نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

في بعض النسخ :

تمّ الجزء الثاني من كتاب «نهاية الأصول» ويتلوه الجزء الثالث في المقصد التاسع في الإجماع ، وفيه فصول.

والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

١٢١
١٢٢

المقصد التاسع

في الإجماع

وفيه فصول :

١٢٣
١٢٤

الفصل الأوّل :

في ماهيّته وتحقّقه وكونه حجّة

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في ماهيّته

وهو من الألفاظ المشتركة في وضع اللغة بين أمرين :

الأوّل : العزم ، قال تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ.)(١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صيام لمن لم يجمع الصّيام من اللّيل». (٢) ويصدق بهذا الاعتبار اسم الإجماع على الواحد.

الثاني : الاتّفاق ، يقال : أجمع القوم على كذا ، إذا اتّفقوا عليه ، وأجمع الرّجل : إذا صار ذا جمع ، كما يقال : «ألبن وأتمر» (٣) ، فقولنا : «أجمعوا على كذا» معناه صار ذا جمع عليه ، فاتّفاق كلّ طائفة على أيّ أمر كان يصدق عليه اسم الإجماع.

__________________

(١) يونس : ٧١.

(٢) سنن النسائي : ٤ / ١٩٦ ـ ١٩٧ ؛ سنن الترمذي : ٣ / ١٠٨ برقم ٧٣٠.

(٣) إذا صار ذا لبن وذا تمر.

١٢٥

وأمّا في الاصطلاح فقد اختلفوا في حدّه ، فقال النظّام : هو كلّ قول قامت حجّيته ، حتّى قول الواحد ، وقصد بذلك الجمع بين إنكاره كون الإجماع حجّة ، وبين موافقته للمشهور من تحريم مخالفة الإجماع.

وينتقض بقول الواحد ، فإنّه لا يسمّى في الاصطلاح إجماعا.

وقال الغزالي : الإجماع اتّفاق أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة على أمر من الأمور الدينيّة. (١)

وهو يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى يوم القيامة ، فإنّ أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ من تابعة إلى يوم القيامة ، وكلّ موجود في عصره ، فإنّه بعض أمّته.

سلّمنا ، لكن لو فرض انقراض العلماء في عصر من الأعصار ، واتّفق عوامه على أمر دينيّ كان إجماعا شرعيّا ، وليس كذلك عنده.

سلّمنا ، لكن يخرج اتّفاقهم على القضايا العقليّة أو العرفيّة.

وقيل (٢) : «إنّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمر من الأمور.

ونعني بالاتّفاق الاشتراك ، إمّا في الاعتقاد ، أو القول أو الفعل ، أو إذا اتّفق (٣) بعضهم على الاعتقاد ، وبعضهم على القول ، أو الفعل الدّالّين على الاعتقاد.

__________________

(١) المستصفى : ١ / ٣٢٥.

(٢) القائل هو الرازي في محصوله : ٢ / ٣.

(٣) في «ج» : أو أنّه اتفق.

١٢٦

ونعني بأهل الحلّ والعقد المجتهد في الأحكام الشرعية ، وقلنا : على أمر من الأمور ، ليدخل الشرعيّة والعقليّة واللغويّة».

ويرد عليه ما ورد على الغزالي أوّلا.

وقيل (١) : إنّه اتّفاق جملة أهل الحلّ والعقد من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع ، وإن شرطنا قول العامي قلنا عوض أهل الحلّ والعقد المكلّفين.

فقولنا : «اتّفاق» يعمّ الأقوال والأفعال والتقرير.

وقولنا : «جملة أهل الحلّ والعقد» ليخرج البعض والعامّة.

وقولنا : «من أمّة محمّد» ليخرج اتّفاق أهلّ الحل والعقد من أرباب الشرائع السالفة.

وقولنا : «في عصر من الأعصار» ليندرج فيه إجماع أهل كلّ عصر.

وقولنا : «على حكم واقعة» ليندرج فيه الإثبات والنفي والأحكام الشرعيّة والعقليّة.

__________________

(١) القائل هو الآمدي في الإحكام : ١ / ١٣٨.

