نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

من آحاد الأمّة ومجموع الأمّة لطف للإمام ، ولا يكفي في عدم عصمة مجموع الأمّة الطعن في أدلّة الإجماع.

سلّمنا عصمته ، لكن نمنع اشتمال الإجماع على قوله ، لعدم العلم باتّفاق كلّ واحد من الأمّة بحيث لا يشذّ منهم أحد على القول به.

سلّمنا اندراجه ، لكن يجوز عندهم التقية والإفتاء بالباطل عند الخوف ، فجاز أن يخاف من الجماعة فيوافقهم على غير الصحيح ، وقد أظهر علي عليه‌السلام عندهم مع الهاشميين والأمويّين والأنصار التقية خوفا من أبي بكر وعمر مع قلّة أنصارهما ، فإذا جاز الخوف في هذه الصورة فجوازه في الرجل الواحد مع العالم كلّهم أقرب.

والجواب : انّ إنكار كون الخلق مع الرئيس أقرب إلى الطاعة يجري مجرى إنكار السوفسطائية ، لأنّه معلوم بالوجدان ولا يشترط في الحكم بذلك وقوع الخلو ، بل فرضه وتقديره وترتيب الحكم عليه ثمّ خلو بعض الأصقاع يدلّ عليه ، ونحن نوجب السلطان القاهر ، وقد وجد لكنّ الأمّة قد أخطأت في إخافته ؛ فاللطف الّذي يجب عليه تعالى قد فعله ، والذي يجب على الإمام عليه‌السلام من قبول ما كلّف به قد فعله ، والأمّة تركت ما وجب عليها وهو الانقياد لأوامره ، فالذّنب لهم والانزجار يحصل مع الاختفاء ، لأنّ كلّ واحد من العصاة يجوز ظهوره في تلك الحال فينزجر بذلك عن الإقدام على المعصية وهو كاف في اللطفية. وجهات القبح منفية هنا ، لأنّها معلومة لنا ، لأنّا مكلّفون باجتنابها ، فيستحيل وجود وجه قبح لا نعلمه ، ولا شك في انتفاء وجوه القبح في الإمامة فتبقى المصلحة خالصة ، ولأنّ المفسدة

١٤١

إمّا أن تكون لازمة للإمامة أو عارضة لها ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل ، فلأنّه لو كان كذلك لقبح نصبها في وقت ما من الأوقات ، وهو باطل لقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)(١).

وأمّا الثاني ، فلأنّ العارض يجوز زواله فيخلو حينئذ من جهات المفاسد فيجب نصبه حينئذ ، وكلّ من أوجب نصبه في وقت ما من الأوقات على الله تعالى أوجب نصبه دائما ، ولأنّه كما يقبح منه تعالى نصب الإمام لتجويز المفسدة يقبح منه الأمر به ، وهم يقولون بوجوبه على الأمّة ، ولمّا كان الغالب على البشر الفساد والتغالب كان عدم الإمام مقتضيا لكثرته وانتشاره واستمراره ، ووجوده مقتضيا لقلّته وانقطاعه ، ثمّ يستمر الانزجار عن المفاسد والانقياد إلى الطاعات إلى أن يصير ملكة راسخة ويتمكّن في النفس إلى أن يبقى الوجوه والاعتبارات هي الغايات دون الخوف ، ونمنع كونهما (٢) أشقّ عند عدمه.

سلّمنا لكن هذا التفاوت نزولا يقتضي مفسدة ، بل فوات بعض المصلحة ، وعدم الإمام يقتضي فسادا كليا عاما ، وعدم انقياد الأمّة في بعض الأزمنة إلى قوله لا يخرج المقتضي عن مقتضاه وهو المصلحة الناشئة عن نصبه ، ووجود لطف للإمام لا يخرج الإمام عن انحصار اللطف فيه للأمّة ، إذ لو كان في وقت من الأوقات لعرف ولفعله

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) في «أ» : كونها.

١٤٢

تعالى ، وعصمة الأمّة غير ممكن في الحكمة (١) لئلّا يبطل التكليف.

وأيضا لا يخرج الإمام عن كونه لطفا ، فيجب هو أو غيره من الألطاف القائمة مقامه ، وكلّ من قال بوجوب أحدهما قال بوجوب نصب الإمام عينا ، ومنع (٢) قرب العالم إلى الصّلاح الديني مع وجود الإمام منع مكابرة. وكون اللطف كالتمكين ليس بقياس ، بل هو حكم بالتساوي بينهما ، لاتّحادهما في المعنى ، والإرادة المفروضة جازمة فيستتبع وجوب التواضع ، والله تعالى يريد إرادة جازمة إرشاد العالم وامتثال أوامره ونواهيه ، فيجب نصب اللطف لهم كالتمكين والآلات ، ونحن نوجب اللطف المقرّب بحصول الغرض به. وفرض كفر كلّ الأمّة في زمان ما مع التكليف محال لوجوب الإمام فيه ، وفساد القضاة والأمراء منجبر بالإمام والخوف منه والمراجعة إليه ، بخلاف فساد حال الإمام ، فلهذا أوجبنا عصمته دون عصمتهم.

