نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

وعلى هذا التقدير لو دلّ قياس منصوص العلّة على حكم خاصّ مناف لعموم الكتاب أو السّنّة المتواترة ، فالأقرب جواز تخصيصهما به ، وإلّا فلا.

لنا : أنّهما دليلان تعارضا ، فيجب تقديم الخاصّ ، وبناء العامّ عليه ، لما تقدّم.

أمّا كون العامّ دليلا ، فبالإجماع وأمّا كون القياس المنصوص العلّة دليلا ، فلما سيأتي.

وأمّا وجوب بناء العامّ على الخاصّ ، فلما مرّ.

احتجّ المانعون بوجوه :

الأوّل : العامّ دليل مقطوع به ، والقياس الخاصّ مظنون ، وإذا تعارض المعلوم والمظنون ، وجب العمل بالمعلوم وترك المظنون.

الثاني : القياس فرع النصّ ، فلو خصّصنا النصّ به ، قدّمنا الفرع على الأصل.

الثالث : حديث معاذ (١) دلّ على أنّه لا يجوز الاجتهاد إلّا بعد فقد الحكم

__________________

(١) كان على المصنّف نقل الحديث ثمّ الاستشهاد به ، وإليك نصّه :

عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة ، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص ، عن معاذ: إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين بعثه إلى اليمن ، فقال : كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال : أقضي بما في كتاب الله.

٣٢١

في الكتاب والسنّة ، وهو يمنع من تخصيص النّصّ بالقياس.

الرابع : الإجماع دلّ على أنّ شرط القياس عدم ردّ النصّ له ، فإذا كان العموم مخالفا له ، فقد ردّه.

الخامس : لو جاز التّخصيص بالقياس ، لجاز النّسخ به ، لما تقدّم ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

السّادس : إنّما يطلب بالقياس حكم ما ليس منطوقا به ، فما هو منطوق به ، كيف يثبت بالقياس؟

السّابع : العامّ في محلّ التخصيص : إمّا أن يكون راجحا على القياس المخالف له ، أو مرجوحا أو مساويا ، فإن كان الأوّل ، امتنع تخصيصه بالمرجوح ، وإن كان مساويا ، لم يكن العمل بأحدهما أولى [من الآخر] ، وإنّما يمكن التّخصيص بتقدير أن يكون القياس في محلّ المعارضة راجحا ، ولا شكّ في أنّ

__________________

قال : فإن لم يكن في كتاب الله؟

قال : فبسنّة رسول الله.

قال : فإن لم يكن في سنّة رسول الله؟

قال : أجتهد رأيي ، لا آلو.

قال : فضرب رسول الله صدري ، ثمّ قال : الحمد لله الّذي وفّق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله. لاحظ مسند أحمد : ٥ / ٢٣٠ ؛ وسنن أبي داود : ٣ / ٣٠٣ برقم ٣٥٩٣ ؛ وسنن الترمذي : ٣ / ٦١٦ برقم ١٣٢٨ ، ينتهي سند الجميع إلى الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص.

٣٢٢

وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه.

الثامن : العموم ظاهر في كلّ صورة من آحاد الصّور الداخلة تحته ، وجهة ضعفه غير خارجة عن احتمال تخصيصه أو كذب الرّاوي ، إن كان [العامّ] خبر واحد.

وأمّا احتمالات ضعف القياس ، فكثيرة جدّا ، وذلك ، لأنّه وإن كان متناولا لمحلّ المعارضة بخصوصه ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون دليل حكم الأصل من أخبار الآحاد الّتي يتطرّق إليها الكذب ، وبتقدير أن يكون طريق إثباته قطعيّا ، فيحتمل أن يكون المستنبط للقياس ليس أهلا له ، وبتقدير أن يكون أهلا ، يحتمل أن لا يكون الحكم معلّلا بعلّة ظاهرة ، وبتقدير التّعليل ، يحتمل أن يكون غير ما ظنّه المعلّل ، أو لعلّه ظنّ وجودها في الفرع ، وليس (١).

وبتقدير الوجود يحتمل حصول مانع السّبب في الفرع أو للحكم ، أو فات شرط السّبب [فيه] أو شرط الحكم ، فكان العموم راجحا.

