الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٨
وقال قاضي القضاة : إذا لم يكن الثاني منهما إضرابا عن الأوّل ، وخروجا إلى قصّة أخرى ، وصحّ رجوع الاستثناء إليهما ، وجب رجوعه إليهما ، وإن كان إضرابا عن الأوّل وخروجا إلى قصّة أخرى ، فإنّه يرجع إلى ما يليه. (١)
وتوقّف القاضي أبو بكر في الجميع. (٢)
وفصّل أبو الحسين هنا جيّدا ، فقال : إمّا أن تكون الجملتان من نوع واحد ، أو من نوعين ، فإن كان الأوّل فإمّا أن تكون إحدى الجملتين متعلّقة بالأخرى ، أو لا تكون.
فإن كان الثاني ، فإمّا أن يكونا مختلفي الاسم والحكم ، أو متّفقي الاسم ، مختلفي الحكم ، أو مختلفي الاسم ، متّفقي الحكم.
فالأوّل ، مثل : «أطعم ربيعة ، واخلع على مضر إلّا الطّوال».
والأقرب ، رجوع الاستثناء هنا إلى الجملة الأخيرة ، فإنّ الظاهر أنّه لم ينتقل عن الجملة المستقلّة بنفسها إلى الجملة الأخرى المستقلّة بنفسها ، إلّا بعد تمام غرضه من الأولى.
والقول بعود الاستثناء إلى الأولى ، ينافي ذلك.
والثاني ، مثل : «أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلّا الطّوال».
والثالث ، مثل : «أطعم ربيعة ، وأطعم مضر إلّا الطوال».
والحكم في هذين كما تقدّم.
__________________
(١) نقله عنه أبو الحسين المعتزلي في المعتمد : ١ / ٢٤٦ ، والآمدي في الإحكام : ٢ / ٤٠٠.
(٢) التقريب والإرشاد : ٣ / ١٤٧.
وأمّا إن تعلّقت إحداهما بالأخرى ، فإمّا أن يكون حكم الأولى مضمرا في الثانية ، مثل : «أكرم ربيعة ، ومضر إلّا الطّوال».
أو اسم الأولى مضمرا في الثانية ، مثل : «أطعم ربيعة ، واخلع عليهم إلّا الطّوال» فالاستثناء في هذين ، يرجع إلى الجملتين ، لأنّ الثانية لم تستقلّ ، وإنّما تتمّ مع الأولى ، فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما.
وإن كانت الجملتان نوعين من الكلام ، فإن اختلفت القضيّة (١) مثل : «أكرم ربيعة ، والعلماء هم المتكلّمون ، إلّا أهل البلد الفلاني» فالاستثناء يرجع إلى ما يليه ، لاستقلال كلّ منهما بنفسها.
وإن اتّحدت ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ)(٢) فالقضيّة (٣) واحدة ، والجملة الأولى أمر ، والثانية نهي ، والثالثة خبر ، فالاستثناء وإن كان مقتضاه أن يرجع إلى الأخيرة ، لاستقلال كلّ منهما بنفسها ، إلّا أنّ في الآية ما يدلّ على رجوعه إلى الجميع ، وهو نوعان الاتّحاد في الغاية ، فإنّ ردّ الشهادة مع الجلد ، والحكم بالفسق ، يجمعهما أمر واحد ، وهو الانتقام والذّم ، وإضمار الأولى ، في الثانية والثّالثة. (٤)
احتجّ الشافعي بوجوه :
__________________
(١) في «أ» : القصّة.
(٢) النور : ٤.
(٣) في «أ» : القصّة.
(٤) المعتمد : ١ / ٢٤٦ ، نقله المصنّف بتلخيص.
الأوّل : الشرط المتعقّب للجمل ، يعود إلى الجميع ، فكذا الاستثناء ، لجامع عدم استقلال كلّ منهما بنفسه ، واتّحاد معنييهما ، فإنّ قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(١) جار مجرى قوله : «[وأولئك هم الفاسقون] إن لم يتوبوا».
الثاني : الاستثناء بالمشيئة يعود إلى الجميع ، فكذا في غيرها.
