نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

تذنيب :

يشترط أن يكون المستمع متأهلا لقبول العلم بما أخبر به ، وإن جعلنا العلم الحاصل عن التواتر ضروريا أمكن كون السّامع عالما بالاكتساب.

المطلب الثاني : في أمور ظنّ أنّها شروط

الأوّل : العدد

ظن قوم أنّ لحصول العلم عقيب خبر التواتر يشترط عدد معيّن. وليس بحق ، فإنّ العلم هو القاضي بعدد الشهادات دون العكس ، فربّ عدد أفاد العلم في قضية أو لشخص ولا يحصل مع مثله في تلك القضية لغير ذلك الشخص ، أو في غيرها له.

واختلف هؤلاء فقال بعضهم أقل العدد خمسة.

وجزم القاضي أبو بكر بأنّ قول الأربعة لا يفيد العلم ، قال : وأتوقّف في الخمسة. (١) لأنّ ما دونها وهو الأربعة بيّنة شرعية يجوز للقاضي عرضها على المزكّين بالإجماع ليحصل عليه الظنّ ، ولو كان العلم حاصلا بقول الأربعة لما كان كذلك ، ولأنّه لو حصل العلم بقول أربعة صادقين لوقع بخبر كلّ أربعة صادقين ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

__________________

(١) نقلها عنه الرازي في المحصول : ٢ / ١٢٩ ، والآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٨.

٣٢١

بيان الشرطية : أنّه لو وقع بقول أربعة ، ولا يقع بقول مثلهم مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط ، لم يمتنع أن تخبرنا قافلة الحاج بوجود مكة فنعرفها ، ثمّ يخبروننا بأعيانهم بوجود المدينة ولا نعرفها ، ولمّا بطل ذلك ، صحّ قولنا.

وأمّا بطلان التالي ، فلأنّه لو وقع العلم بخبر كل أربعة إذا كانوا صادقين لكان إذا شهد عند الحاكم أربعة بالزنا ، فإن حصل العلم بخبرهم كانوا صادقين واستغنى القاضي عن الاستزكاء ، وإن لم يحصل قطع بكذبهم فاستغنى عن الاستزكاء أيضا ، ولمّا لم يكن كذلك ، بل أجمعوا على إقامة الحدّ وإن لم يعلم القاضي صدقهم ، علمنا أنّ العلم لا يحصل بخبر الأربعة.

اعترض (١) بمنع الملازمة ، ولا يلزم من حصول العلم بقول أربعة حصوله بقول كلّ أربعة.

لأنّ العلم عقيب الإخبار من قبله تعالى فجاز أن لا يخلق العلم عند أربعة ويخلقه عند أربعة أخرى غيرها ، ولا يستمر العادة في ذلك على قانون واحد ، وإن استمرت في إخبارات الجماعات الكثيرة ، كما أنّ التكرار على البيت الواحد ألف مرة سبب الحفظ مطردا ، وتكراره مرتين أو ثلاثا قد يكون سبب لحفظه وقد لا يكون.

سلّمنا انّ اطّراد العادة في شيء يقتضي اطّرادها في مثله ، لكن لا يلزم من حصول العلم عقيب رواية أربعة حصوله عقيب شهادتهم ؛ فإنّ الشهادة

__________________

(١) ذكر الاعتراض والجواب عنه الرازي في المحصول : ٢ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

٣٢٢

وإن كانت خبرا في المعنى لكن لفظها يخالف لفظ الخبر الّذي ليس بشهادة ، فجاز أن يجري الله تعالى العادة بخلق العلم عقيب الخبر دون عقيب الشهادة.

سلّمنا : عدم تأثير الفرق بين لفظ الشهادة ولفظ الخبر الذي ليس بشهادة ، لكن جاز أن يقال : لمّا كان من شرط الشهادة اجتماع المخبرين عند الشهادة والاجتماع يوهم الاتّفاق على الكذب ، فلم يفد العلم بخلاف الرواية.

سلّمنا : انّ ما ذكرتم يقتضي الجزم بأنّ الأربعة لا يفيد قولهم العلم ، لكنّه يقتضي أنّ قول الخمسة كذلك ، لأنّه لو أمكن أن يفيد فإذا شهدوا عند الحاكم فإن كانوا صادقين أفاد قولهم العلم الضروري ، وإن لم يحصل وجب القطع بكذبهم.