١٢٧

المبحث الثاني : في تحقّقه

المشهور ذلك ، لإمكان اطّلاع كلّ مجتهد على دليل حكم ما يعتقده ، وتتّفق الآراء على ذلك ويتحقّق الإجماع.

ومن الناس من أحال (١) ذلك فيما لا يعلم بالضرورة كاستحالة إجماعهم في الساعة الواحدة على مأكول واحد وكلام واحد ، وكما أنّ اختلاف العقلاء في الضروريّات محال ، فكذا اتّفاقهم في النظريات.

وهو خطأ ، فإنّ اتّفاقهم انّما يمتنع فيما يتساوى فيه الاحتمال كالمأكول المعيّن ، والكلمة المعيّنة ، أمّا ما يوجد فيه الرجحان عند قيام دلالة أو أمارة ظاهرة فهو غير ممتنع ، كالإجماع على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وضروريّات شرعه ، واتّفاق طوائف المسلمين كلّ على مذهبه مع انتشارهم وتعدّدهم ، مع أنّ أكثر أقوالهم صادرة عن الأمارات.

وقيل (٢) : الاتّفاق يمكن ، لكن العلم به محال ، لأنّه ليس وجدانيّا ، للعلم الضروري بأنّ العلم باتّفاق أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حكم ما ليس كالعلم بالشبع والجوع وغيرهما من الوجدانيّات ، ولا نظريّا ، إذ لا محال للعقل النظري في أنّ فلانا قال بكذا أو لا.

__________________

(١) قال الآمدي في الإحكام : ١ / ١٣٩ : المتّفقون على تصوّر انعقاد الإجماع اختلفوا في إمكان معرفته والاطّلاع عليه ، فأثبته الأكثرون أيضا ، ونفاه الأقلّون ، ومنهم أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ، ولهذا نقل عنه انّه قال : من ادّعى وجود الإجماع فهو كاذب.

(٢) لاحظ المحصول : ٢ / ٤.

١٢٨

بقي الحسّ أو الخبر ، ومن المعلوم أنّ الإحساس بكلام الغير أو الإخبار عن كلامه ، إنّما يمكن بعد معرفته ، فحينئذ يمنع الحكم باتّفاق الأمّة قبل معرفة كلّ واحد ، وهو ممتنع لتفرّقهم شرقا وغربا ، وربما كان إنسان في مطمورة (١) لا نعلم قوله.

مع أنّا نعلم أنّ الذين في المشرق لا علم لهم بعلماء أهل المغرب ، فضلا عن العلم بكلّ واحد منهم ومعرفة مذهبه على التفصيل.

سلّمنا العلم بكلّ واحد ، لكن لا يمكن معرفة اتّفاقهم إلّا بالرجوع إلى كلّ واحد منهم ، وهو لا يفيد القطع به ، لاحتمال أن يفتي بخلاف معتقده خوفا وتقيّة أو لأمر آخر.

سلّمنا معرفة كلّ قول معتقد ، لكن يحتمل رجوع أهل كلّ بلدة عن قولهم بعد الخروج عنهم إلى غيرهم قبل فتوى أهل البلدة الأخرى ، وحينئذ لا يحصل الاتّفاق ، لأنّا لو قدّرنا انقسام الأمّة قسمين ، وأفتى أحدهما بحكم والآخر بنقيضه ، ثمّ انقلب المثبت نافيا وبالعكس لم يحصل الإجماع ، بل لو اتّفق اجتماعهم كلّهم في بلدة ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة بإفتاء ذلك الحكم لم يفد العلم بالإجماع ، مع امتناع هذا الفرض ، لاحتمال أن يكون البعض مخالفا وخاف من مخالفة الجمع العظيم أو خالف وخفي صوته.

لا يقال (٢) : يبطل ما ذكرتم بالعلم الضّروري باعتراف المسلمين بنبوّة

__________________

(١) المطمورة : السّجن. المعجم الوسيط.

(٢) ما يمرّ عليك في المقام ، إنّما هو لفخر الدين الرازي ، وليس للمصنّف نفسه ، كما سيأتي الإشارة إليه في نهاية كلامه ويذكر نظره فيه.