الثالث : حرف العطف يصيّر الجمل المتعدّدة واحدة ، إذ لا فرق بين [أن تقول :] رأيت بكر بن زيد ، ورأيت بكر بن خالد ، و [بين أن تقول :] رأيت البكرين ، وإذا كان الاستثناء عقيب الواحدة يرجع إليها ، فكذا ما هو بحكمها.
الرّابع : على تقدير إرادة عود الاستثناء إلى الجميع لو ذكره لفظا على سبيل التكرار ، كان ركيكا ، بل إنّما يذكره عقيب الأخيرة ، ويكون راجعا إلى الجميع في هذه الصّورة ، والأصل في الكلام الحقيقة وإذا كان حقيقة في هذه الصورة ، كان حقيقة في الجميع ، دفعا للاشتراك والمجاز.
الخامس : لو قال : عليّ خمسة ، وخمسة ، إلّا سبعة ، رجع إلى الجملتين ، فكذا في غيره ، دفعا للاشتراك والمجاز.
السادس : الاستثناء صالح أن يعود إلى كل واحدة من الجمل ، وليس البعض أولى من البعض ، فوجب العود إلى الجميع ، كالعامّ.
السابع : لو قال : «بنو تميم وبنو ربيعة اكرموهم إلّا الطّوال» عاد الاستثناء إلى
__________________
(١) النور : ٤ ـ ٥.
الجميع ، فكذا إذا تقدّم الأمر بالإكرام ، ضرورة اتّحاد المعنى.
الثامن : لو قال : «اضربوا بني تميم وبني ربيعة إلّا من دخل الدّار» كان معناه من دخل الدار من الفريقين.
التاسع : لواحق الكلام وتوابعه من شرط أو استثناء يجب أن يلحق الكلام ما دام الفراغ لم يقع منه ، وما دام الكلام متّصلا لم ينقطع ، فاللواحق (١) لا حقة ومؤثّرة فيه ، فالاستثناء إذا تعقّب جملا متّصلة معطوفا بعضها على بعض ، فالواجب ان يؤثّر في جميعها.
والاعتراض : على الأوّل : المنع من ثبوت الحكم في الأصل ، بل يعود إلى الأخيرة أيضا.
سلّمنا ، لكن لا يلزم من اشتراكهما في عدم الاستقلال واقتضاء التخصيص اشتراكهما في كلّ الأحكام ، وإلّا لما تعدّدا ، واتّحاد معنى الشرط والاستثناء إن كان بمعنى عدم الفرق بينهما باعتبار ما كان قياس أحدهما على الآخر ، قياس الشيء على نفسه ، وإن كان بينهما فرق ، لم يجب اشتراكهما في الحكم ، لجواز استناده إلى الفارق.
واعلم أنّ الحنفيّة ، سلّموا الحكم بعود الشرط إلى الجميع ، وفرّقوا بينه وبين الاستثناء ، لأنّ الشرط له صدر الكلام ، فإذا تعقّب الجمل ، وقع في غير موقعه ، وكأنّه مذكور في أوّل الكلام ، فلهذا تعلّق بالجميع.
__________________
(١) في «أ» : فالتوابع.
والاستثناء إذا تعقّب الجمل ، فهو واقع في مكانه.
وليس بجيّد ، لأنّا نسلّم أنّ له صدر الكلام ، لكن إنّما يثبت له ذلك في الكلام الّذي تعلّق به الشرط ، لا كلّ كلام مع أنه لو تقدّم على الجميع لم يجب تعلّقه بالجميع.
و [الاعتراض] على الثاني : بما تقدّم ، من أنّه (١) ليس باستثناء ، لعدم حرف الاستثناء فيه ، ولا شرط وإن وجد فيه حرفه ، لأنّه قد يدخل على الماضي ، فيقول : لقيت زيد إن شاء الله ، وإنّما دخلت المشيئة في كلّ هذه المواضع ، ليقف الكلام عن النّفوذ ، والمضيّ لا لغير ذلك.
لا يقال : فتقف الجملة الأخيرة.
لأنّا نقول : لو لا الإجماع لقلنا به ، لكنّ الإجماع دلّ على العود إلى الجميع.
و [الاعتراض] على الثالث : إن ادّعيتم عدم الفرق ، بطل القياس ، وإن سلّمتموه جاز استناد الحكم إلى الفارق ، فيبطل القياس أيضا.
