نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

اتّحاد الخطاب وجواز الاختلاف في الحكم والمقصود ، يمتنع التشريك إلّا لدليل خارجيّ.

والمخالفون في ذلك ، إن زعموا أنّ مساواة حكم غيره له ، مستفاد من هذا اللفظ ، فهو جهالة ، وإن زعموا أنّه مستفاد من دليل آخر ، مثل [قوله تعالى :](وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)(١) وما شابهه ، فخروج عن هذه المسألة ، لأنّ الحكم لم يجب على الأمّة بمجرّد خطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل بدليل آخر.

وإذا ثبت ذلك ، ثبت أيضا أنّ خطاب الأمّة خاصّة لا يتناوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

احتجّ بأنّ العادة قاضية بأنّ من كان مقدّما على قوم (٢) فإنّ أمره أمر لأولئك القوم ، ولهذا إذا أمر السّلطان الوزير بالرّكوب إلى مبادرة العدوّ ، فإنّ أهل اللّغة يعدّون ذلك أمرا لأتباعه ، وكذا إذا أخبر عنه بأنّه فتح البلد ، وكسر العدوّ ، فإنّه يكون إخبارا عن أتباعه.

والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدوة للأمّة ، ومتبوع لهم ، فأمره ونهيه يكون أمرا لأتباعه.

ويؤيّده وضوحا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)(٣) ولم يقل : إذا طلّقت النّساء فطلقهنّ ، وهو يدلّ على أنّ خطابه خطاب أمّته.

__________________

(١) الحشر : ٧.

(٢) في «ب» : على قومه.

(٣) الطلاق : ١.

١٨١

وأيضا ، قال تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ)(١) أخبره بأنّه اباحه ذلك ليكون مباحا [للأمّة] ولو كانت الإباحة مختصّة به ، لم ينتف الحرج عن الأمّة.

وأيضا ، لو لم يتعدّه الخطاب لم يكن لقوله [تعالى] : (خالِصَةً لَكَ)(٢)(نافِلَةً لَكَ)(٣) فائدة.

والجواب عن الأوّل : يمنع من كون أمر المقدّم أمرا لأتباعه لغة ، ولهذا صحّ : أمر المقدّم ، ولم يأمر الأتباع ، ولو حلف أنّه لم يأمر الأتباع لم يحنث.

وما ذكرتموه من الأمثلة أمور جزئيّة استفيد منها مشاركة الأتباع لخصوصيّة الوقائع ، ولزوم توقّف المقصود على أمر الأتباع ، بخلاف أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء من العبادات ، أو بتحريم شيء (٤) من الأفعال.

وآية الطلاق ذكر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلا للتشريف.

وعن الثاني : أنّ قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها)(٥) لا حجّة فيه على المقصود وقوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ)(٦) لا يدلّ على أنّ نفي الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم مدلول

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) الأحزاب : ٥٠.

(٣) الإسراء : ٧٩.

(٤) في «أ» : أو بتحريمه بشيء.

(٥) الأحزاب : ٣٧.

(٦) الأحزاب : ٣٧.

١٨٢

لقوله (زَوَّجْناكَها) بل غايته : أنّ رفع الحرج عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لمقصود رفع الحرج عن المؤمنين ، وذلك حاصل بقياسهم عليه بواسطة رفع الحاجة (١) وحصول المصلحة ، وعموم الخطاب غير متعيّن لذلك.

وعن الثالث : أنّ الفائدة نفي الإلحاق.

المبحث الخامس : في الخطاب بالنسبة إلى المذكّر والمؤنّث

اللّفظ إن اختصّ وصفا بأحدهما لم يتناول الآخر ، فلفظ الرّجال ، لا يتناول الإناث ، وكذا النّساء ، لا يتناول الذّكور ، وإلّا حمل عليهما إن لم يقترن به ما يدلّ على أحدهما ، كالنّاس ، ومثل : من دخل داري من أرقّائي فهو حرّ ، وكذا لو أوصى بهذه الصيغة ، أو ربط بها توكيلا.

وقيل : إنّه مختص بالذّكور ، لقولهم : من ، منان ، منون ، منة ، منتان ، منات.

وليس بصحيح ، لما بيّنّا من أنّ ذلك ليس جمعا.

