نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

المسألة الخامسة

إذا قال الصحابي من السنّة كذا ، ذهب الأكثر (١) إلى أنّه محمول على سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خلافا للكرخي للوجهين السابقين في المسألة الرابعة.

احتجّ الكرخي بوجهين : (٢)

أ. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» (٣) ، وأراد سنّة غيره.

ب. السنّة مأخوذة من الاستنان ، وهو غير مختصّ بشخص دون آخر.

والجواب : لا نمنع ذلك بحسب الوضع اللغوي ، لكن نحن نقول : إنّه بحسب عرف الشرع يفيد ما قلناه ، ولو قال الصحابي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمل على أنّه سمعه ظاهرا. وقيل : يحتمل أنّه أخبره آخر عن الرسول وهو لم يسمعه منه ، ولا ريب في تطرّق الاحتمال ، لكن الأوّل أظهر.

ولو قال الصحابي : كنّا نفعل كذا أو كانوا يفعلون كذا ، كقول عائشة : كانوا لا يقطعون في الشيء النادر.

وكقول إبراهيم النخعي : كانوا يحذفون التكبير حذفا ، حمل عند الأكثر

__________________

(١) وهو مذهب الآمدي في الإحكام : ٢ / ١١٠.

(٢) ذكرهما الرازي في المحصول : ٢ / ٢٢٠.

(٣) مسند أحمد : ٤ / ٣٦١ و ٣٦٢ ؛ سنن الدارمي : ١ / ١٣٠ و ١٣١ ؛ بحار الأنوار : ٧١ / ٢٠٤ وج ٧٤ / ١٦٤.

٤٨١

على فعل الجماعة دون بعضهم ، خلافا لبعض الأصوليّين ؛ (١) لأنّ الظاهر من حال الصحابي أنّه إنّما أورد ذلك فى معرض الاحتجاج ، وإنّما يكون حجّة لو كان ما نقله مستندا إلى فعل الجميع ، فإنّ فعل البعض ليس حجّة على البعض الآخر.

لا يقال : لو كان ذلك مستندا إلى فعل الجميع لكان إجماعا ، ولما ساغ مخالفته بطريق الاجتهاد.

لأنّا نقول : تسويغ الاجتهاد فيه ، لأنّ إضافة ذلك إلى الجميع أمر ظنّي لا قطعي ، كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كان الطريق مظنونا ، ولو كان معلوما بالتواتر لم يسغ فيه الاجتهاد.

والأولى التفصيل وهو أنّه إن قصد بهذا الكلام : أن يعرّفنا شرعا ، ولا يكون كذلك ، إلّا وقد كانوا يفعلونه في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع علمه بذلك ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينكره عليهم ، اقتضى كونه شرعا.

وإن لم يعرف ذلك لكنّه قال قولا كان للاجتهاد فيه مجال ، فإن كان عدلا ثقة اقتضى حسن الظنّ به أن يكون قاله عن طريق ، لكن الوجه أنّه لا يكون حجّة ؛ وإن لم يكن للاجتهاد فيه مجال فليس إلّا لسماعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) نقله عنهما الآمدي في الإحكام : ٢ / ١١١.

٤٨٢

المطلب الثاني : في كيفية رواية غير الصحابي

ومراتبه سبع (١) :

الأولى : أن يقول الراوي : حدّثني فلان ، أو أخبرني ، أو سمعت فلانا ، فالسامع يجب عليه العمل بهذا الخبر. ثمّ الشيخ إن قصد إسماعه خاصة ، أو كان في جمع قصد الراوي إسماعهم ، جاز له أن يقول : حدّثني وأخبرني ، وسمعته يحدّث عن فلان. ولو لم يقصد إسماعه تفصيلا ، ولا جملة كان له أن يقول : سمعته يحدّث عن فلان ، وليس له أن يقول : أخبرني ولا حدّثني ، لأنّه لم يحدّثه ولا أخبره. هذا إذا قرأه الشيخ عليه ، وهو أعلى المراتب.

