نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

الخطاب المحتاج إلى البيان ضربان :

أحدهما ، له ظاهر وقد استعمل في خلافه.

والثاني ، لا ظاهر له ، كالمشترك. والأوّل أقسام :

أحدها : بيان التخصيص.

وثانيها : بيان النسخ.

وثالثها : بيان الأسماء الشرعيّة.

ورابعها : بيان اسم النكرة إذا أريد به شيء معيّن.

إذا عرفت هذا فنقول : ذهب جماعة من الأشاعرة والحنفيّة إلى جواز تأخير البيان في ذلك كلّه.

وذهب بعض الأشاعرة كأبي إسحاق المروزي (١) وأبي بكر الصّيرفي (٢) وبعض الحنفيّة والظاهريّة إلى امتناعه.

وقال السيّد المرتضى (٣) والكرخي (٤) وجماعة من الفقهاء : يجوز تأخير البيان المجمل خاصّة.

__________________

(١) إبراهيم بن أحمد المروزي ، فقيه انتهت إليه رئاسة الشافعية بالعراق بعد ابن سريج ، مات سنة ٣٤٠ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ١ / ٢٨.

(٢) تقدمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٤٠.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٣٦٣.

(٤) تقدمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.

٤٤١

وقال آخرون : يجوز تأخير بيان الأمر دون الخبر.

وقال الجبائيّان والقاضي عبد الجبّار : يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره. (١)

وقال أبو الحسين البصري (٢) : يجوز تأخير بيان ما ليس له ظاهر كالمجمل ، وأمّا ما له ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره ، كالعامّ والمطلق والمنسوخ ، فيجوز تأخير بيانه التفصيلي ، ولا يجوز تأخير البيان الإجمالي ، بأن يقول وقت الخطاب : هذا العامّ مخصوص ، وهذا المطلق مقيّد ، وهذا الحكم سينسخ وإن لم يبيّن بأيّ شيء ولا وقته.

وهو الحقّ ، فهاهنا ثلاث دعاو.

الأوّل : المنع من تأخير بيان ما له ظاهر قد استعمل في خلافه.

الثاني : الاكتفاء بالبيان الإجمالي.

الثالث : جواز تأخير بيان ما لا ظاهر له.

أمّا الدعوى الأولى : فلأنّ العموم خطاب لنا في الحال إجماعا ، فإن لم يقصد الإفهام لم يكن مخاطبا ، إذ مفهوم أنّه «مخاطب» توجّه الخطاب نحونا ، ومعناه قصد إفهامنا.

ولانّه لو لم يقصد الإفهام في الحال ، مع أنّ ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا في الحال ، كان إغراء لنا ، بأن نعتقد انّه قصد إفهامنا في الحال ، فيكون قد قصد أن

__________________

(١) نقله أبو الحسين المعتزلي في المعتمد : ١ / ٣١٥ ، والآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٢.

(٢) المعتمد : ١ / ٣١٦.

٤٤٢

نجهل ، لأنّ من خاطب قوما بلغتهم ، فقد أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنّه قد عنى ما عنوة.

ولأنّه لو لم يقصد إفهامنا كان عبثا ، لأنّ الفائدة في الخطاب إفهام المخاطب.

ولأنّه لو جاز أن لا يقصد إفهامنا بالخطاب ، لجاز مخاطبة الزّنجيّ بالعربيّة ، وهو لا يحسنها ، لعدم وجوب إفهام المخاطبين ، بل ذلك أولى بالجواز ، لأنّ الزّنجيّة ليس لها ظاهر عند العربيّ يدعوه إلى اعتقاد معناه ، ولو جازت مخاطبة العربيّ بالزّنجيّة وبيّن له بعد مدّة ، جازت مخاطبة النائم ، وبيّن له بعد مدّة ، وأن يقصد الإنسان بالتصويت والتّصفيق شيئا يبيّنه بعد مدّة.

لا يقال : خطاب الزّنجي لا يفهم منه العربيّ شيئا ، فلم يجز أن يخاطبوا به ، بخلاف خطاب العربيّ بالمجمل ، الّذي يفهم منه شيئا ، فإنّ قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١) قد فهم منه الأمر بشيء ، وإن لم يعرف ما هو.