وإن اقترن به ما يدلّ على التأنيث مثل : قمن ، لم يتناول الذكور إجماعا.

وإن اقترن به ما يدلّ على الذكور مثل : قاموا ، والمسلمون ، لم يتناول الإناث على المذهب الحقّ.

لنا : أنّ الجمع تضعيف الواحد ، وقولنا : قام المسلم ، لا يتناول المؤنّث ، فكذا تضعيفه وهو قاموا ، والمسلمون.

__________________

(١) في «ب» : دفع الحاجة.

١٨٣

وأيضا ، قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) عطف جمع المؤنّث على جمع المذكّر ، ولو كان داخلا فيهم لم يحسن العطف ، لعدم الفائدة. (١)

وفيه نظر ، لجواز عطف الخاصّ على العامّ ، كقوله : (وَجِبْرِيلَ)(٢) لقصد التنصيص.

وأيضا ، قالت أمّ سلمة : إنّ النساء قلن : إنّ الله لم يذكر إلّا الرّجال ، فأنزل الله (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) ولو دخلن امتنع السؤال والتقرير عليه.

وأيضا ، روي أنّه عليه‌السلام قال : «ويل للّذين يمسّون فروجهم ، ثمّ يصلّون ، ولا يتوضئون» فقالت عائشة : «هذا للرّجال فما للنساء» (٣) ولو لا خروجهنّ من الجمع ، لما صحّ السؤال ولا التقرير عليه.

احتجّوا بنصّ أهل اللّغة على تغليب التذكير عند الاجتماع.

والجواب : لا نزاع فيما نصّ أهل اللّغة عليه ، وليس محلّ النزاع ، فإنّ أهل اللّغة قالوا : «إذا اجتمعا غلب المذكّر» وليس في ذلك دلالة على أنّ صيغة المذكّر توجب دخول المؤنّث فيها.

قالوا : أكثر خطاب الشرع بلفظ التذكير ، مع وقوع الإجماع على دخول

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٧٥.

(٢) البقرة : ٩٨.

(٣) أخرجه الدارقطني في سننه : ١ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ، باب ما روي في لمس القبل والدبر والذكر ، الحديث ٩ وبما أنّ نواقض الوضوء عند الإماميّة معيّنة وليس مسّ الذكر منها. فتحمل الرواية ـ على فرض الصحّة ـ على الندب.

١٨٤

النساء في تلك الأوامر ، ولو لا دخولهنّ في الخطاب ، لما كان كذلك.

قلنا : وكذا أكثر اختصاص المذكّرين بخطاب التذكير ، كالجهاد وأحكامه ، وأحكام الجمعة ، فلو كان خطاب التذكير يتناولهنّ ، لكان إخراجهنّ عن هذه الأحكام خلاف الأصل.

المبحث السادس : في أنّ المقتضي لا عموم له

اعلم انّ المقتضي هو ما أضمر لضرورة صدق المتكلّم ، وذلك بأن يكون اللّفظ لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلّا بإضمار شيء فيه ، إذا عرفت هذا فنقول :

إذا كان ما يمكن إضماره متعدّدا ، بحيث أيّ واحد منها فرض إضماره صدق الكلام وتمّ ، فهل يجوز إضمار الجميع أم لا؟

الحقّ : أنّه لا يجوز ، وهذا معنى قول الفقهاء : «المقتضي لا عموم له» مثاله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه» (١) فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عن رفع الخطأ والنسيان ، ويتعذّر حمله على الحقيقة تحقق الخطأ والنسيان من الأمّة ، فلا بدّ من إضمار حكم يمكن نفيه من الأحكام الدّنيوية أو الأخرويّة ، ضرورة صدقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وذلك الحكم المضمر ، قد يكون في الدّنيا ، كإيجاب الضّمان ، وقد يكون في الآخرة كرفع التأثيم ، ولا يمكن إضمارهما ، لأنّ الدّليل ينفي جواز الإضمار ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٥ / ٣٤٥ ، الباب ٣٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢ ؛ وسنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٩ برقم ٢٠٤٣ و ٢٠٤٥.

١٨٥

خالفناه في الحكم الواحد للضّرورة ، ولا ضرورة في غيره ، فيبقى على أصل المنع.