التاسع : العامّ من جنس النصّ ، والنّصّ غير مفتقر في جنسه إلى القياس ، والقياس يفتقر إلى النصّ ، لأنّ كونه حجّة إن ثبت بالنّصّ فظاهر ، وإن كان بالإجماع ، والإجماع متوقّف على النّصّ ، كان القياس متوقّفا على النّصّ ، فكان جنس النّصّ راجحا ، ولهذا وقع القياس مؤخّرا في حديث معاذ (٢).

__________________

(١) أي ليس لها الوجود في الفرع.

(٢) حديث معاذ تقدم آنفا.

٣٢٣

والاعتراض على الأوّل : أنّ كلّ واحد من العامّ والخاصّ اجتمع فيه صفتا العلم والظّنّ باعتبارين ، فالعامّ مقطوع في متنه مظنون في دلالته ، والقياس الخاصّ بالعكس ، فلا أولويّة.

قال المرتضى : ونمنع كون القياس هنا ظنيّا ، فإنّ دليل العبادة بالقياس يقتضي العلم ، فما خصّص إلّا بمعلوم ، ولا اعتبار بطريق هذا العلم ، ظنّا كان أو غيره (١).

وفيه نظر ، فإنّ البحث وقع عن القياس لا عن دليله.

وعلى الثاني : أنّ القياس المخصّص [للنّصّ] ليس فرعا على النّصّ المخصوص ، بل على غيره ، فلا يحصل تقديم الفرع على الأصل ، فإنّا إذا خصّصنا بقياس الأرز على البرّ عموم قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) لم يخصص الأصل بفرعه ، فإنّ الأرز فرع حديث البرّ ، لا فرع إحلال البيع.

وأيضا ، يلزم أن لا يخصّص عموم القرآن بخبر الواحد ، لأنّ خبر الواحد فرع لثبوته بأصل من كتاب أو سنّة ، فيكون فرعا له ، وقد سلم التّخصيص به من منع التخصيص بالقياس.

لا يقال : القياس إذا كان فرعا لنصّ آخر ، فكلّ مقدّمة لا بدّ فيها من دلالة

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٨٥.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

٣٢٤

النّصّ على الحكم كانت معتبرة في الجانبين ، وأمّا المقدّمات الّتي يفتقر القياس إليها في دلالته ، فهي مختصّة بجانب القياس ، فإثبات الحكم بالقياس يتوقّف على مقدّمات أكثر من مقدّمات العموم ، فيكون العموم أولى ، لأنّ إثبات الحكم به أظهر ، والأقوى لا يصير مرجوحا بالأضعف.

لأنّا نقول : العمومات قد تتفاوت في الدّلالة على مدلولاتها ، فبعضها يكون أقوى من بعض ، فجاز أن يكون العامّ المخصوص أضعف دلالة على محلّ النزاع من دلالة العامّ الّذي هو أصل القياس على مدلوله.

وحينئذ يظهر ترجيح قول الغزّالي هنا.

وعلى الثالث : أنّ حديث معاذ إن اقتضى منع تخصيص الكتاب والسنّة بالقياس ، اقتضى منع تخصيص الكتاب بالسّنّة المتواترة ، ولا شكّ في فساده.

وأيضا ، كونه مذكورا في الكتاب مبنيّ على كونه مرادا بالعموم ، وهو مشكوك فيه ، فكونه مذكورا في الكتاب مشكوك فيه.

وأيضا ، حكم العقل الأصليّ في براءة الذمّة ، يترك بخبر الواحد وبقياس خبر الواحد ، لأنّه ليس يحكم به العقل مع ورود الخبر ، فيصير مشكوكا فيه معه ، فكذا العموم.

وعلى الرابع : بالمنع من كون النّصّ هنا مرادا للقياس ، وإنّما يكون كذلك

٣٢٥

لو كان القياس رافعا لكلّ (١) ما اقتضاه النّصّ ، أمّا إذا كان رافعا لبعض ما تناوله فلا ، فإنّه نفس المتنازع. (٢)

وعلى الخامس : بأنّ الإجماع فرّق بين التخصيص والنسخ ، ولو لاه لساغا معا ، والأصل فيه أنّ التّخصيص أهون من النسخ ، لبقاء الحكم في الأوّل دون الثاني ، ولا يلزم من تأثير الشيء في الأضعف تأثيره في الأقوى.