١٢٩

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجوب الصّلوات الخمس ، واتّفاق الشافعيّة على بطلان البيع الفاسد ، والحنفية على انعقاده ، وإن كانت الوجوه الّتي ذكرتموها حاصلة هنا.

وبالعلم بأنّ الغالب على بلاد الفرس والعرب الإسلام ، والغالب على بلاد الهند الكفر وإن كنّا ما لقينا كلّ واحد من ساكني هذه البلاد.

لأنّا نقول : المسلمون هم المعترفون بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقولكم : يعلم اتّفاق المسلمين على نبوّة محمّد يجري مجرى أن يقال يعلم أنّ القائلين بنبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّفقوا على القول بنبوّته.

وإن عنيت بالمسلمين غير ذلك منعنا القطع بأنّ القائل بذلك قائل بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونمنع القطع بأنّ كلّ من قال بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان ، وإن كنّا نعترف بحصول الظنّ ، فإنّ الناس قبل المعرفة بالمقالات الغريبة يعتقدون جزما أنّ ما بين الدفّتين كلام الله تعالى ، ثم بعد الوقوف على المقالات يوجد فيه اختلاف كثير ، نحو ما روي عن ابن مسعود أنّه أنكر كون الفاتحة والمعوّذتين من القرآن ، وأنكر قوم من الخوارج كون سورة يوسف من القرآن ، ونقل جماعة من قدماء الشيعة أنّ القرآن غيّر وبدّل ، فحينئذ يعلم من هذا أنّا قد نعتقد في الشيء أنّه مجمع عليه اعتقادا قويّا لكن لا يبلغ ذلك الاعتقاد حدّ العلم ، ولا يرتفع عن درجة الظنّ.

والعلم باستيلاء بعض المذاهب على بعض البلاد ، مستفاد من التواتر وفرق بين معرفة حال الأكثر ومعرفة حال الكلّ ، فإنّ من دخل بلدة ورأى

١٣٠

شعار الإسلام في محالّها ، عرف غلبة المسلمين ، ولا يقطع بنفي غير المسلم ظاهرا وباطنا عنها.

قال فخر الدين : والإنصاف أنّه لا طريق لنا إلى معرفة حصول الإجماع إلّا في زمن الصحابة ، حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفصيل. (١)

وليس بجيّد ، فإنّا نجزم بالمسائل المجمع عليها جزما قطعيّا ، ونعلم اتّفاق الأمّة عليها علما وجدانيّا ، حصل بالتسامع وتطابق الأخبار عليه.

المبحث الثالث : في أنّ الإجماع حجّة

هذا هو المشهور عند أكثر الناس ، ومنع منه النظّام والخوارج ، وقالت الإمامية : إنّه صواب ، لأنّ الإجماع نعني به اتّفاق الأمّة والمؤمنين والعلماء فيما يراعى فيه إجماعهم.

وعلى كلّ الأقسام فلا بدّ وأن يكون قول الإمام المعصوم داخلا فيه ، لأنّه سيّد المؤمنين والأمّة والعلماء ، فالاسم مشتمل عليه ، ولا ينعقد بدونه ، وما يقول به المعصوم فإنّه حجّة وصواب وحقّ لا باعتبار الإجماع ، بل باعتبار اشتماله على قول المعصوم ، ولو انفرد لكان قوله الحجّة ، وإنّما نقول بأنّ قول الجماعة الّتي قوله موافق لها حجّة لأجل قوله.

__________________

(١) المحصول : ٢ / ٦ ـ ٧.

١٣١

والباقون قالوا : إنّه تعالى علم أنّ جميع هذه الأمّة لا يتّفق على خطأ ، وإن جاز الخطأ على كلّ واحد بانفراده ، فللإجماع تأثير.

واحتجّت الإمامية على أنّه حجّة بأنّ زمان التكليف لا يخلو عن إمام معصوم ، فيكون الإجماع حجّة.