وكما لم يجب تمكين كلّ واحد من الأمّة من فعل ما يريده ، ويعلم الغيب ، ويصعد إلى السماء ، ويطير مع الملائكة كذا لا يجب في الإمام ذلك ، والفرق بينهما وبين نصب الإمام ظاهر. والإجماع لا يجوز أن يكون لطفا ، لأنّه إذا جاز على كلّ واحد الخطأ جاز على المجموع للعلم القطعي بأنّ القدرة لا تعدم بمجامعة الغير ، فكما جاز الكذب مع انفراده جاز مع الاجتماع ، ومنع اشتمال الإجماع على قوله منع للمسلّم وهو خطأ ، فإنّ الإجماع إنّما يتمّ لو اشتمل على قوله ، فلا يجوز منع دخوله بعد فرضه ،

__________________

(١) في «ب» : الجملة.

(٢) في «أ» بزيادة : من.

١٤٣

وحمله على التقية كذلك ، لأنّا فرضنا وقوع الإجماع الصادر عن الاختيار ، وهو لازم عليهم في آحاد العلماء.

المبحث الرّابع : في حجج الجمهور على كونه حجّة

احتجّ الجمهور على كون الإجماع حجّة ، وأنّ مجموع الأمّة معصوم مع انتفاء عصمة كلّ واحد منهم ، بوجوه (١) :

[الوجه] الأوّل : حجّة الشافعي

وهي قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ)(٢) جمع بين

__________________

(١) ذكر الرازي هذه الوجوه مع اعتراضاتها والجواب عنها في «المحصول في علم أصول الفقه» : ٢ / ٨ ، المسألة الثالثة : في حجّية الإجماع ، فراجع.

(٢) النساء : ١١٥. هذه الآية احتجّ بها الشافعي لأوّل مرة على حجّية الإجماع وتبعه الآخرون عبر القرون ، ولشيخنا السبحاني بيان حول الآية أثبت بوضوح أنّ مفادها أجنبيّ عن الإجماع وحجيته. قال (دام ظله) :

أوّلا : إنّ الوقوف على مفاد الآية يتوقّف على تبيين سبيل المؤمن والكافر ، أي سبيل من يشاقق ومن لا يشاقق ، في عصر الرسول الذي تحكي الآية عنه ، فسبيل المؤمن هو الإيمان بالله وإطاعة الرسول ومناصرته ، وسبيل الآخر هو الكفر بالله ومعاداة الرسول ومشاقّته ، فالله سبحانه يندّد بالكافر ويذكر جزاءه بقوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) ويكون جزاء المؤمن بطبع الحال خلافه.

وعلى ضوء ذلك يكون المراد من اتّباع سبيل المؤمنين هو إطاعة الرسول ومناصرته ، ومن اتّباع ـ

١٤٤

مشاقّة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد ، فيشتركان في التحريم ، لقبح الجمع بين المحلّل والمحرّم في التوعّد ، فلا يقال : إن زنيت وشربت الماء عاقبتك ، وإذا حرم اتّباع غير سبيل المؤمنين ، وهو عبارة عن متابعة قول وفتوى (١) يخالف قولهم وفتواهم ، وجب أن يكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة ، إذ لا خروج عن القسمين.

والاعتراض من وجوه :

الأوّل : لا نسلّم تحريم متابعة غير سبيل المؤمنين مطلقا ، بل جاز اشتراط التحريم بمشاقّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا مطلقا ، ولا يلزم : إن زنيت وشربت الماء عاقبتك ، لإباحة الشرب مطلقا ومقيدا.

__________________

ـ سبيل غيرهم هو معاداة الرسول ومناقشته ؛ فأي صلة للآية بحجّية اتّفاق المؤمنين على حكم من الأحكام.

وبعبارة أخرى : أنّ الموضوع للجزاء في الآية مركّب من أمرين :

أ. معاداة الرسول.

ب. سلوك غير سبيل المؤمنين.

فعطف أحدهما على الآخر بواو الجمع وجعل سبحانه لهما جزاء واحدا وهو قوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ).

وبما أنّ معاداة الرسول وحدها كافية في الجزاء ، وهذا يكشف عن أنّ المعطوف عبارة أخرى عن المعطوف عليه ، والمراد من اتّباع غير سبيل المؤمنين هو شقاق الرسول ومعاداته وليس أمرا مغايرا معه كما حسبه المستدل.