وعلى السادس : بالمنع من كونه منطوقا به ، لأنّ زيدا في قوله [تعالى] : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(٣) ليس كقوله «اقتلوا زيدا» فإذا كان كونه مرادا من آية قتل المشركين مشكوكا فيه ، كان كونه منطوقا به مشكوكا فيه ، لأنّ العامّ إذا أريد به الخاصّ ، كان ذلك نطقا بذلك القدر ، ولم يكن نطقا بما ليس بمراد ، ولهذا جاز تخصيصه بدليل العقل القاطع ، ودليل العقل لا يجوز ان يقابل النّطق الصّريح من الشارع ، لامتناع تعارض الأدلّة.

لا يقال : ما أخرجه العقل عرف عدم دخوله تحت العموم.

لأنّا نقول : تحت لفظه أو تحت الإرادة؟ فإن قلتم بالأوّل ، فالله تعالى شيء ، وهو داخل تحت لفظ (هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(٤).

وإن قلتم : لا يدخل تحت الإرادة ، فكذلك القياس يعرّفنا ذلك ، ولا فرق.

__________________

(١) في «أ» : بكلّ.

(٢) في «ب» و «ج» : نفس المنازع.

(٣) التوبة : ٥.

(٤) الأنعام : ١٠٢.

٣٢٦

وعلى السابع : انّه آت في كلّ تخصيص وقد يرجّح بالجميع.

وعلى الثامن : أنّ التقدير رجحان القياس على العموم ، فإنّه حينئذ يتعيّن التخصيص.

وأيضا ، فإنّه وارد في خبر الواحد والمتواتر ، فإنّه يخصّ به ، مع أنّ تطرّق الاحتمال إلى خبر الواحد أكثر ، ولم يعتبر ذلك ، بل مجرّد التخصيص واعتبار كونه دليلا في نفسه ، فكذا هنا.

وعلى التاسع : انّه وارد في خبر الواحد والكتاب ، فإنّ خبر الواحد مفتقر في جنسه إلى الكتاب ، لأنّه الدالّ على العمل به ، دون العكس ، ومع ذلك فإنّه يجوز تخصيصه به.

وأيضا ، نمنع من كون افتقار الجنس إلى الجنس مقتضيا عدم التخصيص عند قوّة النّوع على النّوع.

ونقل المرتضى حجّة أخرى ، هي : «أنّ الأمّة إنّما حجبت الأمّ بالأختين فما زاد بالقياس ، وذلك أبلغ من

التخصيص ، وأنّ العبد كالأمة في تنصيف الحدّ». (١)

__________________

(١) حاصله : أنّ القائل بجواز تخصيص العامّ بالقياس استدلّ بوجهين آخرين :

١. أنّ الأختين تحجبان الأمّ في الميراث ، ولا دليل إلّا القياس.

٢. الحدود في العبد ، نصفها في الحرّ قياسا بالأمة.

وقد ردّ السيّد الدّليلين بأنّ الحكم ثبت بإجماع الأمّة لا بالقياس كما في المتن.

٣٢٧

ثمّ منع ذلك ، لأنّ المعوّل في ذلك إلى الإجماع لا القياس. (١)

احتجّ القائلون بتقديم القياس بوجوه :

الأوّل : أنّ العموم يحتمل المجاز ، والخصوص ، والاستعمال في غير ما وضع له ، والقياس لا يحتمل شيئا من ذلك ، فيكون العمل بالقياس أولى.

الثاني : العامّ يخصّص بالنصّ الخاصّ مع إمكان كونه مجازا أو مؤولا ، فالقياس أولى.

الثالث : تخصيص العموم بالقياس جمع بين الدليلين ، فهو أولى من تعطيل أحدهما. أو تعطيلهما معا.

والاعتراض على الأوّل : أنّ احتمال الغلط في القياس ليس أولى من احتمال الخصوص والمجاز ، فإنّ القياس يجوز أن يكون أصله خبر الواحد ، فيتطرّق الاحتمال إلى أصله ، وغير ذلك من المفاسد الّتي سلفت.

وهو الاعتراض على الثاني.

وعلى الثالث : بأنّ القدر الّذي وقع فيه التقابل ليس فيه جمع ، بل هو رفع للعموم وعمل بالقياس خاصّة. (٢)

وفيه نظر ، لأنّا لا نعني بالجمع بين الدليلين سوى العمل بالعامّ في غير صورة الخاصّ ، والعمل بالخاصّ في موضعه.

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٨٥.

(٢) الاعتراض للغزّالي في المستصفى : ٢ / ١٦٥.