مع أنّه قياس في اللغة.
ونمنع صيرورة الجملتين كالجملة الواحدة بواسطة العطف ، ومعلوم أنّ الجملتين إذا تعقّبهما استثناء ، صحّ من المستثنى أن يصرّح بأنّه إنّما استثنى من إحداهما دون الأخرى ، ولا يجوز أن يصرّح في الجملة الواحدة بأنّ الاستثناء غير عائد إليها.
__________________
(١) في «أ» : مع أنّه.
و [الاعتراض] على الرابع : يمكن رعاية الاختصار بذكر ذلك الاستثناء الواحد عقيب الجمل مع الإشارة إلى ما يقتضي عوده إلى الكلّ ، ولا يقدح ذلك في الفصاحة.
أو لأنّا نمنع الاستقباح ، لما فيه من الدلالة على شمول الاستثناء للجميع بيقين.
سلّمنا الاستقباح ، لكنّ وضع اللّغة غير مشروط بالمستحسن ، فإنّه لو وقع الاستثناء كذلك ، لصحّ لغة وثبت حكمه ، ولو لا أنّه من وضع اللّغة لم يكن كذلك.
و [الاعتراض] على الخامس : لمّا امتنع رجوع الاستثناء إلى إحدى الجملتين ونسبة كلام العاقل إلى الهدر ، وجب صرفه إليهما معا ، فالحاصل أنّ الاستثناء هنا رجع إلى الجملتين لمعنى غير الاستثناء ، وهو رفع محذور الهدريّة.
ونحن نسلّم جواز رجوعه اليهما لقيام دليل ، والنزاع إنّما وقع فيما إذا ورد الاستثناء مقارنا للجملة الأخيرة من غير دليل يوجب عوده إلى ما تقدّم.
على أنّ بعض الشافعية منع من مثل هذا الاستثناء.
و [الاعتراض] على السادس : أنّ عوده إلى البعض أولى من عوده إلى الجميع ، لما في الاستثناء من مخالفة الأصل ، وكلّما قلّ كان اولى.
ثمّ صلاحيّة اللّفظ لشيء لا يقتضي صرفه إليه ، كما في المجاز.
ونمنع عدم الأوليّة للبعض ، فإنّ الأخير لكونه أقرب ، أولى من الأبعد.
و [الاعتراض] على السابع : أنّه قياس في اللّغة ، وقد ظهر بطلانه ، مع قيام الفرق ، فإنّه إذا تأخّر الأمر ، اقترن الاستثناء باسم جميع وهو قوله : «أكرموهم»
بخلاف الأمر المتقدّم ، فإنّه لم يتّصل باسم الفريقين.
و [الاعتراض] على الثامن : بالمنع من أنّ معناه من الفريقين ، بل من ربيعة.
و [الاعتراض] على التاسع : أنّ الكلام إذا لم يقع الفراغ منه ، وكان المتكلّم متشاغلا به ، صحّ أن تعود إليه اللّواحق المؤثّرة ، من شرط واستثناء ، ومشيئة ، فأمّا وجوب تعلّقها بالجميع وإن كان منفصلا وبعيدا عن محل المؤثّر فغير مسلّم ، وإنّما راعوا اتّصال الكلام وانقطاعه لينفصل حكم ما يصحّ أن يلحق بالكلام ممّا لا يصحّ لحوقه به للفراغ والانفصال.
ولو كان بهذا الّذي اقتصر عليه اعتبار ، لوجب إذا قال : أكرمت جيراني وضربت غلماني الطوال ، أن تردّ لفظة الطّوال ، إلى الجملتين ، لأنّ الفراغ ما حصل من الكلام ، كما يفعل في الاستثناء.
لا يقال : لو رددناه إلى ما تقدّم ، لكنّا قد فصلنا بين الصّفة والموصوف.
لأنّا نقول : قد فعل ذلك في مواضع ، وكذا لو رددنا الاستثناء إلى الجميع ، لكنّا قد فصلنا بين الاستثناء والمستثنى منه ، وهو مكروه عندهم.
