نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

وقد كان مشهورا عندهم أنّ الصحابة سوّغت للتابعين المعاصرين لهم الاجتهاد معهم في الوقائع الجارية في عصرهم ، كسعيد بن المسيب وشريح القاضي والحسن البصري ومسروق وأبي وائل والشعبي وسعيد بن جبير وغيرهم ، ولو كان قول التابعي باطلا لما ساغ للصحابة تجويزه والرجوع إليه.

والاعتراض : أنّ الاجتهاد إنّما سوّغوه للتابعين عند اختلاف الصحابة ، ولا يلزم من الاعتداد بقوله عند الاختلاف الاعتداد به عند الاتّفاق ، وأيضا الصحابة مع التابعين المجتهدين بعض الأمّة وبعض المؤمنين فلا تتناولهم الأدلّة.

احتجّ الآخرون بوجوه : (١)

الأوّل : قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)(٢) وإنّما يرضى عنهم لو لم يقع منهم معصية ، والقول الباطل معصية ، فيكون قولهم حجّة.

الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» ، [وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :] «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ، [وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :] «لو أنفق غيرهم ملء الأرض ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم» وهو يدلّ على أنّ التابعي إذا اختلف لم يكن محقّا.

__________________

(١) ذكر هذه الوجوه أيضا الرازي في المحصول : ٢ / ٨٤ ؛ والآمدي في الإحكام : ١ / ٣٠١.

(٢) الفتح : ١٨.

٢٤١

الثالث : أنكرت عائشة على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مجاراته للصحابة وكلامه فيما بينهم وخلافه على ابن عباس في عدّة المتوفّى عنها زوجها وهي حامل وزجرته عن ذلك وقالت : فرّوج يصيح مع الديكة.

الرابع : الصحابة لهم مزية الصحبة على غيرهم ، فقولهم أقرب إلى الحق من غيرهم.

والجواب عن الأوّل : أنّها مختصّة بأهل بيعة الرضوان ، وليسوا مختصّين بالإجماع إجماعا.

وعن الثاني : أنّها تدل على فضيلتهم ، أمّا على اختصاصهم بقبول قولهم دون غيرهم من المجتهدين فلا.

وعن الثالث : أنّ فعل عائشة ليس حجّة ، ويحتمل أنّها أنكرت عليه لأنّه خالف بعد الإجماع ، أو في مسألة قطعية ، أو أنّه لم يكن حين المخالفة من المجتهدين ، أو أساء أدبه في المناظرة.

البحث السابع : في أنّ إجماع الأكثر ليس بحجّة

إجماع الأكثر ليس حجّة عند الأكثر فلو خالف واحد أو اثنان لم يتمّ الإجماع.

وقال محمد بن جرير الطبري وأبو بكر الرازي وأبو الحسين الخيّاط من المعتزلة وأحمد بن حنبل في رواية أنّه ينعقد إجماع الأكثر ولا عبرة بمخالفة الأقل.

٢٤٢

وقال قوم : إنّ عدد الأقل إن بلغ عدد التواتر لم ينعقد الإجماع مع مخالفته ، وإلّا انعقد.

وقال أبو عبد الله الجرجاني : إن سوّغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف كان خلافه معتدا به ، كخلاف ابن عباس في مسألة العول ، وإن أنكرت الجماعة عليه كخلافه في تحريم ربا الفضل لم يعتد به.

ومنهم من قال : إنّ قول الأكثرين يكون حجّة ، وليس بإجماع.

ومنهم من قال : إنّ اتّباع الأكثر أولى ، وإن جاز خلافه.

وعند الإمامية : انّ المخالف إن عرف باسمه ونسبه انعقد الإجماع دونه لدخول المعصوم في الأكثر ، وإن لم يعرف لم ينعقد لجواز أن يكون المخالف هو الإمام.

أمّا الجمهور (١) : فاستدلّوا بأنّ جميع الصحابة أجمعوا على ترك قتال مانعي الزكاة وخالفهم أبو بكر وحده ، ولم يقل أحد أنّه غير معتد بخلافه ، بل رجعوا إليه لمّا ناظروه وكذا ابن عباس وابن مسعود خالفا الصحابة في مسائل الفرائض وخلافهما باق إلى الآن.

