنا ، لكن ليس في ذلك ما يدلّ على عدم اكتفاء من وجد بعد أهل

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) في «أ» : يجز.

(٣) ليس في «أ».

١٧٩

الإجماع واكتفاء من وجد في عصرهم من المقلّدة بإجماعهم عن معرفة الكتاب.

قال أبو الحسين (١) ـ اعتراضا على الاستدلال بالآية ـ : أيسقط وجوب الردّ إلى الكتاب والسنّة ويصير ترك ذلك مباحا إذا أجمعوا بالردّ إلى الكتاب والسنّة ، أو إذا اتفقوا على ذلك من غير ردّ إليهما.

والثاني يقتضي تجويز وجود الإجماع من غير دليل.

والأوّل يقتضي نسبة الله تعالى إلى ما لا يجوز ، لأنّ طلب الحكم من الكتاب والسنّة بعد ما وجد فيهما محال ، إذ طلب الموجود مستحيل ، فإباحة ترك المستحيل عبث لا يصدر عن حكيم ، وإنّما المراد بالآية الحثّ على طاعة أولي الأمر فيما يدبّرونه من أمر الدنيا والدين إذا لم يعلم خطأهم فيه.

الوجه السادس : التمسّك بالروايات الدالّة على عدم اجتماع الأمّة على الخطاء.

لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع أمّتي على الخطاء» والبحث إمّا في متنه (٢) أو كيفية الاستدلال به.

وللناس في الأوّل (٣) طرق ثلاثة :

الأوّل : ادّعاء الضرورة في تواتر معناه لنقله بألفاظ مختلفة بلغ

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) في «أ» : ماهيته.

(٣) في «أ» : ذلك.

١٨٠