وثانيا : أنّ سبيل المؤمنين في عصر الرسول هو نفس سبيل الرسول ، فحجّية السبيل الأوّل لأجل وجود المعصوم بينهم وموافقته معه ، فلا يدلّ على حجّية مطلق سبيل المؤمنين بعد مفارقته عنهم. راجع «الوسيط في أصول الفقه» : ٢ / ٣٣ ـ ٣٤.

(١) في «ب» و «ج» : قولهم وفتواهم.

١٤٥

لا يقال : إذا كان اتّباع غير سبيل المؤمنين حراما عند حصول المشاقّة وجب أن يكون اتّباع سبيلهم واجبا عند المشاقّة ، والتالي باطل ، لأنّ المشاقة ليست هي المعصية كيف كانت وإلّا لكان كلّ عاص مشاقّا له ، بل هي الكفر وتكذيبه ، وإذا كان كذلك لزم وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرّسول ، وهو باطل ، لأنّ العمل بصحّة الإجماع متوقّف على العلم بالنبوة فإيجاب العمل به حال عدم العلم بالنبوة تكليف بالجمع بين الضدين ، وهو محال.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ تحريم اتّباع غير سبيل المؤمنين عند المشاقّة يستلزم وجوب اتّباع سبيلهم عندها لثبوت الواسطة ، وهي عدم الاتّباع ؛ ونمنع (١) امتناع وجوب اتّباع سبيل المؤمنين عند المشاقّة ، وأنّها لا تحصل إلّا مع الكفر ، لأنّها مشقّة من كون أحد الشخصين في شق والآخر في آخر ، ويكفي فيه مطلق المخالفة وإن لم يبلغ حد الكفر.

سلّمنا أنّ المشاقّة لا تحصل إلّا عند الكفر ، لكن لا ينافي الكفر تمكّن العمل بالإجماع ، لأنّ الكفر كما يكون بالجهل بصدقه عليه‌السلام فقد يكون بغيره ، كشدّ الزنّار (٢) ، وإلقاء المصحف في النجاسات ، والاستخفاف بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الاعتراف بصدقه ونبوته ، وإنكار نبوته باللّسان مع العلم بكونه نبيا ، وكلّ ذلك لا ينافي العمل بوجوب الإجماع. (٣)

__________________

(١) في «ب» : يمتنع.

(٢) الزّنّار والزّنّارة : ما على وسط المجوسي والنصراني ، وفي التهذيب : ما يلبسه الذّمّيّ يشدّه على وسطه. لسان العرب : ٤ / ٣٣٠ ، مادة «زنر».

(٣) في «ب» بزيادة : المنافاة.

١٤٦

سلّمنا ، فلم قلتم : إنّها مانعة من التكليف به ، فإنّه تعالى كلّف أبا لهب بالإيمان ، ومن جملته تصديق الله تعالى في جميع ما أخبر به ، ومن جملته أنّه لا يؤمن فيكون مكلفا بأنّ يؤمن بأنّه لا يؤمن ؛ وكذا في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١) ، فأولئك كانوا مكلّفين بالإيمان ، ومن جملته تصديقه بهذا الخبر.

الثاني : الآية إنّما تدلّ على تحريم متابعة غير سبيل المؤمنين بشرط تبيّن الهدى لا مطلقا ، لأنّه تعالى ذكر المشاقّة وشرط فيها تبيّن الهدى ثمّ عطف الاتّباع ، فيجب اشتراط التبيّن في التوعّد على الاتّباع قضية للعطف ؛ واللام في الهدى للاستغراق ، فلا يحصل التوعّد على اتّباع غير سبيل المؤمنين إلّا بعد تبيّن جميع أنواع الهدى ، ومن جملته الدّليل الذي ذهب المجمعون إلى الحكم باعتباره ، فتنتفي (٢) فائدة الإجماع حينئذ ؛ ولأنّ من قال لغيره : إذا ظهر لك صدق فلان فاتّبعه ، فهم منه ظهور صدق قوله بشيء غير قوله ، فكذا هنا وجب أن يكون تبيّن صحّة إجماعهم بشيء غير إجماعهم ، وإذا توقّف التمسّك بالإجماع على دليل منفصل يدلّ على صحّة ما أجمعوا عليه ضاعت فائدته.

الثالث : نمنع التوعّد على متابعة كلّ ما كان غير سبيل المؤمنين ، لأنّ لفظي الغير والسبيل ليسا للعموم.

__________________

(١) البقرة : ٦.

(٢) في «ب» : فيبقى ، وفي «ج» : فينبغي.