لأنّا نقول : لو جاز أن يكون اسم الصلاة واقعا على الدّعاء ، ويريد الله تعالى به غيره ، ولا يبيّن لنا ، جاز أن يكون ظاهر قوله : (أَقِيمُوا) للأمر ، ولا يستعمله في الأمر ، ولا يبيّن لنا ذلك ، وفي ذلك مساواته لخاطب الزّنجيّ ، لأنّا لا نفهم منه شيئا أصلا.

وإن قصد إفهامنا في الحال ، فإمّا أن يريد أن يفهم منه ظاهره ، أو

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

٤٤٣

غير ظاهره ، فإن أراد الأوّل ، فقد أراد منّا الجهل.

وإن اراد الثاني ، فقد أراد منّا ما لا سبيل اليه.

وهذه الدلالة تتناول العامّ المستعمل في الخصوص ، والمطلق ، والمقيّد ، والمنكّر ، والمنسوخ ، والأسماء المنقولة الشرعيّة ، والنكرة إذا أريد بها شيء معيّن ، لأنّ الكلّ مستعمل في غير ظاهره.

وأيضا ، لو جاز تأخير البيان ، لم يكن لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل الّذي يقف وجوب البيان عليه ، لأنّه لو قيل لنا : «صلّوا غدا» جوّزنا أن يكون المراد بقوله «غدا» بعد غد ، وما بعده أبدا ، لأنّ كلّ ذلك يسمّى غدا مجازا ، ولا يبيّنه لنا ، ولا يقف وجوب البيان على غاية ، وهو يقتضي تعذّر علمنا بمراد الخطاب.

لا يقال : يبيّن في غد صفة العبادة ، ثمّ يقول : افعلوها الآن فيعلم وجوب فعلها حينئذ.

لأنّا نقول : نمنع ذلك ، لجواز أن يريد بقوله الآن وقتا غيره مجازا ، ولا يبيّنه [لنا] في الحال ، بل يجوز أن يتجوّز بلفظة الأمر عن غيره ، وبلفظة الصّلاة غيرها.

وأيضا ، لو جاز تأخير البيان ، فإمّا إلى مدّة معيّنة ، وهو تحكّم لم يقل به أحد ، أو إلى غير نهاية ، فيلزم بقاء المكلّف عاملا أبدا بعموم قد أريد به الخصوص ، وهو في غاية التجهيل.

وأمّا الدّعوى الثانية ، فظاهرة ، إذ المفسدة تنتفي مع البيان الإجماليّ ، كانتفائه مع التفصيليّ.

٤٤٤

وأمّا الثالثة ، فلانتفاء المانع ، وهو التجهيل مع وجود المقتضي ، وهو إمكان تعلّق الغرض بالخطاب بالمجمل ، لأنّه منشأ مصلحة تتعلّق به ، كما في الخطاب بالمبيّن.

اعترض (١) على الأوّل من حيث المعارضة ومن حيث الجواب.

أمّا المعارضة ، فمن وجوه أربعة :

الأوّل : العموم خطاب لنا في الحال مع أنّه لا يجوز اعتقاد استغراقه عند سماعه ، بل لا بدّ من تفتيش الأدلّة السمعيّة والعقليّة لينظر هل فيها ما يخصّه؟ فإن لم يجد قضى بالعموم ، ففي زمان التوقف الخطاب بالعموم قائم ، مع أنّه لا يجوز اعتقاد ظاهره.

لا يقال : من لم يجوّز إسماع العامّ دون الخاصّ ، لا يرد عليه ، ومن جوّزه يجيب بأنّ علم المكلّف بكثرة السنن والأدلّة الّتي يجوز وجود ما يدلّ على خلاف الظاهر كالمشعر بالتّخصيص.

لأنّا نقول : منع إسماع المكلّف العامّ دون الخاصّ عندكم باطل ، وتخريج النّقض بالمذهب الباطل باطل.

وتجويز إقامة علمه بكثرة السّنن مقام الإشعار بالتخصيص تجويز أن يكون احتمال قيام المخصّص في الحال مانعا من اعتقاد الاستغراق في الحال ، وهو يقتضي أن يكون تجويزه لحدوث التخصيص في ثاني الحال ، مانعا عن اعتقاد الاستغراق في الحال.

__________________

(١) المعترض هو الرازي في محصوله : ١ / ٤٩٠ ـ ٤٩١.

٤٤٥

الثاني : تجويز تأخير البيان المخصّص بزمان قصير ، وعطف جملة من الكلام على [جملة] أخرى ، ثمّ تبيّن عقيب الثانية ، وأن يبيّن المخصّص بكلام طويل.