وأيضا الجماعة مع مخالفة الواحد بعض الأمّة وبعض المؤمنين فلا يندرج حكمه تحت أدلة الإجماع وأيضا إذا خالف واحد كان الحكم مختلفا فيه. وقال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ)(٢).

__________________

(١) وهو ما ذهب إليه الرازي في المحصول : ٢ / ٨٥ ؛ والآمدي في الإحكام : ١ / ٢٩٤ ، المسألة الثامنة ، واستعرض فيها الأقوال كما هو موجود هنا ، فلاحظ.

(٢) الشورى : ١٠.

٢٤٣

وأيضا لو انعقد الإجماع مع مخالفة الأقل فإمّا أن ينعقد الإجماع عليه فيلزم ترك ما علم بالدّليل والرجوع إلى التقليد ، وذلك ممتنع في حقّ المجتهد ؛ وإن لم ينعقد عليه لم يكن الإجماع حجّة مقطوعا بها ، فإنّه لو كان مقطوعا به لما ساغت مخالفته بالاجتهاد.

واعترض عليه بأنّا إن قلنا انعقاد إجماع الأكثر دون الأقلّ حجّة قاطعة ، فالقول برجوع المجتهد الواحد إليه واجب ، وإن كان خلاف ما أدّاه اجتهاده إليه لوجوب الرجوع عن الاجتهاد إلى الدليل القاطع ، كما لو أجمع أهل العصر على حكم ثمّ جاء مجتهد أدّاه اجتهاده بعدهم إلى مخالفتهم لم يجز العمل باجتهاده ، بل وجب عليه الرّجوع إليهم.

احتجّ المخالف بوجوه : (١)

الأوّل : لفظ المؤمنين والأمّة يتناول الأكثر إذا كان الأقل نادرا كالواحد والاثنين ، كشعر فارسي فيه عربية قليلة ، وكثور أسود فيه شعرات بيض ، وكالزنجي يقال له : أسود مع بياض حدقته وأسنانه.

الثاني : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم بالسّواد الأعظم» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الشيطان مع الواحد» ، وهو يدلّ على تخطئة الواحد المنفرد ووجوب اتّباع الأكثر ، ولا نعني بكونه حجّة سوى هذا.

الثالث : الإجماع حجّة على المخالف ، فإن لم يوجد في العصر مخالف لم يتحقّق هذا المعنى.

__________________

(١) ذكر هذه الوجوه والأجوبة عنها أيضا الرازي في المحصول : ٢ / ٨٥ ـ ٨٧.

٢٤٤

الرابع : إنكار الصحابة على ابن عباس خلافه للباقين في الصرف ، ولو لم يكن انفراده خطأ لما ساغ الإنكار.

الخامس : اعتمدوا في الإمامة لأبي بكر بإجماع الأكثر مع مخالفة سعد بن عبادة وعلي عليه‌السلام وجماعة كثيرة.

السادس : كثرة العدد مرجّحة في رواية الأخبار ، فكذا في أقوال المجتهدين.

السابع : تطرّق الكذب إلى الواحد والاثنين محتمل دون تطرّقه للجمع العظيم للعادة ، فإذا أخبر الجمع العظيم عن أنفسهم بأنّهم مؤمنون لم يحتمل الكذب ، بخلاف ما لو أخبر الواحد والاثنان عن أنفسهم بإيمانهم ، فيكون ما اتّفق عليه الكلّ إلّا الواحد والاثنين سبيل المؤمنين قطعا ، فيكون حجّة.

الثامن : لو اعتبر خلاف الواحد والاثنين لم ينعقد الإجماع البتة ، لعدم ادّعاء اتّفاق الكلّ بحيث لا يشذ واحد على الحكم.

التاسع : خبر الواحد بأمر لا يفيد العلم وخبر الجماعة إذا بلغ عددهم التواتر أفاده ، فليكن مثله في باب الاجتهاد والإجماع.