واحتجّ أبو حنيفة بوجوه :
الأوّل : الاستثناء خلاف الأصل ، لاشتماله على مخالفة الحكم الأوّل ، فالدليل يقتضي عدمه ، تركنا العمل به في الجملة الواحدة ، لدفع محذور الهدريّة ، فيبقى الدليل في باقي الجمل سالما عن المعارض ، فلا يجوز تعلّقه بالجمل المتعدّدة.
وإنّما خصّصناه بالأخيرة ، لأنّها أقرب ، والاتّفاق واقع على عوده إلى الأقرب ، وكما اعتبر القرب في الأقرب من العاملين عند البصريّين. (١)
وفي قولنا : ضرب زيد عمرا ، وضربته ، فجعلوا «الهاء» عائدة إلى عمرو ، دون زيد ، للقرب ، وكذا جعلوا الأقرب فاعلا في قولنا : «ضرب موسى عيسى» لمّا انتفى الأعراب ، والقرينة اعتبار القرب ، وكذا في قولنا : «أعطى زيد عمرا بكرا» أنّ بكرا هو المفعول [الثاني] فكذا وجب اعتبار القرب في الاستثناء.
ولأنّه لا قائل بعوده إلى غير الأخيرة خاصّة ، فإنّ من النّاس من جعله عائدا إلى الجميع ، ومنهم من اعاده إلى الأخيرة خاصّة.
الثاني : لو رجع الاستثناء إلى الجميع ، فإن أضمر مع كلّ جملة استثناء ، لزم مخالفة الأصل في الإضمار ، مع عدم الحاجة إليه ، وفي الاستثناء يتضاعف مخالفة الأصل.
وإن لم يضمر ، كان العامل في ما بعد الاستثناء اكثر من واحد ، لكن لا يجوز تعدّد العامل في إعراب واحد ، لنصّ سيبويه (٢) عليه ، وقوله حجّة.
ولئلّا يجتمع المؤثّران المستقلّان على الأثر الواحد.
الثالث : الاستثناء من الاستثناء مختصّ بما يليه ، فكذا في غيره ، دفعا للاشتراك.
__________________
(١) إشارة إلى قول البصريّين في باب التنازع يقول ابن مالك :
ان عاملان اقتضيا في اسم عمل |
|
قبل فللواحد منهما العمل |
والثاني عند أهل البصرة |
|
واختار عكسا غيرهم ذا اسرة |
(٢) تقدمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٦٩.
الرابع : الظاهر أنّه لم ينتقل المتكلّم من الجملة الأولى إلى الثانية إلّا بعد استيفاء غرضه منها ، فإنّه لمّا كان السكوت يدلّ على استكمال الغرض من الكلام (الأوّل) (١) ، فكذا الشروع في كلام آخر لا تعلّق له بالأوّل ، يدلّ على استكمال الغرض من الأوّل ، فلو جعلنا الاستثناء عائدا إلى الجميع ، لزم إبطال ما أصلناه ، من أنّ الانتقال يدلّ على تماميّة الغرض.
الخامس : المقتضي لرجوع الاستثناء إلى ما تقدّمه ، عدم استقلاله بنفسه ، فإنّه لو كان مستقلّا بنفسه عن غيره لم يجز تعليقه بذلك الغير ، وإذا علّق بما يليه استقلّ وأفاد ، فلا معنى لتعليقه بما بعد عنه ، إذ لو جاز مع إفادته واستقلاله أن تعلّق بغيره لوجب فيه لو كان مستقلّا بنفسه أن تعلّق بغيره.
السادس : من حق العموم المطلق أن يحمل على عمومه وظاهره ، إلّا لضرورة تقتضي خلافه ، ولمّا خصّصنا الجملة الّتي يليها الاستثناء بالضّرورة ، لم يجز تخصيص غيرها ، ولا ضرورة.
السابع : قال الله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(٢) فإنّه لا يرجع إلى الجلد إجماعا.
وقال تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)(٣) وهو راجع إلى الدّية دون الإعتاق بالإجماع.
الثامن : أنّه استثناء تعقّب جملتين ، فلا يكون بظاهره عائدا إليهما كما لو
__________________
(١) ما بين القوسين يوجد في «ب».
(٢) النور : ٥.
(٣) النساء : ٩٢.