لا يقال : اللّفظ يدلّ على رفع الجميع ، لأنّ رفعهما مستلزم لرفع جميع أحكامهما وإذا تعذّر العمل به في نفي الحقيقة ، تعيّن العمل به في نفي الأحكام.

سلّمنا أنّه لا يدلّ وضعا ، فلم لا يدلّ عرفا؟ بيانه : أنّه يقال : ليس للبلد سلطان ، وليس له ناظر ولا مدبّر ، ويراد به نفي الصفات.

سلّمنا ، لكن يجب إضمار الجمع ، لأنّه يجعل وجود الخطأ كعدمه ، ولعدم أولويّة البعض ، فإمّا أن لا يضمر بشيء البتّة ، وهو باطل بالإجماع ، أو يضمر الجميع ، وهو المراد.

لأنّا نقول : إنّما يستلزم اللّفظ نفي جميع الأحكام بواسطة نفي حقيقة الخطأ ، فإذا لم يكن [الخطأ] منفيّا ، لم يكن مستلزما لنفي الجميع ، والأصل في الكلام الحقيقة. (١)

وفيه نظر ، لتعذّر الحقيقة هنا ، فيحمل على أقرب مجازاتها ، وهو الجمع.

والتحقيق : رجوع هذا إلى التعارض بين المجاز والإضمار ، والعرف طار ، إذ ليس المراد بقولنا : ليس للبلد سلطان ، نفي الجميع ، وإلّا لم يكن موجودا ولا عالما ولا قادرا.

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٦٥.

١٨٦

ونفي الجميع ، وإن كان أقرب إلى الحقيقة ، لكنّه يوجب تكثّر مخالفة الدليل المقتضي للأحكام ، وهو وجود الخطأ والنسيان.

وعدم الأولويّة ، إنّما يلزم لو أضمرنا واحدا معيّنا ، ولسنا نقول به ، بل نضمر واحدا لا بعينه ، والتعيين من الشارع.

لا يقال : يلزم الإجمال ، وهو على خلاف الأصل.

لأنّا نقول : وإضمار الكلّ يستلزم زيادة الإضمار وتكثّر مخالفة الدّليل على ما تقدّم ، وكلّ منهما على خلاف الأصل.

ثمّ أصولنا إن كانت راجحة على ما ذكروه ، لزم العمل بها ، وإن كانت مساوية ، فهو كاف في هذا المقام في نفي زيادة الإضمار ، وهما تقديران.

وما ذكروه ، يمكن التمسّك به لو كان راجحا ، وما يتمّ التمسّك به على تقديرين ، أرجح ممّا لا يمكن التمسّك به إلّا على تقدير واحد.

وأيضا ، الإجمال إنّما يلزم لو لم يظهر أولويّة إضمار البعض ، ونحن نمنع ذلك ، فإنّ أكثر ما يجب إضمار شيء فيه ، يعرف من حيث العادة ما هو المضمر فلا إجمال.

١٨٧

المبحث السّابع : في الفعل المتعدّي [إلى مفعول]

مثل : والله لا آكل ، أو إن أكلت فأنت حرّ ، لا بدّ له من مفعول.

وقد اختلفوا : فذهبت الأشاعرة ، والإماميّة إلى تعلّقه بمفعول عامّ يعمّ جميع المأكولات ، وبه قال أبو يوسف. (١)

وقال أبو حنيفة : إنّه لا يعمّ الجميع.

وتظهر الفائدة في أنّه لو نوى مأكولا معيّنا قبل عند الأشاعرة ، والإماميّة ، حتّى أنّه لا يحنث بأكل غيره ، لأنّ اللّفظ عامّ يقبل التخصيص ببعض مدلولاته.

وقال أبو حنيفة : لا يقبل التّخصيص ، لأنّ التخصيص من توابع العموم ، ولا عموم هنا.

حجّة القائلين بالتعميم ، أمّا في النفي ، كما في قوله : والله لا أكلت ، أنّ الفعل فيه لا بدّ له من مفعول ، ويتعدّى إليه بصيغته ووضعه ، فإذا قال : «لا أكلت» فقد نفى حقيقة الأكل من حيث هو أكل ، ويلزم منه نفيه بالنسبة إلى كلّ مأكول ،

__________________

(١) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب ، صاحب أبي حنيفة وتلميذه ، أوّل من نشر مذهبه ، واستقلّ برئاسة أصحاب أبي حنيفة بعد وفاة أبي حنيفة ، وهو أوّل من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة ، مات سنة ١٨٢ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٨ / ١٩٣ ؛ وطبقات الفقهاء : ٢ / ٦٤٠ برقم ٧٢٩.