سلّمنا : لكن يلزم أن يقطعوا بأنّ عدد القسامة يفيد العلم كما تقدّم في الخمسة.

وأجيب بورود الثلاثة الأول. وعن المعارضة بالخمسة بجواز وقوع العلم بخبر خمسة ، والحاكم لم يعلم صدقهم ، وإن وجب عليه إقامة الحد ، لجواز أن يشاهد أربعة منهم والخامس لم يشاهده ، فلزمه إقامة الحد بقول أربعة منهم وإن لم يعرفهم بأعيانهم وكان الخامس كاذبا فوجب عليه البحث عن التزكية ، بخلاف الأربعة فإنّه إذا لم يحصل العلم بقولهم : وجب أن يكون فيهم واحد كاذبا.

٣٢٣

وبهذا التقدير تسقط الحجّة بقولهم ، ولزم الحاكم ردّ قولهم ، وإقامة الحد عليهم.

وهذا الجواب يقتضي القطع بكذب واحد ، والقطع بأنّ قول الخمسة لا يفيد العلم أصلا ، أو القول بأنّه لا يلزم من كون قول خمسة مفيدا للعلم أن يكون قول كلّ خمسة كذلك.

وقال أهل العراق عن القسامة : إنّه يحلف خمسون من المدّعى عليهم أنّ كلّ واحد منهم ما قتل ، ولا عرف قاتلا ، فكلّ واحد يخبر عن غير ما يخبر عنه الآخر.

وعند الإمامية والشافعية يحلف خمسون من المدّعين كلّ واحد منهم بحسب اعتقاده ، فخبر كلّ واحد غير خبر الآخر.

وقال آخرون : إنّ أقلّ عدد يحصل التواتر معه اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل ؛ قال تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً)(١) خصّهم بذلك العدد بحصول العلم بخبرهم.

وقال أبو الهذيل : أقلّه عشرون ، لقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)(٢) أوجب الجهاد على العشرين ، وإنّما خصّهم بالجهاد لأنّهم إذا أخبروا حصل العلم بصدقهم.

وقال قوم : أقلّه أربعون ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ

__________________

(١) المائدة : ١٢.

(٢) الأنفال : ٦٥.

٣٢٤

اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١) نزلت في الأربعين ، ولأنّه عدد أقلّ (٢) الجمعة.

وقال قوم سبعون ؛ لقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)(٣) خصّهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون.

وقال آخرون : ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أهل بدر ، خصّوا بذلك ليعلم ما يخبرون به المشركين.

وقيل : عدد بيعة الرضوان.

والحقّ خلاف ذلك كلّه ، وأنّه لا ضابط في ذلك ولا عدد معلوم فيه ، فإنّه لا عدد يفرض إلّا ويمكن عقلا صدور الكذب فيه ، وأنّ الناقص عنه بواحد أو الزائد عليه بواحد لا يتميّز عنه في جواز الكذب.

لا يقال : إذا كان العلم معرّفا لكمال العدد لم يمكن الاستدلال به على الخصم.

لأنّا نقول : لا يستدلّ على حصول العلم في التواتر ، بل المرجع فيه إلى الوجدان.

الثاني : شرط قوم في أهل التواتر أن لا يحويهم بلد ، ولا يحصرهم عدد. وهو غلط ؛ فإنّ أهل الجامع لو أخبروا بسقوط المؤذن من المنارة فيما بين الخلق أفاد العلم.

الثالث : شرط اليهود أن لا يكونوا على دين واحد. وهو غلط ، فإنّ

__________________

(١) الأنفال : ٦٤.

(٢) في «أ» و «ب» : أهل.

(٣) الأعراف : ١٥٥.

٣٢٥

التهمة إن حصلت لم يحصل العلم ، اتّحدت الأديان أو اختلفت ، وإن لم تحصل حصل العلم كيف كانت أديانهم.

الرابع : شرط قوم أن لا يكونوا من نسب واحد ، ولا من بلد واحد ؛ وهو باطل ، لما تقدّم.

الخامس : شرط ابن الراوندي وجود المعصوم فيهم لئلّا يتّفقوا على الكذب وهو غلط ؛ لأنّ المفيد للعلم حينئذ قول المعصوم ولا عبرة بغيره.

