نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

كون فعلكم مصلحة فلم لا يجوز كون الفعل مصلحة إذا ظننا كذب الراوي أو اشتهينا فعله ، وإذا اخترناه وأن يرد التعبّد بذلك.

لأنّا نقول : أجاب قاضي القضاة (١) بجواز كون هذه الأشياء أسبابا يجب عندها الفعل.

وأجاب أبو الحسين (٢) : بأنّا جوّزنا كون الفعل مصلحة عند حالة من حالاتنا ، ثمّ بيّنّا أنّ ظن صدق الراوي ممّا يشهد العقل بجواز كونه شرطا في المصلحة بما ذكرناه من الحكم بالبيّنات ، وكما أنّ العقل شاهد بذلك فهو شاهد بأنّ ما ذكرتموه لا يكون شرطا في وجوب الفعل ، على أنّ القول بأنّه «ينبغي أن يعمل الإنسان بما يشتهيه» إسقاط للتكليف ، لأنّه بمنزلة أن يقال : افعل ما تختاره دون ما لا تختاره ، ونحن إنّما نتكلّم في تكليف على صفة هل يحسن أم لا؟ وقصد السائل أن يلزمنا على هذا التكليف تكليفا آخر على صفة أخرى ، وليس قصده إلزامنا إسقاط التكليف ، فقد ظهر أنّه لم يلزم ما قصد إلزامنا.

لا يقال : يجوز أن يقال : إذا اخترت الفعل واشتهيته ولم يصرفك عنه صارف فقد وجب عليك فعله ما دمت مريدا له ، وإن لم تكن مختارا لم يجب عليك.

لأنّا نقول : لا يجوز ذلك ، لأنّه والحال هذه لا بدّ من كونه فاعلا ، فإيجاب ذلك لا يصحّ.

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ١٠٥.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ١٠٥.

٣٨١

البحث الرابع : في وقوع التعبّد به

اختلف القائلون بجواز التعبّد به عقلا ، فمنهم من قال : قد وقع التعبّد به ، ومنهم من قال : لا يقع.

والأوّلون اتّفقوا على أنّ الدليل السمعي دلّ عليه ، واختلفوا في الدليل العقلي هل دلّ عليه؟

فقال القفّال وابن سريج وأبو الحسين البصري (١) : إنّ الدليل العقلي دلّ على وقوع التعبّد به.

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي (٢) وأكثر المعتزلة (٣) والأشاعرة : إنّ دليل التعبّد به السمع لا غير. (٤)

وأمّا الذين قالوا لم يرد التعبد به فقد افترقوا ثلاث فرق :

الأولى : لم يوجد ما يدلّ على كونه حجّة فوجب القطع على أنّه ليس بحجّة. وهو قول السيّد المرتضى. (٥)

الثانية : ورد في الأدلّة السمعية ما يدلّ على أنّه ليس بحجّة.

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ١٠٦.

(٢) عدة الأصول : ١ / ١٠٠.

(٣) كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار.

(٤) للاطّلاع على المزيد راجع المحصول : ٢ / ١٧٠ ؛ عدة الأصول : ١ / ٩٨.

(٥) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٢٨.

٣٨٢

الثالثة : الدليل العقلي دلّ على امتناع العمل به.

واتّفق الناس كافّة على جواز العمل بالخبر الّذي لا يعلم صحّته في الفتوى والشهادة وفي الأمور الدنيوية.

والحقّ وقوع التعبّد به لوجوه (١) :

الأوّل : قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ)(٢) أوجب الحذر بإخبار الطائفة وهي عدد لا يفيد قولهم العلم ، ووجوب الحذر يستلزم وجوب العمل.

أمّا وجوب الحذر ، فلأنّه أوجبه عند إنذار الطائفة ، لقوله : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٣) ، وكلمة «لعلّ» للترجّي ، وهو محال في حقّه تعالى. وإذا تعذّر حمله على ظاهره حمل على المجاز وهو الطلب ، لأنّ المترجّى طالب ، فإذا كان الطلب لازما للترجّي وجب حمل اللّفظ على الطلب ، وطلب الله هو الأمر فيكون قد أمر بالحذر. والإنذار الإخبار ، لأنّه عبارة عن الخبر المخوف ، والخبر داخل فيه ، فقد أوجب الحذر عند إخبار الطائفة.