لا يقال : نمنع من تأخير البيان إلّا مقدار ما لا ينقطع عن السامع توقّع شرط يرد على الكلام ، وإنّما نجوّز البيان بالطويل من القول أو الفعل لو لم يتمّ البيان إلّا بهما ، وحينئذ لا يكون فيه تأخير البيان.

لأنّا نقول : ظاهر لفظ العامّ يفيد الاستغراق ، فحال سماعه يتوجّه تقسيم المتكلّم ، من أنّ الغرض إمّا الإفهام للظاهر أو لغيره ، أو غير الإفهام.

فإن قلت : تجويز السامع بأن يأتي المتكلّم بعد كلامه بشرط أو استثناء يمنعه من حمل ذلك اللّفظ على ظاهره.

قلت : فيجوز في صورة النزاع أن نقول : تجويز السامع أن يأتي المتكلّم حال إلزام التكليف بدليل مخصّص يمنعه من حمل اللّفظ على ظاهره ، وهذا هو أوّل المسألة.

الثالث : يجوز أن يأمر الله تعالى المكلّفين بالفعل ، مع تجويز كلّ واحد منهم أنّه يموت قبله ، ولا يكون مرادا بالخطاب ، وهو يستلزم الشكّ فيمن أريد بالخطاب ، وهذا التخصيص لم يتقدّم بيانه.

الرابع : أنّ أكثر المعتزلة اتّفقوا على جواز تأخير [بيان] النسخ إجمالا وتفصيلا ، وينتقض دليلهم به ، لأنّ اللّفظ يفيد الدوام وهو غير مراد ، فإن أراد ظاهره ، فقد أراد منّا الجهل ، وإن أراد غيره ، لزم التكليف بما لا يطاق.

٤٤٦

أمّا الجواب فمن وجهين :

الأوّل : إن عنيت بالإفهام في قولك «المخاطب إمّا أن يريد إفهامنا أو لا» إفادة القطع أو الاعتقاد الرّاجح المشترك بين المانع من النّقيض وغيره.

والأوّل ليس غرضا ، ولا يلزم من نفيه العبث والإغراء بالجهل ، بخلاف خطاب العربيّ بالزنجيّة ، لعدم تمكّنه من الاعتقاد الرّاجح ، إذ لا يفهم منه شيئا.

والثاني مسلّم ، لكن لا يمنع من ورود المخصّص ، وإلّا لكان مانعا من النقيض ، مع فرض خلافه.

ثمّ يدل على أنّ الغرض المشترك بين المانع من النقيض والّذي يجوز معه النقيض أنّ دلالات الألفاظ ظنيّة ، لما تقدّم من توقّفها على المقدّمات لتوقف الغير الظنيّة ، وإذا احتمل النقيض لم يمنع التخصيص ، فإنّ الغيم الرّطب يفيد ظنّ المطر ، وقد يتخلّف عنه ، ولا يقدح في الظنّ ، وإلّا لتوقّف الظّنّ على انتفاء هذا العدم ، فيكون قطعا لا ظنّا.

الثاني : اللّفظ العامّ إن وجد مع المخصّص دلّ المجموع على الخاصّ ، وإن خلا عنه دلّ مع العدم على الاستغراق ، والعامّ متردّد بين هاتين الحالتين ، كتردّد المشترك بين مفهوماته ، والمتواطئ بالنّسبة إلى جزئيّاته ، وكما يجوز عندكم ورود اللّفظ المشترك والمتواطئ خاليا عن البيان ، لإفادته إرادة أحد تلك المسمّيات ، فكذا العامّ قبل العلم بوجود المخصّص معه ، وبعدمه يعلم إرادة العموم والخصوص ، ويعلم أنّ اللّفظ إن وجد معه المخصّص أفاد الخاصّ ، وإن

٤٤٧

وجد معه عدمه أفاد العامّ ، فلا فرق بينه وبين المشترك ، فيجوز هنا تأخير البيان كما جاز.

لا يقال : هذا قول باشتراك الصّيغة بين العموم والخصوص ، ونحن نفرّع على أنّها للعموم خاصّة.

لأنّا نقول : نمنع أنّه قول بالاشتراك ، بل هي وحدها موضوعة للاستغراق ، فانفصل عن القول بالاشتراك.