والجواب عن الأوّل : أنّ تناول الكلّ للأكثر على سبيل المجاز ، والأصل عدمه.

وعن الثاني : السّواد الأعظم كلّ الأمّة ، لأنّ ما عدا الكلّ فالكل أعظم منه ، ولو لا ما ذكرناه لدخل فيه النصف إذا زاد على النصف الآخر بواحد.

٢٤٥

وفيه نظر ، لأنّ كون الكلّ أعظم من كلّ ما عداه لا يخرج ما عداه عن كونه أعظم بالنسبة إلى ما دونه.

وقوله : «الشيطان مع الواحد» لا يريد مع كلّ واحد لخروج الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمعصومين منه ، ولأنّ المراد به الحثّ على طلب الصاحب في الطريق ، ولهذا قال : «وهو عن الاثنين أبعد والثلاثة ركب».

وعن الثالث : المخالف لا يجب أن يكون في العصر ، بل لو كان بعده كان الإجماع حجّة عليه ، وإلّا لوجب في كلّ إجماع أن يكون فيه مخالف شاذ.

وعن الرابع : انّ إنكارهم على ابن عباس لم يكن لإجماعهم ، بل لمخالفة ما رووه له من الأحاديث كخبر أبي سعيد.

وعن الخامس : انّ الإمامة عند الجمهور لا يشترط فيها الإجماع ، بل البيعة كافية.

وعن السادس : الإجماع ليس كالرواية ، وإلّا لقبل قول الواحد والاثنين كما تقبل روايته.

وعن السابع : ذلك الجمع وإن كانوا مؤمنين لكن ليسوا كلّ المؤمنين ، فلم يجب الحكم بقولهم.

وأيضا فيه نظر ، فإنّ كلّ واحد يخبر عن إيمانه ولا معرفة له بإيمان غيره ، فلا فرق بين العدد الكثير في ذلك والقليل.

٢٤٦

وعن الثامن : أنّا نفرض إجماع الكلّ ويحكم بأنّه حجّة ، فإن حصل فذاك ، وإلّا كان غير المفروض.

وعن التاسع : أنّ خبر العدد الكثير إنّما يفيد العلم لو أخبر عن محسوس لا عن اجتهاد ، إذ لو كان قول كلّ من أفاد خبره العلم إجماعا ، لوجب أن يكون قول أهل كلّ بلد مع مخالفة البلد الآخر لهم إجماعا لإفادته العلم ، وليس كذلك.

تذنيب

إذا لم يحصل في الإجماع قول من هو متمكّن من الاجتهاد وإن لم يكن مشهورا لم يكن حجّة ، لأنّ غيره بعض المؤمنين ، فلا يندرج تحت الأدلّة (١).

__________________

(١) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٨٧ ، المسألة العاشرة.

٢٤٧

الفصل الرابع

في مدرك الإجماع

وفيه مباحث :

الأوّل : في أنّه لا يجوز الإجماع إلّا عن مستند

اتّفق الناس ـ إلّا من شذ ـ على أنّه لا يقع الإجماع إلّا عن مأخذ ومستند يوجب الإجماع.

وقال شاذ : يجوز انعقاده على سبيل التبخيت (١) ويقع عن توفيق لا توقيف بأن يوفقهم الله لاختيار الصواب من غير دليل.

__________________

(١) التبخيت على التفعيل من البخت بمعنى الجد وهو الحظ والإقبال في الدنيا والغناء والعظمة. قال في المغرب : ١ / ٢٧ : البخت : الجد والتبخيت والتبكيت ، وأن تكلّم خصمك حتّى تنقطع حجّته ، وأما قول بعض الشافعية في اشتباه القبلة إذا لم يمكنه الاجتهاد صلى على التبخيت فهو من عبارات المتكلمين ، ويعنون به الاجتهاد [الاعتقاد] الواقع على سبيل الابتداء من غير نظر في شيء. وقال الشيخ الطوسي في اختيار معرفة الرجال : ٢ / ٥٠٦ : ويقال للحاصل لا عن منشأ معلوم وسبب ظاهر : الكائن بالبخت والاتفاق ، والتبخيت أي التبكيت على الخرص والتخمين من غير أصل يقيني وقانون برهاني.