٣٢٨

احتجّ القائلون بالوقف ، بأنّه قد ظهر ضعف كلام الفريقين ، وكلّ واحد من القياس والعموم دليل لو انفرد ، وقد تقابلا ، ولا ترجيح ، لأنّه امّا بالعقل ، أو النقل ، والعقل إمّا ضروريّ أو نظريّ ، والنقل إمّا متواتر أو آحاد ، والكلّ منتف ، فلا ترجيح ، فيتعيّن الوقف.

اعترض (١) : بأنّ هذا مخالف للإجماع ، لوقوعه قبل القاضي على ترجيح أحدهما. وإن اختلفوا في تعيينه ، ولم يذهب أحد إلى الوقف قبل القاضي.

ولأنّ القول بالوقف يؤدّي إلى تعطيل الدّليلين ، والمحذور فيه فوق المحذور من العمل بأحدهما ، فالعمل بالقياس أولى ، إذ العمل بالعامّ إبطال للقياس مطلقا.

أجاب القاضي : بأنّهم لم يصرّحوا ببطلان التوقّف قطعا ، ولم يجمعوا عليه ، وكلّ واحد رأى ترجيحا ، ولا يثبت الإجماع بمثل ذلك ، وكيف ومن لا يقطع ببطلان مذهب مخالفه في ترجيح القياس ، كيف يقطع بخطئه إن توقّف ، فإنّ كلّ واحد من المجتهدين لا يقطع بإبطال مذهب مخالفه مع مصيره إلى نفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه ، فكيف يقطع ببطلانه في توقّفه ، والعمل بالقياس مبطل للعمل بالعامّ في صورة المعارضة. (٢)

احتجّ الفارقون بين جليّ القياس وخفيّه : بأنّ الجليّ قويّ ، وهو أقوى من العموم ، والخفيّ ضعيف.

__________________

(١) لاحظ الإحكام للآمدي : ٢ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ، والمستصفى : ٢ / ١٦٥.

(٢) لاحظ التقريب والإرشاد : ٣ / ١٩٦ ـ ١٩٧.

٣٢٩

ويبطل بأنّ خفيّ القياس قد يكون أظهر من تناول العموم لمحلّ التخصيص ، فإنّ العموم قد يضعف ، بأن لا يظهر قصد التعميم منه ، وذلك بأن يكثر المخرج منه ، ويتطرّق إليه تخصيصات كثيرة ، كقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) فإنّ دلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أينقص إذا جفّ؟» (٢) على تحريم بيع العنب بالزبيب أظهر من دلالة هذا العامّ على تحليله ، لكثرة ما أخرج منه ، فضعف قصد العموم.

ولا شكّ في أنّ العمومات تختلف في القوّة والضعف بالنّسبة إلى بعض الآحاد ، لاختلافها في ظهور إرادة قصد ذلك البعض.

وكما أنّه اذا تقابل العمومان قدّم أقواهما ، وكذا القياسان ، وكذا العموم والقياس مطلقا عند القائلين به ، ومع التنصيص على العلّة على ما اخترناه نحن إذا تقابلا.

وكما يمكن أن يكون عموم قويّ أغلب على الظنّ من قياس ضعيف ، كذا يمكن أن يكون قياس قويّ أغلب من عموم ضعيف ، وإن تعادلا وجب الوقف.

فإن قيل : هذا (٣) الخلاف [هل] يختصّ بقياس مستنبط من الكتاب إذا خصّص به عموم الكتاب ، أو يجري في قياس مستنبط من الاخبار؟

قلنا : قد بيّنا أنّ نسبة قياس الكتاب إلى عمومه ، كنسبة قياس [الخبر]

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) مستدرك الوسائل : ١٣ / ٣٤٢ ، الباب ١٣ من أبواب الربا ، الحديث ٢ ؛ وفتح الباري : ٨ / ٣٩.

(٣) في «ج» : هل.

٣٣٠

المتواتر إلى عمومه ، والخلاف آت في الجميع.

واعلم أنّه لا استبعاد في هذه المسألة في الحكم بالوقف أو الترجيح بحسب نظر المجتهد في آحاد الوقائع بحسب القرائن المرجّحات الموجبة للتفاوت أو التساوي من غير تخطئة.