أمّا الاولى فلأنّ كلّ زمان لا يخلو من إمام ، لأنّه لطف ، للعلم الضّروريّ بأنّ الخلق مع وجود رئيس قاهر يمنعهم عن القبائح ، ويحثّهم على الواجبات ، يكون حالهم في الإتيان بالواجبات والانتهاء عن القبائح أتمّ من حالهم إذا لم يكن لهم هذا الرئيس ، واللّطف واجب ، لأنّه يجري مجرى التمكين في كونه إزاحة لعذر المكلّف ، ولمّا كان التمكين واجبا ، كان اللطف كذلك.

وإنّما قلنا : إنّه يجري مجراه ، لأنّ الواحد منّا إذا دعا غيره إلى أكل طعامه ، وكان غرضه نفعه ، وبقي عليه الى وقت التناول ، وعلم أنّه لا يطيعه إلّا إذا استعمل معه نوعا من التواضع ، فإنّ ترك ذلك النوع يجري مجرى ردّ الباب عنه ، ومنعه من الدّخول.

وأيضا لو لم يجب فعل اللطف من المكلّف لم يقبح منه فعل المفسدة ، لعدم الفرق بين فعل يختار المكلّف عنده القبيح وبين ترك ما يخلّ المكلّف عنده بالواجب ، فثبت أنّ اللطف واجب ، وأنّه لا بدّ في كلّ زمان تكليف من إمام.

ويجب أن يكون معصوما ، وإلّا لزم التسلسل ، لأنّ العلّة المحوجة إلى

١٣٢

الإمام صحّة القبيح عن المكلّف وإمكانه منه ، فلو كان الإمام كذلك افتقر إلى إمام آخر ، فثبت أنّه لا بدّ في زمان التكليف من إمام معصوم ، فكان الإجماع حجّة ، لأنّه مهما اتّفق قول العلماء على حكم فلا بدّ وأن يوجد في أثناء قولهم قول ذلك المعصوم ، لأنّه سيد العلماء ، وقوله حقّ ، فإذن إجماع الأمّة يكشف عن قول المعصوم الّذي هو حقّ.

وظهر بهذا أنّ العلم بكون الإجماع حجّة لا يتوقّف على العلم بالنبوّة أصلا ، وأنّ إجماع كلّ الأمم حجّة ، كما أنّ إجماع أمّتنا حجّة.

والاعتراض لا نسلم أنّ الخلق إذا كان لهم رئيس يمنعهم من القبائح ويحثّهم على الطاعات كانوا أقرب إليها ممّا إذا لم يكن هذا الرئيس ، لأنّكم تزعمون أنّه تعالى ما أخلى العالم قطّ من رئيس ، فقولكم : «وجدنا العالم متى خلا من رئيس حصلت المفاسد» باطل ، لأنّهم إذا لم يجدوا العالم خاليا ، كيف يمكنهم قول : إنّا وجدنا العالم متى خلا عن الإمام حصلت المفاسد ، بل الذي جرّبناه انّ الإمام إذا كان خائفا حصلت هذه المفاسد لكنّكم لا توجبون ظهوره وقوله.

سلّمنا إمكان هذه التجربة ، لكنّا نقول : تدّعون اندفاع هذه المفاسد بوجود الرئيس كيف كان ، أو بوجود رئيس قاهر على الأمم؟ الأوّل ممنوع والثاني مسلّم ، واستقراء العرف إنّما يشهد بالثاني ، لأنّ الانزجار انّما يحصل من السلطان القاهر دون الضّعيف ، بل الغائب الذي لا يعرف في الدّنيا خبره لا يحصل الانزجار به ، وأنتم لا توجبون الأوّل بل الثاني ، وهو غير لطف.

١٣٣

لا يقال : نحن في إثبات أصل الإمام ولا نتكلم الآن في التفصيل وسبب استتاره ظاهر ، فإنّه لو كان أمن لظهر ولزجر الناس عن القبائح ، فلمّا أخافوه كان الذنب منهم.

لأنّا نقول : إن عنيتم وجوب نصب إمام كيف كان سواء كان ظاهرا أو مخفيا بأنّه لطف ، لأنّ الخلق معه أقرب إلى الطاعة ، وهذه المقدّمة لا تتمّ عند وجود إمام كيف كان ، بل عند إمام قاهر ، فيجب إثبات التفاوت بين حال الخلق مع إمام كيف كان وبدونه.

