نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

المقصد العاشر

في الخبر

وفيه فصول :

٢٨١
٢٨٢

الفصل الأوّل

في ماهيته

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في لفظ الخبر

لفظ الخبر يطلق على القول المخصوص وعلى غيره من الإشارات والدلائل ، كقوله :

تخبرني العينان ما القلب كاتم (١)

 ..................

وقوله :

وكم لظلام الليل عندك من يد

تخبر انّ المانوية تكذب (٢)

__________________

(١) تمام البيت هو :

تخبرني العينان ما القلب كاتم

وما جن بالبغضاء والنظر الشزر

شرح نهج البلاغة : ٨ / ١٤٢ وج ٢٠ / ٤٦.

(٢) القائل هو أبو الطيب المتنبي. راجع نور البراهين : ٢ / ٣٠ ؛ فتح الباري : ١٢ / ٢٣٨.

وأبو الطيب هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي المتنبي ـ

٢٨٣

وقول المعرّي (١) :

نبيّ من الغربان ليس على شرع

يخبّرنا أنّ الشعوب إلى صدع

وهو حقيقة في القول المخصوص إجماعا ومجاز في غيره ، لتبادر الأوّل إلى الذهن دون الثاني في قولنا : أخبر فلان بكذا وفلان مخبر ، والغالب انّما هو استعمال اللّفظ في حقيقته دون مجازه.

وهو عند بعض الأشاعرة مشترك بين القول المخصوص والمعنى القائم بالنّفس ، وعند آخرين ، انّه مجاز في الثاني حقيقة في الأوّل لتبادره إلى الفهم دون الثاني ، وأمّا عند المعتزلة فإنّه حقيقة في القول وليس مستعملا في

__________________

ـ (٣٠٣ ـ ٣٥٤ ه‍) الشاعر الحكيم وأحد مفاخر الأدب العربي ، ولد بالكوفة ونشأ بالشام ، ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلم العربية وأيّام الناس ، وقال الشعر صبيا ، وكان شجاعا طموحا محبّا للمغامرات ، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك على صياغة قوية محكمة ، تجوّل في البلدان ومدح الأمراء كسيف الدولة الحمداني وكافور الاخشيدي وابن العميد وعضد الدولة ، له ديوان شرحه طائفة من كبار الأدباء كابن جني وأبي العلاء المعري والواحدي والعكبري ، قتل في النعمانية على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي وهو خال ضبة بن يزيد الأسدي الّذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة. الأعلام : ١ / ١١٥ ؛ المنجد (قسم الأعلام) : ٦٣٣.

(١) هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعرّي (٣٦٣ ـ ٤٤٩ ه‍) شاعر فيلسوف ، ولد ومات في معرّة النعمان ، كان نحيف الجسم أصيب بالجدري صغيرا فعمي في السنة الرابعة من عمره ، وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة ، وهو من بيت علم كبير في بلده ، ولما مات وقف على قبره ٨٤ شاعرا يرثونه ، له ديوان شعر ومصنفات كثيرة ، منها : رسالة الغفران ، الرسالة الإغريقية ، الفصول والغايات ، وغيرها كثير. الأعلام : ١ / ١٥٧.

٢٨٤

الثاني لا حقيقة ولا مجازا لعدم الثاني عندهم ، والبحث في ذلك موكول إلى علم الكلام.

البحث الثاني : في أنّه هل يحدّ أم لا؟

اختلف الناس في ذلك ، فذهب قوم إلى أنّه لا يحدّ لأنّه ضروري ، وقال آخرون : إنّه يحدّ وإنّه معلوم بالاكتساب.

احتجّ الأوّلون بوجهين :

الأوّل : كلّ عاقل يعلم بالضرورة معنى قولنا : أنا موجود ، أنا لست بمعدوم ، وانّ الشيء الواحد لا يوصف بالوجود والعدم ، ومطلق الخبر جزء من هذا الخبر الخاص ، والعلم بالكلّ موقوف على العلم بالخبر ، فلو كان تصوّر ماهية مطلق الخبر موقوفا على الاكتساب كان تصوّر الخبر الخاص موقوفا عليه ولم يكن ضروريا ، هذا خلف.