قال : «أنت طالق ثلاثا وثلاثا ، إلّا أربعة» فإنّه لا يعود إلى الجميع ، وإلّا لوقع طلقتان لا ثلاث [طلقات].
التاسع : دخول الجملة الأولى تحت لفظه معلوم ، ودخولها تحت الاستثناء مشكوك فيه ، والشكّ لا يرفع اليقين.
والاعتراض على الأوّل : المنع من مخالفة الاستثناء الأصل ، لأنّا قد بيّنا أنّ المستثنى والمستثنى منه كاللّفظ الواحد الدّالّ على الباقي ، مع انتقاضه بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وبالشرط ، فإنّهما عائدان إلى الجميع مع عدم الاستقلال.
لا يقال : الشرط وإن تأخّر ، لكنّه متقدّم ، فصار جميع ما بعده مشروطا به ، فالاستثناء بالمشيئة يقتضي صيرورة الكلام بأسره موقوفا ، فلا يختصّ بالبعض.
لأنّا نقول : نمنع تقدّم الشّرط على جميع الجمل ، بل على الأخيرة.
سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ التقدّم يقتضي العود إلى الجميع ، بل إلى ما يليه.
وأمّا الاستثناء بالمشيئة ، فلم لا يختصّ بالأخيرة؟ وإنّما يتمّ كلام الحنفيّة لو منعوا هذين الإلزامين.
وعلى الثاني : بالمنع من عدم اجتماع العاملين على معمول واحد.
ونصّ سيبويه ، معارض بنصّ الكسائي (١) على الجواز وليست العلل الإعرابيّة مؤثّرة ، بل معرّفة.
وعلى الثالث : أنّه لمّا امتنع عوده إلى الجميع ، وجب عوده إلى البعض ،
__________________
(١) عليّ بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء ، إمام في اللغة والنحو والقراءة ، من أهل الكوفة ، له تصانيف كثيرة ، مات بالرّيّ سنة ١٨٩ ه. لاحظ الأعلام للزركلي : ٤ / ٢٨٣.
ونحن نقول كذلك في الجمل : إنّه لو امتنع العود إلى بعضها اختصّ بما يمكن عوده إليه.
على أنّ قياس الجمل على الاستثناء من الاستثناء خال عن الجامع ، إذ لا جمل هناك.
وعلى الرابع : بالمنع من أنّه لم ينتقل عن الأوّل إلّا بعد استيفاء غرضه منها ، فإنّه نفس النزاع.
وعلى الخامس : انّه لا يمتنع من تعلّقه بما تقدّم أجمع ، كما لا يوجبه ، فلا حجّة لكم فيه والاستقلال وإن اقتضى أن لا يجب تعليقه بغيره ، لكنّه لا يمنع الجواز.
وقوله : لو جاز ذلك ، لجاز في الاستثناء إذا كان مستقلّا بنفسه ان تعلقه بغيره باطل ، لأنّ ما يستقلّ بنفسه ولا تعلّق له بغيره جائزا أو لا واجبا لا يجوز أن تعلقه بغيره.
والاستثناء المتعقب بجملتين غير مستقلّ بنفسه ، فبالضرورة تعلّقه بما يليه المستقلّ ، غير أنّه وإن استقلّ بذلك ، فمن الجائز أن يتعلّق بما تقدّمه وإن لم يكن واجبا.
ثمّ ينتقض بالشرط ، فإنّه متى تقدّم أو تأخّر إذا علّق ببعض الجمل ، أفاد واستقلّ إجماعا ، مع أنّه يجب أن يتعلق بالجميع ، مع حصول الاستقلال بالبعض.
وعلى السادس : بالنقص بالشرط أوّلا ، وبالمنع من كون اللفظ على ظاهر
العموم مع تعقيب الاستثناء ، وإنّما يكون ظاهرا في العموم ، لو خلا عن الاستثناء.
وعلى السّابع : أنّ الجلد إنّما لم يرجع الاستثناء لكنّه محافظة لحقّ الآدميّ ويرجع عندنا إلى جميع ما تقدّم عداه ، ونحن لا نمنع من عدم الرجوع إلى البعض لمانع.
وإنّما امتنع عود الاستثناء إلى الإعتاق ، لأنّه حقّ الله تعالى ، وتصدّق الوليّ لا يسقط حقّه تعالى.