١٤٧

سلّمنا ، لكن يسقط الاستدلال حينئذ ، لأنّه يصير التقدير : كلّ من اتّبع كلّ ما كان مغايرا لكلّ ما كان سبيلا للمؤمنين استحقّ العقاب ، وهو لا يقتضي أن يكون المتبع لبعض ما غاير سبيل المؤمنين مستحقّا للعقاب ، بل الآية تدلّ على المتابعة في البعض ، وهو حق ، فإنّه يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين أو بعض ما غاير كلّ سبيل المؤمنين ، أو كلّ ما غاير بعض سبيل المؤمنين ، وهو السّبيل الذي صاروا به مؤمنين ، والذي يغايره هو الكفر. فمفهوم الآية ويتبع غير سبيل المؤمنين فيما صاروا به مؤمنين ، كمفهوم قولنا لا يتبع غير سبيل الصالحين ، وهو المنع من متابعة غير سبيل الصالحين فيما صاروا به صالحين. ولا يفهم المنع من متابعة غير سبيل الصالحين في كلّ شيء حتى في المباحات كالأكل والشرب ، وأيضا الآية نزلت في رجل ارتدّ ، وهو يدلّ على أنّ الغرض المنع من الكفر.

الرابع : لفظ السّبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه الشيء وليس مرادا إجماعا ، فيبقى مجملا ، إذ ليس بعض المجازات أولى ، وأيضا لا يمكن جعله مجازا عن اتّفاق أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحكم ، لعدم المناسبة بين الطريق المسلوك واتّفاق الأمّة على حكم شرعي ، وشرط المجاز المناسبة.

سلّمنا ، لكن (يجوز جعله) (١) مجازا عن الدليل الذي لأجله أجمعوا ، لأنّ إجماعهم إن لم يكن عن دليل كان خطاء ، وإن كان عن دليل حصل سبيلان (٢) : الفتوى والاستدلال عليه ، فليس حمله على الفتوى أولى من

__________________

(١) في «ب» : لا يجوز.

(٢) في «أ» : شيئان.

١٤٨

حمله على دليل الفتوى ، بل هذا أولى للتناسب بين الدليل والطريق ، فإنّ الحركة الفكرية في مقدّمات الدليل موصلة إلى المطلوب كإيصال الحركة البدنية في الطريق المسلوك إلى المطلوب ؛ فمقتضى الآية وجوب اتّباعهم في سلوك طريقهم الذي لأجله أجمعوا عليه وهو الاستدلال بدليلهم ، فلا يبقى الإجماع بانفراده حجة.

الخامس : لا يمكن حمل «من» على العموم ولا لفظ المؤمنين ، وإلّا لزم تطرّق التخصيص إلى الآية لعدم دخول العوام والصبيان والمجانين في الإجماع.

السادس : لا يلزم من تحريم اتّباع غير سبيلهم وجوب اتّباع سبيلهم ، لأنّ لفظ غير وإن استعمل في الاستثناء لكنّه في الأصل للوصف ، وهناك واسطة وهي ترك الاتّباع.

لا يقال : ترك متابعة سبيل المؤمنين غير سبيل المؤمنين ، فمن ترك اتّباع سبيلهم اتّبع غير سبيلهم.

لأنّا نقول : شرط المتابعة الإتيان بمثل فعل المتبوع لأجل أنّه فعله ، فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين لأجل أنّ غير المؤمنين تركه اتّبع غير سبيل المؤمنين ؛ أمّا من تركه لدلالة دليل على وجوب ذلك الترك ، أو لأنّه لمّا لم يدلّ شيء على متابعة المؤمنين تركه على الأصل ، لم يكن متّبعا لأحد ، فلا يدخل تحت الوعيد.

السابع : نمنع دلالة الآية على متابعة المؤمنين في كلّ الأمور لوجوه :

١٤٩

أ. لو اتّفقوا على فعل مباح لم يجب اتّباعهم فيه وإلّا لناقض الإباحة.

ب. أهل الإجماع قبله كانوا جازمين بجواز البحث عن الحكم وصيرورة كلّ واحد إلى اجتهاده ، وبعده منعوا منه ، فلو وجب اتّباعهم عامّا لزم اتّباعهم في النقيضين.

لا يقال : الإجماع الأوّل كان مشروطا بعدم الاتّفاق على حكم واحد فلمّا اتّفقوا زال شرط الإجماع الأوّل لزوال شرطه.

لأنّا نقول : المفهوم من عدم حصول الإجماع حصول الخلاف ، فلو شرطنا تجويز الخلاف بعدم الإجماع لزم اشتراط تجويز وجود الشيء بوجوده ، ولأنّه لو جاز اشتراط أحد الإجماعين جاز اشتراط الآخر ، وهكذا فلا يستقر إجماع ما.

ج. الإجماع إن لم يكن عن دليل كان خطأ فلا يكون حجّة ، وإن كان عن دليل لم يكن هو الإجماع ، لأنّه إمّا نفس حكمهم أو نتيجة حكمهم ، ودليل الحكم متقدّم عليه وعلى نتيجته ، فإذا كان عن الإجماع وجب اتّباعهم في الاستدلال على الحكم بغير الإجماع ، فيكون إثباته بالإجماع اتّباعا لغير سبيلهم ؛ فإذن تعميم المتابعة يستلزم التناقض ، ونحن نقول بالمتابعة في البعض ، وهو الإيمان لوجوه :

أ. لو قال : اتّبع سبيل الصالحين ، فهم فيما به صاروا صالحين.