الثاني : كلّ عاقل يعلم بالضّرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر وتميّزه عن الموضع الذي يحسن فيه الآخر ، ولو لا أنّ هذه الحقائق متصوّرة بالبديهة لم يكن الأمر كذلك.

لا يقال : الخبر نوع من الألفاظ وأنواع الألفاظ ليست بديهيّة التصوّر ، فكيف يكون تصوّر ماهية الخبر بديهيا؟

لأنّا نقول : حكم الذهن بين أمرين بأنّ أحدهما هو الآخر أو له الآخر أو ليس كذلك معقول واحد لا يختلف باختلاف الزمان والمكان ، ويدركه

٢٨٥

كلّ أحد من نفسه ويفرق بينه وبين الأحوال النفسانية كالألم واللّذة والطلب.

وإذا ثبت هذا فالمراد من الخبر إن كان هو الحكم الذهني ، فلا شكّ في أنّ تصوّره في الجملة بديهيّ ؛ وإن كان المراد منه اللفظ الدّال على هذه الماهية ، فالإشكال ساقط أيضا ، لأنّ مطلق اللفظ الدال على البديهي التصوّر يكون تصوّره بديهيا.

وفي الأوّل نظر من وجوه :

الأوّل : نمنع كون المطلق جزءا من الخبر الخاص ، لأنّه إمّا مطابق في نفس الأمر أو لا ، وأيّهما كان لم يصدق على الآخر ، والانقسام إليهما باعتبار الجزئيات لا الماهية فهو عارض.

الثاني : نمنع توقّف العلم بالكلّ على العلم بالجزء ، لجواز العلم باعتبار ما.

الثالث : نمنع استلزام بداهة الكلّ بداهة الجزء ، لصدق الأوّل باعتبار ما.

وفي الثاني نظر ، فإنّ الحكم بالتميّز بين أمرين لا يستدعي بداهتهما ، فإنّا نميّز بين وجود الجنّ والملك وعدمهما وبين النفس وعدمها وهو كسبي.

واعترض ؛ بأنّ الاستدلال على أنّه ضروري دليل على أنّ العلم به غير ضروري ، لأنّ الضّروري هو الذي لا يفتقر العلم به إلى نظر ودليل يوصل

٢٨٦

إليه ، وما يفتقر إلى ذلك فهو نظري لا ضروري.

لا يقال : ما ذكرناه تنبيه لا دليل ، ومن الضروريات ما يفتقر إلى تنبيه.

لأنّا نقول : لو قيل ذلك لأمكن دعوى الضرورة في كلّ علم نظري ، لأنّ الدليل فيه بطريق التنبيه.

سلّمنا ، لكن الخبر المطلق ليس جزءا من الخبر الخاص ، لأنّه أعمّ ، فلو كان جزءا لانحصر الأعم في الأخصّ ، والتفرقة بين الأمر والخبر إنّما تصحّ بعد العلم بهما.

نعم تعلم التفرقة بين ما يجده الإنسان في نفسه من طلب الفعل والنسبة بين أمرين على وجه خاص ، وليس هو العلم بحقيقة الأمر والخبر ، فإن عنيت بالأمر والخبر هذا المعلوم الخاص كان عودا إلى التحديد ثمّ إنّه يقتضي استغناء الأمر عن التحديد كاستغناء الخبر ، وهذا المستدل عرف الأمر.

وهذا كلّه ليس بجيّد ، لأنّ الاستدلال على أنّه ضروري ليس استدلالا على الضّروري ، بل على وصف له هو كونه ضروريا وهو مغاير له ، وكون الشيء ضروريا جاز أن يكون كسبيا ، وكون العام ليس جزء من الخاص لعدم انحصاره فيه غلط ، فإنّ الخبر قد يكون أعمّ وتفسير اللفظ ليس بالتحديد.

وقال آخرون : إنّه يحد ، لأنّ العلم به لا يجري مجرى العلم بالبديهيات وباقي الضروريات. والحقّ الأوّل والضرورة قاضية به.

٢٨٧

البحث الثالث : في حدّه

اختلف القائلون بأنّ الخبر يحدّ ، في حدّه.