وهي عدد لا يفيد قولهم العلم ، لأنّ كلّ ثلاثة فرقة ، وقد أوجب على كلّ فرقة خروج طائفة منها ، والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان ، وقولهما لا يفيد العلم.

وبيان وجوب العمل : انّ الراوي إذا روى لقوم خبرا يقتضي المنع من

__________________

(١) ذكر الرازي هذه الوجوه أيضا ، راجع المحصول : ٢ / ١٧١ وما بعدها.

(٢) التوبة : ١٢٢.

(٣) التوبة : ١٢٢.

٣٨٣

فعل فعلوه ، فإن وجب تركه فالمطلوب ، ويلزم من وجوب العمل به في هذه الصورة العمل به مطلقا لعدم القائل بالفرق ، وإن لم يجب لم يكن الحذر واجبا ، وهو ينافي مقتضى الآية.

فإن قيل : لا نسلّم أنّه أوجب الحذر عند إنذار الطائفة ، وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) لا يمكن حمله على ظاهره ، ونمنع حمله على ذلك المجاز لجواز حمله على غيره.

سلّمنا وجوب الحذر عند الإنذار ، لكن نمنع أنّ الإنذار هو الإخبار ، فإنّه من جنس التخويف ، فنحمل الآية على التخويف الحاصل من الفتوى ، بل هو أولى ؛ لأنّه أوجب التفقّه لأجل الإنذار ، والتفقّه إنّما يحتاج إليه في الفتوى لا في الرواية.

لا يقال : يتعذّر الحمل على الفتوى ، والّا لاختصّ لفظ القوم بغير المجتهد ، فإنّ المجتهد ليس له العمل بفتوى المجتهد ، لكن الآية مطلقة في وجوب إنذار القوم ، سواء كانوا مجتهدين أو لا.

أمّا لو حملناه على رواية الخبر لا يلزمنا ذلك ؛ لأنّه قد يروى للمجتهد وغيره ؛ ولأنّ من شرب النبيذ فروى له إنسان ما يدلّ على أنّ شاربه في النار ، فقد أخبره بمخوف ، وهو معنى الإنذار ، فصحّ وقوعه على الرواية. ثمّ إن لم يقع على الفتوى فالمطلوب من أنّ المراد بالإنذار الرواية لا الفتوى. وإن وقع كان حقيقة في القدر المشترك ، وهو الخبر المخوف دفعا للاشتراك ، فيكون متناولا للفتوى والرواية معا ، وذلك لا يضرّنا.

لأنّا نقول : كما يلزم من حمل الإنذار على الفتوى تخصيص القوم بغير

٣٨٤

المجتهد ، يلزم من حمله على الرواية تخصيص لفظ القوم بالمجتهد ، للإجماع على منع العامي من الاستدلال بالحديث ، فالتقييد لازم عليكم كما لزمنا والترجيح معنا ، لأنّ غير المجتهد أكثر من المجتهد ، وإذا أقلّ التقييد كان أولى.

والإنذار إذا كان مشتركا بين الفتوى والرواية كفى في الامتثال الإتيان بصورة واحدة ، لأنّ المطلوب إدخال القدر المشترك بين الفتوى والرواية في الوجود ، وهو يحصل في الفتوى ، فالقول بكون الفتوى حجّة يكفي في العمل بمقتضى النصّ ، فتنتفي دلالته على وجوب العمل بالرواية.

ولأنّ قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا) يدلّ على أنّه ليس في الطائفة مجتهد ، إذ لو كان فيها مجتهد لم يجب على بعضها أن ينفر للتفقّه فيكون الإنذار الإفتاء.

سلّمنا ، أنّ المراد رواية الخبر خاصة ، لكن المراد أخبار القرون الماضية وما فعل الله تعالى بهم ، لأنّ سماعه يقتضي الاعتبار لقوله : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)(١) ؛ أو التنبيه على وجوب النظر والاستدلال.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ كلّ ثلاثة فرقة ، فإنّه تصديق الشافعية فرقة واحدة لا فرق ، ولأنّه يلزم وجوب خروج واحد من كلّ ثلاثة للتفقّه ، وهو باطل إجماعا.

سلّمنا ، لكن الطائفة اسم للواحد والاثنين وقوله : (وَلِيُنْذِرُوا)(٢)

__________________

(١) يوسف : ١١١.

(٢) التوبة : ١٢٢.