سلّمنا التفاوت ، لكن نصبه إنّما يجب لو خلا عن جميع جهات القبح ، فلو اشتمل على وجه ما من وجوه القبح لم يجب نصبه ، لأنّه يكفي في قبح الشيء اشتماله على جهة واحدة من جهات القبح ، ولا يكفي في حسنه اشتماله على جهة من جهات الحسن ما لم يخلو عن كلّ جهات القبح ، فيجب عليكم الدّلالة على خلوّ نصبه من جميع جهات القبح ولا يكفي جهة الحسن.

لا يقال : لو قدح ما ذكرتموه في كون الإمام لطفا لقدح في كون المعرفة لطفا ، لأنّ دليل كونهما لطفا هو انّها باعثة على أداء الواجبات والاحتراز عن القبائح العقليين ولم يوجب أحد بيان خلوّها عن كلّ جهات القبح ؛ ولأنّ ذلك يفضي إلى تعذّر القطع بوجوب شيء عليه تعالى لكونه لطفا لقيام الاحتمال في كلّ ما يدّعى فيه كونه لطفا ، ولأنّه لا دليل على اشتمال الإمامة على جهة قبح ، وما لا دليل عليه يجب نفيه ، ولأنّ جهات القبح محصورة

١٣٤

نحو كون الفعل كذبا أو ظلما أو جهلا أو غير ذلك من الوجوه ، وهي منتفية (١) عن الإمام.

لأنّا نقول : هذا الاحتمال إن تحقّق في المعرفة وجب الجواب عنه في الموضعين ولا يحكم بسقوطه ، لتعذّر الجواب عنه ، وإن حصل الفرق بين المعرفة والإمامة بطل القياس ، ثمّ الفرق أنّ معرفته تعالى لطف يجب علينا فعله ، ويكفي في الإيجاب علينا العلم باشتمال المعرفة على المصلحة وعدم العلم باشتمالها على المفسدة ، لأنّه يفيد ظن انتفاء المفسدة ، والظن في حقنا قائم مقام العلم في اقتضاء العمل.

أمّا الإمامة فهي لطف بوجوبها على الله تعالى ، ولا يكفي في الإيجاب عليه تعالى ظن كونها لطفا ، لأنّه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فيجب إثبات خلو الفعل عن جميع جهات القبح حتّى يمكن إيجابه عليه تعالى ؛ ونحن لا نقول في فعل معيّن إنّه لطف فيجب عليه تعالى ، لقيام الاحتمال فيه ، بل نقول كلّ ما يكون لطفا في نفسه فإنّه يجب على الله تعالى فعله ، فيندفع الاحتمال ؛ وما لا دليل عليه في نفس الأمر لا يجب نفيه فضلا عمّا لا دليل عليه في علمنا ، فإنّه لو وجب نفي ما لا يعلم عليه دليلا لوجب على العوام نفي أكثر الأشياء ، لعدم علمهم بأدلّتها.

ونمنع أيضا عدم دليل في نفس الأمر ، فلعلّه وجد ولا نعلم به ، ولا يكفي : «بحثت ما وجدت» ، لأنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

__________________

(١) في «أ» : منفية.

١٣٥

ونمنع انحصار وجوه القبح ، فإنّ قبح صوم أوّل يوم من شوال لا من حيث كونه ظلما ولا جهلا ولا كذبا ، فيجوز هنا مثله.

سلّمنا وجوب تعيين جهة المفسدة في القدح في كونه لطفا لكن هنا جهتان :

الأوّل : نصبه (١) يقتضي كون المكلّف تاركا للقبيح لا لكونه قبيحا ، بل للخوف من الإمام ؛ وعند عدمه تركه (٢) لا للخوف بل لقبحه ، ولا ينتقض بترتّب العقاب على فعل القبيح ، فإنّه يقتضي كون المكلّف تاركا للقبيح لا لقبحه بل للخوف من العقاب ، لأنّه لا يلزم من قولنا ترتيب العقاب عليه لا يقتضي هذه الجهة من المفسدة ، أن يكون نصب الإمام غير مقتض لها لجواز (٣) اختلاف حالتهما (٤).