فقال الجبائيان وأبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وغيرهم من المعتزلة : الخبر هو الكلام الذي يدخله الصدق والكذب.

وأورد عليه إشكالات (١) :

الأوّل : الصدق والكذب نوعان من الخبر ، والجنس جزء من النوع لا يمكن معرفة النوع إلّا به ، فتعريفه بالنوع دور.

الثاني : الصدق والكذب من الأعراض الذاتية لمطلق الخبر ، ولا يمكن تعريف العرض الذاتي إلّا بذكر موضوعه فيدور.

الثالث : إن عطف بين الصدق والكذب ب «أو» لزم الشك في الحد ، وهو محذور عنه ؛ وإن عطف ب «الواو» انتفى المحذور ، إذ الصدق والكذب متقابلان لا يجتمعان في شيء واحد.

الرابع : خبر الله تعالى وخبر رسوله صدق قطعا ، ولا يمكن دخول الكذب فيه.

الخامس : قول القائل محمد ومسيلمة صادقان خبر وليس صادقا ولا كاذبا.

__________________

(١) ذكرها الآمدي أيضا مع الأجوبة عنها في الإحكام : ٢ / ١٢ ـ ١٤.

٢٨٨

السادس : لو قال : «كلّ كلامي في هذه الساعة كاذب» ولم يوجد منه سوى هذا الكلام لم يكن صادقا فيه ، وإلّا لكان كاذبا فيه فيجتمع النقيضان ؛ ولم يكن كاذبا ، وإلّا لكان بعض أفراده صادقا وليس إلّا هذا الفرد ؛ وكذا لو كانت جميع إخباراته كاذبة وقال : «كلّ كلامي كذب» لم يكن كذبا ، وإلّا لصدق في بعضها ، والفرض خلافه ؛ ولا صدقا ، لأنّه من جملة إخباراته.

والجواب من حيث الإجمال ومن حيث التفصيل :

أمّا الإجمال فإنّ التعريف قد يكون للماهية وقد يكون للاسم ، وتعريف الخبر بالمعنى الثاني وهو انّما يتم لو قلنا : إنّه ضروري.

وأمّا التفصيل فالجواب عن الأوّل : أنّ النوع تتوقّف معرفته على معرفة الجنس ، إذا كانت معرفته تامّة أمّا الناقصة فلا.

وعن الثاني : أنّ الموضوع خارج عن ماهية العرض الذاتي ، فيكون التعريف به رسما لا حدّا ، والرسوم لا تنحصر في شيء بعينه.

وأجاب قاضي القضاة (١) بأنّ الخبر معلوم لنا ، وما ذكرناه لم يقصد به تعريف الخبر ، بل تمييزه عن غيره من أساليب الكلام ، فإذا عرفنا الصدق والكذب بالخبر فلا دور.

واعترض بأنّه إذا كان تمييز الخبر عن غيره إنّما يكون بالنظر إلى الصدق والكذب فتمييز الصّدق والكذب بالخبر دور ، بل لو قيل : إنّ الصدق والكذب وان كان داخلا في حدّ الخبر ومميزا له فلا نسلّم انّ الصدق

__________________

(١) نقله عنه مع اعتراضه الآمدي في الإحكام : ٢ / ١٤.

٢٨٩

والكذب مفتقر في معرفته إلى الخبر ، بل الصّدق والكذب معلوم بالضّرورة لكان أولى.

وفيه نظر ، لأنّ تمييز الخبر بالصّدق والكذب وتعريف حقيقة الصّدق والكذب بالخبر لا يقتضي الدور ، واحتياج الخبر إلى المعرّف يستلزم احتياج الصدق والكذب اللّذين هما نوع منه إليه.

وعن الثالث : أنّ المراد قبوله لأحدهما فلا شك.

وعن الرابع : ليس المراد من دخول الكذب فيه الدخول فعلا ، بل القبول وهو ثابت في كلّ خبر باعتبار النسبة الحكمية لا من حيث صدوره عن صادق وغيره ، فخبر الله تعالى من حيث إنّه خبر لا بالنظر إلى المخبر محتمل للأمرين ، وهو لا ينافي امتناع دخول الكذب فيه بالنظر إلى المخبر لاختلاف الاعتبار ، ولأنّ خبر الله تعالى صدق فقد قبل أحدهما.