الثانية : أن يقرأه الراوي على الشيخ ويقول بعد الفراغ من القراءة عليه : الأمر كما قرئ عليّ ، أو يقال للراوي : هل سمعت هذا الحديث عن فلان؟ فيقول : نعم ، فهاهنا يجب العمل بالخبر على السامع.

وله أن يقول : حدّثني ، أو أخبرني ، أو سمعت فلانا ، إذ لا فرق في الشهادة على البيع بين أن يقول البائع : بعت ، وبين أن يقرأ عليه كتاب البيع فيقول : الأمر كما قرئ عليّ.

الثالثة : أن يكتب إلى غيره : بأنّي سمعت كذا من فلان ، فللمكتوب إليه

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٢٢١.

٤٨٣

أن يعمل بكتابه إذا علم أنّه كتابه ، وكذا إن ظنّ أنّه خطّه ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأمر بالكتابة وإنفاذ الكتب وكذا الأئمّة عليهم‌السلام ، لكن ليس له أن يقول : سمعته أو حدّثني ، لأنّه ما سمع ولا حدّث. نعم يجوز أن يقول : أخبرني ، لأنّ من كتب إلى غيره كتابا يعرّفه فيه واقعة جاز أن يقول : أخبرني.

وقال آخرون : لا يجوز له أن يروي عنه ، إذ ليس في الكتابة ما يدلّ على تسويغ الرواية عنه ولا على صحّة الحديث في نفسه ، وسواء قال : هذا خطي أو لم يقل ، لأنّه قد يكتب ما سمعه ثمّ يشكّك فيه ، فلا بدّ من التسليط من قبل الشيخ على الرواية عنه بطريقه ، إذ ليس لأحد رواية ما شك في روايته إجماعا ، ولهذا لو روى كتابا عن بعض المحدّثين وشكّ في حديث واحد منه غير معيّن ، لم يجز له رواية شيء منه ، لأنّه ما من واحد من تلك الأحاديث إلّا ويجوز أن يكون هو المشكوك فيه.

وكذا لو روى عن جماعة حديثا وشكّ في روايته عن بعضهم من غير تعيين ، فليس له الرواية عن واحد منهم ، لأنّه ما من واحد إلّا ويجوز أن يكون هو المشكوك.

نعم لو غلب على ظنّه رواية الحديث عن بعض المشايخ وسماعه منه فقد اختلف فيه.

فقال أبو حنيفة : لا يجوز روايته ولا العمل به ، لأنّه حكم على المروي عنه بأنّه حدّثه ، فلا يجوز مع عدم العلم كما في الشهادة.

وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمّد : يجوز له الرواية والعمل به ، لغلبة

٤٨٤

الظن بصحّته ، ولهذا فإنّ آحاد أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يحملون كتب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أطراف البلاد في أمور الصدقات وغيرها ، وكان يجب على كلّ أحد الأخذ بها بإخبار حاملها أنّها من أخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يكن فيها ما سمعه الحامل ولا المحمول إليه ، لكونها مغلبة على الظن ، ولا كذلك في الشهادة ، لأنّه قد اعتبر فيها من الاحتياط ما لم يعتبر مثله في الرواية (١).

وفيه نظر ، لأنّا نمنع العمل بمجرّد الكتب المنفذة ، بل باعتبار إبلاغ الرسل الّتي نفذت الكتب معهم. وعلى هذا لو قال عدل من عدول المحدّثين عن كتاب من كتب الحديث أنّه صحيح ، فالحكم (٢) في جواز الأخذ به والخلاف فيه كما لو ظن أنّه يروي مع الاتّفاق هنا على أنّه لا يجوز روايته عنه ، بخلاف ما إذا ظن الرواية عنه.

الرابعة : أن يقال له : هل سمعت هذا الخبر؟ فيشير برأسه ، أو بإصبعه ، فالإشارة هنا إن عرف منها الحكم بالثبوت كانت كالعبارة في وجوب العمل ، لكن لا يجوز أن يقول : حدّثني أو أخبرني أو سمعته ، لأنّه ما سمع شيئا.