وبيانه : إنّ ترتّب العقاب على فعل القبيح إنّما يعلم بالشرع ، فقبله يجوز أن يكون مفسدة من هذه الجهة ، فلمّا ورد به الشرع علمنا انتفاء هذه المفسدة.

فإن قلتم : يجوز قبل ورود الشرع أن يكون نصب الإمام مفسدة من هذه الجهة ، فلمّا ورد به الشرع علمنا انتفاء المفسدة ، صار وجوب نصب الإمام شرعيا.

__________________

(١) في «أ» : نفيه.

(٢) في «أ» : يتركه.

(٣) في «أ» : بجواز.

(٤) في «أ» : تخطئة حالتها في حالها.

١٣٦

الثاني : فعل الطاعة وترك المعصية عند عدم الإمام أشقّ منهما عند وجوده ، فيكون نصبه سببا لنقصان الثواب ، فيمتنع حسنه فضلا عن وجوبه.

سلّمنا أنّ الإمام لطف ، لكن في كلّ الأزمنة أو بعضها ، الأوّل ممنوع والثاني مسلّم ، فجاز أن يوجد قوم يستنكفون عن طاعة الغير ، ويعلم تعالى أنّه لو نصب لهم رئيسا قتلوه ، وإذا لم ينصبه امتنعوا من القبائح ، فيكون [نصبه] مفسدة حينئذ ، وهذا وإن كان نادرا لكن كلّ زمان يحتمل أن يكون ذلك النادر ، فيمتنع الجزم بوجوب نصبه في شيء من الأزمنة.

لا يقال : الاستنكاف إنّما يحصل من رئيس معيّن وكلامنا في المطلق ، ولأنّ هذه مفسدة نادرة ، والمفاسد حال عدم الإمام غالبة ، والغالب أولى بدفعه.

لأنّا نقول : قد يتّفق الاستنكاف من (١) المطلق كالمعيّن ، ثمّ إذا كان الاستنكاف قد يحصل من المعيّن فيكون نصبه مفسدة ، فإذا لم يحصل المطلق إلّا في ذلك المعيّن كما هو قولكم في تعيين الأئمة كان ذلك مفسدة أيضا ، وهذه المفسدة وإن ندرت إلّا أنّ كلّ زمان يحتمل أن يكون هو ، فلا يحصل قطع بوجوب نصبه في زمان ما.

سلّمنا كونها لطفا في جميع الأزمنة لكن جاز أن يقوم غيرها مقامها في اللطفية فلا يتعيّن للوجوب ، وبيان الاحتمال انّكم توجبون العصمة لئلّا

__________________

(١) في «أ» : في.

١٣٧

يلزم التسلسل ، فللإمام لطف غير الإمام يحصل به الانزجار عن القبائح وأداء الواجبات ، فإذا جاز أن يكون له لطف مغاير للإمامة جاز للأمّة ذلك.

سلّمنا كون الإمام لطفا على التعيين لكن في المصالح الدنيوية لا الدينية ، لأنّ منفعية حصول نظام العالم واندفاع الهرج والمرج والتغالب وكلّ ذلك دنيوي ، وتحصيل الأصلح في الدّنيا غير واجب على الله تعالى ، أو في إقامة الصّلوات وأخذ الزكوات وهي مصالح شرعية لا تجب عقلا ، فما هو لطف فيه أولى بعدم الوجوب العقلي.

لا يقال : إنّه لطف في المصالح الدينيّة العقلية ، لأنّ تكرار زجرهم عن القبائح وأمرهم بالواجبات يثمر تمرين النفوس عليها ، فيؤدي إلى ترك القبائح لقبحها وفعل الواجبات لوجه وجوبها ، وهي مصالح دينية.

لأنّا نقول : نمنع تفاوت حال الخلق في هذا المعنى بسبب وجود الإمام ، فإنّ عند وجوده ربّما وقعت أحوال القلوب على ما ذكرتم ، وربّما صارت بالضد ، لأنّهم إذا بغضوه بقلوبهم ازدادت المفسدة ، فربّما أقدموا على فعل الواجب وترك القبيح للخوف خاصة.