وعن الخامس : قال أبو علي الجبّائي (١) : إنّه كاذب ، لأنّه يفيد صدق أحدهما في حال صدق الآخر ، فكأنّه قال : أحدهما صادق من حيث صدق الآخر.

وليس بجيّد ، لأنّ النسبة لا تستلزم المصاحبة. نعم هو كاذب باعتبار أنّه أضاف الصدق إليهما وهو كاذب.

وقال أبو هاشم (٢) : إنّه كخبرين أحدهما إضافة الصدق إلى

__________________

(١) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٢ / ١٣.

(٢) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٢ / ١٣.

٢٩٠

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآخر إضافته إلى مسيلمة ، والخبران لا يوصفان بالصدق ولا الكذب فكذا هنا ، وإنّما يوصف بالصّدق والكذب الخبر الواحد من حيث هو خبر.

وليس بجيّد ، بل هما خبران في الحقيقة ، وكلّ واحد منهما يوصف بالصدق أو الكذب لكن أحدهما صدق قطعا والآخر كذب قطعا.

وقال القاضي عبد الجبار (١) : المراد من قولنا ما دخله الصدق والكذب أنّ اللّغة لا تحرّم أن يقال للمتكلّم قد صدقت أو كذبت.

واعترض بأنّ حاصله يرجع إلى التصديق والتكذيب ، وهو غير الصدق والكذب في نفس الخبر. فإنّ أهل اللغة انّما يسوّغون ذلك فيما كان كاذبا في نفس الأمر وصادقا ، وليس كذلك فيما نحن فيه ، فإنّ قول القائل هذا صدق يتضمّن تصديقه في إضافة الصّدق إلى مسيلمة ، وذلك مع فرض عدم صدقه فيمتنع.

وليس بجيّد ، فإنّه محتمل لأحدهما من حيث إنّه خبر ويتّصف بها في نفس الأمر وفي قول القائل.

وقال أبو عبد الله البصري (٢) : إنّه كذب ، لأنّه أفاد إضافة الصدق إليهما مع عدم إضافته إليهما. وهو الذي اخترناه في الجواب أوّلا.

واعترض بأنّه إذا كان كاذبا لا يدخله الصدق ، وقيل : الخبر ما يدخله الصدق والكذب.

__________________

(١) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٢ / ١٣.

(٢) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٢ / ١٣.

٢٩١

وليس بجيّد فإنّا لا نريد إضافة الأمرين معا في كلّ خبر ، بل أحدهما.

وعن السادس : انّ الصّدق والكذب إنّما يعرضان لخبر مغاير للمخبر عنه حتى يتصور فيه المطابقة فيحكم بصدقه ، وعدمها عدم الملكة فيحكم بكذبه ، وهنا اتحدا فلا يدخله الصدق والكذب.

وقيل في الحدّ الخبر ما يحتمل التصديق والتكذيب ، أو أنّه ما يقال لقائله : إنّه صادق أو كاذب.

واعترض (١) بأنّ التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار عن كون الخبر صدقا أو كذبا ، فقولنا : الخبر ما يدخله التصديق والتكذيب جار مجرى أن يقال : الخبر هو الذي يجوز الإخبار عنه انّه صدق أو كذب ، فيكون تعريفا للخبر بالخبر ، وبالصدق والكذب.

والأوّل تعريف الشيء بنفسه ، والثاني بما لا يعرف إلّا به.

وقال أبو الحسين (٢) : الخبر كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور إثباتا أو نفيا. واحترز «بنفسه» عن الأمر ، فإنّه يفيد وجوب الفعل لا بنفسه ، لأنّ ماهية الأمر استدعاء الفعل ، والصيغة لا تفيد إلّا هذا القدر. ثمّ إنّها تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك ، وكذا القول في دلالة النهي على قبح الفعل ؛ فأمّا قولنا : هذا الفعل واجب أو قبيح ، فإنّه يفيد بصريحه تعلّق الوجوب والقبح بالفعل.