٢. حمل الآية عليه يقتضي كون ذلك السّبيل حاصلا في الحال ، ولو حمل على الحكم الشرعي كان ممّا سيصير سبيلا لهم لعدم تحقّقه

١٥٠

في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالحمل على الأوّل أولى.

٣. لو قال السلطان : من يشاقق وزيري ويتّبع غير سبيل هؤلاء ـ ويشير إلى قوم متظاهرين بطاعة الوزير ـ عاقبتهم ، لفهم سبيلهم في طاعة الوزير دون سائر السبيل.

الثامن : لفظ المؤمنين جمع معرف بلام الجنس فيفيد الاستغراق ، ولأنّ إجماع البعض غير معتبر إجماعا ، ولأنّ أقوال الفرق متناقضة وكلّ المؤمنين هم الذين يوجدون إلى يوم القيامة ، فلا يكون إجماع كلّ عصر حجّة.

لا يقال : المؤمنون هم المصدقون وهم الموجودون ، لأنّ من لم يوجد ليس بمؤمن.

لأنّا نقول : إذا وجد أهل العصر الثاني لم يكن أهل العصر الأوّل كلّ المؤمنين ، فلا يكون إجماعهم حجّة على أهل الثاني.

التاسع : الآية نزلت في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتكون الآية مختصّة بمؤمني ذلك الوقت فيكون إجماعهم حجّة ، والتمسّك بالإجماع إنّما يقع (١) بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما لم يثبت بقاء الموجودين عند نزول هذه الآية إلى بعد وفاته واتّفاق أقوالهم لم تدل الآية على صحّة ذلك الإجماع ، لكنّه غير معلوم في شيء من الإجماعات ، بل المعلوم خلافه ، لموت كثير منهم في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

العاشر : لا يمكن إرادة كلّ المؤمنين في كلّ عصر ، لعدم اعتبار قول

__________________

(١) في «ب» : ينفع.

١٥١

العوام والصبيان والمجانين ؛ بل بعض مؤمني كلّ عصر ، وهو المعصوم.

الحادي عشر : الإيمان عبارة عن التصديق القلبي وهو خفي عنّا ، فكيف نعلم كون المجمعين مصدّقين ولا عبرة بتصديق اللّسان لجواز كفرهم بالقلب ، وإذا جهلنا إيمانهم لم يجب علينا اتّباعهم ؛ وهو لازم على المعتزلة أيضا القائلين بأنّ المؤمن هو المستحق للثواب ، لأنّه غير معلوم أيضا ، ولأنّ الأمة إذا أجمعت لم يعلم كونهم مستحقّين للثواب إلّا بعد العلم بصدقهم في ذلك الحكم ، إذ لو جوّزنا خطاءهم وأن يكون كبيرة جوّزنا خروجهم عن استحقاق الثواب واسم الإيمان. فإذن لا يعرف إيمانهم إلّا بعد معرفة كون حكمهم صوابا ، فلو استفيد كونه صوابا من إجماعهم دار.

لا يقال : يجوز أن يكون المراد من المؤمنين المصدّقين باللسان مثل (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ)(١).

لأنّا نقول : اسم المؤمن على المصدّق بلسانه مجاز ، فإذا جاز حمله عليه جاز أن يحمل (٢) على آخر ، وأن يكون المراد إيجاب متابعة السبيل الذي من شأنه أن يكون سبيلا للمؤمنين ، كما لو قال : «اتّبع سبيل الصّالحين» أراد اتّباع السبيل (٣) الذي يجب أن يكون (سبيلا للصالحين) (٤) لا وجوب اتّباع سبيل من يعتقد كونه صالحا.

__________________

(١) البقرة : ٢٢١.

(٢) في «ب» و «ج» : يحمله.

(٣) في «أ» و «ج» : سبيل.

(٤) في «أ» : سبيل الصالحين.

١٥٢

الثاني عشر : دلالة الآية على الإجماع ظنّية لما تقدّم من أنّ دلالة الألفاظ ظنّية ، والمسألة قطعية فلا يجوز التمسّك فيها بالظنّي ، ولا يمكن جعل المسألة ظنية لأنّ أحدا لم يقل إنّ الإجماع بصريح القول ظنّي ، بل بعضهم نفى كونه دليلا أصلا ، وبعضهم جعله قطعيا ، فكونه ظنيا ثالث لم يقل به أحد. والعجب أنّ الفقهاء أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار ، وأجمعوا على أنّ منكر ما تدلّ عليه العمومات لا يكفّر ولا يفسّق إذا كان عن تأويل ، ثمّ يقطعون بما دلّ عليه الإجماع وبكفر مخالفه أو فسقه ، فجعلوا الفرع أقوى من الأصل!