١٨٨

وإلّا لم يكن نافيا (١) لحقيقة الأكل من حيث هو أكل ، وهو خلاف دلالة لفظه ، وإذا ثبتت دلالة لفظه على نفي حقيقة الأكل بالنسبة إلى كل مأكول فقد ثبت عموم لفظه بالنّسبة إلى كلّ مأكول ، فكان قابلا للتّخصيص.

وأمّا في طرف الإثبات وهو : إن أكلت فأنت حرّ ، فلأنّ وقوع الأكل المطلق يستدعي مأكولا مطلقا ، لكونه متعدّيا إليه ، والمطلق ما كان شائعا في جنس المقيّدات الدّاخلة تحته ، فكان صالحا لتفسيره وتقييده بأيّ واحد منها كان ، ولهذا لو قال الشّارع : أعتق رقبة ، صحّ تقييدها بالمؤمنة ، ولو لا دلالة المطلق على المقيّد دلالة ، لما صحّ تفسيره به.

وأيضا ، أجمعنا على أنّه لو قال : إن أكلت أكلا ، صحّت نيّة التخصيص فكذا لو قال : إن أكلت ، لأنّ الفعل مشتقّ من المصدر ، والمصدر موجود فيه.

لا يقال : على الأوّل أنّ حقيقة الأكل لا يتمّ نفيا ، ولا إثباتا ، إلّا بالنّسبة إلى المكان والزمان ، ومع ذلك لو نوى بلفظه مكانا معيّنا ، وزمانا معيّنا ، لم يقبل.

وعلى الثاني ، أنّ المصدر هو الماهيّة ، وهي لا تقبل التخصيص.

وأمّا قوله : «أكلا» فليس في الحقيقة مصدرا ، لأنّه يفيد أكلا واحدا منكّرا ، والمصدر ماهيّة الأكل وقيد التكثير والوحدة خارجان عن الماهيّة.

وكونه منكّرا ، ليس وصفا قائما به ، بل معناه : أنّ القائل ما عيّنه ، والّذي

__________________

(١) في «أ» : نفيا.

١٨٩

يكون متعيّنا في نفسه ، لكنّ المتكلّم ما عيّنه قابل للتعيين ، فقد نوى ما يحتمله الملفوظ.

لأنّا نجيب عن الأوّل ، بالمنع من عدم قبول التخصيص في الطرفين ، وبالفرق ، فإنّ الفعل غير متعدّ إليهما (١) بل هما من ضروراته ، فلم يكن اللّفظ دالا عليه بالوضع ، فلذلك لم يقبل تخصيص لفظه به ، لأنّ التّخصيص هو حمل اللّفظ على بعض مدلولاته لا غير ، بخلاف المأكول. (٢)

وفيه نظر ، لأنّ الدّلالة أعمّ من الالتزاميّة وغيرها ، والجميع قابل للتخصيص.

وعن الثاني ، بأنّ المحلوف عليه ليس هو المفهوم من الأكل الكلّي الّذي لا وجود له إلّا في الأذهان ، وإلّا لما حنث بالأكل الخاصّ ، إذ هو غير المحلوف عليه ، فلم يبق المراد إلّا أكلا مقيّدا من جملة الأكلات المقيّدة الّتي يمكن وقوعها في الأعيان أيّ واحد منها كان ، وإذا كان لفظه لا إشعار له بغير المقيّد ، صحّ تفسيره به.

حجّة القائلين بعدم التّعميم : أنّ نيّة التخصيص لو صحّت لصحّت إمّا في الملفوظ ، أو في غيره ، والقسمان باطلان ، فبطلت تلك النيّة.

أمّا بطلان الملفوظ ، فلأنّه هو الأكل ، وهو ماهيّة واحدة ، لأنّه مشترك بين أكل هذا الطّعام ، وأكل ذلك الطّعام ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فماهيّة

__________________

(١) أي الزمان والمكان.

(٢) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٦٦.