٢٤٨

لنا وجوه :

الأوّل : القول في الدّين بغير دلالة أو أمارة خطأ ، فلو اتّفقوا عليه لكانوا قد أجمعوا على الخطأ ، وهو يقدح فيه. (١)

وفيه نظر ، لأنّ المراد من الخطأ إن كان هو مخالفة ما اتّفقوا عليه بحكمه تعالى فهو ممنوع ، لجواز أن يكون هو الحكم الّذي أوجبه الله تعالى ؛ وإن كان عبارة عن أنّ قولهم عن غير دليل حرام فهو المتنازع ، على أنّا نقول : إنّما يكون حراما لو لم يجمعوا عليه ، أمّا مع الإجماع فلا.

الثاني : مع فقد الدّليل لا يجب الوصول إلى الحقّ.

واعترض بأنّه متى لا يلزم الوصول مع الإجماع أو بدونه؟ الأوّل : ممنوع والثاني : مسلم ، فجاز أن يوفّقهم الله تعالى للصّواب إذا أجمعوا لاستحالة إجماعهم على الخطاء.

وفيه نظر ، فإنّ البخت إذا لم يكن موصلا إلى الحقّ بالنسبة إلى كلّ واحد لم يكن بالنسبة إلى المجموع إذا لم يتجدّد دليل باعتبار الإجماع ، وتجويز أن يوفّقهم الله تعالى للصواب لا يكفي في كونه حجّة ، كما في الواحد فانّه يجوز أن يوفقه الله تعالى للصّواب.

الثالث : ليسوا أكمل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان لا يقول إلّا عن وحي ، فالأمّة أولى أن لا تحكم في دين الله تعالى إلّا بدليل.

__________________

(١) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٨٨.

٢٤٩

اعترض بالفرق ، لأنّ الدليل إذا دلّ على امتناع الخطأ من الرسول فيما يقول فكذا الأمّة ، فلو قال الرسول قولا وحكم من غير دليل لكان حقّا ، لاستحالة الخطأ عليه ، غير أنّه يمتنع منه الحكم والقول من غير دليل ، لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(١).

وأمّا الأمّة فقد دلّ الدليل على استحالة الخطأ عليهم فيما أجمعوا عليه ، ولم يدلّ على أنّهم لا يحكمون إلّا عن دليل ، فافترقا.

وفيه نظر ، لأنّ القول من غير دليل خطأ في نفس الأمر ، فلا يجوز صدوره من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لمّا دلّ الدّليل على عصمته دلّ على أنّ قوله عن دليل.

الرابع : لو جاز أن يحكموا من غير مستند ، لجاز لكلّ واحد ، فإنّهم إنّما يجمعون على الحكم بأن يقول كلّ واحد منهم به ، ولو جاز ذلك لآحادهم لم يكن للجمع مزية في ذلك على الآحاد.

اعترض بالمزية من حيث إنّ إجماعهم يكون حجّة بخلاف قول كلّ واحد.

وبأنّ جواز ذلك للآحاد مشروط بضم قول الباقي إليه ، لا أنّه جائز من غير ضم ، ولا كذلك قول الجميع ، فإنّه جائز على الإطلاق.

وفيه نظر ، لأنّ المستدلّ نفى المزية في هذا الحكم لا في كونه حجّة ، وتجويز ذلك لكلّ واحد بشرط انضمام قول الآخر إليه مستلزم للدور ، لأنّ

__________________

(١) النجم : ٣ ـ ٤.

٢٥٠

ضم قول الآخر إنّما يجوز لو جاز للآخر ذلك القول ، وإنّما يجوز للآخر لو قال هذا ، وإنّما يقول هذا لو جاز له ، وهو مشروط بقول الآخر.

الخامس : المقالة إذا لم تستند إلى دليل لا يعلم انتسابها إلى وضع الشارع ، وما يكون كذلك لا يجوز الأخذ به.