وعلى الثامن : بالمنع من تعدّد الطلاق على مذهبنا.
وأمّا من جوّزه ، فقد ذهب بعض الشافعيّة إلى عوده إلى الجميع ، وأنّ الواقع طلقتان.
سلّمنا ، لكنّ المعتبر من قوله : «ثلاثا ثلاثا» إنّما هو الجملة الأولى دون الثانية ، فلو عاد الاستثناء إليها لكان مستغرقا ، وهو باطل.
وعلى التاسع : بالمنع من الدخول على تقدير الاستثناء ، ثمّ لو منع ذلك من عود الاستثناء إلى الجمل المتقدّمة ، يمنع من اختصاصه بالأخيرة ، لجواز عوده بدليل آخر إلى الجملة المتقدّمة دون المتأخرة ، فيبقى الشكّ حاصلا في الأخيرة ، كما حصل في المتقدمة.
ثمّ ينقض بالشرط والوصف على باقي الجمل.
واحتجّ السيد المرتضى على الاشتراك بوجوه :
الأوّل : يحسن الاستفهام عن إرادة المتكلّم للعود إلى الجميع أو الأخيرة ، والاستفهام دليل الاشتراك.
الثاني : الاستعمال في القرآن العزيز ولسان العرب ، يدلّ على عود الاستثناء تارة إلى الجميع ، وأخرى إلى الأخيرة ، والاستعمال دليل الحقيقة ، فوجب الاشتراك.
الثالث : الحال والظرفان (١) يصح تعلّقها بالجميع ، وبالأخيرة ، فكذا الاستثناء ، بجامع الاشتراك في الفضلة (٢).
والاعتراض على الأوّل والثاني : بما تقدّم في باب العموم.
مع أنّه يجوز أن يكون الاستفهام لعدم المعرفة بالمدلول الحقيقيّ والمجازيّ أصلا ، كما تقوله الواقفيّة. (٣)
أو لأنّه حقيقة في البعض ، مجاز في البعض ، والاستفهام للحصول على اليقين ودفع الاحتمال البعيد.
وعلى الثالث : بالمنع من ثبوت الحكم في الأصل ، بل الحال والظرفان تعود إلى الجميع كما ذهب إليه الفريق الأوّل في الاستثناء ، أو إلى الأخيرة كما ذهب إليه الفريق الثاني.
مع أنّه قياس في اللغة ، وهو باطل.
مع أنّ الاشتراك في بعض الوجوه ، لا يقتضي التساوي من كلّ الوجوه.
__________________
(١) أي ظرف الزمان والمكان.
(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٥٠ ـ ٢٥٢ ، نقله المصنّف بتلخيص.
(٣) المراد من الواقفيّة هنا هم الذين توقّفوا في المسألة ولم يبدوا رأيا فيها كالقاضي أبو بكر والغزّالي وجماعة من الأشاعرة. لاحظ الإحكام للآمدي : ٢ / ٤٠١.
المطلب الثاني : في الشرط والغاية والصفة
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل : في حدّ الشرط
قال الغزّاليّ : الشرط هو ما لا يوجد المشروط دونه ، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده. (١)
وهو خطأ ، إذ المشروط لا يعرف إلّا بالشرط ، فيدور.
وينتقض أيضا ، بجزء السّبب وبالشرط المساوي ، فإنّه يلزم أن يوجد عند وجوده ، وإن كان اللّزوم من حيث المساواة.
وقال بعض الأشاعرة (٢) : ما يقف عليه تأثير المؤثّر في تأثيره ، لا في ذاته.
وينتقض على مذهبهم ، بالحياة القديمة ، فإنّها شرط في وجود علمه تعالى ، ولا تأثير هناك.
وقيل (٣) : الشرط هو ما يلزم من نفيه نفي أمر ما على وجه لا يكون سببا لوجوده ، ولا داخلا في السّبب.
__________________
(١) المستصفى : ٢ / ١٨٨.
(٢) هو الفخر الرازي في محصوله : ١ / ٤٢٢.
(٣) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٤٠٧ ـ ٤٠٨.