لكنّا نقول : يجوز ورود المخصّص ، فإذا ورد أفاد الخاصّ لا غير ، فالشك في وجود المخصّص وعدمه ، يستلزم الشكّ في أنّه هل يفيد الاستغراق أم لا ، لأنّ الشكّ في الشّرط يوجب الشّك في المشروط.

وعلى الثاني بأنّ اللّفظ وإن كان محتملا ، إلّا أنّه قد وجد في القرائن ما يفيد القطع بأنّ المراد من اللّفظ ظاهره ، وحينئذ يزول السؤال.

فإن لم توجد قرينة وحضر وقت العمل وجب [العمل] لقيام الظنّ مقام العلم في وجوب العمل ، لا فيما يتعلّق بالعمل ، فظنّ كونه دالّا على وجوب العمل في الحال ، يكفي في القطع بوجوب العمل في الحال ، لكنّ عدم المخصّص لا يكفي في القطع بعدم التخصيص ، فظهر الفرق.

وعلى الثالث ، أنّه يجوز تأخيره إلى وقت الحاجة إلى البيان ، وهو معيّن عنده تعالى ، وأيّ وقت وجب على المكلّف العمل فهو وقت الحاجة إلى البيان ، وقبل وقت الوجوب فلا عمل للمكلّف حتّى يقال : إنّه عامل بعموم أريد به الخصوص.

٤٤٨

والجواب عن الأوّل : أنّ العامّ قبل التفتيش والبحث عن المخصّص ليس دليلا ، وإنّما تتمّ دلالته بعد البحث ، فذلك الزّمان زمان طلب تتميم الدّليل ، والمخاطب قصد إفادة ما يدلّ هو والمخصّص أو عدمه عليه من العموم وعدمه.

لا يقال : يأتي ذلك في المتنازع ، بأن يقصد الإفهام لما يدلّ العامّ وما يبيّنه بعد ذلك من التخصيص عليه.

لأنّا نقول : الفرق أنّ المخصّص في صورة النزاع ثابت ، والتفريط من المكلّف ، حيث لم يبحث في الأدلّة الثابتة في نظر الشرع ، بخلاف صورة النقض.

وعن الثاني : أنّا إنّما نجوّز تأخيره في الزّمان القصير إذا لم يعدّ المتكلّم معرضا عن كلامه الأوّل ، لأنّ كلامه الثاني حينئذ مع الأوّل يعدّ كالجملة الواحدة ، وذلك لا يعدّ تأخير البيان ، بخلاف الزمان الطويل الّذي يعدّ المتكلّم معه معرضا عن كلامه ، ولهذا فإنّه يجوز عرفا ولغة أن يتكلّم الإنسان بكلام يقصر فهم السامع عنه ، ويبيّنه بعد الزمان القصير ، فلا يلزم من التأخير ثمّ ، التأخير هنا.

والجمل المعطوفة تنزل منزلة الجملة الواحدة ، فالبيان المتعقّب للجمل المعطوفة ، ينزله منزلة تعقّبه للجملة الواحدة ، فالاحتمال في هذه الصّور راجح على الاحتمال المذكور في صورة النزاع.

ومنع الرّاجح من الحمل على الظاهر لا يستلزم منع المرجوح منه.

٤٤٩

والكلام الطويل ، إنّما يجوز البيان به إذا لم يحصل [البيان] إلّا منه ، أو كانت المصلحة فيه أتمّ من القصير وإلّا فلا. (١)

وفيه نظر ، فانّه تخريج (٢) لتجويز البيان الطويل ، ونحن نسلّم أنّه إذا لم يتمّ إلّا به أو كانت المصلحة منوطة به ، وجب ، لكنّ الإشكال عائد ، لأنّ الخطاب من غير بيان قد وجد ، سواء كان بيانه ممتنعا أو ممكنا ، فإنّ النقض يتمّ بهما.

وعن الثالث : بالمنع من الشكّ بالمراد لتجويز الموت مع ظنّ البقاء ، والدليل اللّفظي يفيد الظنّ.

وعن الرابع : أنّه لا يرد علينا ، والفارق بين النسخ وغيره يقول : إنّ العلم حاصل بانقطاع التّكليف ، فجاز تأخير بيان النسخ للعلم به ، بخلاف غيره.

وعن الجواب الأوّل : أنّه لو كان الغرض إفادة الظنّ لما دلّ اللّفظ عليه ظاهرا ، لزم منه إرادة الظنّ الكاذب ، وهو ممتنع.