الثالث عشر : المعارضة بالكتاب والسنّة والعقل.

أمّا الكتاب فالآيات الدالّة على منع كلّ الأمّة من القول الباطل والفعل الباطل ، كقوله : (لا تَقُولُوا) (١) (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ)(٢) ، والنهي إنّما يصحّ عن المتصوّر.

وأمّا السنّة فوجوه :

أ. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقوم الساعة إلّا على شرار أمّتي. (٣)

ب. لم يذكر معاذ الإجماع ، ولو كان دليلا شرعيا لذكره ولبيّنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة.

__________________

(١) راجع البقرة : ١٠٤ ؛ النساء : ٩٣ و ١٧١ ؛ النحل : ١١٦.

(٢) البقرة : ١٨٨.

(٣) صحيح مسلم : ٨ / ٢٠٨ ، باب قرب الساعة ، كتاب الفتن وأشراط الساعة ؛ مسند أحمد : ١ / ٣٩٤ ؛ مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٩٤ ؛ مسند أبي داود الطيالسي : ٤٠ ؛ صحيح ابن حبان : ٥ / ٢٦٤. وفيها : الناس بدل «أمّتي».

١٥٣

ج. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (١).

د. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتّخذ الناس رؤساء جهّالا فسئلوا (٢) فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» (٣).

ه. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعلّموا الفرائض فإنّها أوّل ما ينسى. (٤)

وقوله عليه‌السلام : «من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل» (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ١٩١ ، كتاب الحج ، باب الذبح ؛ وج ٧ / ١١٢ ، كتاب الأدب ؛ وج ٨ / ٣٦ ، كتاب الديات ؛ مسند أحمد : ٥ / ٣٩ و ٤٤ و ٤٥ ؛ سنن الدارمي : ٢ / ٦٩ ؛ أمالي الطوسي : ٥٠٣ ح ١١٥٢.

(٢) في «أ» : فيسألوا.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٣٤ ، كتاب العلم ؛ صحيح مسلم : ٨ / ٦٠ ، كتاب العلم ، باب رفع العلم وقبضه ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٢٠ ح ٥٢ ؛ بحار الأنوار : ٢ / ١١٠ ح ١٩ وص ١٢١ ح ٣٧.

(٤) ذكره الرازي في محصوله : ٤ / ٤٤١ ؛ والآمدي في الإحكام : ١ / ٢٠٣ وج ٤ / ٢٣٥. وأمّا في المصادر الحديثية فقد ورد باختلاف في الألفاظ حيث ورد فيها : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تعلّموا الفرائض وعلموه الناس ، فإنّه نصف العلم ، وهو (أوّل شيء) ينسى ، وهو أوّل شيء ينتزع من أمّتي».

راجع : سنن الدارقطني : ٤ / ٣٧ ؛ السنن الكبرى : ٦ / ٢٠٩ ؛ كنز العمال : ١٠ / ١٦٦ برقم ٢٨٨٦٢ ؛ الدر المنثور : ٢ / ١٢٦ ؛ عوالي اللآلي : ٣ / ٤٩١ برقم ٣ ؛ وغيرها.

(٥) صحيح البخاري : ١ / ٢٨ ، كتاب العلم ؛ وج ٦ / ١٥٨ ، باب يقل الرجال ويكثر النساء من كتاب النكاح ؛ وج ٨ / ٢٠ ، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة ؛ صحيح مسلم : ٨ / ٥٨ ، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن من كتاب العلم ؛ سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٤٣ ؛ مسند أحمد : ـ

١٥٤

فهذه الأخبار تدلّ على خلو الزمان عمّن يقوم بالواجبات.

وأمّا المعقول فوجهان :

أ. كلّ واحد يجوز عليه الخطأ فالمجموع كذلك ، كما أنّ كلّ زنجي أسود فكذلك المجموع.

ب. الإجماع إن كان لدلالة فالواقعة الّتي أجمع عليها كلّ علماء العالم تكون عظيمة ، لتوفر الدواعي على نقل دليلها القطعي الذي أجمعوا لأجله ، فلا يبقى في الإجماع فائدة ؛ وإن كان لأمارة لزم اتّفاق الخلق على مقتضى أمر ظني ، وهو محال لاختلاف أحوال الناس فيها ، ولأنّ في الأمة من ينكر الأمارة ، وإن كان لا لهما كان خطأ.

والجواب عن الأوّل : أنّ التوعّد ليس مشروعا بالمشاقّة ، لأنّ المعلّق على الشرط إن لم يعدم بعدمه حصل غرضنا ، وإلّا لكان اتّباع غير سبيل المؤمنين جائزا مطلقا عند عدم المشاقّة ، وهو باطل ، لأنّ خلاف الإجماع إن لم يكن خطأ فلا شك في أنّه ليس صوابا مطلقا.