اعترض بأنّه إن أريد بعدم معرفة الانتساب إلى وضع الشرع أنّه لا يعرف ذلك عن دليل شرعي ، فهو مسلّم ، وهو المتنازع ؛ أو أنّه لا يعلم كونها مصيبة لحكم الشرع فهو نفس النزاع.

السادس : لو جاز انعقاد الإجماع من غير دليل لم يكن لاشتراط الاجتهاد في قول المجمعين معنى ، وهو محال للإجماع على اشتراط الاجتهاد.

اعترض بأنّ الاجتهاد شرط لاحالة الإجماع ، أمّا عنده فهو المتنازع.

احتجّ المخالف بوجهين (١) :

الأوّل : لو لم ينعقد الإجماع من غير دليل لكان الدليل هو الحجّة فتنتفي فائدة الإجماع.

الثاني : الإجماع لا عن مستند واقع ، كإجماعهم على بيع المراضاة وأجرة الحمّام.

والجواب عن الأوّل : أنّه يقتضي أن لا يصدر الإجماع عن مستند وأنتم لا تقولون به ، ولأنّ فائدته الكشف عن وجود دليل في المسألة من غير

__________________

(١) ذكرهما أيضا الرازي في «المحصول» : ٢ / ٨٨ ، القسم الرابع.

٢٥١

حاجة إلى معرفته والبحث عن كيفية دلالته على المطلق (١) ، ولأنّ فائدته تحريم المخالفة وتقديمه على غيره من الأدلّة ، ولأنّه ينقض بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه حجّة إجماعا مع أنّه لا يقول إلّا عن دليل وهو ما يوحى إليه.

وعن الثاني : بمنع الإجماع في تلك الصور عن غير دليل فجاز ولم ينقل للاستغناء بالإجماع عنه. (٢)

البحث الثاني : في أنّه لا يقع الإجماع إلّا عن دليل

القائلون باشتراط المستند في الإجماع اختلفوا :

فقالت الإمامية وداود وابن جرير الطبري : إنّه لا يصحّ الإجماع إلّا عن دليل ، ولا يصحّ عن أمارة كقياس واجتهاد.

وجوّزه الأكثر ، لكن اختلفوا في الوقوع نفيا وإثباتا.

والمثبتون اختلفوا فقال بعضهم : إنّه يكون حجّة يحرم مخالفته ، وهم الأكثر منهم.

وقال آخرون : لا تحرم مخالفته.

وقال قوم : الأمارة إن كانت جلية جاز ، وإلّا فلا.

__________________

(١) في «أ» : اللفظ ، وفي المحصول : المدلول.

(٢) ذكر الآمدي هذه المسألة في الإحكام : ١ / ٣٢٢ ـ ٣٢٥ ، المسألة ١٧ ؛ وذكر الوجوه والاعتراضات عليها والأجوبة عنها. كما هو مذكور هنا ، فراجع.

٢٥٢

لنا وجوه :

الأوّل : قول المعصوم شرط في الإجماع ، وهو لا يقول إلّا عن دليل قطعي.

الثاني : يمتنع اتّفاق الخلق على كثرته وتباعد الأمكنة والبقاع في لحظة واحدة على القول بالأمارة مع اختلاف دواعيهم وخفاء الأمارات واختلافهم في الذكاء والبلادة ، كما يمتنع اتّفاقهم في ساعة واحدة على مأكول واحد أو التكلّم بلفظة واحدة ، بخلاف اتّفاقهم على القول بالدّليل والشبهة ، لقوّة الدلالة وجريان الشبهة مجراها عند من صار إليها ، وبخلاف اجتماع الخلق الكثير في الأعياد لتوفّر الدّواعي إليه.

الثالث : لا يخلو زمان من الأزمنة ولا وقت من الأوقات من مجتهدين يمنعون من العمل بالقياس والرأي فلا يوافق في الحكم به فلا ينعقد الإجماع ، فإنّه لا يتصوّر الإجماع عن قياس ، وأصل القياس مختلف فيه.

الرابع : لو جاز ذلك تنافت الأحكام ، لأنّ الحكم الصادر عن الاجتهاد لا يفسق مخالفه ويجوز مخالفته ، والحكم المجمع عليه بالعكس ، فلو صدر الإجماع (١) عن الاجتهاد لاجتمع النقيضان.