السادس : شرط بعضهم الإسلام والعدالة ؛ لأنّ الكفر عرضة للكذب ، والتحريف والإسلام والعدالة ضابط الصدق ، وبهذا اعتبر إجماع المسلمين دون غيرهم ؛ ولأنّه لو وقع العلم عند إخبار الكفّار لوقع عند إخبار النصارى مع كثرتهم عن قتل المسيح وصلبه ، وهو غلط ، فإنّ العلم قد يحصل عند خبر الكفّار إذا عرف انتفاء الداعي إلى الكذب ، كما لو أخبر أهل بلد كافرون بقتل ملكهم ، والإجماع اختصّ بالمسلمين عند بعضهم لاستفادته من السمع المختص بإجماع المسلمين ، وأخبار النصارى غير متواترة لقلّتهم في المبدأ.

السابع : شرطت اليهود أن يكون مشتملا على إخبار أهل الذلّة والمسكنة ليؤمن تواطؤهم على الكذب. وهو غلط ؛ فإنّا نجد العلم حاصلا عقيب إخبار الأكابر والمعظّمين والشرفاء أكثر من حصوله عقيب خبر المساكين وأهل الذلّة ، لترفع أولئك عن رذيلة الكذب لئلّا يثلم شرفهم. (١)

__________________

(١) بحث الرازي أيضا هذا المطلب بصورة مفصّلة في المحصول : ٢ / ١٢٩ ـ ١٣٤ ؛ والآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٦ ـ ٤٢ ، المسألة الرابعة.

٣٢٦

البحث الخامس : في التواتر المعنوي

اعلم أنّ الأخبار التي لا تفيد العلم قد تشترك في معنى كلّي يبلغ حدّ التواتر وإن كانت الجزئيات آحادا ؛ كما نقل جماعة يفيد قولهم الظنّ أنّ عليّا عليه‌السلام قتل عدّة من الكفّار في غزوة بدر ، ونقل جماعة أخرى غيرهم لا يبلغ قولهم التواتر أنّه قتل عدّة من الكفّار في غزاة أحد ، وهكذا تنقل الآحاد أفراد الغزوات وبلغوا حدّا لو أخبروا بشيء واحد أفاد العلم فإنّه يحصل العلم بشجاعته المشتركة بين آحاد الغزوات [لوجهين :].

لأنّ كلّ واحد من تلك الأخبار اشتركت في كلّي هو الشجاعة ، والراوي للجزئي راو للكلّي المشترك فيه بالتضمّن ، فإذا بلغوا حدّ التواتر صار ذلك الكلّي مرويا بالتواتر.

أو نقول هؤلاء الرواة بأسرهم لم يكذبوا ، بل لا بدّ وأن يصدق واحد منهم ، فيصدق جزئي واحد من هذه الجزئيات المروية ، وأي جزئي ثبت أفاد الشجاعة.

٣٢٧

البحث السادس : في كيفية العلم عقيب التواتر

اتّفقت الأشاعرة والمعتزلة وجميع الفقهاء على أنّ خبر التواتر لا يولد العلم ، وقال بعض الناس : إنّه يولده.

احتجّ الأوّلون بوجهين :

الأوّل : لو أفاد العلم تولدا فإمّا أن يتولّد عن الاخير خاصة أو عنه وعن جملة الاخبار السابقة عليه.

والأول محال وإلّا لتولد بتقدير انفراده ، وكذا الثاني لأنّها متعدّدة والمسبّب الواحد لا يصدر عن سببين.

واعترض بجواز تولّده عن الأخير بشرط تقدّم ما وصف من الأخبار أو عن الهيئة الاجتماعية.

نعم لو قيل : إنّ جملة الأخبار معدومة فلا يولد ، كان متّجها.

وفيه نظر ، لأنّه وإن كان كلّ خبر معدوما لكن حصل منه في النفس هيئة قابلة للزيادة ، وتلك الهيئة ثابتة في النفس وحصل العلم عند اجتماع تلك الهيئات النفسانية وليست معدومة.