__________________

(١) المعترض هو الرازي في المحصول : ١ / ١٠٣.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٧٥.

٢٩٢

واعترض عليه بوجوه (١) :

الأوّل : الوجود عنده نفس الماهية ، فإذا قلنا : السواد موجود كان خبرا ، مع أنّه لا يفيد إضافة شيء إلى شيء آخر.

لا يقال : السؤال يلزم لو قلنا إلى أمر آخر ونحن قلنا إلى أمر ، وهو أعمّ من أن يكون آخر ونفسه ، ولأنّ معنى السواد موجود ، المسمّى بلفظ السواد مسمّى بلفظ الموجود.

لأنّا نقول : الإضافة مشعرة بالتغاير ، ولو لا اعتباره لدخل اللفظ المفرد في الخبر.

والإلزام ليس في الإخبار عن التسمية ، بل عن وجوده وحصوله في نفسه ومعلوم أنّ من عرف ماهية المثلث أمكنه الشك في وجوده.

وفيه نظر بمنع كونه خبرا إن جعلناهما لمعنى واحد ، لتنزّله منزلة الإنسان بشر إلّا أن يعني التسمية.

الثاني : إذا قلنا الحيوان الناطق يمشي ، اقتضى نسبة الناطق إلى الحيوان ، مع أنّه ليس بخبر للفرق الضروري بين الخبر والوصف.

لا يقال : لو زيد في الحدّ بحيث يتمّ معه الكلام فيخرج النعت.

لأنّا نقول : إن عنيت بتمام الكلام إفادته لمفهومه دخل النعت لإفادة قولنا الحيوان الناطق لمعناه بتمامه ، وإن عنيت إفادته لتمام الخبر توقفت على معرفة الخبر فيدور.

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ١ / ١٠١ ـ ١٠٢ ، المسألة الثانية.

٢٩٣

وفيه نظر ، لأنّ المراد من الإضافة نسبة الإثبات أو النفي واعترض بإرادة صحّة السكوت عليه.

الثالث : أنّه تعريف دوري ، لأنّ النفي الإخبار عن عدم الشيء ، والإثبات الإخبار بوجوده.

البحث الرابع : في أنّه هل يشترط في الخبرية الإرادة؟

قال السيّد المرتضى (١) وأبو الحسين (٢) : لا بدّ في الخبر من الإرادة على معنى أنّ الصّيغة تكون خبرا مستعملة في فائدتها بشرط الإرادة ولا تشترط الإرادة في كون الخبر على صيغة الخبر.

واحتجّا بأنّ هذه الصيغة قد تصدر عن الساهي والحاكي والمتجوّز بها عن الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) وإذا كانت صالحة للخبرية وغيرها لم ينصرف إلى أحد الأمرين دون الآخر ، إلّا لمرجّح وهو الإرادة والدّاعي.

وخالف فيه الأشاعرة ، وقد تقدّم مثله في باب الأمر.

وأيضا قال الجبائيان : إنّ لصيغة الخبر حال كونها خبرا صفة معلّلة بتلك الإرادة.

وخالف فيه الأشاعرة ، فإنّه لا معنى لكون الصّيغة خبرا ، إلّا أنّ المتلفّظ

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٤٨٠ وج ١ / ٤١ ـ ٤٢.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٧٣.

٢٩٤

بها تلفّظ وكان مقصوده تعريف الغير بثبوت المخبر به للمخبر عنه أو سلبه عنه ، وقد تقدّم أيضا في الأمر.

البحث الخامس : في مدلول الخبر

إذا قلنا : «العالم حادث» كان مدلوله الحكم بثبوت الحدوث للعالم لا نفس ثبوت الحدوث للعالم ، وإلّا لكان حيث وجد قولنا : «العالم محدث» كان محدثا ، فحيث يوجد الخبر يوجد المخبر عنه ، فلا يكون الكذب خبرا.

ولمّا بطل ذلك عرف أنّ مدلول الصيغة هو الحكم بالنسبة ، لا نفس النسبة.