١٩٠

الأكل من حيث هي هي ، مغايرة لقيد هذا أو ذاك ، وغير مستلزمة لها ، والمذكور إنّما هو الماهيّة ، وهي لا تقبل العدد ، فلا تقبل التخصيص.

نعم الماهيّة ، إذا اقترنت بهذا أو ذلك وما عداهما من العوارض الخارجيّة ، تعدّدت ، فقبلت التّخصيص ، لكنّها قبل تلك العوارض لا تكون متعدّدة فلا تحتمل التخصيص ، لكنّ تلك الزوائد غير ملفوظة ، فالمجموع الحاصل منها ومن تلك الماهيّة غير ملفوظ.

وأمّا الثاني ، وهو أن يكون التخصيص في غير الملفوظ ، فإنّه وإن كان جائزا عقلا إلّا أنّ الدّليل الشرعيّ منع منه ، لأنّ إضافة ماهيّة الأكل إلى مأكول معيّن تارة ، وإلى غيره أخرى إضافات عارضة بحسب اختلاف المفعول به.

وإضافتها إلى هذا اليوم وذاك (١) وإلى هذا المكان وذاك ، إضافات عارضة بحسب اختلاف المفعول فيه.

ثمّ الإجماع على عدم قبول التخصيص في المكان والزمان ، فكذا في المفعول به ، يجامع رعاية الاحتفاظ في تعظيم اليمين ، وممّا تقدّم يعرف الجواب على التقديرين.

__________________

(١) في «ب» : وذلك.

١٩١

المبحث الثامن : في ترك الاستفصال

اعلم أنّ ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يقوم مقام العموم في المقال ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابن غيلان (١) وقد أسلم على عشر [نسوة] : «أمسك أربعا منهنّ ، وفارق سائرهنّ» (٢) ، ولم يسأل عن كيفية العقد عليهنّ هل وقع دفعة أو مترتّبا ، وكان إطلاق القول دالّا على عدم الفرق بين الترتيب في العقود ، وبين حصولها دفعة.

والأقرب ، التفصيل فنقول : إن علم أو ظنّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعلم خصوص الحال ، وجب القول بالعموم ، وإلّا لبيّن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفرق ، وإن لم يعلم ذلك ، لم يحكم بالعموم ، لاحتمال أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرف خصوصيّة الواقعة ، فترك الاستفصال ، بناء على معرفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) في الأعلام للزركلي : «غيلان بن سلمة الثقفي ، حكيم شاعر جاهليّ ، أسلم يوم الطائف وعنده عشر نسوة ، فأمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاختار أربعا ، فكانت سنّة ، توفي سنة ٢٣ ه‍. لاحظ الأعلام : ٥ / ١٢٤. وكذا في المصادر الآتية «غيلان بن سلمة» فعلى هذا فالصّحيح «غيلان» لا ابن غيلان ، وقد تبع المصنّف ، الكتب الأصوليّة ، فقد جاء فيها «ابن غيلان» مكان «غيلان».

(٢) أخرجه الترمذي في سننه : ٣ / ٤٣٥ ، برقم ١١٢٨ ، وأحمد بن حنبل في مسنده : ٢ / ١٣ ، وابن ماجة في سننه : ١ / ٦٢٨ ، برقم ١٩٥٣ ، والحاكم في مستدركه : ٢ / ١٩٣.

١٩٢

المبحث التاسع : في العطف على العامّ

العطف على العامّ لا يقتضي العموم ، لأنّ مقتضاه الجمع مطلقا ، وذلك جائز بين الخاصّ والعامّ. قال الله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ)(١) وهذا عامّ ، ثمّ قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(٢) وهو خاصّ (٣).

وفيه نظر ، فإنّ الكناية هنا عائدة إلى المطلّقات المذكورة أوّلا ، وإنّما يتحقّق حكم المعطوف في الرّجعيّات ، فيكون المعطوف عليه هو الرّجعيّات أيضا.

على أنّ لمانع أن يمنع كون ذلك عطفا على المطلّقات ، لاحتمال كونه عطف جملة على أخرى ، فليطلب غير هذا المثال.