وفيه نظر ، لأنّ التوعّد إذا كان مشروطا (١) بالمشاقّة وانتفى الشرط انتفى المشروط الذي هو التوعّد ، ولا يلزم منه كون مخالفة الإجماع صوابا لامتناع (٢) المخالفة حينئذ ، وفيه بحث.

__________________

ـ ٣ / ١٥١ و ١٧٦ و ٢٠٢. وقد جاء الحديث في هذه المصادر كما يلي :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل».

(١) في «أ» : مشترطا.

(٢) في «أ» : بالامتناع.

١٥٥

واعترض أيضا بأنّه لا يلزم حصول الغرض من القسم الأوّل ، لجواز أن لا يكون المعلّق بالشرط عدما عند عدمه ، ويكون حرمة اتّباع غير سبيل المؤمنين عدما عند عدم مشاقّة الرّسول ، وإن ردد (١) في عدم هذه الحرمة عند عدم المشاقّة لم يلزم جواز مخالفة الإجماع في جميع الصّور (٢) عند عدم المشاقّة وإن كانت الحرمة عدما عنده ، إذ انتفاء حرمة كلّ اتّباع لغير سبيل المؤمنين لا يوجب جواز كلّ اتّباع لغير سبيلهم. ثمّ إثبات القسم الثاني حق الترديد الأوّل يحصل غرضه.

وأيضا لم يرد المعترض (٣) بذلك تعليق الحرمة بالمشاقّة ، بل ترتيب الوعيد على المشاقّة الاتّباع (٤) المذكورين مجموعا ، ولا يلزم منه ترتّبه على كلّ واحد منهما منفردا ، وما ذكره ليس جوابا عنه.

وعن الثاني : أنّ تبيّن الهدى ليس شرطا في إيجاب متابعة سبيل المؤمنين ، بل هو شرط في لحوق الوعيد عند المشاقّة لا عند اتّباع غير سبيل المؤمنين ، ولا يلزم تساوي المعطوف والمعطوف عليه في شرط المعطوف عليه.

سلّمنا لكنّ الهدى ـ الذي هو شرط ـ هو دليل الوحدانية والنبوة لا دليل أحكام الفروع ، وإذا لم يكن دليل الفروع شرطا في لحوق الوعيد على

__________________

(١) في «أ» : ورد.

(٢) في «أ» : الفنون.

(٣) في «ب» : الغرض.

(٤) في «ب» و «ج» : والاتباع.

١٥٦

المشاقّة لم يكن (شرطا في الوعيد) (١) على اتّباع غير سبيل المؤمنين.

سلّمنا لكن هنا ما يمنع منه ، وهو خروج هذه الآية مخرج المدح للمؤمنين ، وعلى ما ذكره السائل يبطل ذلك ، فإنّا لو عرفنا أنّ قول اليهود في بعض الأحكام هدى لزمنا القول بمثله ولا فضيلة لهم فيه ، ولأنّ اتّباع المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم لأجل أنّهم قالوه لا (لصحة بالدليل) (٢) ، فإنّا لسنا متّبعين لليهود والنصارى في إثبات الصانع ونبوة موسى وعيسى ، لأنّا لم نذهب إليه لأجل قولهم.

وفيه نظر ، إذ مع الحمل على (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) الموجب لعدم المشاقّة (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) من بعد ما تبيّن له الهدى الموجب لعدم المتابعة يحصل الغرض من العطف ، ومثله ممكن وهو الظاهر من الآية.

وعن الثالث : أنّ العموم حصل من اللفظ والإيماء.

أمّا اللفظ فمن وجهين :

أ. لو قال : «من دخل غير داري ضربته» فهم العموم لصحة استثناء كلّ دار مغايرة لداره.

ب. لو حمل على سبيل واحد وهو غير معيّن لزم الإجمال بخلاف العموم ، وحمل كلامه تعالى على ما هو أكثر فائدة أولى ، خصوصا مع أنّ عرف هذا اللفظ للعموم.

__________________

(١) في «ب» : شرط الوعيد.

(٢) في «ب» : صحة الدليل.

١٥٧

وأمّا الإيماء فلما يأتي من أنّ ترتيب الحكم على اسم مشعر بكون المسمّى علة له فعلّة (١) التهديد كونه اتّباعا لغير سبيل المؤمنين ، فيلزم الحكم بعموم هذا المقتضي.

قوله : لو حمل على الكلّ سقط الاستدلال.

قلنا : إنّما يلزم ما قلتم لو حمل على الكلّ المجموعي ، أمّا على كلّ واحد فلا ، ومعلوم أنّه المتبادر إلى الفهم ، لأنّ من قال : «من دخل غير داري فله درهم» لم يفهم أنّه أراد من دخل جميع الدور المغايرة.