الثاني : قالوا : كلّ ما هو طالب جهة من الجهات فإنّه يجوز أن يتولّد عنه شيء في غير محلّه كالاعتماد والحركة ، وما ليس كذلك لا يتولّد عنه شيء في غير محلّه ، والقول والخبر ليس له جهة فلا يتولد عنه

٣٢٨

العلم ، لأنّه لو تولّد عنه العلم لتولّد في غير محلّه ، وهو محال. (١)

وللأشاعرة دليل آخر ، وهو امتناع موجد غير الله تعالى ، وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية. (٢)

__________________

(١) لقد أورد الآمدي هذا البحث في الإحكام : ٢ / ٣٥ ، المسألة ٣ ، فراجع.

(٢) حاصل الكلام في المقام : أنّ التوحيد في الخالقية هو من مراتب التوحيد ، يقول سبحانه : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد : ١٦) وليس الوحي وحده يقول به ، بل العقل أيضا يؤكّده بالبرهان ، لأنّ ما سوى الله ممكن محتاج لا يملك لنفسه شيئا ، وإنّما ترتفع حاجته بإفاضة الوجود من الخالق الغني عن كل شيء. والله سبحانه هو الّذي خلق الشمس والقمر وجعل الأولى ضياء والثاني منيرا ، فالخالقية بمعنى الاستقلال في الخلق والإيجاد من دون اعتماد على غيره مختصة بالله سبحانه.

وهذا لا يعني نفي أصل السببية والعلّية في عالم الوجود إذا قلنا بأنّ تأثير كلّ ظاهرة مادية في مثلها منوط بإذن الله وكان وجود السبب وسببيته كلاهما من مظاهر المشيئة الإلهية.

فالقرآن مع أنّه يعترف بالتوحيد في الخالقية يعترف بقانون العلّية ونظام السببية بين الممكنات ، كما قال الله تعالى : (يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) (الروم : ٤٨) ، فالآية تصرح بتأثير الرياح في تحريك السحاب وسوقه.

فلو قلنا بوجود الخالقية في نظام العلل والمعاليل فإنّما هي خالقية ظلية وتأثير بإذن الله سبحانه على نحو يكون الكون بأجمعه من جنوده سبحانه والقائد هو الله سبحانه.

وممّا يؤيد ذلك أنّ الله ينسب الخلق إلى المسيح عليه‌السلام ويقول : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) (المائدة : ١١٠) ، فالمسيح هو خالق صورة الطير بإذن الله سبحانه ولا يكون هناك أي منافاة بين حصر الخالقية الأصيلة بالله سبحانه والقول بالخالقية الظلية المأذونة المحدودة في المسيح عليه‌السلام.

بل الله سبحانه يصف المسيح بأنّه المبرئ للأكمه والأبرص لكن بإذن الله ويقول : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي).

فعلى الباحث أن يبيّن مراحل التوحيد على نحو لا يخالف الكتاب والعقل الحصيف والنتائج القطعية للعلوم. السبحاني.

٣٢٩

البحث السابع : في عدم وجود اتّحاد الأعداد

قال أبو الحسين البصري (١) والقاضي أبو بكر : كلّ عدد وقع العلم بخبره في واقعة لشخص لا بد وأن يكون مفيدا للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه. وهذا إنّما يصحّ على إطلاقه لو كان العلم قد حصل بمجرّد ذلك العدد من غير أن يكون للقرائن المحتفّة به مدخل في التأثير ، لكن العلم قد يحصل بالقرائن العائدة إلى أخبار المخبرين وأحوالهم واختلاف السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمدلوله ، ومع فرض التساوي في القرائن قد يفيد آحادها الظنّ ، ويحصل من اجتماعها العلم ، فأمكن حصول العلم بمثل ذلك العدد في بعض الوقائع للمستمع دون البعض ، لما اختص به من القرائن التي لا تحصل لغيره.

ولو سلّم اتّحاد الواقعة وقرائنها لم يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر لتفاوتهما في الفهم للقرائن ، وتفاوت الأشخاص في الادراك والذكاء معلوم بالضرورة. (٢)

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٩١.

(٢) راجع هذا البحث في الإحكام : ٢ / ٤٢ ، المسألة ٥.

٣٣٠

الفصل الثالث

في باقي الأخبار المعلومة الصدق

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في خبره تعالى

اتّفق الناس كافّة على أنّ خبره تعالى صدق وإن اختلفوا في الدلالة عليه.