المبحث العاشر : في الخطاب الشفاهي

اختلف الناس في ذلك ، نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هل هو خطاب للموجودين في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو هو عامّ لهم ولمن بعدهم؟

فذهب المعتزلة وأكثر الأشاعرة والحنفية ، إلى أنّه مختصّ بالموجودين

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

(٣) الاستدلال للرّازي في محصوله : ١ / ٣٩٣.

١٩٣

في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يثبت حكمه في حقّ الموجودين بعده إلّا بدليل آخر.

وذهبت الحنابلة وجماعة من الفقهاء ، إلى أنّ ذلك الخطاب يتناول من بعدهم.

حجّة الأوائل وجهان :

الأوّل : الّذين سيوجدون لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت ، ومن لم يكن موجودا في ذلك الوقت لم يكن إنسانا ، ولا مؤمنا ، فلا يتناوله خطاب المؤمنين.

الثاني : المجنون والصبيّ أقرب إلى الخطاب ، لوجودهما واتّصافهما بالإنسانيّة ، وأصل الفهم ، وقبولهما التأديب بالضّرب وغيره ، مع أنّ المخاطب لهما سفيه (١) فكيف المعدوم الّذي هو عمّا ذكرناه أبعد.

حجّة الآخرين وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)(٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت إلى الأسود والأحمر» (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة». (٤)

__________________

(١) في «ب» : مع أنّ الخطاب لهما سفه.

(٢) سبأ : ٢٨.

(٣) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده : ١ / ٢٥٠ ، ونقله الهيثمي في مجمع الزوائد : ٨ / ٢٥٨ ، باب عموم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) بحار الأنوار : ٢ / ٢٧٢ ، وشرح سنن النسائي للسيوطي : ٢ / ١٨٨ ، وعوالي اللآلي : ١ / ٤٥٦ برقم ١٩٧ ، وج ٢ / ٩٨ برقم ٢٧٠.

١٩٤

الثاني : لو لم يكن خطابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متناولا لنا ، لم يكن رسولا إلينا ، والتّالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.

الثالث : إجماع الصحابة ، ومن بعدهم من التابعين ، وغيرهم ، قرنا بعد قرن على الاحتجاج في المسائل الشرعية على من وجد بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآيات والأخبار المنقولة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو لا عموم تلك الدلائل اللّفظيّة لمن وجد بعد ذلك ، لم يكن التمسّك بها صحيحا ، والإجماع لا ينعقد على الخطأ.

الرابع : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد تخصيص أحد بحكم ، نصّ عليه وبيّنه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بردة (١) : «يجزئ عنك ولا يجزئ عن أحد بعدك» (٢) وخصّص عبد الرّحمن بن عوف (٣) بلبس الحرير ، وحيث لم يتبيّن التخصيص علم العموم.

والفريق الأوّل حكموا في حقّنا بحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالآيات الواردة في حقّ من شافهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخطاب ، للعلم الضروريّ بذلك من دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ أجابوا عن الأوّل : بأنّ [لفظ] الناس ، والجماعة ، والأسود ، والأحمر ، إنّما يتناول الموجودين في ذلك الزّمان ، فيختص بالحاضرين ، ويدخل تحت صورة النزاع ، فلا يجوز التمسّك به فيه.

__________________

(١) هو هانئ بن نيار بن عمرو ، حليف الأنصار ، غلبت عليه كنيته ، وهو خال البراء بن عازب شهد العقبة وبدرا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات سنة ٤٥ ه‍. لاحظ اسد الغابة : ٥ / ٥٣.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب العيدين برقم ٩٥٥ وكتاب الأضاحي برقم ٥٥٥٦.

(٣) هو احد السّتة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب الخلافة فيهم ، مات سنة ٣١ ه‍. لاحظ اسد الغابة : ٣ / ٣١٣.

١٩٥

وأيضا ، النّصوص الدّالة على كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوثا إلى الناس كافّة ، إنّما تلزم لو توقّف مفهوم الرّسالة والبعثة إلى كلّ النّاس على المخاطبة للكلّ بالأحكام الشّرعية شفاها ، وليس كذلك ، بل ذلك يتحقّق بتعريف البعض بالمشافهة ، وتعريف الآخرين بنصب الدّلائل والأمارات ، واجتهاد المجتهد باستخراج أحكام بعض الوقائع من بعض ، لكثرة الأحكام الشرعية ، وعدم النصّ على كلّ واحد منها عينا ، وكثرة الوقائع.