قيل : هذا الحكم ليس هو الاعتقاد ، فقد يخبر الإنسان عمّا لا يعتقد ، كمن يخبر بوجود زيد وهو لا يعتقده ؛ ولا الإرادة ، لأنّ الإخبار قد يكون عن الواجب والممتنع ، مع أنّ الإرادة يمتنع تعلّقها بهما ، فلم يبق إلّا أن يكون الحكم الذهني مغايرا لجنس الاعتقادات والقصود ، وذلك هو كلام النفس ، ولم يقل به إلّا الأشاعرة. (١)

وفيه نظر ، لمنع الإخبار عمّا لا يعتقده المخبر. نعم توجد صورة الإخبار وصفته ، كالسّاهي والحاكي ، لا نفس الخبر ثمّ إنّه مخالف للأشعرية ، لأنّهم يقولون بمغايرة الكلام النفساني للخبر وغيره من أساليب الكلام.

__________________

(١) راجع المحصول : ٢ / ١٠٦ ، المسألة الرابعة.

٢٩٥

البحث السادس : في أقسامه

اعلم أنّ الخبر ينقسم ثلاثة أنواع :

الأوّل : انقسامه إلى الصدق والكذب.

الثاني : إلى التواتر والآحاد.

الثالث : إلى ما يعلم صدقه ، وما يعلم كذبه ، وما يجهل فيه الأمران.

وهذه متداخلة.

وقد أطبق المحقّقون كافّة على أنّ القسمة إلى الصدق والكذب حاصرة وأنّه لا ثالث لهما ، لأنّ الخبر إمّا مطابق للمخبر عنه أو لا.

والأوّل الصدق والثاني الكذب. وأثبت الجاحظ (١) واسطة بينهما ، لقوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)(٢) ، حصروا دعوى النبوة في الكذب والجنّة ، وليس إخباره بالنبوة حالة الجنون كذبا ، لأنّهم جعلوها في مقابلة الكذب ؛ ولا صدقا لأنّهم لم يعتقدوا صدقه ، فتثبت الواسطة وهي حالة الجنّة بين الصدق والكذب.

__________________

(١) هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء الليثي ، أبو عثمان الشهير بالجاحظ (١٦٣ ـ ٢٥٥ ه‍) كبير أئمة الأدب ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة ، مولده ووفاته في البصرة ، فلج في آخر عمره وكان مشوّه الخلقة ، ومات والكتاب على صدره ، قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه ، له تصانيف كثيرة ، منها : الحيوان ، البيان والتبيين ، سحر البيان ، البخلاء ، وغيرها. الاعلام : ٥ / ٧٤.

(٢) سبأ : ٨.

٢٩٦

ولأنّ من أخبر عن حصول زيد في الدار عن ظن ، ثمّ ظهر البطلان ، لم يحكم بكذبه في هذا الخبر ولا يستحق الذم ؛ وليس صدقا ، لعدم المطابقة.

ولو أخبر عن حصوله في الدار مع اعتقاد أنّه ليس فيها وكان فيها لم يوصف بالصدق ، ولا يستحق المدح ، وإن كان خبره مطابقا ؛ ولا بالكذب للمطابقة.

فعلم أنّ المطابقة وعدمها ليس كافيين في الوصف بالصدق والكذب ، بل لا بدّ من العلم والقصد.

ولأنّ أكثر العمومات والمطلقات مخصّصة ومقيدة ، فلو كان الخبر الذي لا يطابق كذبا تطرّق الكذب إلى كلام الشرع.

ولأنّ بين العلم والجهل المركب واسطة في الاعتقاد وهي اعتقاد المقلد المطابق ، فجاز أن يثبت بين الصدق والكذب واسطة في الخبر.

والجواب : الخبر الذي قصد به الإخبار ، والمجنون لا قصد له ، فصار كالسّاهي والنائم إذا صدر عنهما صيغة الخبر ، فإنّه لا يكون خبرا ، وحيث لم يعتقدوا صدقه لم يبق إلّا أن يكون كاذبا أو لا يكون ما أتى به خبرا ، وإن كان بصورة الخبر.