الخامسة : أن يقرأ عليه : حدّثك فلان فلا ينكر ، ولا يقرّ بعبارة ، ولا إشارة بل يسكت ، فإن لم يغلب على الظن إسناد السكوت إلى الرضا

__________________

(١) نقل الآمدي أقوالهم في الإحكام : ٢ / ١١٣ ـ ١١٤.

(٢) في «ب» و «ج» : والحكم.

٤٨٥

والتصديق بأنّ الأمر كما قرئ عليه ، لم يعمل به إجماعا.

وإن غلب على الظن أنّه ما سكت إلّا لأنّ الأمر كما قرئ عليه ، وإلّا كان ينكره ، لزم السامع العمل به عند الأكثر ، خلافا لبعض الظاهرية ، لأنّه حصل ظنّ أنّه قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه لو لم يكن صحيحا لكان سكوته عن الإنكار فسقا لما فيه من إيهام صحّة ما ليس بصحيح ، والعمل بالظنّ واجب.

واختلفوا فى جواز الرواية ، فعامّة الفقهاء والمحدّثين جوّزوه ، والمتكلّمون أنكروه ، وقال بعض أصحاب الحديث : ليس له أن يقول : أخبرني مطلقا ، بل يقول : أخبرني قراءة عليه ، لأنّ الإطلاق بالإخبار يشعر بنطق الشيخ ، وذلك من غير نطق كذب. (١)

وكذا الخلاف فيما لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث عليه : أرويه عنك؟ فيقول : نعم ، فالمتكلّمون منعوا من الرواية هنا أيضا خلافا للفقهاء.

احتجّ الفقهاء بأنّ الإخبار في أصل اللغة الخبر والعلم ، والسكوت لا لعارض يوجبه من غفلة وشبهها يفيد العلم بأنّ المسموع كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيكون إخبارا ، ولأنّ كلّ قوم لهم اصطلاحات مخصوصة يستعملونها في معان مخصوصة إمّا على سبيل التجوّز ثم غلب المجاز وصارت الحقيقة مغلوبة ، أو النقل إلى تلك المعاني بحسب عرفهم ؛ ولفظ أخبرني وحدّثني

__________________

(١) راجع المحصول : ٢ / ٢٢٢.

٤٨٦

هنا كذلك ، لمشابهة السكوت الإخبار في إفادة الظنّ والمشابهة إحدى أسباب المجاز.

وإذا جاز هذا الاستعمال مجازا ، واستقرّ عرف الأخباريّين عليه صار كالمنقول بعرفهم ، أو المجاز الغالب ، وإذا ثبت ذلك وجب جواز استعماله قياسا على سائر الاصطلاحات.

وفيه نظر ، فإنّا نمنع اصطلاحهم على إطلاق اسم الإخبار على السكوت ، فإنّه المتنازع ، فلو أخذ مقدّمة في الدليل دار.

احتجّ المتكلّمون بأنّه لم يسمع من الراوي شيئا ، فقوله : حدّثني وأخبرني وسمعته كذب.

وأجيب بأنّ الكذب منتف بطريان العرف على إطلاقه على السكوت.

السادسة : المناولة ، وذلك بأن يشير الشيخ إلى كتاب يعرف ما فيه فيقول : قد سمعت ما في هذا الكتاب ، فإنّه يكون بذلك محدّثا ، ويكون لغيره أن يروي عنه ، سواء قال له : اروه عني ، أو لم يقل ، ولو قال : حدّث عنّي ما في هذا الكتاب ولم يقل له : إنّني قد سمعته ، فإنّه لا يكون بذلك محدّثا له ، وإنّما أجاز التحدّث له ، وليس له أن يحدّث به عنه ، لأنّه يكون كاذبا.

ولو سمع الشيخ نسخة من كتاب مشهور فليس له أن يشير إلى نسخة أخرى من ذلك الكتاب ويقول : سمعت هذا لاختلاف النسخ ، إلّا مع العلم بالاتّفاق.