وهو إمّا عقليّ ، كالحياة للعلم ، أو شرعيّ كالطهارة ، أو لغويّ.
وله أدوات ك «إن» و «إذا» و «من» و «ما» و «مهما» و «حيثما» و «أينما» و «إذ ما».
وأمّ الباب «إن» لأنّها حرف ، والأصل في إفادة المعاني للأسماء ، إنّما هو الحروف.
قيل (١) : ولدخولها في جميع صور الشرط ، بخلاف البواقي ، لاختصاص «من» بالعقلاء و «ما» بغيرهم ، و «إذا» لما لا بدّ من وقوعه ، مثل : أتيتك إذا احمرّ البسر.
وفيه نظر ، فإنّ «إن» إنّما تدخل على المحتمل خاصّة ، و «إذا» تدخل عليهما (٢) تقول «أتيتك إذا احمرّ البسر ، وإذا دخلت الدار» ولا تقول : «أتيتك إن طلعت الشّمس».
المبحث الثاني : في أحكامه
وهي أربعة :
الأوّل : الشرط والمشروط قد يتحد كلّ منهما ، وقد يتعدّد ، وقد يتّحد الأوّل ، ويتعدّد الثاني وبالعكس.
فالأوّل : إن جئتني أكرمتك.
__________________
(١) المصدر السابق.
(٢) ضمير التثنية يرجع على المحتمل والمتحقّق.
والثاني : إن جئتني ودخلت الدار ، أكرمتك وأعطيتك.
والثالث : إن جئتني أكرمتك وأعطيتك.
والرابع : إن جئتني ودخلت الدار أكرمتك.
واعلم أنّ التعدّد قد يكون على الجميع ، وقد يكون على البدل ، وتتكثّر الأقسام حينئذ.
أمّا التعدّد على الجميع ، فقد سبق.
وأمّا على البدل فمثال تعدّدهما : «إن جئتني أو دخلت الدار أكرمتك أو أعطيتك».
ومثال تعدّد المشروط : «إن جئتني أكرمتك أو أعطيتك».
ومثال تعدّد الشرط : «إن جئتني أو دخلت الدار أكرمتك».
واعلم أنّ الشّرطين إذا دخلا على جزاء واحد ، فإن كانا على الجمع ، لم يحصل المشروط إلّا عند حصولهما معا ، وإن كانا على البدل ، توقّف المشروط على حصول أحدهما ، وهنا بالحقيقة الشرط أحد الأمرين ، وهو واحد ، ويعدم بعدمهما معا.
وإن تعدّد الجزاء ، فإن كانا على الجمع ، توقّف كلّ واحد من المشروطين على مجموع الشرطين ، لا على التوزيع ، بل على سبيل الجمع.
وإن كانا على البدل كان وجود أحد المشروطين متوقّفا على وجود أحد الشرطين.
وإن كان الشرط على الجمع ، والمشروط على البدل ، كان وجود أحد المشروطين موقوفا على مجموع الشرطين.
ولو كان بالعكس ، توقّف مجموع المشروطين على وجود أحد الشرطين.
الثاني : الشرط إمّا أن يستحيل دخوله في الوجود إلّا دفعة واحدة ، سواء كان لانتفاء التركيب ، أو لاستحالة تقدّم أحد أجزائه على الآخر.
وإمّا أن يستحيل دخوله بجميع أجزائه في الوجود ، كالحركة والكلام ، فإنّ المتكلّم إذا أوجد حرفا يكون الثاني معدوما (١) ، وعند وجود الثّاني يعدم الأوّل.
وإمّا أن يصحّ دخوله في الوجود دفعة ، أو تتعاقب أجزاؤه.
وعلى التقديرات الثلاثة ، فالشرط إمّا عدمها ، أو وجودها.
فإن كان الشرط عدمها ، حصل الحكم في الأقسام الثلاثة في أوّل زمان عدمها.
وإن كان الشرط وجودها ، ففي الأوّل يحصل الحكم مقارنا لأوّل زمان وجود الشرط.
وفي الثاني عند حصول آخر جزء من أجزاء الشرط ، إذ لا وجود لذلك المجموع في التحقيق ، وإنّما أهل العرف يحكمون [عليه] بالوجود ، عند وجود آخر جزء من أجزائه ، وقد علّق الحكم على وجوده ، فيكون في ذلك الوقت.