فإنّ الأدلّة فيها ظنّية غير قطعيّة ، فكانت ملحقة بالمسائل الظنيّة الاجتهاديّة دون القطعية ، وسياق كلام القاضي أبي بكر يدلّ على أنّ القول بتقديم خبر الواحد على عموم الكتاب ، ممّا يجب القطع بخطإ المخالف فيه ، لأنّه من مسائل الأصول.

المبحث الثاني : في تخصيص العامّ بالمفهوم

المفهوم قسمان : مفهوم الموافقة ، ومفهوم المخالفة.

والأوّل حجّة قطعا ، فيجوز التّخصيص به ، كما لو قال لعبده : «اضرب كلّ من دخل الدار» ثم قال : «زيد لا تقل له أفّ إن دخل الدار» فإنّه يدلّ بالمفهوم على تحريم ضربه ، وأنّ زيدا خارج عن العموم باعتبار مفهوم الموافقة ، وما سيق له الكلام من كفّ الأذى عنه ، سواء قلنا إنّ تحريم ضرب زيد مستفاد من منطوق اللّفظ ، أو من القياس الجليّ.

وأما الثاني ، فإن قلنا : إنّه حجّة ، فلا شكّ أنّ دلالته أضعف من دلالة المنطوق ، فهل يجوز التخصيص به أم لا؟ اختلف فيه :

فقال الأكثر : إنّه يجوز التخصيص به ، كما لو ورد لفظ عامّ يدلّ على

٣٣١

وجوب الزكاة في الأنعام كلّها ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في سائمة الغنم زكاة ، فإنّه يكون مخصّصا للعموم بإخراج معلوفة الغنم عن وجوب الزكاة بمفهومه ، لأنّ كلّا منهما دليل شرعيّ ، وقد تقابلا ، وأحدهما أعمّ من الآخر ، فيخصّ العامّ بالخاصّ ، لما فيه من العمل بالدّليلين ، وهو أولى من إبطال أحدهما بالكليّة.

وقيل : لا يخصّص ، لأنّ الخاصّ إنّما قدّم على العامّ ، لأنّ دلالته على ما تحته أقوى من دلالة العامّ على ذلك الخاصّ ، والأقوى راجح ، وهنا ليس كذلك ، فإنّ المفهوم وإن كان من حيث إنّه خاصّ أقوى ، إلّا أنّ دلالة المفهوم على مدلوله أضعف من دلالة العامّ على ذلك الخاصّ ، لأنّ العامّ منطوق به في محلّ المفهوم ، والمفهوم ليس منطوقا به ، والمنطوق أقوى في دلالته من المفهوم ، لافتقار المفهوم في دلالته إلى المنطوق ، وعدم افتقار المنطوق في دلالته إلى المفهوم.

فلو خصّص العامّ بالمفهوم كان ترجيحا للأضعف على الأقوى ، وهو غير جائز.

والجواب : أنّ العمل بالمفهوم لا يلزم منه إبطال العمل بالعموم مطلقا ، والجمع بين الدليلين ولو من وجه ، أولى من العمل بظاهر أحدهما وإبطال الآخر بالكليّة.

٣٣٢

المبحث الثالث : في التخصيص بالسبب

الخطاب الوارد جوابا لسؤال إن لم يستقلّ بنفسه لأمر يرجع إليه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل عن بيع الرّطب بالتمر : أينقص الرطب؟ قالوا : نعم ، قال : فلا إذا.

أو يكون عدم استقلاله لأمر يرجع إلى العادة ، كما لو قيل له : «كل عندي» فقال : «والله لا آكل» فإنّ هذا الجواب مستقلّ بنفسه ، لكنّ العرف اقتضى عدم استقلاله ، وصار مقصورا على السّبب الّذي خرج عليه ، فإنّه يتبع السّبب ، وهو السؤال في عمومه وخصوصه إجماعا ، فإنّ عدم استقلاله اقتضى عدم إفادته إلّا مع سببه ، فيكون السّبب في تقدير الوجود في كلام المجيب ، وإلّا لم يفد.

ولو أنّ المجيب ذكر السّبب فقال : والله لا أكلت عندك ، صار الجواب مقصورا على الأكل عنده.

وإن استقلّ ، فإمّا أن يكون أعمّ من محلّ السؤال ، أو أخصّ ، أو مساويا.

ولا إشكال في المساوي ، لعدم قصور إفادته عن خصوصيّات محل السؤال ، وعدم تجاوزه عنها ، كما إذا سئل عن المجامع في شهر رمضان ، فيقول : على المجامع في شهر رمضان الكفّارة.