٣٨٥

ضمير جمع أقلّه ثلاثة ، فهو إذن غير عائد إلى كلّ واحد من الطوائف ، بل المجموع ، فجاز أن يبلغ حدّ التواتر.

سلّمنا ، لكن نمنع وجوب العمل بذلك الخبر ووجوب الترك على الجماعة الذين خوّفوا من فعلهم للاحتياط ، حتّى إن كان التارك عاميا وجب عليه الرجوع إلى المفتي ، فإن أذن له فيه جاز له العود إليه ، وإن كان مجتهدا نظر في الأدلّة ، فإن وجد فيها ما يقتضي المنع من ذلك الفعل امتنع منه ، وإلّا جاز له العود إليه.

سلّمنا ، لكن نحتمل التفقّه في الأصول.

سلّمنا ، لكن وجوب الإنذار لا يستلزم وجوب القبول على المنذر ، كما يجب على الشاهد أن يشهد ولا يجب على الحاكم أن يحكم ، ويجب على كلّ واحد من المتواترين الإخبار ، ولا يجب على السّامع أن يقول (١) على خبره وحده فيما طريقة العلم ، ويجب على من خوّف بالقتل إن لم يدفع ماله دفع ، ويقبح من المخوف أخذه.

أو يقول : يجب على المنذر الحذر إذا انضاف إلى المخبر غيره حتّى يتواتر إنذارهم. (٢)

سلّمنا ، لكن نمنع أنّ قوله : (وَلِيُنْذِرُوا) للأمر.

سلّمنا ، لكن نمنع أن يكون هو الإخبار ، بل التخويف من فعل شيء أو

__________________

(١) في «أ» و «ب» : يعوّل.

(٢) راجع المعتمد : ٢ / ١١٣.

٣٨٦

تركه بناء على العلم بما فيه من المصلحة والمفسدة ، والتخويف خارج عن الإخبار.

سلّمنا ، لكن الطلب اللازم للترجّي إنّما هو الطلب بمعنى ميل النفس ، وهو مستحيل في حقّه تعالى لا الّذي هو بمعنى الأمر ، وإذا لم يكن الحذر مأمورا به لم يكن واجبا.

والجواب : أنّه يفيد وجوب الحذر لثلاثة أوجه (١) :

١. لا يمكن حمله على ظاهره ، فيحمل على الأمر به. والأصل عدم مجاز آخر.

وفيه نظر ، لأنّ الترجّي الممتنع في حقّه تعالى إنّما هو في ما يرجع إلى أفعاله لا إلى أفعال العباد الاختيارية.

٢. قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٢) يقتضي إمكان تحقّق الحذر في حقّهم والحذر [هو] التوقّي من المضرة ، والفعل الّذي يقتضي خبر الواحد بالمنع منه قد لا يكون مضرا في الدنيا ، فيكون مضرا في الآخرة ، وإلّا لم يمكن الحذر ، وضرر الآخرة العقاب ، فإذا كان بحيث يحذر عنه ، فهو بحيث يترتّب العقاب على فعله ، وهو معنى قولنا : خبر الواحد حجّة.

وفيه نظر ، لأنّ إمكان تحقّق الحذر على الفعل لا يقتضي إمكانه على مخالفة الخبر.

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ١٧٥.

(٢) التوبة : ١٢٢.

٣٨٧

٣. قوله : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إن لم يقتض وجوب الحذر فلا أقل من أن يقتضي حسنه ، وهو يقتضي جواز العمل بخبر الواحد ، والخصم ينكره.

قوله : يحمل على الفتوى.

قلنا : يلزم تخصيص القوم بغير المجتهد.

قوله : لو حمل على الرواية لزم تخصيصه بالمجتهد.

قلنا : لا نسلّم ، فإنّ الخبر كما يروى للمجتهد فقد يروى لغيره. نعم لا يجوز له التمسّك به ، لكن ينتفع [به] من وجوه أخر ، كالانزجار عن فعله ، ويصير ذلك داعيا إلى الرجوع إلى المفتي ، وربّما بحث عنه واطّلع على معناه.