الخامس : الإجماع أصل من أصول الأدلّة وهو معصوم عن الخطأ ، والقياس فرع وعرضة للخطإ ، ويمتنع استناد الأصل المعصوم عن الخطأ إلى

__________________

(١) في «أ» : بالإجماع.

٢٥٣

الفرع الجائز عليه الغلط ، وكيف يجوز إجماع الأمّة على ما يجوز فيه الخطأ وهو الاجتهاد؟!

اعترض (١) على الثاني : بالنقض باتّفاق الشافعية على قول الشافعي والحنفية على قول أبي حنيفة.

وليس بجيد ، لأنّهم ليسوا كلّ الأمّة ، فجاز الخطأ عليهم بخلاف الجميع.

وعلى الثالث : بأنّ الخلاف في صحّة القياس حادث ، ولأنّه يجوز أن تشتبه الأمارة بالدلالة فيثبت الحكم بالأمارة على اعتقاد أنّه أثبته بالدلالة ، ولانتقاضه بالعموم وخبر الواحد فإنّه يجوز صدور الإجماع عنهما مع وقوع الخلاف فيهما.

وليس بجيد ، لأنّ إنكار القياس قد وقع من أكابر الصحابة على ما يأتي ، واشتباه المعلوم بالمظنون لا يصدر عن مجتهد ، ومن ينكر العموم وخبر الواحد يمنع الإجماع بهما.

وعلى الرابع : أنّ تلك الأحكام المرتّبة على الاجتهاد مشروطة بأن لا تصير المسألة إجماعية ، فإذا صارت زال الشرط ، فزالت تلك الأحكام.

وليس بجيد ، لأنّ كلّ واحد منهم كما قال بالحكم قال بجواز مخالفته ، فكما صار الحكم مجمعا عليه باعتبار موافقة كلّ واحد منهم له ، كذا صار جواز المخالفة مجمعا عليه.

__________________

(١) المعترض هو الرازي في المحصول : ٢ / ٩٠.

٢٥٤

احتجّ المخالف (١) بالوقوع فإنّ عمر شاور الصحابة في حدّ الشارب :

فقال علي عليه‌السلام : «إنّه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وحدّ المفتري : ثمانون» (٢).

وقال عبد الرحمن بن عوف : هذا حدّ وأقلّ الحدّ ثمانون. (٣)

لا يقال : لعلّهم أجمعوا على أنّ الحدّ ثمانون لنص استغنوا بالإجماع عن نقله.

لأنّا نقول : إنّه جائز لو لم ينصّوا على مصيرهم إلى الاجتهاد ، ولأنّ أبا بكر أثبتوا إمامته بالقياس على تقديمه في الصلاة ثمّ أجمعوا عليها.

والجواب : أنّ عليا عليه‌السلام بيّن علّة الحكم وحكمته المقتضية لثبوته لا أنّه قياس ، كيف وإنكاره للقياس معلوم بالضرورة من مذهبه ومذهب أولاده والقائلين بمقالته؟ وإمامة أبي بكر لو كانت بالقياس لم تتم ، لأنّه أنكر القياس ، ولأنّه يمتنع قياس الأعظم على الأدنى ويمتنع الإجماع عليها.

البحث الثالث : في الإجماع الموافق للخبر

إذا اجتمعت الأمّة على حكم ووجد في الأخبار ما يدلّ عليه قال أبو عبد الله البصري : إنّه يدلّ على أنّ ذلك الإجماع لأجل ذلك الخبر.

__________________

(١) الرازي في المحصول : ٢ / ٨٩ ؛ الآمدي في الإحكام : ١ / ٣٢٦.

(٢) الموطأ : ٢ / ٨٤٢ برقم ٢ ؛ المستدرك : ٤ / ٣٧٥ ؛ السنن الكبرى : ٨ / ٣٢٠.

(٣) المحصول : ٢ / ٨٩.