أمّا المعتزلة فاحتجّوا عليه بأنّ الكذب قبيح بالضرورة ، والله تعالى عالم بقبحه غني عنه ، حكيم في فعله ، فلا يصدر عنه بالضرورة.

واعترض (١) بأنّ البحث في امتناع الكذب عليه تعالى موقوف على تصوّر الكذب لتوقّف التصديق على التصوّر ؛ فإن كان المراد منه الكلام الذي لا يطابق المخبر عنه في الظاهر بحيث لو أضمر فيه زيادة أو نقصان صحّ ، لم يمكن الحكم بقبحه وبامتناعه عليه تعالى ، لأنّ أكثر العمومات مخصوص ، وإذا كان كذلك لم يكن ظاهر العموم مطابقا للمخبر عنه.

__________________

(١) المعترض هو الرازي في المحصول : ٢ / ١٣٧.

٣٣١

وكذا الحذف والإضمار فإنّه واقع في كلامه تعالى ، بل في أوّله ، فإنّ من الناس من قدّم المضمر في بسم الله الرحمن الرحيم ومنهم من أخّره ، وكذا قالوا في (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) معناه قولوا : الحمد لله.

واتّفقوا على حسن المعاريض ، ومعناه الخبر الّذي يكون ظاهره كذبا ، ويصدق عند إضمار شرط خاص أو قيد خاص.

وإن كان المراد الكلام الّذي لا يكون مطابقا ولا يمكن إضمار ما به يصير مطابقا فيه فهو قبيح بتقدير الوقوع ، لكنّه غير ممكن الوجود ، لأنّه لا خبر يفرض كذبه إلّا وهو بحيث لو أضمر فيه شيء لصدق ، فيرتفع الأمان عن ظواهر الكتاب والسنّة.

لا يقال : لو كان مراده تعالى غير ظواهرها لوجب أنّ يبيّنها ، وإلّا كان تلبيسا.

ولأنّا لو جوّزنا ذلك انتفت الفائدة في كلامه تعالى ، فيكون عبثا ، وهو غير جائز.

لأنّا نقول : إن عنيت بالتلبيس أنّه تعالى فعل ما لا يحتمل إلّا التلبيس والتجهيل ، فهو غير لازم ، لأنّه تعالى قرّر في عقول المكلّفين أنّ اللفظ المطلق جاز أن يذكر ، ويراد به المقيّد بقيد غير مذكور معه ، ثمّ أكّده بأن بيّن للمكلّف وقوعه في أكثر الآيات والأخبار ، فقطع المكلف بمقتضى الظاهر جهل من نفسه لا من قبله تعالى ، حيث قطع لا في موضع القطع كما في إنزال المتشابهات ، فإنّها موهمة للجهل إلّا أنّها لمّا احتملت غير الظواهر

٣٣٢

الباطلة كان القطع بإرادتها جهلا وتقصيرا من المكلف ، لا تلبيسا منه تعالى.

والعبث ممنوع ، فإنّا لو ساعدنا على أنّه لا بدّ له تعالى في كلّ فعل من غرض ، لكن نمنع أنّه لا غرض من تلك الظواهر إلّا فهم معانيها الظاهرة ، كما أنّ الغرض من إنزال المتشابهات ليس فهم ظواهرها ، بل أمور أخر فيجوز هنا كذلك.

لا يقال : جواز إنزال المتشابهات مشروط بأنّ الدليل قائم على امتناع ما أشعر به ظاهر اللفظ ، فما لم يتحقّق هذا الشرط ، لم يكن إنزال المتشابه جائزا.

لأنّا نقول : معلوم أنّ إنزال المتشابه غير مشروط بأن يكون الدليل المبطل للظواهر معلوما للسامع ، بل هو مشروط بوجود الدليل في نفسه ، علمه سامع المتشابه أو لا ، فحينئذ ما لم يعلم السامع انّه ليس في نفس الأمر دليل مبطل لذلك الظاهر لم يكن إجراؤه على ظاهره.

ثمّ لا يكفي في العلم بعدم الدليل المبطل للظاهر عدم العلم بهذا الدليل ، فإنّه لا يلزم من عدم العلم العدم. وإذا كان كذلك فلا ظاهر نسمعه إلا ويجوز وجود دليل عقلي يمنع من حمله على ظاهره ، ومع هذا التجويز لم يبق الوثوق بشيء من الظواهر.