ولأنّ كثيرا ممّن يمنع من العمل بخبر الواحد يمنع العامّي من الأخذ بالفتوى ، أو يحمل على القدر المشترك ، فإنّ التفقّه يكون بسماع الأخبار والتديّن بها ، وقد كان التفقّه هكذا في الزمن الأوّل ، وهذه الحالة يتمّ معها الإنذار بالفتوى وبالإخبار ، فإذا لم يفصّل الله تعالى الإنذار كان محمولا على كلّ واحد منهما. (١)

قوله : الحمل على القدر المشترك يكفي فيه العمل به في صورة واحدة.

قلنا : إنّه رتّب الحذر على مسمّى الإنذار الّذي هو القدر المشترك

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ١١٢.

٣٨٨

فيكون علّة للحكم فيثبت الحكم أينما ثبت هذا المسمّى.

ولأنّ قبول الفتوى إن كان مأمورا به قبل هذه الآية لم يجز حمل الآية عليه لعدم الفائدة ، وإن لم يكن وجب حمله على الصورتين دفعا للإجمال.

وفيه نظر ، فإنّ الحكم رتّب على الإنذار عقيب التفقّه ومفهوم ذلك الإنذار عقيب الفتوى ، فإن لم يكن مختصّا به فلا أقل من الظهور ، وهو يدفع الإجمال.

قوله : إن قوله تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا) يدلّ على أنّه ليس في الطائفة مجتهد.

قلنا : العبادات في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تتجدّد حالا فحالا ، ويرد نسخها بعد ثبوتها. فحصول المجتهد في الطائفة لا يغني عن أن ينفر منها من يسمع ما يتجدّد من السنن المبتدأة والناسخة ، وكذلك الأعصار المقاربة لعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل استقرار السنن وانتشارها ، لجواز أن يكون في غيرها من الطوائف من السنن ما لم تبلغها.

قوله : لا نسلّم انّ كلّ ثلاثة فرقة.

قلنا : الفرقة فعلة من فرق أو فرّق كالقطعة من قطع أو قطّع ، وكلّ شيء حصلت فيه الفرقة أو التفريق كان فرقة ، كما أنّ كلّ شيء حصل فيه القطع أو التقطيع قطعة ، فالفرقة لغة حقيقة في كلّ واحد من الأشخاص ، وخصصناها في الآية بالثلاثة ليمكن خروج الطائفة منها ، فتبقى حقيقة في الثلاثة.

واتّحاد فرقة الشافعية لامتيازهم بحسب المذهب عن غيرهم ، فلهذا الافتراق سمّوا فرقة واحدة ، وإن كانوا بحسب الشخص فرقا متعدّدة.

٣٨٩

ولما دلّ الإجماع على عدم وجوب أن يخرج من كلّ فرقة طائفة ، ترك العمل به هنا ويبقى معمولا به في الباقي.

قوله : مجموع الطوائف قد يبلغ حد التواتر.

قلنا : لا يجوز إرادة المجموع ، لقوله : (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) وانّما يصحّ الرجوع إلى الموضع بعد الكون فيه ، ومعلوم أنّ الطائفة من كلّ فرقة لم تكن في غير تلك الفرقة ، فلا يمكن رجوع كلّ طائفة إلى كلّ الفرق ، بل إلى فرقتها الخاصة. وضمير الجمع قابل مجموع الطوائف بمجموع القوم فيتوزع البعض على البعض.

قوله : يجب الترك ليستفتي إن كان عامّيا.

قلنا : العامي لا يجوز له الإقدام على الفعل قبل العلم بجوازه من جهة المفتي ، ومن علم الفتوى لم يجب عليه الاستفتاء مرّة أخرى.

وأمّا المجتهد فإن كان خبر الواحد حجّة فالمطلوب ، وإلّا لم يجب عليه التوقّف ، للإجماع على عدم منع ما ليس بدليل عما دلّ دليل على جواز فعله.

قوله : يحتمل التفقّه في الأصول.

قلنا : مفهوم التفقّه في العادة التفقّه في الفروع ، ولأنّ المراد بالأصول إن كان أصول مسائل الكلام كالتوحيد والعدل ، فالناظر يحذر من ترك النظر فلا يحتاج في الحذر من تركها إلى السفر ، وإن كان أصول الشريعة كالصلوات الخمس فهو يثبت بالآحاد في ابتداء الشريعة ، فإنّ الواحد لو أخبر أهل الهند

٣٩٠

بإيجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلوات الخمس لزمتهم ، وتكون من الفروع إلى أن يتواتر نقلها ، وعلى هذا جرى الأمر في تحول أهل قبا عن القبلة.