٢٥٥

وقال أبو الحسين البصري : إن كان الخبر متواترا وكان نصا لا يحتاج إلى بحث وتأمّل فالإجماع مستند إليه ، إذ لا يجوز مع تواتره أن لا يتّفقوا عليه مع طلبهم لما يدلّ على الحكم ، ولا يجوز مع ظهوره أن لا يدعوهم (١) إلى الحكم ، سواء ظهر فيهم خبر قبله أو لا.

وإن احتاج إلى البحث والاستدلال لم يجب استنادهم إليه ، لإمكان استنادهم إلى متواتر هو أجلى ، واكتفي بالإجماع عن نقله ، أو استدلّ به بعضهم واستدلّ الباقي بخبر واحد أو قياس وإن كان آحادا ؛ فإن لم ينقل إلينا ظهوره فيهم جاز استناده إليه وقد كان ظاهرا عندهم ولم ينقل ظهوره وإلى غيره أو بعضهم لأجله وبعضهم لغيره ؛ وإن كان قد ظهر ، فإن روي آحادا جوّزنا صدق الراوي وأن يكون إجماعهم لأجله وجوّزنا كذبه ، فلا يعلم أنّ إجماعهم لأجله لكن صدقه مظنون ، وإن نقل ظهوره بالتواتر جاز أن يجمعوا لأجله ؛ ويقطع على ذلك بأن يقولوا أجمعنا لأجله ، أو كنّا متوقّفين عن الحكم بأجمعهم ، أو كان بعضهم حكم بخلافه فلما سمعوه قالوا به وجاز أن يجمعوا لأجل غيره.

والأصل فيه أنّ اجتماع الدّلائل الكثيرة على مدلول واحد جائز. إذا ثبت هذا فلو أجمعوا على مقتضى خبر الواحد لم يقطع على صدق المخبر ، لجواز أن تكون المصلحة الحكم بما ظن صدقه من الأخبار ، سواء كانت صادقة أو كاذبة ، ولا يلزم من كذب الخبر كذب الحكم.

__________________

(١) في «أ» : يدل.

٢٥٦

الفصل الخامس

في المجمعين

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في أنّه لا يعتبر في الإجماع اتّفاق الأمّة إلى يوم القيامة

اعلم أنّ الخطأ جائز على هذه الأمّة ، إلّا المعصوم ، كغيرها من الأمم. فعند الجمهور (١) : الدلائل السمعية منعت منه في حقّ هذه الأمّة. وعند الإماميّة : أنّه يجب في كلّ زمان وجود معصوم يكون قوله حقّا.

والأدلّة السمعية وردت بلفظين : المؤمنين ، والأمّة.

ولفظ المؤمنين للاستغراق ، لأنّه جمع محلّى باللام الجنسية.

وأمّا الأمّة فإنّه يتناول جميع الأمّة.

فحينئذ يجب عندهم في الإجماع اعتبار قول كلّ المؤمنين وكلّ الأمّة إلّا ما يخرج بالدّليل ، وإن اكتفى بالبعض لم يمكن إثباته بهذه الأدلّة ، بل بأدلّة أخرى ، وهذه الأدلّة كما لا تدلّ عليه كذا لا تمنع منه ، ولا يلزم

__________________

(١) ذكره الرازي في المحصول : ٢ / ٩١.

٢٥٧

من انتفاء دليل معيّن انتفاء المدلول ، وقد سبق أكثر الأدلّة.

واحتجّ آخرون على قبول إجماع العدد الكثير بأنّهم أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف ، والعادة تحيل اجتماع هذا العدد الكثير من العلماء المحقّقين على قطع في شرعي من غير قاطع ، فوجب تقدير نصّ فيه بخلاف اجتماع اليهود والفلاسفة.

لا يقال : إنّه إثبات الإجماع بالإجماع أو إثبات الإجماع بنص يتوقّف عليه.

لأنّا نقول : الّذي يثبت به كون الإجماع مطلقا حجّة إنّما هو ثبوت نص دالّ عليه ، وثبوت ذلك النصّ مستفاد من وجود صورة من صور الإجماع مطلقا وهو الإجماع الثاني ، وإنّما كان هذا الإجماع مقيدا لوجود النص للعادة على ما قلناه ، ووجود تلك الصورة ـ أعني : الإجماع الثاني ـ ودلالتها على ثبوت ذلك النص لا يتوقّفان على كون الإجماع مطلقا حجّة ، فلا دور.