وهو ليس بجيد ، لأنّ المراد من الكذب الإخبار بما لا يكون مطابقا مع إرادة ما دلّ اللفظ عليه ظاهرا ، وتقدير الزيادة والنقصان لا يخرجه عن الكذب مع عدم إرادته وإن كان جائزا ، وكذا التلبيس المراد به فعل ما يحصل

٣٣٣

معه التلبيس بقصد التلبيس وإن احتمل غيره إذا لم يكن مرادا ، ونحن لا ننازع في إنزال المتشابهات لما علم أنّ ظاهرها غير مقصود له تعالى. (١)

واحتجّت الأشاعرة بوجوه :

الأوّل : أخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بامتناع الكذب عليه تعالى ، فيكون خبره صدقا.

الثاني : كلامه تعالى قائم بذاته ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل الجهل عليه ، إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم ، والجهل عليه تعالى محال. وهما دليلا الغزالي. (٢)

الثالث : الصادق أكمل من الكاذب بالضرورة ، فلو كان كاذبا لكان الواحد منّا حال صدقه أكمل منه تعالى ، وهو معلوم البطلان. (٣)

الرابع : لو كان كاذبا لكان إمّا بكذب قديم فيستحيل عليه الصدق ، لكنّا نعلم أنّ من قدر على أن يخبر أنّ العالم ليس بحادث أمكنه أن يخبر بأنّ العالم حادث ، لاستلزام القدرة على المركب القدرة على المفردات ؛ وإمّا بكذب حادث ، فيكون محلا للحوادث.

اعترض على الأوّل : بأنّ العلم بصدق الرسول موقوف على دلالة المعجز على صدقه ، لأنّ المعجز قائم مقام التصديق بالقول ، فصدق الرسول مستفاد من تصديق الله تعالى إيّاه ، وذلك انّما يدلّ لو ثبت أنّه تعالى صادق ،

__________________

(١) ذكر الرازي رأي المعتزلة وناقش فيه على ما هو موجود في المحصول : ٢ / ١٣٧ ـ ١٣٩.

(٢) المستصفى من علم الأصول : ١ / ٢٦٤.

(٣) وهو ما ذهب إليه الرازي في المحصول : ٢ / ١٣٩.

٣٣٤

إذ مع تجويز الكذب عليه لا يلزم من تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كونه صادقا ، فالعلم بصدق الرسول موقوف على العلم بصدقه تعالى ، فلو استفيد منه دار.

لا يقال : نمنع توقّف دلالة تصديقه تعالى للرسول على كونه صادقا ، لأنّ قوله أنت رسولي إنشاء ، وهو يدلّ على الرسالة فلا دور.

لأنّا نقول : تأثير الإنشاء في الأحكام الوضعية لا [في] الأمور الحقيقية ، فلا يلزم من قوله : «أنت رسولي» صدق الرسول في كلّ أقواله ، لأنّ صدق الرجل أمر حقيقي فلا يختلف باختلاف الجعل الشرعي ، فإذن لا طريق إلى معرفة صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يخبر عنه إلّا من قبل كونه تعالى صادقا ، فيدور.

وفيه نظر ، لأنّ الصدق وإن كان من الصفات الحقيقية لكنّه يتوقّف على الإنشاء الذي لا يدخله الصدق ، فلا دور.

وعلى الثاني : بأنّ بحث أصول الفقه لا يتعلّق بالكلام النفساني ، بل بالمسموع المركّب من الحروف والأصوات المقطّعة ، ولا يلزم من كون النفساني صدقا كون المسموع صدقا.

سلّمنا ، لكن لم قلت : إنّ النفساني صدق ولا يلزم من انتفاء الجهل استحالة أن يخبر بالكلام النفساني خبرا كاذبا ، فإنّها برهانية لا ضرورية ، فأين البرهان؟

وفي الثالث نظر ، فإنّ هذا إنّما يتمّ على تقدير القول بالحسن والقبح العقليّين ، وهم ينكرونه.

٣٣٥

وبالجملة فهذا البحث إنّما يتمشّى على قواعد المعتزلة ، أمّا على قول الأشاعرة فلا.