ولا يلزم من ذلك أن لا يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولا ولا مبلّغا بالنسبة إلى الأحكام الّتي لم تثبت بالنصوصيّة من خطابه ، وكذا في الأحكام الّتي لم تثبت بالخطاب شفاها.

لا يقال : الدلائل الّتي يمكن الاحتجاج بها في الأحكام الشرعيّة على من وجد بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير الخطاب ، إنّما يعلم كونها حجّة بالدلائل الخطابيّة ، فإذا كان الخطاب الموجود في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يتناول من بعده ، فقد تعذّر الاحتجاج به عليه.

لأنّا نقول : يمكن معرفة كونها حجّة بالنّقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه حكم بكونها حجّة على من بعده ، أو بالإجماع المنقول عن الصّحابة وغيرهم على ذلك ، وهو الجواب عن الثاني.

وعن الثالث : أنّ الإجماع على أنّا مكلّفون بمثل ما كلّفوا به ، أمّا على أنّا مخاطبون بذلك الخطاب ممنوع ، وذلك لأنّ الله تعالى عرّفنا أنّا مكلّفون حال وجودنا بمثل تكليف من عاصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الخطاب للمعدوم ممتنع

١٩٦

بالضّرورة ، فيجب اعتقاد استناد أهل الإجماع بالنّصوص من جهة معقولها ، لا من جهة ألفاظها ، جمعا بين الأدلّة.

وعن الرابع : أنّ التخصيص لفائدة قطع الإلحاق.

المبحث الحادي عشر : في رواية الرّاوي

ويشتمل على مسائل :

الأولى : قول الصّحابي : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البيع الغرر» (١) لا يفيد العموم في كلّ غرر ، وكذا : «قضى بالشفعة للجار» لا يقتضي تعميم كلّ جار وعليه أكثر الأصوليّين ، خلافا لشذوذ.

لنا : أنّه حكاية والحجة في المحكيّ لا الحكاية ، ولعلّ الرّاوي رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نهى عن فعل خاصّ لا عموم له فيه غرر ، وكذا قضى لجار مخصوص بالشفعة ، كما تقوله الإماميّة من ثبوتها للجار مع الشركة في الطريق أو النّهر ، فنقل صيغة العموم لظنّه عموم الحكم.

ويحتمل أنّه سمع صيغة ظنّها عامّة ، وليست [عامّة] ، وبالجملة فالاحتمال قائم ، وحينئذ لا قطع بالعموم. بل ولا ظنّ ، والاحتجاج إنّما هو في المحكيّ لا الحكاية.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في سننه : ٣ / ٢٥٤ برقم ٣٣٧٤ ، وابن ماجة في سننه : ٢ / ٧٣٩ برقم ٢١٩٤ وأحمد بن حنبل في مسنده : ٢ / ٣٧٦ ، وابن الأثير في جامع الأصول : ١ / ٥٢٧ برقم ٣٤٦ ـ ٣٤٧ ، الفصل الرابع في النهي عن بيع الغرر. ونقله الشيخ الطوسي في الخلاف : ٣ / ١٥٥ ، المسألة ٢٤٥ من كتاب البيوع.

١٩٧

ويمكن أن يقال : إن كان الرّاوي من أهل المعرفة بمفهومات الألفاظ ، فالظاهر العموم ، لأنّه لم ينقل صيغة العموم ، إلّا وقد سمع صيغة تدلّ عليه ، وإلّا كان طعنا في معرفته أو عدالته ، إذ هما يقتضيان المنع من إيقاع الناس في ورطة الالتباس ، وذلك يثمر الظنّ (١) بالعموم ، فيكون حجّة ، لوجوب العمل بظنّيات الأدلّة النقليّة كمعلوماتها.

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قضيت بالشفعة للجار» وقول الرّاوي : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بالشفعة للجار فإنّ الاحتمال وإن كان قائما ، إلّا أنّ جانب العموم أقوى.

الثانية : قول الرّاوي : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجمع بين الصلاتين قيل : إنّه يقتضي التكرار في العرف ، فإنّه لا يقال : كان فلان يتهجّد باللّيل ، إذا تهجّد مرّة واحدة ، وكذا لو قيل : كان فلان يكرم الضّيف ، فإنّه يفيد التكرار.