السابعة : الإجازة ، وهي أن يقول الشيخ لغيره : قد أجزت لك أن تروي

٤٨٧

ما صحّ عنّي من أحاديثي ، أو : قد أجزت لك أن تروي عنّي الكتاب الفلاني.

واعلم أنّ ظاهر الإجازة يقتضي أنّ الشيخ أباح له أن يحدّث عنه بما لم يحدّثه به ، وذلك إباحة الكذب لكن في العرف يجري مجرى أن يقول : ما صحّ عندك أنّي سمعته فاروه عني.

وقد اختلفوا (١) في جواز الرواية بالإجازة ، فجوّزه أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر المحدّثين ، واتّفقوا على تسليط الراوي على قوله : أجاز لي فلان كذا ، وحدّثني إجازة ، وأخبرني إجازة.

وهل له أن يقول : حدّثني وأخبرني مطلقا؟ فالّذي عليه الأكثر عدم الجواز ، لأنّ ذلك مشعر بنطق الشيخ بذلك ، وهو كذب.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : لا تجوز الرواية بالإجازة مطلقا.

وقال أبو بكر الرازي من الحنفية : إن كان المجيز والمجاز له قد علما ما في الكتاب الّذي أجاز له روايته ، جازت روايته بقوله : أخبرني وحدّثني. وكذا لو كتب إنسان صكّا والشهود يشاهدونه وقال : اشهدوا علي بجميع ما في هذا الصك ، جاز لهم إقامة الشهادة عليه بما في ذلك الكتاب ، وإلّا فلا.

احتجّ الأوّلون (٢) بأنّ المجيز عدل ثقة ، والظاهر أنّه لم يجز إلّا ما علم أنّه يرويه ، وإلّا كان بإجازته رواية ما لم يروه فاسقا ، وهو بعيد عن العدل. وإذا علمت الرواية أو ظنت جازت الرواية عنه ، كما لو كان هو القارئ.

__________________

(١) للاطّلاع على الأقوال راجع الإحكام : ٢ / ١١٢ ـ ١١٣.

(٢) وهو مختار الآمدي في الإحكام : ٢ / ١١٣.

٤٨٨

اعترض (١) بأنّ المحدث لم يوجد منه فعل الحديث ولا ما يجري مجرى فعله ، فلم يجز أن يقول الراوي عنه : أخبرني ، ولا حدّثني ؛ لأنّه يكون كذبا ، ولأنّه قادر على أن يحدّث به ، فحيث ما حدث به دلّ على أنّه غير صحيح عنده.

وأجيب بانتقاض ذلك بما إذا كان الراوي عن الشيخ هو القارئ ، فإنّه لم يوجد من الشيخ فعل الحديث ، ولا ما يجري مجراه وهو قادر على القراءة بنفسه ، ومع ذلك فإنّه يجوز للراوي أن يقول : أخبرني وحدّثني حيث كانت قراءته عليه مع السكوت دليل صحّة الحديث.

وكذا الخلاف في ما إذا ناوله كتابا فيه حديث هو سماعه وقال : قد أجزت لك أن تروي عني ما فيه ، وله أن يقول : ناولني فلان كذا ، وأخبرني ، أو حدّثني مناولة.

وكذا الحكم لو كتب إليه الحديث وقال : قد أجزت لك روايته عنّي ، فإنّه يدلّ على صحّته ، وتسليط الراوي على أن يقول : كاتبني بكذا ، وحدّثني أو أخبرني بكذا مكاتبة.

ولو اقتصر على المناولة أو الكتابة دون لفظ الإجازة لم يجز له الرواية ، إذ ليس في الكتابة والمناولة ما يدلّ على تسويغ الرواية عنه ولا على صحّة الحديث في نفسه.

__________________

(١) ذكر الاعتراض والجواب عنه الآمدي في الإحكام : ٢ / ١١٣.