وعن الثاني : بالمنع من كون المشترك ، والمتواطئ ، كالعامّ بالنّسبة إلى الاحتمالين.

وعن الاعتراض على الثاني : بالمنع من حصول القطع ، بل ومن الظنّ مع تطرّق الاحتمال الّذي ذكرناه.

واحتجّت الأشاعرة على جواز التأخير مطلقا فيما له ظاهر وفيما لا ظاهر له بوجوه :

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٨.

(٢) في «أ» و «ب» : يخرج.

٤٥٠

الأوّل : قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(١) ومعنى (قَرَأْناهُ) أنزلناه إليك ، و (ثُمَ) للتراخي ، وهو عامّ في الجميع.

الثاني : وهو خاصّ بالنكرة أنّه تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة موصوفة غير منكّرة ، ثمّ لم يبيّنها ، حتّى سألوا سؤالا بعد سؤال.

أمّا عدم التنكير فلقوله : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها)(٢) وقوله تعالى : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ)(٣) ، (إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ)(٤) ، (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ)(٥) ينصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل ، وهذه الكنايات تدلّ على أنّ المأمور به إنّما هو ذبح بقرة معيّنة.

ولأنّ الصفات المذكورة في جواب السؤال الثاني إمّا أن تكون صفات البقرة الّتي أمروا بذبحها أوّلا ، أو صفات بقرة وجبت عليهم عند السؤال ، وانتسخ ما كان واجبا قبله.

والأوّل هو المطلوب.

والثاني يقتضي وقوع الاكتفاء بالصّفات الأخيرة ، وهو باطل إجماعا.

وأمّا عدم البيان قبل السؤال فظاهر.

__________________

(١) القيامة : ١٧ ـ ١٩.

(٢) البقرة : ٦٩.

(٣) البقرة : ٦٨.

(٤) البقرة : ٦٩.

(٥) البقرة : ٧١.

٤٥١

الثالث : وهو يدلّ على تأخير التخصيص أنّه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)(١) قال ابن الزّبعرى (٢) : قد عبدت الملائكة وعبد المسيح ، فهؤلاء حصب جهنم؟ فتأخّر بيان ذلك إلى أن ينزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ)(٣).

الرابع : قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)(٤) و (ثمّ) للتراخي.

الخامس : قوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(٥) وأراد به بيانه للناس.

السادس : قول الملائكة : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ)(٦) ولم يبيّنوا إخراج لوط ومن معه من المؤمنين عن الهلاك بقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ)(٧) إلّا بعد سؤال إبراهيم عليه‌السلام ، وقوله : (إِنَّ فِيها لُوطاً).

__________________

(١) الأنبياء : ٩٨.

(٢) تقدّمت ترجمته ص ١٥٣.

(٣) الأنبياء : ١٠١.

(٤) هود : ١.

(٥) طه : ١١٤.

(٦) العنكبوت : ٣١.

(٧) العنكبوت : ٣٢.

٤٥٢

السابع : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث معاذا إلى اليمن ليعلّمهم الزكاة وغيرها ، فسألوه عن الوقص (١) ، فقال : «ما سمعت فيه شيئا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أرجع إليه فأسأله» وهو يدلّ على أنّ بيانه لم يتقدّم.

الثامن : لو كان تأخير البيان ممتنعا ، فإمّا أن يعرف بالضرورة ، أو النظر ، وهما منفيّان ، فلا امتناع.

التاسع : لو قبح تأخير البيان ، لكان ذلك لعدم تبيّن المكلّف ، وذلك يقتضي قبح الخطاب إذا بيّن له ولم يتبيّن ، فإنّه لا فرق في ذلك بين ما إذا امتنع لأمر يرجع إلى نفسه أو غيره ، ولهذا يسقط تكليف الإنسان إذا مات ، سواء قتل نفسه أو قتله غيره ، واللازم باطل بالإجماع.

العاشر : قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ)(٢) الآية ، ثمّ بيّن بعد ذلك انّ السّلب للقاتل ، وأنّ «ذوي القربى» هم بنو هاشم وبنو المطلب ، دون بني أميّة وبني نوفل ، لمنعهم من ذلك حتّى سئل عن ذلك ، فقال : «إنّا وبنو المطلب لم نفترق في جاهليّة ولا إسلام ولم نزل هكذا» وشبّك بين أصابعه.