قوله : وجوب الإنذار لا يستلزم وجوب القبول.

قلنا : لا يستدلّ على وجوب القبول بوجوب الإنذار ، بل بقوله : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ،) وذلك إمّا تعبد بالحذر أو إباحة له ، وأيّهما كان بطل مذهب الخصم ، إذ الحذر إنّما يكون بالرجوع إلى موجب الخبر.

قوله : يجب الحذر إذا انضم إلى المخبر غيره.

قلنا : فإذن إنّما يحذرون عند تواتر الخبر لا عند إنذار من نفر للتفقّه ، ومقتضى الآية الحذر عند إنذاره ولأجله ، وكون (لِيُنْذِرُوا) للأمر ظاهر والخبر والنقل متساويان في الظن ، فإذا وجب الحذر عند أحدهما وجب عند الآخر ، وميل النفس وإن امتنع في حقّه تعالى لكن الطلب المساوي له في الترجيح ثابت ، وهو المعنى المجازي هنا. (١)

[الوجه] الثاني : قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٢) أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ، وقد اجتمع فيه وصفان : ذاتي هو كونه خبر واحد ، وعرضي وهو كونه فاسقا ، والمقتضي للتثبيت هو الثاني للمناسبة والاقتران ، فإنّ الفسق يناسب عدم القبول ؛ فلا يصلح الأوّل للعلّية ، وإلّا لوجب الاستناد إليه ، إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلّية أولى من التعليل

__________________

(١) راجع المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ١١٢ ـ ١١٣.

(٢) الحجرات : ٦.

٣٩١

بالعرضي ، لحصوله قبل حصول العرضي ، فيكون الحكم قد حصل به قبل حصول العرضي. وإذا لم يجب التثبّت عند إخبار العدل ، فإمّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الردّ فيكون حاله أسوأ من حالة الفاسق وهو محال.

ولأنّ الأمر بالتثبّت مشروط بكون الخبر صادرا عن الفاسق ، والمشروط عدم عند عدم الشرط ، فإذا جاء غير الفاسق لم يجب التثبت ، بل إمّا القبول وهو المطلوب ، أو الردّ وهو محال لما سبق.

ولأنّ سبب نزولها أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ساعيا الى بني المصطلق ، فلمّا أبصروه أقبلوا نحوه ، فهابهم فعاد وأخبره بأنّ الذين بعثه إليهم قد ارتدّوا وأرادوا قتله ، فأجمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على غزوهم وقتلهم ، وذلك حكم شرعي أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العمل فيه بخبر الواحد ، ولو لم يكن جائزا لما أراده ، ولأنكره الله تعالى عليه.

وفيه نظر ، لأنّ الأمر بالتثبّت جاز أن لا يكون للنهي عن القبول ، بل عن الرد قطعا فيكون خبر العدل مندرجا فيه من طريق البيّنة بالأعلى على الأدنى ، وهو وإن بعد لكنّه محتمل.

والرواية ممنوعة :

أمّا أوّلا : فلأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يفعل شيئا إلّا بوحي إلهي.

وأمّا ثانيا : فلأنّه خبر واحد لا يستدلّ به في المسائل الأصولية.

وأمّا ثالثا : فلأنّه قد روي أنّه بعث خالد بن الوليد وأمره بالتثبّت في

٣٩٢

أمرهم ، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه ، فعادوا إليه وأخبروه بأنّهم على الإسلام ، وأنّهم سمعوا أذانهم وصلواتهم ، فلمّا أصبحوا أتاهم خالد ورأى ما أعجبه ، فرجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك.

ولأنّ مفهوم المخالفة ضعيف ، والآية إنّما تدلّ على المطلوب من حيث المفهوم لا المنطوق. (١)

[الوجه] الثالث : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)(٢) ، والمخبر بخبر لنا عن الرسول شاهد على الناس ، ولا يجوز أن يجعله الله تعالى شاهدا ، وهو غير مقبول القول.

اعترض (٣) بأنّ الآية خطاب مع الأمّة لا مع الآحاد ، فلا تكون حجّة في المتنازع.

[الوجه] الرابع : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى)(٤) ، توعّد على كتمان الهدى ، فيجب إظهاره ، وما يسمعه الواحد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الهدى فيجب إظهاره ، فلو لم يجب قبول قوله لكان كعدمه فلا يجب إظهاره.