وقيل (٢) : لا يفيده ، لأنّ لفظة كان لا تفيد إلّا تقدّم الفعل ، فأمّا التكرار فلا.

الثالثة : قيل (٣) : قول الرّاوي : «صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الشّفق» أنّه محمول على أنّه صلّى بعد الشّفقين ، أعني الحمرة والبياض ، فهذا إنّما يصحّ لو قلنا إنّ المشترك يراد به كلا معنييه ، فكأنّ الرّاوي قال : إنّه صلّى بعد الشّفقين.

__________________

(١) في «أ» و «ج» : يتميّز الظنّ.

(٢) القائل هو الرازي في محصوله : ١ / ٣٩٤ و ٣٩٥.

(٣) القائل هو الرازي في محصوله : ١ / ٣٩٥.

١٩٨

وقد بيّنا أنّه إنّما يراد المجموع على سبيل المجاز ، لكنّ المجاز خلاف الأصل ، لا يصار إليه إلّا لدليل ، وحينئذ احتمل أن يكون «قد صلّى بعد الحمرة» وأن يكون «قد صلّى بعد البياض» فلا يمكن حمل ذلك على وقوع الصّلاة بعدهما.

الرابعة : الفعل وإن انقسم إلى أقسام وجهات ، فالواقع منه لا يقع إلّا على وجه واحد منها ، فلا يكون عامّا لجميعها (١) بحيث يحمل وقوعه على جميع جهاته ، وذلك كما روي ، أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «صلّى داخل الكعبة» فإنّ الصّلاة الواقعة احتمل أن تكون فرضا ، وأن تكون نفلا ، فلا يمكن وقوعها على وجهي الفرض والنفل معا ، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بذلك على جواز الفرض والنّفل داخل الكعبة ، إذ لا عموم للفعل (٢) ولا يمكن تعيين أحدهما إلّا بدليل.

وكذا قول الرّاوي : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجمع بين الصّلاتين في السّفر ، فإنّه يحتمل وقوع ذلك في وقت الأولى ، ويحتمل وقوعه في وقت الثانية ، وليس في نفس وقوع الفعل ، ما يدلّ على وقوعه فيهما ، بل في أحدهما ، والتّعيين يفتقر إلى الدّليل.

وأمّا وقوع ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متكرّرا ، على وجه يعمّ سفر النّسك وغيره ، فالبحث فيه قد تقدّم.

وقد ظهر من هذا أنّ فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء كان واجبا أو مباحا ، لا عموم له

__________________

(١) في «ج» : بجميعها.

(٢) في «أ» : في الفعل.

١٩٩

بالقياس إلى غيره ، إلّا أن يدلّ دليل من خارج على التأسّي.

لا يقال : الإجماع على وجوب الغسل من التقاء الختانين ، والمستند قول عائشة : «فعلته أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاغتسلنا» ولأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا سئل عن حكم أجاب بما يخصّه ، وأحال معرفة ذلك على فعل نفسه ، كما سألته أمّ سلمة عن الاغتسال ، فقال : أمّا أنا فأفيض الماء على رأسي ، وسئل عن قبلة الصّائم قال : أنا أفعل ذلك ، ولو لا عموميّة الفعل ، لما كان كذلك.

لأنّا نقول : قد ثبت عموم التأسّي به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا بحث فيه.

ولأنّ قول عائشة : «فعلته أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» يشعر بعموميّة الحكم في حقّها ، فيكون عامّا في حقّ الكلّ.

وجوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) عقيب السؤال يشعر بالعموميّة ، وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو محال.

المبحث الثاني عشر : في المفهوم

قال الغزالي : «المفهوم على رأي من يقول به ، لا عموم له ، لأنّ العموم لفظ تتشابه دلالته بالإضافة إلى مسمّياته ، والمتمسّك بالمفهوم والفحوى لا يتمسّك بلفظ ، بل بسكوت ، فإذا قال «في سائمة الغنم زكاة» فنفي الزكاة عن المعلوفة ، ليس بلفظ حتّى يكون عامّا أو خاصّا ، وقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما

__________________

(١) في «ج» : لفعله.

٢٠٠