الحادي عشر : روي أنّ جبرئيل عليه‌السلام قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقرأ قال : وما أقرأ؟ كرّر عليه ثلاث مرّات ، ثمّ قال له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(٣) فأخّر بيان الأمر الأوّل والثاني إلى الثالث ، مع إجماله مع إمكان بيانه أوّلا.

__________________

(١) الوقص : ما بين الفريضتين في الزكاة ، نحو أن تبلغ الإبل خمسا ففيها شاة ، ولا شيء في الزيادة حتّى تبلغ عشرا ، فما بين الخمس إلى العشر وقص. لاحظ المعجم الوسيط مادّة «وقص».

(٢) الأنفال : ٤١.

(٣) العلق : ١.

٤٥٣

الثاني عشر : انّه تعالى خاطبنا بإقامة الصلاة ، وايتاء الزكاة ، ولم يرد بهما حقائقهما اللغويّة ، ولم يقترن بها البيان ، بل أخّر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها إلى أن ينزل جبرئيل عليه‌السلام بعد ذلك ، وبيّنه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن بعد بيان جبرئيل عليه‌السلام لأمّته.

وكذا في الزكاة بيّن بعد الأمر المطلق مقدار الواجب ، وصفته في الأثمان والمواشي وغيرهما.

وكذا آية السّرقة ، (١) ورد القطع لليد مطلقا ، ثمّ بيّن نصاب القطع ومقدار العضو المقطوع.

وكذا خاطب بالجهاد بقوله تعالى : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)(٢) ثمّ نزل تخصيصه بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى)(٣) وبيّن العمومات الواردة في البيع والنكاح والإرث على التدريج ، وأوضح ما يصحّ بيعه وما لا يصحّ ، ومن يباح نكاحها ويحرم ، وصفات العقود وشروطها ، ومن يرث ومن لا يرث ، ومقادير المواريث ، ونهى عن المزابنة. وشكا إليه الأنصار بعد ذلك ، فرخّص في العرايا ، وهي نوع من المزابنة ، مع أنّه لم يقترن به بيان إجماليّ ولا تفصيليّ.

الثالث عشر : لو امتنع تأخير البيان ، فإمّا لذاته ، وهو محال ، لأنّا لو فرضناه واقعا ، لم يلزم منه محال.

__________________

(١) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) المائدة : ٣٨.

(٢) التوبة : ٤١.

(٣) التوبة : ٩١.

٤٥٤

وإمّا لغيره ، ولا فارق بين وجود البيان وعدمه سوى علم المكلّف بالمراد من الكلام ، حالة وجود البيان ، وجهله به حالة عدمه ، فلو امتنع تأخير البيان ، لكان لما قارنه من جهل المكلّف بالمراد المستند إلى عدم البيان ، ولو كان كذلك ، لامتنع تأخير بيان النسخ ، لما فيه من الجهل بمراد المتكلّم الدالّ بوضعه على تكرّر الفعل على الدّوام ، واللازم ممتنع ، فالملزوم كذلك.

وهذا لازم على من منع من تأخير بيان المجمل والعامّ ، وكلّ ما أريد به غير ما هو ظاهر فيه ، وجوّزه في النسخ كالجبائيّين والقاضي عبد الجبار.

قال القاضي عبد الجبار : الفرق بين تأخير بيان النسخ وتأخير بيان المجمل [هو :] أنّ تأخير بيان النسخ ممّا لا يخلّ من التمكّن في الفعل في وقته ، بخلاف تأخير بيان صفة العبادة ، فإنّه لا يتأتّى معه فعل العبادة في وقتها للجهل بصفتها ، والفرق بين تأخير بيان تخصيص العموم وتأخير بيان النسخ من وجهين :

الأوّل : الخطاب المطلق الّذي أريد نسخه معلوم الارتفاع ، بانقطاع التكليف ، بخلاف المخصوص.

الثاني : تأخير بيان تخصيص العموم ، مع تجويز إخراج بعض الأشخاص منه من غير تعيين ، يوجب الشكّ في كلّ واحد من أشخاص المكلّفين ، بل هو مراد بالخطاب أم لا ، ولا كذلك في تأخير بيان النسخ. (١)

__________________

(١) نقله الآمدي في الإحكام : ٣ / ٣٠.

٤٥٥

اعترض (١) : بأنّ وقت العبادة إنّما هو وقت دعوّ الحاجة إليها ، لا قبله ، ووقت الحاجة إليها لا يتأخّر البيان عنه ، فلا يلزم من تأخير بيان صفة العبادة عنها في غير وقتها ، ووجوده في وقتها ، تعذّر الإتيان بها في وقتها.