اعترض (٥) باحتمال إرادة من تقوم الحجّة به وإرادة ما دون ذلك.

__________________

(١) بحث الآمدي هذا الوجه في الإحكام : ٢ / ٧١ ـ ٧٢ ، فراجع.

(٢) البقرة : ١٤٣.

(٣) ذكره الآمدي في الإحكام : ٢ / ٧٢.

(٤) البقرة : ١٥٩.

(٥) ذكره الآمدي في الإحكام : ٢ / ٧٢.

٣٩٣

وبتقدير الثاني يحتمل أن يكون المراد ب (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) الكتاب العزيز ، وهو الظاهر لتبادره إلى الفهم ، وبتقدير إرادة كل ما أنزل حتى السنّة فغاية التهديد على كتمان ذلك الدلالة على وجوب إظهار ما سمع من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما سمعه ، ولا يدلّ على وجوب القبول على ما سمعه على لسان الآحاد ، فإنّه بمقتضى الآية يجب على الفاسق إظهار ما سمعه ، وإن لم يجب على السامع قبوله وتكون الفائدة وجوب الإظهار على كلّ واحد ليتألّف من المجموع خبر التواتر.

[الوجه] الخامس : قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(١) أمر بسؤال أهل الذكر ، والأمر للوجوب ، ولم يفرّق بين المجتهد وغيره وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الإخبار بما سمعه دون الفتوى ، ولو لم يكن القبول واجبا لم يكن السؤال واجبا.

اعترض (٢) بمنع جعل (فَسْئَلُوا) أمرا ومعه نمنع أنّه للوجوب ، ومعه يحتمل إرادة الإفتاء ؛ ويحتمل أن يكون المراد من السؤال طلب العلم بالمخبر عنه ، وهو الظاهر ، لأنّه أوجب السؤال عند عدم العلم ؛ فلو لم يكن المطلوب حصول العلم بالسؤال لكان السؤال واجبا بعد حصول خبر الواحد ، لعدم حصول العلم بخبره ، فإنّه لا يفيد غير الظن ، وهو يدل على أنّ العمل بخبر الواحد غير واجب ، إذ لا قائل بوجوب العمل بخبره مع وجوب السؤال عن غيره ؛ وإذا كان المطلوب إنّما هو حصول العلم من السؤال ، فذلك إنّما يتمّ بخبر التواتر.

__________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) راجع الإحكام : ٢ / ٧٣.

٣٩٤

[الوجه] السادس : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ)(١) أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله ، والأمر للوجوب ، والمخبر عن الرسول قائم بالقسط وشاهد لله ، فكان ذلك واجبا عليه ، وإنّما يكون واجبا أن لو كان القبول واجبا ، وإلّا كان وجود الشهادة كعدمها.

اعترض (٢) بأنّ الشهادة لله والقيام بالقسط إنّما يكون فيما يجوز العمل به ، أمّا ما لا يجوز فلا يكون قياما بالقسط ، ولا شهادة لله فحينئذ يتوقّف العمل بالآية إلى وجوب قبول خبر الواحد على أنّه قام بالقسط ، وأنّه شاهد لله وقيامه بالقسط وشهادته لله يتوقّف على قبول خبره وجواز العمل به ، وهو دور.

وفيه نظر ، فإنّا نمنع توقّف قيامه بالقسط وشهادته لله على قبول خبره ، بل على صدقه ونقله ما قال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[الوجه] السابع : قوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(٣) ، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ)(٤) يقتضي ظاهره بيان جميع ما أنزل إليه لجميع من عاصره ولمن يأتي بعده ، فلو وجب عليه أن يبيّن كلّ ذلك لمن يتواتر الخبر بنقله ، لكانت الأخبار بأجمعها منقولة بالتواتر. إلّا أن يقال : إنّ بعض السامعين للخبر نقله دون بعض ، وذلك يوجب تهمة السلف ، وجواز كون

__________________

(١) النساء : ١٣٥.

(٢) راجع الإحكام : ٢ / ٧٤.

(٣) النحل : ٤٤.

(٤) المائدة : ٦٧.