ولا يجوز خروج شيء من السؤال عن الجواب ، إلّا أن تدلّ دلالة مقارنة

٣٣٣

أو متقدّمة على خروج بعضه من الجواب ، بل يحكم بتبعيّة الجواب للسؤال في عمومه وخصوصه.

أمّا في عمومه ، فكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل عن ماء البحر : «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته».

وأمّا في خصوصه : فكقوله للأعرابي : «أعتق رقبة» لمّا سأله عن وطئه في نهار رمضان.

وحكم هذا القسم ، حكم غير المستقلّ في تبعيّته في عمومه كقوله «فلا إذا» عقيب السؤال عن النّقص ، أو خصوصه ، كما لو قيل : «توضأ بماء البحر» ، فقال : «يجزيك».

وأمّا الأخصّ ، فإنّ الحكم مقصور عليه ، ولا يجوز تعدية الحكم من محلّ التخصيص إلى غيره إلّا بدليل خارج عن اللفظ ، لأنّ اللّفظ لا عموم له ، بل وفي هذه الصورة ، الحكم بالخصوص أولى منه فيما إذا كان السؤال خاصّا وطابقه الجواب ، لأنّه هنا عدل عن سؤال السائل بالجواب عن بعض موارده ، مع دعوى الحاجة إليه ، بخلاف تلك الصورة ، فإنّه طابق بجوابه سؤال السائل.

وهذا القسم إنّما يجوز من الحكيم بشرائط ثلاثة :

الأوّل : أن يكون السائل من أهل الاجتهاد.

الثاني : عدم فوات المصلحة باشتغال السائل بالاجتهاد.

الثالث : أن يكون في الخارج من الجواب تنبيه على ما لم يخرج.

وأمّا الأعمّ فقسمان :

٣٣٤

الأوّل : أن يكون أعمّ في غير ما سئل عنه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل عن ماء البحر : «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته» ولا خلاف في إجرائه على عمومه.

الثاني : أن يكون أعمّ ممّا سئل عنه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل عن بئر بضاعة (١) : «خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» (٢).

والحقّ : أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب.

وقال المزني (٣) وأبو ثور (٤) : إنّ خصوص السبب مخصّص لعموم اللّفظ ، وقال الجوئي (٥) : وهو الّذي صحّ عند الشافعي.

لنا وجوه :

الأوّل : المقتضي للعموم ثابت ، والمعارض الموجود لا يصلح للمانعيّة.

أمّا المقتضي ، فهو اللّفظ الموضوع للعموم ، ولا شكّ في ثبوته.

__________________

(١) «بضاعة» بضم الباء : بئر معروفة بالمدينة. لاحظ النهاية : ١ / ١٣١.

(٢) أخرجه أبو داود في سننه : ١ / ١٨ برقم ٦٧ ؛ وأحمد بن حنبل في مسنده : ٣ / ٣١ ؛ والترمذي في سننه : ١ / ٩٥ برقم ٦٦.

(٣) هو أبو إبراهيم : إسماعيل بن يحيى بن اسماعيل المزني ـ نسبة إلى مزينة بنت كلب ـ الفقيه الشافعي ، مات سنة ٢٦٤. لاحظ الأعلام للزركلي : ١ / ٣٢٩.

(٤) تقدّمت ترجمته ص ٢٢٣.

(٥) لاحظ البرهان في أصول الفقه : ١ / ٢٥٣.

٣٣٥

وأمّا نفي المانع ، فلأنّه ليس إلّا خصوص السّبب ، وإنّه غير صالح للمانعيّة إذ يمكن الجمع بينهما ، فيصرّح الشارع بقوله : يجب حمل اللّفظ على عمومه ولا تخصّوه بالسّبب ، وهو يدلّ على عدم المنافاة ، فلا يكون مانعا. (١)

وفيه نظر ، فإنّا نمنع ثبوت المقتضي.

قوله : المقتضي هو اللّفظ الموضوع للعموم.

قلنا : متى إذا قارن السّبب الخاصّ أو لا؟ الأوّل ممنوع والثاني مسلّم.

قوله : المعارض لا يصلح للمانعيّة.