__________________
(١) أي غير موجود.
وفي الثالث إنّما يتحقّق وجوده حقيقة عند دخول أجزائه دفعة في الوجود.
وإنّما اعتبرنا آخر جزء من المجموع في الثاني ، لضرورة عدم اجتماع أجزائه ، فيبقى ما يمكن اجتماع أجزائه على الحقيقة ، بحيث إن اجتمعت الأجزاء دفعة واحدة ، حصل الجزاء ، وإلّا فلا.
الثالث : ذهب الشافعي وأبو حنيفة معا إلى أنّ الشرط الداخل على الجمل يقتضي تخصيص الجميع به.
وقيل (١) : يختصّ بما يليه ، فإن كان متأخّرا اختصّ بالأخير ، وإن كان متقدّما ، اختصّ بالأوّل.
الرابع : لا خلاف في وجوب اتّصال الشّرط بالكلام ، لعدم استقلاله بنفسه ، وأجمعوا على جواز التقييد بالشرط المخرج للأكثر ، حتّى لو بقي الواحد لم يكن قبيحا ، ولم يختلفوا كما اختلفوا في الاستثناء.
ويجوز تقديم الشرط لفظا ، وتأخيره ، والأولى تقديمه ، لأنّ الشرط متقدّم طبعا ، لأنّه شرط لتأثير المؤثّر فيه ، فاستحقّ التقدّم وضعا.
__________________
(١) نقله الرازي عن بعض الأدباء. لاحظ المحصول : ١ / ٤٢٤.
المبحث الثالث : في التقييد بالغاية
غاية الشيء طرفه ، ونهايته.
وألفاظها «حتّى» و «إلى» كقوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١)(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(٢) ولا بدّ وأن يكون الحكم فيما بعدها مخالفا لما قبلها ، إذ لو بقي الحكم ثابتا فيما وراء الغاية لم تكن الغاية غاية وطرفا ، بل كانت وسطا.
وقيل : الغاية إن انفصلت عن ذي الغاية بمفصّل معلوم ك (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٣) وجب أن يكون حكم ما بعدها بخلاف ما قبلها للعلم حسّا بانفصال أحدهما عن الآخر.
وإن لم يكن كذلك ، مثل (إِلَى الْمَرافِقِ) والمرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس ، لم يجب فيه المخالفة ، فإنّه لمّا كان المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس ، لم يكن تعيين بعض المواضع في اليد أولى ، فهاهنا يجوز أن يكون ما بعدها داخلا فيما قبلها.
واعلم أنّ الحكم الواحد قد يكون له غايتان ، كما لو قيل : «لا تقربوهنّ حتّى يطهرن و [حتّى] يغسلن» ، وفي الحقيقة ، الغاية هنا الأخيرة ، وعبّر عن الأوّل بالغاية ، لقربه منها (٤).
__________________
(١) البقرة : ٢٢٢.
(٢) المائدة : ٦.
(٣) البقرة : ١٧٨.
(٤) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٢٦.
وفيه نظر ، لأنّ الغايات قد لا تترتّب ، فيكون المجموع هو الغاية ، وكلّ واحد جزء الغاية ، لا ما ذكر أخيرا.
وقد تتعدّد على البدل ، فتكون الغاية في الحقيقة أحدهما ، مثل : «أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا الدار أو السّوق».
وقد تتعقّب جملا متعددة ففي رجوعها إلى الجميع أو الأخيرة ، خلاف ، كما في الاستثناء.
المبحث الرّابع : في التقييد بالوصف
الحكم قد يتخصّص بالوصف ، كقولنا : «أكرم بني تميم الطّوال» ، فقيد الطّوال منع من دخول القصار تحت الأمر ، وقد كان ثابتا قبل الوصف.
والوصف المخصّص قد يكون ثبوتيّا ، وقد يكون عدميّا ، وهو قد يتعقّب جملة واحدة ، كما تقدّم ، وقد يتعقّب جملا ، مثل : «أكرم بني تميم ، واخلع على ربيعة الطّوال».
والبحث في عود الوصف إلى الجميع أو الأخيرة ، كما تقدّم في الاستثناء.