وأيضا فإنّ فيه نظرا ، لأنّ الكذب أعمّ من افترائه والافتراء أخصّ من نقيض الصدق الذي هو الكذب ، فكأنّ الصورة التي باعتبارها كان أعمّ هي صورة الجنة ، ونمنع الكذب في صورة الجنّة ، ونمنع الكذب في صورة المخبر عن ظن مع عدم المطابقة وان لم يستحق الذم ، وكذا نمنع الصدق مع

٢٩٧

المطابقة وان لم يستحق المدح ، وحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد وإن لم يكن محمولا على ظاهره ليس بكذب ، لأنّه محمول على مجازه ، معدول به عن حقيقته ، والمجاز ليس بكذب ، وأي ملازمة بين ثبوت الواسطة في الاعتقاد بين العلم والجهل المركّب وبين ثبوتها في الخبر ، ولو كان التمثيل كافيا لثبتت الواسطة بين السلب والإيجاب وبين كلّ قسمين أحاطا بطرفي النقيض.

احتجّ الجمهور باتّفاق الأمّة على تكذيب اليهود والنصارى ، مع أنّا نعلم أنّ فيهم من لا يعلم فساد تلك المذاهب.

واعترض (١) بأنّ أدلّة الإسلام لمّا كانت قوية جليّة لا جرم أشبهت حالهم حال من يخبر عن الشيء مع العلم بفساده.

والنزاع في هذه المسألة لفظي حيث أطلق بعضهم الكذب على كلّ خبر غير مطابق ، وخصّصه آخرون باشتراط الاعتقاد.

__________________

(١) ذكر الاحتجاج والاعتراض الرازي في المحصول : ٢ / ١٠٧.

٢٩٨

الفصل الثاني

في المتواتر

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في أنّه يفيد العلم

مقدّمة :

التواتر لغة مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما ، قال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا)(١) ، أي رسولا بعد رسول بينهما فترة.

وكذا في الاصطلاح عبارة عن توارد الأخبار على السمع خبرا بعد خبر ، لكن بشرط أن يكون تكثّر الأخبار إلى أن يحصل العلم بقولهم.

وقد حدّ بعض الأشاعرة التواتر بأنّه : عن جماعة بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم. وهو غلط ، فإنّ التواتر ليس هو الجماعة.

إذا عرفت هذا فنقول : ذهب أكثر الناس إلى أنّه يفيد العلم ، سواء كان

__________________

(١) المؤمنون : ٤٤.

٢٩٩

خبرا عن أمور موجودة في زماننا ، كالإخبار عن البلدان النائية ؛ أو عن أمور ماضية ، كالإخبار عن وجود الأنبياء والملوك الماضين.

وأنكره السّمّنيّة (١) والبراهمة وقالوا : إنّه يفيد الظنّ.

ومنهم من يسلم إفادته العلم لو كان عن أمور موجودة في زماننا لا في الأمور السالفة.

لنا (٢) : انّا نجد أنفسنا جازمة بوجود البلاد النائية والأمم الخالية والأنبياء والملوك الماضية جزما ضروريا جاريا مجرى جزمنا بالمشاهدات ، فالمنكر لها مكابر.

فإن قيل : الظنّ لا شك في وجوده أمّا العلم فلا ، لكن الظنّ إذا كان قويا اشتبه بالعلم ، وهو هنا كذلك لا أنّه معلوم.

أمّا أوّلا ، فلأنّه فرع تصوّر إجماع الخلق الكثير على الإخبار بشيء واحد ، وهو ممنوع لاختلافهم في الأمزجة والأخلاق والآراء والأغراض وقصد الصدق والكذب ، وكما لا يتصوّر اتّفاق الخلق الكثير على أكل طعام واحد معيّن واتّفاق أهل بلد على محبة الخير أو الشر ، كذا لا يتصوّر اتّفاقهم على الصدق.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ كلّ واحد يجوز عليه الكذب حالة الانفراد فكذا حالة

__________________

(١) السمنية : قوم من أهل الهند دهريون ، من عبدة الأصنام ، تقول بالتناسخ ، وتنكر وقوع العلم بالإخبار. لسان العرب : ١٣ / ٢٢ ، مادة «سمن».

(٢) وهو قول الرازي أيضا في المحصول : ٢ / ١٠٨ ، الباب الأوّل ، المسألة الثانية.

٣٠٠