٣٩٥

شرائع لم ينقلها بعضهم. ولا يجوز أن يكون كلّ ما نقل بأخبار الآحاد لم يقله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه يستحيل عادة أن تكون هذه الأخبار على كثرتها كاذبة. ولا يجوز أن تتضمّن عبادات تختص من عاصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ أكثرها خطاب لأهل عصره ولمن يأتي بعده. فثبت أنّه إنّما أوجب عليه أن يبيّن بعض شرعه لمن لا يتواتر الخبر بنقله ، وإن كان بيانا لمن بعده ، وهو يتضمّن وجوب العمل به على من بعدهم.

اعترضه أبو الحسين (١) بإمكان كذب بعض أخبار الآحاد ، وبعضها أدّاها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى من يتواتر الخبر بنقله ، لكن بعضهم نقله دون بعض ، فأخطأ بعضهم وهو ممكن ، ويكون لزوم ذلك لنا مشروطا بتواتر الخبر إلينا.

[الوجه] الثامن : السنّة المتواترة دلّت على قبول خبر الواحد فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبعث رسله إلى القبائل لتعليم الأحكام مع أنّ كلّ واحد منهم لم يبلغ حد التواتر.

اعترضه أبو الحسين (٢) بسؤال واقع وهو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كان يبعثهم للفتوى لا للرواية ، فإنّ القبائل الذين أنفذ إليهم في ابتداء الإسلام قلّ أن يكون فيهم مجتهد ، بل كانوا عوام فحاجتهم إلى الإفتاء أشدّ من حاجتهم إلى الرواية.

[الوجه] التاسع : إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد ، لأنّ بعض

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ١٢٠.

(٢) نقله عنه الرازي في المحصول : ٢ / ١٨٠.

٣٩٦

الصحابة عمل به ولم ينكر أحد عليه ، فكان إجماعا.

بيان الأوّل أنّ أبا بكر احتجّ يوم السقيفة على الأنصار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأئمة من قريش» (١) ولم ينكر عليه أحد ، فدلّ على أنّه أصل مقرر عندهم.

ولأنّ الصحابة رجعوا إلى أخبار الآحاد في وقائع كثيرة ، كرجوع أبي بكر في توريث الجدة إلى خبر المغيرة بن شعبة (٢) ؛ وقضى بين اثنين بقضية ، فأخبره بلال أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بخلاف قضائه ، فنقضه.

وجعل عمر في الخنصر ستة ، وفي البنصر تسعة ، وفي كلّ من الوسطى والسبّابة عشرة ، وفي الإبهام خمسة عشر ، فلمّا روي له في كتاب عمرو بن حزم (٣) أنّ في كلّ إصبع عشرة رجع عن رأيه.

وقال في الجنين : رحم الله امرءا سمع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنين

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ١٢٩ و ١٨٣ وج ٤ / ٤٢١ ؛ كنز العمال : ١ / ٣٧٩ برقم ١٦٤٩ وج ٦ / ٤٨ برقم ١٤٧٩٢.

(٢) المغيرة بن شعبة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولّاه عمر الكوفة فلم يزل عليها إلى أن قتل ، فأقرّه عثمان عليها ثم عزله ، واعتزل صفين ، ولحق بمعاوية عند التحكيم ، وولّاه الكوفة بعد صلحه مع الحسن عليه‌السلام إلى أن توفّي سنة خمسين وقيل : سنة إحدى وخمسين. معجم رجال الحديث : ١٩ / ٣٠٣ برقم ١٢٥٨٩.

(٣) هو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان بن حارثة بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن زيد مناة بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأنصاري ، أبو الضحاك ، له صحبة ، شهد الخندق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعثه إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات ، روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وروى عنه : زياد بن نعيم الحضرمي ، وابنه محمد ، والنضر بن عبد الله السلمي. امرأته سودة بنت حارثة. مات سنة إحدى وخمسين ، وقيل : اثنتين وخمسين. تهذيب الكمال : ٢١ / ٥٨٥ برقم ٤٣٤٧.

٣٩٧

شيئا ، فقام إليه حمل بن مالك (١) فأخبره أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى فيه بقرة ، فقال عمر : لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغيره.

وكان ما يرى توريث المرأة من دية زوجها ، فأخبره الضحّاك (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضبابيّ (٣) من دية زوجها ، فرجع إليه.

وقال في المجوس : ما أدري ما الّذي أصنع بهم ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب فأخذ منهم الجزية وأقرّهم على دينهم.