وفي الرابع نظر ، لإمكان استحالة الصدق فيما أخبر به كذبا وإن أمكن صدقه في غيره. والقدرة إنّما تتوجّه إلى الحادث ، أمّا الكلام النفساني القديم عندهم فلا.

البحث الثاني : خبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

اتّفق الناس على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إخباره الذي دلّ المعجز على صدقه فيه ، وأمّا ما عداه فاختلفوا ؛ فمذهب الإمامية وجوب صدقه في كلّ شيء ، لأنّ العصمة شرط ، وقال آخرون : لا يجب. وقد تقدّم البحث في العصمة.

واحتجّ الغزالي بأنّ المعجز يدلّ على صدقه مع استحالة ظهوره على يد الكذّابين ، إذ لو أمكن لعجز الله تعالى عن تصديق رسوله. (١)

واعترض (٢) بأنّه إن كان اقتداره تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب مستلزما لعجزه عن تصديق الرسول ، فكذا يلزم من الحكم بعدم اقتداره عليه عجزه ، فلم كان نفي أحد العجزين عنه أولى من الآخر.

وأيضا إذا فرضنا أنّه تعالى قادر على إقامة المعجز على يد الكاذب

__________________

(١) المستصفى من علم الأصول : ١ / ٢٦٥.

(٢) ذكره الرازي في محصوله : ٢ / ١٣٩ ـ ١٤٠.

٣٣٦

فمع هذا الفرض إن أمكن تصديق الرسول بطل قوله : إنّه ملزوم من قدرته على إظهار المعجز على يد الكاذب عجزه عن تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإن لم يمكن فلا عجز ، إذ العجز إنّما هو عمّا يصح أن يكون مقدورا في نفسه ، ولهذا لا يوصف بالعجز عن خلق مثله تعالى.

وأيضا إذا استحال ان يقدر الله تعالى عن تصديق الرسول ، إلّا إذا استحال منه إظهار المعجز على يد الكاذب. وجب أن ينظر أوّلا أنّ ذلك هل هو محال أم لا؟ وأن لا يستدلّ باقتداره على تصديق الرسول على عدم قدرته على إظهاره على يد الكاذب ، لأنّ ذلك تصحيح الأصل بالفرع وهو دور.

وأيضا التأمّل يعطي إمكانه ؛ فإنّ قلب العصا حيّة لمّا كان مقدورا له تعالى وممكنا في نفسه ولم يقبح منه فعله في شيء من الأوقات وشيء من الجهات ، فلو قال زيد : أنا رسول الله وكان كاذبا ، لم يخرج عن القدرة ولم ينقلب الممكن ممتنعا.

سلّمنا ، لكنّ المعجز يدلّ على صدقه في ادّعاء الرسالة فقط ، أو في كلّ ما يخبر عنه. الأوّل مسلّم ، والثاني ممنوع.

بيانه : أنّه إذا ادّعى الرسالة وأقام المعجز كان المعجز دالّا على صدقه فيما ادّعاه ، وهو الرسالة ، لا في غيرها. نعم لو ادّعى صدقه في كلّ شيء ثمّ ظهر المعجز المصدّق له ثبت عموم صدقه. فالدليل المذكور يتوقّف على عموم الدعوى واقترانه بالمعجز. وذلك لا يكفي فيه قيام المعجز على

٣٣٧

ادّعاء الرسالة خصوصا ، وقد اختلف العلماء في جواز الصغائر عليهم حتّى جوز بعضهم الكبائر ، واتّفق الناس عدا الإمامية على جواز السهو عليهم ، والحق أنّ هذه الدعوى إنّما تتمشّى على قواعد الإمامية (١).

البحث الثالث : في الخبر المحتفّ بالقرائن

اختلف الناس في أنّ الخبر الذي لا يعلم صدقه هل يحصل العلم عقيبه إذا احتفّ بقرائن خارجة؟

فقال به النظّام والغزالي (٢) والجويني (٣) وأنكره الباقون (٤). والحقّ الأوّل.