٤٨٩

تذنيبات :

الأوّل : نقل السيد المرتضى عن بعض الناس أنّه منع الراوي من لفظ الجمع إذا كان قاطعا على أنّه ما حدّث غيره ، فلا يقول : حدّثنا وأخبرنا. وضعّفه السيد ، لجواز أن يأتي بلفظ الجمع على سبيل التعظيم ، كما يقول الملك : فعلنا وصنعنا. (١)

الثاني : لو قرأ الحديث على الشيخ فقرّره عليه فأقرّ به على ما قرأه عليه جوّز المرتضى (٢) العمل به تفريعا على العمل بخبر الواحد ، ويعلم أنّه حدّثه وأنّه سمعه لإقراره له بذلك ، ولا يجوز أن يقول : حدّثني ولا أخبرني ، كما لا يجوز [أن يقول :] سمعت ، لأنّ معنى حدّثني وأخبرني أنّه نقل حديثا وخبرا عن ذلك ، وهذا كذب محض. قال : وكيف يمتنع سمعت دون حدّثني وأخبرني ، ومن خبّر وحدّث لا بدّ أن يكون سامعا. (٣)

وأجاب عن جواز الشهادة بالإقرار بالبيع إذا أقرّا عليه وأشهد على نفسه بما فيه بعد تسليمه بأنّ إقراره به وقراءته عليه لا يقتضيان أن يكذب ، فيقول : حدّثني ولم يحدّثه ، أو أخبرني ولم يخبره ، كما لا يقتضيان أن يقول : سمعت ، وإنّما يقتضي ذلك الثقة بأنّه حديثه وسماعه وروايته.

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٥٦.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٥٧.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٥٧.

٤٩٠

والشاهد لا يحسن منه أن يقول : حدّثني ، أو سمعت لفظه ، بل يشهد على إقراره واعترافه.

وللراوي أن يقول كالشاهد : اعترف لي أنّه سمعه ورواه على ما قرأته عليه ، وليس له أن يقول : حدّثني وأخبرني. (١)

قال : وقول بعضهم يجب أن يقول : «حدّثني قراءة عليه» حتى يزول الإبهام ، ويعلم أنّ لفظة : حدّثني ليست على ظاهرها ، فمناقضة ، لأنّ قوله : حدّثني يقتضي أنّه سمعه من لفظه ، وأدرك نطقه به ، وقوله : قراءة عليه يقتضي نقض ذلك ، فكأنّه نفى ما أثبت. (٢)

وفيه نظر ، لأنّا نمنع اقتضاء حدّثني حال انضمامها إلى لفظة قراءة أنّه سمعه من لفظه وأدرك نطقه به.

الثالث : قال السيد : الإجازة لا حكم لها ، لأنّ ما للمتحمّل أن يرويه ، له ذلك أجازه أو لم يجزه ، وما ليس له أن يرويه محرّم عليه مع الإجازة وفقدها ، وليس لأحد أن يجري الإجازة مجرى الشهادة على الشهادة في أنّها تفتقر إلى أن يحملها شاهد الأصل لشاهد الفرع ، لأنّ الرواية بالإجماع لا يحتاج فيها إلى ذلك ، وأنّ الراوي يروي ممّا سمعه وإن لم يحمله ، والرواية تجري مجرى شهود الأصل في أنّهم يشهدون وإن لم يحملوا. (٣)

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٥٨ ـ ٥٥٩.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٦٠.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٦١.

٤٩١

قال : و [أمّا] من يفصل في الإجازة بين حدّثني وأخبرني ، فغير مصيب ، لأنّ كلّ لفظ من ذلك كذب ، لأنّ المخبر ما خبّر كما أنّه ما حدّث. (١)

البحث الثالث عشر : في انفراد الراوي بالزيادة

إذا روى اثنان أو جماعة خبرا وانفرد أحدهم بزيادة لم يروها الآخر ولا تخالف الزيادة المزيد عليه ؛ كما لو روى جماعة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل البيت ، وزاد بعضهم وصلّى ، وهما ممّن يقبل روايتهما ، فإن تغاير المجلس قبلت الزيادة ؛ فإنّه لا يمتنع أن يكون الرسول في وقت دخل ولم يصل ودخل في وقت آخر وصلّى ، أو أنّه دخل وصلّى لكن البعض أهمل نقل الصلاة ونقلها الآخر.