ورجع عثمان إلى قول فريعة بنت مالك (٤) أخت أبي سعيد الخدري حين قالت : جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدّة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «امكثي في بيتك حتى تنقضي عدّتك» (٥) ولم ينكر عليها الخروج للاستفتاء ، فأخذ عثمان بروايتها في الحال في أنّ المتوفّى عنها

__________________

(١) هو حمل بن مالك بن النابغة بن جابر بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كبير ، أبو نضلة الهذلي ، له صحبة ، روى عنه ابن عباس ، نزل البصرة وله بها دارا ، عاش إلى خلافة عمر. الإصابة : ٢ / ١٠٨ برقم ١٨٣٦.

(٢) الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب الكلابي ، أبو سعيد الكلابي ، صحابي كان من عمال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصدقات. تقريب التهذيب : ١ / ٤٤٢ برقم ٢٩٧٨.

(٣) أشيم الضبابي قتل خطأ في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الضحاك في توريث زوجته ، ولم نقف على ترجمة له أكثر من ذلك. راجع أسد الغابة : ١ / ٩٩.

(٤) هي فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري كان يقال لها : الفارعة ، شهدت بيعة الرضوان ، وأمها حبيبة بنت عبد الله بن أبي سلول. الاستيعاب : ٤ / ١٩٠٣ برقم ٤٠٦٦.

(٥) الموطأ : ٢ / ٥٩١.

٣٩٨

زوجها تعتدّ في منزل الزوج ولا تخرج ليلا وتخرج نهارا إن لم يكن لها من يقوم بأحوالها.

وكان علي عليه‌السلام يحلّف الراوي وقبل رواية أبي بكر من غير يمين ، والمقداد في أمر المذي.

ورجع الجماعة إلى قول عائشة في الغسل عند التقاء الختانين ، وفي الربا إلى خبر أبي سعيد.

وقال ابن عمر : كنّا نخابر أربعين سنة فلا نرى به بأسا ، حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المخابرة (١).

وقال أنس : كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا إذ أتى آت فقال : حرّمت الخمر ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها ، فقمت فكسرتها.

وعمل أهل قبا في التحول عن القبلة بخبر الواحد.

وقيل لابن عباس : إنّ فلانا يزعم أنّ موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عباس : كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب فقال : خطب بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر موسى والخضر بشيء يدلّ على أنّ موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل.

__________________

(١) المخابرة والمزارعة اسمان لعقد واحد وهو استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها ، وفي الناس من قال : المخابرة غير المزارعة وهي أن تكون من أحدهما الأرض وحدها ، والباقي من البذر والأعمال من الآخر. المبسوط : ٣ / ٢٥٣.

٣٩٩

وباع معاوية شيئا من أواني الذهب والفضة بأكثر من وزنها ، فقال أبو الدّرداء (١) : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عنه. فقال معاوية : لا أرى به بأسا ، فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية؟ أخبره عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أبدا.

والأخبار في ذلك كثيرة ، وإن لم يكن كلّ واحد منها متواترا ، لكنّ القدر المشترك بينها وهو العمل بمقتضى الخبر متواتر.

وإذا ثبت أنّهم عملوا على وفق هذه الأخبار كان العمل مستندا إليها ، وإلّا لوجب نقل ما استندوا إليه من خبر سمعوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أو اجتهاد منهم للعادة بأنّ الجمع العظيم إذا اشتدّ اهتمامهم بشيء حصل فيه لبس ثمّ زال لدليل سمعوه أو استنبطوه ، أظهروه واستبشروا بالظفر به وتعجّبوا من ذهابهم عنه.

ولأنّ عملهم بمضمون الخبر يوهم استنادهم إليه ، فلو لم يكن كذلك لوجب عليهم إظهار المستند حذرا من التلبيس.

ولأنّ أبا بكر طلب من المغيرة شاهدا معه في إرث الجدّ ، وهو يدلّ على أنّه كان يرى الحكم بروايتهما ؛ وقال عمر في الجنين : لو لا هذه الرواية لقضينا فيه بغيره ، وغير ذلك.

__________________

(١) أبو الدرداء هو عويمر بن قيس بن زيد بن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن خزرج بن الحارث من الخزرج ، ويقال اسمه : عامر بن مالك وعويمر لقبه ، له صحبة ، نزل الشام. الجرح والتعديل : ٧ / ٢٦ برقم ١٤٦.

٤٠٠