قوله : المراد المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير مؤمنين وهو الكفر.

قلنا : الأصل إجراء الكلام على عمومه ، ولأنّه لا معنى لمشاقّة الرسول إلّا اتّباع غير سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير مؤمنين ، فلو حملنا الاتّباع عليه لزم التكرار.

قوله : نزلت في رجل ارتدّ.

قلنا : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.

وفيه نظر ، لأنّ لفظة «غير» و «سبيل» لا خلاف في أنّهما ليستا من ألفاظ العموم والاستثناء للصلاحية وانّه قرينة ، ولا إجمال لفهم فيما صاروا به مؤمنين و (نمنع علّة) (٢) المسمّى ، وألفاظ العموم للكلّ المجموعي لا لكلّ

__________________

(١) في «أ» : فعليّة.

(٢) في «ب» : يمنع عليه ، وفي «ج» : يمتنع عليه.

١٥٨

واحد لأصالة البراءة خرج الكلّ المجموعي للنّص فيبقى الآخر على الأصل ، ولا تكرار لو حمل على قوله فيما صاروا به مؤمنين ، لتوجّه الذم على الكفر (١) وعلى ترك الإيمان الذي هو سبيل مستحق المدح ، فكأنّ للمخالفة أثرا في توجه الذم ، وبالخصوص إذا تضمّنت مخالفة المؤمنين المؤيدين بالعقل ، وخصوص السّبب وإن لم يوجب التخصيص لكن يضعف معه العموم.

وعن الرابع : يمنع (٢) كون السّبيل الطريق لقوله : (هذِهِ سَبِيلِي)(٣) ، (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ)(٤).

سلّمنا ، لكنّه غير مراد هنا ، وأهل اللغة تطلق السّبيل على ما يختاره الإنسان لنفسه في القول والعمل ، فيحمل عليه لظهوره لأصالة عدم مجاز آخر.

قوله : المراد متابعتهم في الاستدلال بدليلهم.

قلنا : لمّا أمر باتّباعهم في الاستدلال بدليلهم ثبت انّ كلّ ما اتّفقوا عليه حق ، ولأنّ من أثبت الحكم لدليل لم يكن متّبعا لغيره.

وفيه نظر ، فإنّ أهل اللغة نصّوا على أنّه الطريق ، والأصل الحقيقة وقوله (هذِهِ سَبِيلِي) و (سَبِيلِ رَبِّكَ) مجاز قطعا ، وكذا مختار الإنسان ، لأنّه طريق

__________________

(١) في «أ» : الفكر.

(٢) في «أ» : نمنع.

(٣) يوسف : ١٠٨.

(٤) النحل : ١٢٥.

١٥٩

الحركة الفكرية ، ولا يلزم من صحّة الدليل صحّة كلّ ما قالوه ، والاتّباع كما يصدق في القول يصدق في الاستدلال.

وعن الخامس : بما تقدّم في العموم.

وفيه نظر ، لأنّ العموم وإن كان ظاهرا لكنّه ليس قطعيا والإجماع قطعي.

وعن السادس : بأنّ العرف قاض بأنّ قولنا : لا تتبع غير سبيل الصالحين أمر باتّباع سبيل الصالحين حتى لو قال : لا تتبع غير سبيل الصالحين ولا سبيلهم كان ركيكا. نعم لو قال : «لا تتبع سبيل غير الصالحين» لم يفهم الأمر بمتابعة سبيلهم ، ولهذا يصحّ لا تتبع سبيل غير الصالحين ولا سبيلهم ، ففرق بين لا تتبع غير سبيل الصالحين وبين لا تتبع سبيل غير الصالحين.

وفيه نظر ، لأنّ منشأ الفرق كون الأوّل كالسالب البسيط والثاني كالموجب المعدول ، فوجه الفرق كون الأوّل أعمّ ، لكن لا مدخل للعموم هنا ، إذ كونه أعمّ باعتبار صدقه في غير سبيل أحد أصلا.

وعن السابع : بأنّ الواجب اتباع سبيل المؤمنين في الكلّ لصحّة الاستثناء ، ولأنّه لمّا ثبت النّهي عن متابعة كلّ ما هو غير سبيل المؤمنين وثبت انّه لا واسطة بينها وبين اتّباع سبيل المؤمنين ، لزم أن يكون اتّباع سبيل المؤمنين واجبا في كلّ شيء ، وتخصيص المباحات لضرورة التناقض لا يخرج كونه حجّة في غيرها ، ولا امتناع في اشتراط جواز الاختلاف لوقوع (١) الاختلاف ولا يلزم جواز مثله في سائر الإجماعات ، لأنّ أهل

__________________

(١) في «ب» و «ج» : بوقوع.

١٦٠