والخطاب وإن علم ارتفاعه بانقطاع التكليف بالموت في الحالتين ، إلّا أنّ الخلاف فيما قبل حالة الموت ، مع وجود الدليل الظاهر المتناول لكلّ الأشخاص ، واللّفظ الظاهر المتناول لجميع أوقات الحياة ، وعند ذلك ، إذا جاز رفع حكم الخطاب الظاهر المتناول لجميع الأوقات ، مع فرض الحياة والتمكّن منه من غير دليل مبين في الحال ، جاز تخصيص بعض ما تناوله اللفظ بظهوره مع التمكّن من غير دليل مبين في الحال أيضا ، لتعذّر الفرق بين الحالتين.

وأمّا تأخير بيان التخصيص ، فإنّه وإن أوجب التردّد في كلّ واحد من أشخاص المكلّفين أنّه داخل تحت الخطاب أم لا ، فتأخير بيان النّسخ ممّا يقتضي التردّد في أنّ العبادة في كلّ يوم عدا الأوّل هل هي داخلة تحت الخطاب العامّ لجميع الأيّام أم لا.

وإذا جاز ذلك في أحد الطرفين ، جاز في الطرف الآخر ضرورة تعذّر الفرق. (٢)

وفيه نظر ، لأنّ الفرق واقع لحصول الفهم وإمكان إيقاع التكليف في النسخ في الوقت الأوّل ، بخلاف التخصيص.

__________________

(١) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٣٠.

(٢) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ٣١.

٤٥٦

وأيضا ، فإنّه إذا أمر بعبادة في وقت مستقبل أمرا عامّا ، فإنّ كلّ شخص يمكن اخترامه قبل الوقت ، ويخرج بذلك عن دخوله تحت الخطاب العامّ ، وهو يوجب التردّد في كلّ واحد واحد من الأشخاص هل هو داخل تحت ذلك الخطاب إذا لم يرد البيان به ، ومع ذلك فإنّه غير ممتنع اجماعا.

الرابع عشر : البيان إنّما يجب ليتمكّن المكلّف من أداء ما كلّف به ، والتمكّن من ذلك غير محتاج إليه عند الخطاب ، وانّما يحتاج إليه قبل الفعل بلا فصل ، فلا يجب تقديمه عند الخطاب ، كما لا يجب تقديم القدرة عند الخطاب.

الخامس عشر : سأل عمر عن «الكلالة» فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يكفيك آية الصّيف» (١) فكان يقول عمر : اللهم مهما شئت ، فإنّ عمر لم يتبيّن.

السادس عشر : وردت أخبار مستفيضة في بيان آيات من القرآن ، وإنّما تستفيض بعد مدّة ، وفي ذلك تأخير بيانها عنها إلى أن يستفيض الخبر.

السابع عشر : الصحابة نقلت أخبارا عند نزول الحاجة إليها ، وهي مخصّصة للعموم ، كالخبر في أخذ الجزية من المجوس ، وغير ذلك ، فلو لم يجز تأخير البيان ما نقلت ذلك.

الثامن عشر : يحسن من الملك أن يأمر بعض عمّاله بأمر ، ولا يبيّنه له ، بل يقول له: ولّيتك البلد الفلاني ، فاخرج إليه غدا ، وأنا أكتب لك تذكرة بتفصيل ما تعمله ، وكذا يحسن من السيّد أن يقول لغلامه : أنا آمرك بالخروج إلى السوق في

__________________

(١) وهي قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ...) النساء : ١٧٦ ، وسمّيت كذلك لأنّها نزلت في زمن الصيف. لاحظ صحيح مسلم ، كتاب الفرائض باب ميراث الكلالة برقم ٤٠٤١.

٤٥٧

غد وآمرك بشراء ما أبيّنه لك غدا ، ويكون القصد التأهّب لقضاء الحاجة ، والعزم عليها ، وقطع العوائق والشواغل.

والجواب عن الأوّل : نمنع أنّ كلمة «ثمّ» للتراخي مطلقا ، فقد يرد بمعنى الواو كقوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ)(١) ، (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)(٢) ، (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ)(٣) لاستحالة صيرورته تعالى شهيدا بعد أن لم يكن.

سلّمنا ، لكن ليس المراد من البيان بيان العموم والمجمل ، بل إظهاره بالتنزيل.