وكذا لا يمتنع أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في مجلس سئل فيه عن ماء البحر : هو الطهور ماؤه ، ثم قال في مجلس آخر سئل فيه عن ذلك بعينه ثم زاد الحل ميته ؛ وإذا كان كذلك فعدالة الراوي تقتضي قبول قوله ، ولم يوجد ما يقدح فيه ، فوجب قبوله.

وإن اتّحد المجلس فالذين لم يرووا الزيادة إن كانوا عددا لا يجوز أن يذهلوا عمّا يضبطه الواحد ، لم تقبل الزيادة ، وحملت رواية راويها على سهوه وأنّه قد سمعها من غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظن أنّه سمعها منه. هذا إن نفوا

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٦١ ـ ٥٦٢.

٤٩٢

الزيادة ، وإلّا فالوجه القبول لوجود المقتضي للقبول ، وهو رواية العدل السالم عن معارضة التكذيب.

وإن كانوا عددا يجوز أن يذهلوا عن ضبط ما رواه الواحد ، فإن لم تكن الزيادة مغيّرة لإعراب الباقي قبلت ، إلّا أن يكون الممسك عنها أضبط من الراوي لها. وبه قال جماعة الفقهاء والمتكلّمين ، وقال بعض المحدثين وأحمد في رواية : لا تقبل. (١)

لنا (٢) : إنّ عدالة الراوي لها يقتضي قبول خبره ، وإمساك الراوي الثاني عن روايتها لا يقدح فيه ، لاحتمال عروض سهو له حال ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الزيادة ، أو عروض شغل قلب بفكر وغيره أو عطاس أو دخول إنسان أو الالتفات إلى محدث له إلى غير ذلك من الشواغل. وإذا وجد المقتضي السالم عن المعارض وجب القبول.

لا يقال : كما يجوز السهو على الممسك يجوز على الراوي.

لأنّا نقول : لا نزاع في الجواز لكن راوي الزيادة أبعد عن السهو ، فإنّ ذهول الإنسان عمّا سمعه أكثر من توهّمه في ما سمع أنّه سمعه. نعم لو صرّح الممسك بنفي الزيادة ، وقال : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف على قوله : «هو الطهور ماؤه» وانتظرته (٣) فلم يأت بعده بكلام حصل التعارض ورجع إلى الترجيح.

__________________

(١) راجع الإحكام : ٢ / ١٢٠ ـ ١٢١.

(٢) وهو قول الرازي في المحصول : ٢ / ٢٣٤.

(٣) في «أ» و «ج» : انتظر به.

٤٩٣

لا يقال : لعلّ راوي الزيادة سمعها من غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتوهّمها منه ، وليس حمل إهمال الممسك على السهو أولى من هذا السهو ، أو لعلّ راوي الزيادة ذكرها على سبيل التأويل والتفسير فظنّ السامع أنّها زيادة في الحديث المروي ، كما روى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفي (١) ، قال ابن عباس : ولا أحسب غير الطعام إلّا كالطعام ، فأدرجه بعض الرواة في الحديث. (٢)

وكذلك ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة» (٣) ، فظنّ الراوي أنّ الاستئناف إعادة الفرض في المائة الأولى ، فقال : في كلّ خمس شاة ، فأدرج ذلك في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٤) ومع تعارض الاحتمالات فليس العمل بالزيادة أولى من تركها ، بل الترجيح للترك بوجهين :

الأوّل : احتمال تطرق السهو والغلط على الواحد أكثر من احتمال تطرّقه إلى الجماعة.

الثاني : الترك على وفق النفي الأصلي والإثبات على خلافه ، فكان أولى.

__________________

(١) راجع سنن أبي داود : ٢ / ١٤٢ ؛ الباب ٣١ ؛ سنن النسائي : ٧ / ٢٨٤ ، باب بيع الطعام قبل أن يستوفي.

(٢) الإحكام : ٢ / ١٢١.

(٣) بداية المجتهد : ٢٠٨ ، رواه عن طريق أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) الإحكام : ٢ / ١٢٢.