وبالجملة فأحوال الخلق إنّما تتفاوت في المصالح الدنيوية أو الشرعية دون العقلية.

سلّمنا أنّه لطف لكن نمنع أنّ كلّ لطف واجب ، وجريانه مجرى التمكين قياس لا يفيد التعيين (١) ، ونمنع مساواته للتمكين.

__________________

(١) في «ب» : اليقين.

١٣٨

وترك التواضع لا يقدح في الإرادة على الإطلاق لاختلاف الإرادات ، فجاز أن يريد منه أكل طعامه إرادة لا يبلغ تقبيل قدمه لو لم يفعل إلّا به ، وجاز أن يبلغ فترك التقبيل يقدح في الثانية لا الأولى ، فلم قلتم إنّه تعالى أراد الطاعات إرادة تبلغ حد فعل اللطف؟ فإنّ التكليف تفضّل فلا يجب عليه أن يأتي بأقصى مراتب التفضّل ، وفرق بين فعل المفسدة وترك اللطف ، فإنّ الأوّل إضرار قبيح ، والثاني ترك نفع فلا يقبح.

سلّمنا وجوب اللطف لكن المحصّل أو المقرّب ، الأوّل مسلّم والثاني ممنوع ، فلم قلت إنّ الإمام لطف محصّل ، فإنّه لا يمكن القطع بأنّ عند وجود الإمام يفعل الإنسان الطاعة ويجتنب المعصية؟ نعم يكون أقرب ، ونمنع وجوب اللطف المقرّب على الله تعالى ، والضيف إنّما يجب عليه التواضع لو علم أو ظن الإجابة معه ، ولو علم عدمها لم يحسن منه التواضع فضلا عن وجوبه ، فحينئذ لا يبعد وجود زمان يعلم تعالى أنّ الإمام لا يكون لطفا محصلا فلا يجب نصبه فيه.

سلّمنا وجوب اللطف مطلقا ، لكن إذا أمكن لا بدونه ، فلو علم الله تعالى أنّ كلّ مخلوق في ذلك الزمان يكفر أو يفسق لم (يمكن خلق) (١) المعصوم فيه ، فلم قلت إنّه حينئذ لا يحسن التكليف؟ وإذا حسن التكليف في ذلك الزمان جوزنا في كلّ زمان أن يكون هو ذلك الزمان ، فلا يمكن القطع بوجوب الإمام في شيء من الأزمنة ، والتواضع إنّما يجب على

__________________

(١) في «ب» : يكن خلو.

١٣٩

الضّيف لو كان مقدورا ، ولو لم يكن حسن طلب تناول الطعام من دون التواضع.

سلّمنا لكن كلّ ذلك مبني على الحسن والقبح العقليين ، ثمّ ينتقض الدّليل بالقضاة والأمراء فإنّهم لو كانوا معصومين كان حال الخلق أقرب إلى الصلاح ، ولو وجد في كلّ بلد إمام معصوم كانوا أقرب أيضا ، ولو كان الإمام عالما بالغيوب قادرا على التصرف في الشرق والغرب والسماء والأرض لكانوا أقرب ، ولو كان بحيث إذا شاء اختفى وطار مع الملائكة اشتدّ خوف المكلّفين منه ، لأنّ كلّ واحد يقول لعلّه معي وإن كنت لا أراه.

ولا خلاص عن هذه الإلزامات إلّا بأن يقال : هذه الأشياء وإن حصلت منها هذه المنافع لكن علم الله تعالى فيها وجه مفسدة خفي (١) ، فلم يجب عليه فعلها.

أو يقال : إنّها وإن خلت عن جميع المفاسد لكن لا يجب عليه فعلها ، وكلّ واحد من هذين قائم فيما ذكرتموه.

سلّمنا لكن لا نسلّم أنّه معصوم.

قوله : وإلّا لافتقر إلى لطف آخر.

قلنا : نعم ، ويجوز أن يكون هو الأمّة ، فإنّ الإجماع وإن لم يثبت بعد كونه حجّة لكن جاز أن يكون حجّة ، فجاز أن يكون الإمام لطفا لكلّ واحد

__________________

(١) في «أ» : خفية.

١٤٠