قلنا : ممنوع ، فإنّ ورود العامّ عقيب السّبب من غير تقدّم ولا تأخّر مشعر باختصاصه به ، وأنّ سياقه لبيان حكم السّبب خاصّة ، والتّصريح بالعمل بالعامّ لا ينافي التخصيص بدونه ، فإنّ كلّ لفظ دلّ على معناه بالحقيقة ، يجوز خروجه عن مدلوله بذكر إرادة المجاز ، ولا يخرج بذلك المجاز من منافاة الحقيقة.

الثاني : الإجماع على أن أكثر آيات الأحكام وردت على أسباب خاصّة ، فإنّ آية السرقة نزلت في سرقة المجنّ ، أو رداء صفوان (٢) ، وآية الظّهار نزلت في

__________________

(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٤٨ ـ ٤٤٩.

(٢) أسنده الشيخ في الخلاف : ٥ / ٤٢٧ إلى صفوان بن عبد الله بن صفوان أنّ صفوان بن أميّة نام في المسجد وتوسّد رداءه فجاء سارق ... الخ. ولاحظ سنن النسائي : ٨ / ٦٩ ـ ٧٠ ؛ وسنن أبي داود : ٤ / ١٣٨ برقم ٤٣٩٤ ؛ وفي أسد الغابة : ٢ / ٤٥٣ : مات صفوان بن أميّة سنة ٤٢ ه‍.

٣٣٦

سلمة بن صخر (١) وآية اللعان في هلال بن أميّة (٢) ، مع أنّ الأمّة عمّوا أحكام هذه الآيات ، ولو كانت العبرة بخصوص السبب لما عمّ الحكم (٣).

وفيه نظر ، فإنّ إعلام هذه الأحكام بالوحي عقيب الاشتباه ، لا يقتضي تخصيص الأحكام بتلك الوقائع.

سلّمنا ، لكن لما دلّ الإجماع على تعميم هذه الأحكام ، عرفنا انتفاء المخصّص ، ولا منافاة بين كون الشيء مخصّصا عند تجرّده ، وخروجه عن صلاحيّة التخصيص عند اقترانه بما ينافيه ، فإنّ تقييد الحكم بالوصف ، يدلّ على التخصيص ، كما لو قال : «في الغنم السائمة الزكاة» (٤) فلو دلّ إجماع على تعميم الحكم ، خرج التقييد عن دلالة التّخصيص.

الثالث : اللّفظ لو تجرّد عن السبب كان عامّا ، وليس ذلك إلّا لاقتضائه العموم بلفظه ، لا لعدم السّبب ، فإنّ عدم السّبب لا مدخل له في الدّلالات اللّفظيّة ، ودلالة العموم لفظيّة ، وإذا كانت دلالته على العموم مستفادة من لفظه ، فاللّفظ

__________________

(١) هو صحابيّ ، قال في أسد الغابة : انّ سلمة بن صخر البياضي جعل امرأته عليه كظهر أمّه فلمّا مضى نصف رمضان وقع عليها ليلا فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكر له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اعتق رقبة ... الحديث. أسد الغابة : ٢ / ٣٥٨ برقم ٢١٧٧.

(٢) هو صحابيّ شهد بدرا وأحدا ، وهو أحد الثلاثة الّذين تخلفوا عن غزوة تبوك فأنزل الله تعالى فيهم (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ...) الآية. التوبة : ١١٨. لاحظ أسد الغابة : ٤ / ٢٨٧ برقم ٥٣٨٩.

(٣) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٤) عوالي اللآلي : ١ / ٣٩٩ برقم ٥٠ ؛ ولاحظ مستدرك الوسائل : ٧ / ٦٣ ، الباب ٦ من أبواب زكاة الأنعام ، الحديث ١.

٣٣٧

وارد مع وجود السبب ، حسب وروده مع عدم السبب ، وكان مقتضيا للعموم (١).

وفيه نظر ، لأنّ اللّفظ تختلف دلالته على تقدير التجرّد والاقتران ، كما في الحقيقة والمجاز.

واعلم أنّ اللّفظ وإن كان عامّا إلّا أنّ دلالته على محلّ السّبب أقوى من دلالته على غيره ، واحتمال التخصيص في غير السّبب أقرب ويقنع فيه بدليل أخفّ وأضعف.

احتجّ المخالف بوجوه :

الأوّل : لو لم يكن المراد بيان حكم السّبب لا غير ، بل بيان القاعدة العامّة ، لما أخّر البيان إلى حالة وقوع تلك الواقعة ، والتالي باطل ، وإذا كان المقصود بيان حكم السّبب الخاصّ ، وجب الاقتصار عليه.