أمّا عدم توقّف وجود تلك الصورة عليه فلأنّ وجدانها مستفاد من التواتر لا من كون الإجماع حجّة.

وأمّا عدم توقّف دلالتها ، فلأنّ دلالتها مستفادة من العادة وهو مبني على اشتراط عدد التواتر ، وسيأتي.

إذا تقرّر هذا فنقول : لا يشترط في الإجماع اتّفاق أمّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة ، لأنّ الدليل على الإجماع دليل على الاستدلال به ، وذلك الاستدلال لا يصحّ بعد يوم القيامة إجماعا لانقطاع التكليف ، ولا قبله لجواز حصول آخرين. (١)

__________________

(١) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٩١ ، القسم الخامس.

٢٥٨

البحث الثاني : في عدم اعتبار قول الكفّار

لا خلاف في أنّه لا اعتبار بموافقة من هو خارج عن الملّة ولا بمخالفته ، لأنّ الأدلّة السّمعية الدالّة على كون الإجماع حجّة وردت بلفظ المؤمنين وبلفظ الأمّة ، وكلاهما لا يندرج الكافر فيهما ، لأنّه ليس من المؤمنين ، والمفهوم من لفظ الأمّة في عرف شرعنا الذين قبلوا دين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأنّ الكافر لا يقبل قوله ، فلا يعتبر في إثبات حجّة شرعية ولا في إبطالها. (١)

إذا عرفت هذا فأسباب الكفر ثلاثة :

أ. اعتقاد ما هو كفر ، كإنكار الصانع وصفاته والنبوة.

ب. اعتقاد ما يمنعه اعتقاده من الاعتراف بالصّانع وصفاته وتصديق رسوله ويلزمه إنكار ذلك من حيث التناقض.

ج. فعل ما ورد التوقيف انّه لا يصدر إلّا من كافر ؛ كعبادة النيران ، والسجود للصنم ، وجحود سورة من القرآن ، وتكذيب بعض الرسل ، وإنكار بعض الملائكة ، واستحلال ما عرف بالتواتر تحريمه ، وهذا البحث ظاهر عند الإمامية ، إذ المعتبر عندهم في الإجماع إنّما هو قول المعصوم.

__________________

(١) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٩٢ ، المسألة الثانية ؛ والآمدي في الإحكام : ١ / ٢٨٤ ، المسألة الرابعة.

٢٥٩

البحث الثالث : في قول العامي

ذهب الأكثر إلى أنّه لا اعتبار بقول العامّي في الإجماع ، وقال القاضي أبو بكر : لا ينعقد الإجماع مع خلافه.

لنا وجوه :

الأوّل : قول العامّي : لا عن دليل ولا أمارة قول في الدين ، فيكون خطأ ، فلو كان قول العالم المخالف له خطأ لزم اجتماع الكلّ على الخطأ وإن تعدّدت الجهة.

الثاني : العصمة من الخطأ لا تتصور إلّا في حقّ من يتصور في حقّه الإصابة ، والعامّي لا يتصوّر في حقّه ذلك ، لأنّ القول في الدين بغير دليل غير صواب قطعا.

الثالث : أجمع الصحابة الخاصّة والعامّة على أنّه لا عبرة بقول العوام.

الرابع : العامي ليس من أهل الاجتهاد فلا عبرة بقوله ، كالصبي والمجنون ، لأنّ الأمّة إنّما كان قولها حجّة إذا استند إلى استدلال. (١)

الخامس : العامّي يلزمه تقليد العلماء بالإجماع ، فلا تكون مخالفته معتبرة فيما يجب عليه التقليد فيه.

السادس : قول العامّي في الدين من غير دليل خطأ مقطوع به ، والمقطوع بخطائه لا تأثير لموافقته ولا لمخالفته.

__________________

(١) وهي الوجوه الّتي ذكرها الرازي في محصوله : ٢ / ٩٢.

٢٦٠