٤٩٤

والجواب : بعيد حمل الرواية على التأويل (١) ، فإنّ الظاهر من حال العدل أنّه لا يدرج في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ليس منه ، لأنّه تدليس ، ولو جوّز ذلك لجاز في كلّ حديث.

والترجيح الأوّل للترك لا يطّرد على تقدير تساويهما ، والثاني ينتقض بما لو كانت الزيادة مقتضية لنفي حكم لولاه لثبت.

وإن كانت الزيادة مغيّرة لإعراب الباقي كما لو روى أحدهما : أدّوا عن كلّ نسمة صاعا من بر» وروى الآخر : «نصف صاع من بر» لم تقبل ، خلافا لأبي عبد الله البصري ، (٢) لحصول التعارض ، إذ الصاع معربا بالنصب غير الصاع معربا بالجر ومعارض له وضده ، فيرجع إلى الترجيح.

تذنيب

لو اتّحد راوي الزيادة ومسقطها فروى الحديث مرة مع الزيادة وأخرى بدونها ، فإن أسندهما إلى مجلسين قبلت ، سواء تضاد الإعراب أو لا.

وإن اتّحد المجلس فإن غيّرت الإعراب تعارضت روايتاه كما تتعارض روايتا الراويين ؛ وإن لم تغيّره ، فإن كان عدد روايته للزيادة أقل من عدد إمساكه لم تقبل ، لأنّ حمل الأقلّ على السهو أولى من حمل الأكثر عليه ،

__________________

(١) العبارة في الإحكام : ٢ / ١٢٢ كما يلي : وما ذكروه من الزيادة بناء على احتمال التفسير والتأويل وإن كان قائما ، غير أنّه في غاية البعد.

(٢) نقله عنه الرازي في المحصول : ٢ / ٢٣٤.

٤٩٥

إلّا أن يقول سهوت في تلك المرات وتذكّرت هذه المرة ، فهنا يرجّح الأقل على الأكثر لأجل التصريح. (١)

وفيه نظر ، لأنّ السهو عمّا سمع أقرب من السهو في ما لم يسمعه أنّه قد سمعه ، فيتعارض الترجيحان من الطرفين ويرجع إلى غيرهما.

وإن كان عدد الزيادة أكثر قبل ، لأنّ حمل الأقل على السهو أولى ، ولأنّ حمل السهو على نسيان ما سمعه أولى من حمل السهو على توهم أنّه سمع ما لم يسمع.

وإن تساويا قبلت الزيادة ، لأنّ هذا السهو أولى من ذلك.

تنبيه

إذ سمع الراوي حديثا وأراد نقل بعضه وحذف البعض ، فإن كان المحذوف لا يتعلّق به شيء من الباقي جاز ذلك إجماعا ، لأنّه بمنزلة أخبار متعدّدة ، ومن سمع أخبارا متعدّدة فله رواية البعض ، وإن كان الأولى نقل الخبر بتمامه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نضّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها». (٢)

وإن كان للباقي به تعلّق كأن يشتمل على ذكر غاية ، مثل نهيه عن بيع

__________________

(١) وهو مذهب الرازي في المحصول : ٢ / ٢٣٥.

(٢) مر مصدره ث ٤٧٣.

٤٩٦

الثمار حتى تزهى ؛ أو على شرط ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من بدّل دينه فاقتلوه» ، (١) أو استثناء كقوله : «لا تبيعوا البر بالبر إلّا سواء بسواء» (٢) لم يجز حذف البعض الّذي هو الشرط والغاية والاستثناء ، لتغيّر الحكم حينئذ ويلزم منه تبديل الشرع. (٣)

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٢١ ، باب دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وج ٨ / ٥٠ ، كتاب استتابة المرتدين.

(٢) راجع الإحكام : ٢ / ١٢٤.

(٣) راجع الإحكام : ٢ / ١٢٤.

٤٩٧
٤٩٨

المقصد الحادي عشر

في القياس

وفيه فصول :

٤٩٩
٥٠٠