لا يقال : إنّ فيه مخالفة الظاهر.

لأنّا نقول : يلزم من حفظ هذا الظاهر مخالفة ظاهر آخر ، وهو أنّ الضّمير في قوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(٤) راجع إلى القرآن كلّه ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر باتّباعه ، وهو عامّ في جميع القرآن.

ولأنّه لو حمل على البعض من غير بيان ، كان مجملا وهو خلاف الأصل ومعلوم أنّ جميعه لا يحتاج إلى بيان ، فليس حفظ أحد الظاهرين أولى من الآخر.

سلّمنا ، لكن يجوز أن يكون المراد تأخير البيان التفصيلي.

__________________

(١) الانعام : ١٥٤.

(٢) البلد : ١٧.

(٣) يونس : ٤٦.

(٤) القيامة : ١٩.

٤٥٨

لا يقال : البيان مطلق فحمله على التفصيل تقييد من غير دليل.

لأنّا نقول : المطلق لا يحمل على جميع صوره ، وإلّا كان عامّا ، بل إذا عمل به في صورة ، كفاه وتنزيل البيان في الآية على الإجمالي دون التفصيليّ أو بالعكس تقييد للمطلق من غير دليل ، وهو ممتنع ، وإن لم يقل بتنزيله عليه ، فلا حجّة فيه.

سلّمنا أنّ المراد مطلق البيان ، لكن يجوز أن يريد بقوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) جمعه في اللوح المحفوظ ، ثمّ ينزّل إلى الرسول ، ثمّ يبيّنه ، وذلك متراخ عن الجمع.

سلّمنا ، لكنّ الآية تدلّ على وجوب تأخير البيان ، ولم يقل به أحد ، فما تدلّ الآية عليه وهو الوجوب ، لا يقولون به ، وما يقولون به ، وهو الجواز لا تدلّ الآية عليه فبطل الاستدلال. (١)

وفيه نظر ، لأنّه إن دلّ فعلى تأخير الوجوب ، لا وجوب التأخير.

سلّمنا ، لكن في الاستدلال به نظر ، لأنّه يدل على تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو باطل بالإجماع ، ثمّ كيف يأمر بالاتّباع ثمّ يبيّنه بعد ذلك.

اعترض (٢) : بأنّ كلمة «ثمّ» للتراخي ، بالتواتر ، والآيات المذكورة (٣) ، المراد هناك التأخير في الحكم.

__________________

(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٧٩. وتنظّر فيه المصنّف رحمه‌الله.

(٢) المعترض هو الرازي في محصوله : ١ / ٤٧٩.

(٣) في «ب» : والمراد.

٤٥٩

ولا يجوز أن يكون المراد من البيان إظهاره بالتنزيل ، لأنّ قوله (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)(١) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتّباع قرآنه ، وإنّما يكون مأمورا بذلك بعد نزوله ، فإنّه قبله لا يكون عالما به ، فكيف يمكنه اتّباع قرآنه؟

فاذن المراد من قوله : (فَإِذا قَرَأْناهُ) الإنزال ، ثمّ إنّه تعالى حكى بتأخير البيان عن ذلك ، وهو يقتضي تأخير البيان عن وقت الإنزال ، وإذا كان كذلك ، وجب أن لا يكون المراد من البيان الإنزال ، لاستحالة كون الشيء سابقا على نفسه.

سلّمنا ، لكنّه خلاف الظاهر ، ونمنع أنّ لفظ القرآن للجميع ، فإنّه كما يتناوله يتناول بعضه ، فإنّه لو حلف أن لا يقرأ القرآن ، ولا يمسّه ، فقرأ أو لمس البعض ، فإنّه يحنث في يمينه.

سلّمنا أنّ لفظ القرآن ليس حقيقة في البعض ، لكنّ إطلاق اسم الكلّ على البعض ، أسهل من إطلاق لفظ البيان على التنزيل ، لأنّ الكلّ مستلزم للجزء ، والبيان غير مستلزم للتنزيل.

ولا يجوز حمل البيان على التفصيليّ ، لأنّ اللّفظ مطلق ، فتقييده خلاف الظاهر.

ولا يجوز حمل الجمع على جمعه في اللوح المحفوظ ، لما تقدّم ، من أنّه تعالى أخّر البيان عن القراءة الّتي يجب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متابعتها ، وهو يستدعي تأخير البيان عن الإنزال.

__________________

(١) القيامة : ١٨.

٤٦٠