الثاني : المراد من ذلك الخطاب إمّا بيان ما وقع السؤال عنه أو غيره ، فإن كان الأوّل ، وجب أن لا يزاد عليه ، وذلك يقتضي أن يتخصّص بتخصّص السّبب ، وإن كان الثاني ، وجب أن لا يتأخّر ذلك البيان عن تلك الواقعة.

الثالث : لو كان الخطاب عامّا ، لكان جوابا وابتداء ، وقصد الجواب والابتداء متنافيان.

الرابع : لو عمّ الخطاب غير السبب ، لجاز إخراج السّبب عن العموم بالاجتهاد ، كما في غيره من الصّور المندرجة تحت العامّ ، لتساوي نسبة العامّ إلى جميع جزئيّاته ، وهو خلاف الإجماع.

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٣٨

الخامس : لو لم يكن للسّبب مدخل في التأثير ، لما نقله الراوي لعدم فائدته.

السادس : لو قال لغيره : كل عندي ، فقال : «والله لا أكلت» كان مقصورا على سببه ، ولم يحنث بأكله عند غيره ، ولو لا اقتضاء السبب التخصيص ، لما كان كذلك.

السابع : الأصل تطابق السؤال والجواب ، لأنّ الزيادة عديمة التّأثير فيما يتعلّق (١) به غرض السائل.

الثامن : ثبوت الحكم فيما وقع السؤال عنه ، يمنع من ثبوته فيما عداه ، إمّا لأنّه ينافيه ، أو من دليل الخطاب.

والجواب عن الأوّل : أنّه غير وارد على الأشاعرة ، لأنّهم لا يعلّلون بالأغراض ، بل ينشئ التكليف في أيّ وقت شاء لا لفائدة وغرض ، ولا على المعتزلة ، لعلمه بأنّ التأخير إلى الواقعة لطف ومصلحة للعباد ، داعية إلى الانقياد ، ولا يحصل ذلك بالسّبق والتّأخير ، ثمّ يلزم بهذه العلّة اختصاص الرّجم ب «ماعز» (٢) وكذا باقي الأحكام الواردة على وقائع الأشخاص ، لأنّه تعالى أخّر البيان إلى وقوع الحوادث النازلة بهم ، وهو خلاف الإجماع.

وأيضا ، كما جاز أن تتعلّق المصلحة بهذا الوقت فيما سئل عنه وفيما

__________________

(١) في «ج» : تعلّق.

(٢) ما عزّ بن مالك الأسلمي ، هو الّذي أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعترف بالزّنا فرجمه. لاحظ أسد الغابة : ٤ / ٨ برقم ٤٥٥٧.

٣٣٩

تعدّى الجواب إليه ممّا (١) ليس من جنس السؤال ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الحلّ ميتته» جاز في الجنس.

وأيضا ، يحتمل أن يكون قد بيّن حكم ما زاد على السؤال قبل ذلك ، وبيّنه الآن أيضا ، ودلّ عليه.

وعن الثاني : أنّه يقتضي كون الحكم مقصورا على ذلك السائل ، وفي ذلك الزمان ، والمكان والهيئة.

سلّمنا ، لكن يجوز أن يكون السؤال الخاصّ اقتضى ذلك البيان العامّ.

سلّمنا ، لكن نمنع الحصر ، لجواز أن يكون المراد بيان ما وقع السّؤال عنه وغيره.

وعن الثالث : إن أردتم بأنّه جواب وابتداء : أنّه جواب عمّا وقع السؤال عنه ، وبيان (٢) لحكم ما لم يسأل عنه ، فهو مسلّم ، والقصد إليه لا ينافي.

وإن أردتم غير ذلك ، فثبّتوه.

وعن الرابع : بالمنع من تساوي النّسبة إلى الجزئيّات ، للإجماع على أنّ كلامه سيق لبيان الواقعة ، بخلاف غيرها من الصّور.

والخلاف في أنّه بيان له خاصّة ، أو له ولغيره ، فتناول اللّفظ له مقطوع به ، وتناوله لغيره ظاهر ، ولا يجوز أن يسأل عن شيء فيجيب عن غيره ، ويجوز أن يجيب عنه وعن غيره ، أو عن غيره بما ينبّه على الجواب عن محلّ السؤال

__________________

(١) في «أ» و «ج» : فيما.

(٢) ناظر إلى قوله : «وابتداء».

٣٤٠