لنا : إنّ الضرورة قاضية بثبوت العلم عند الخبر المحتفّ بالقرائن ، فإنّه قد تحصل أمور يعلم بالضرورة عند العلم بها كون الشخص خجلا أو وجلا ، ولا يمكن التعبير عن تلك القرائن ولا تفي العبارات بتفاصيل أحوالها ، لعجزنا عنه ؛ وقد يخبر المريض عن الم ، وينضم إليه من القرائن ما يعلم صدقه ؛ ولو فرض ملك مشرف على التلف ورئيّ نشر الشّعر في ولده وغلمانه والصراخ العظيم والنحيب علم بالضرورة صدقهم.

احتجّ المنكرون بأمور (٥) :

__________________

(١) راجع المحصول : ٢ / ١٣٩ ـ ١٤١.

(٢) المستصفى من علم الأصول : ١ / ٢٦٦.

(٣) البرهان في أصول الفقه : ١ / ٣٧٨.

(٤) نقله عنهم الرازي في المحصول : ٢ / ١٤١.

(٥) ذكر الرازي احتجاج المنكرين والأجوبة عنها في المحصول : ٢ / ١٤١ ـ ١٤٣.

٣٣٨

الأوّل : لو أفاد الخبر مع القرائن ـ التي يذكرها النظّام ـ العلم لم ينكشف عن الباطل ، والتالي باطل ، إذ قد ينكشف عنه ، فإنّ المخبر عن الموت مع القرائن كالصراخ وإحضار الجنازة والأكفان قد يظهر بطلانه بأن يكون قد أغمي عليه أو لحقه سكتة ، أو لإظهار ذلك للسلطان ليمتنع عن قتله ، فالمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة.

الثاني : لو كانت القرائن هي المفيدة للعلم لم يحصل العلم عقيب التواتر إذا خلا عنها ، ولمّا لم يجز ذلك ، بطل قوله.

الثالث : لو وجب العلم عند خبر واحد لوجب في كلّ خبر واحد ، كما أنّ المتواتر لمّا أفاد العلم أفاده في كلّ موضع.

والجواب عن الأوّل : القدح في صورة خاصة لا يقتضي القدح في كلّ الصور ، والقرائن لا ضابط لها يرجع إليه ، بل إفادة العلم. (١)

وعن الثاني : التزام ذلك فإنّ خبر التواتر إن لم تنضم إليه القرائن لم يفد العلم بجواز أن يجمعهم جامع من رغبة أو رهبة.

سلّمنا ، لكن إنّما يلزم ذلك لو قلنا إنّ العلم يستند إلى القرائن لا غير.

سلّمنا ، لكن نمنع انفكاك المتواتر عنها.

وعن الثالث : العلم لم يحصل من خبر الواحد لذاته ، بل مع القرائن ، فمتى حصل المجموع مع أي خبر كان أفاد العلم.

__________________

(١) يعني : إذا كانت القرائن لا تفيد العلم في هذا المورد ، فهذا لا يلزم عدم حصول العلم بالقرائن الأخرى.

٣٣٩

سلّمنا ، لكن العلم عقيب التواتر بالعادة فجاز حصوله هاهنا بالعادة ، والعادة لا يجب اطّرادها في كلّ شيء فجاز أن يطّرد في التواتر دون خبر الواحد المقترن بالقرائن.

البحث الرابع : في بقايا الإخبارات الصادقة

١. الخبر الذي عرف وجود مخبره بالضرورة صدّق.

٢. الخبر الّذي عرف وجود مخبره بالاستدلال. صدّق ، هذا إن لم يشترط سوى المطابقة ، أمّا إن شرطنا العلم أو الاعتقاد فلا.

٣. خبر كلّ الأمّة صدق ، أمّا عندنا فلدخول المعصوم ، أمّا عند الجمهور فللدلائل الدالّة على صدق الإجماع.

٤. خبر الجمع العظيم عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة لا يجوز أن يكون كذبا.

٥. وأيضا الجمع العظيم البالغ حدّ التواتر إذا أخبر كلّ واحد عن شيء غير ما أخبر به الآخر فلا بد وأن يقع فيها ما يكون صدقا ، ولهذا يقطع بأنّ في الأخبار المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق الآحاد ما هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كنّا لا نعرف ذلك بعينه. (١)

وفيه نظر ، لأنّ خبر الجماعة انّما يفيد العلم لو اشتركوا في أمر كلّي

__________________

(١) ذكر هذه الوجوه الخمسة الرازي في المحصول : ٢ / ١٣٥ و ١٤١.

٣٤٠