الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٨
وأيضا ، فإنّه يسبق إلى الفهم ، وهو دليل الحقيقة.
والجواب : ما تقدّم ، من أنّه حقيقة فيه مع غيره ، والسبق إلى الفهم بقرينة وهو دليل المجاز.
احتجّ الرازي : بأنّه إذا بقى غير منحصر ، كان معنى العموم باقيا.
والجواب : أنّه كان للجميع.
احتجّ الجويني ، بأنّ العامّ كتكرار الآحاد ، وإنّما اختصر (١) ، فإذا خرج بعضها بقى الباقي حقيقة.
والجواب بالمنع ، فإنّ العامّ ظاهر في الجميع ، فإذا خصّ (٢) خرج قطعا ، والتكرّر نصّ.
واحتجّ القاضي أبو بكر (٣) والقاضي عبد الجبّار ، بمثل ما احتجّ به أبو الحسين ، من أنّ ما لا يستقلّ إذا أوجب تجويزا في نحو قولك : الرجال المسلمون ، وأكرم بني تميم إن دخلوا ، لكان نحو «مسلمين» للجماعة مجازا ، ولكان نحو «المسلم» للجنس أو للعهد مجازا ، ونحو (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)(٤) مجازا ، لأنّ الصفة عند أبي بكر كأنّها مستقلّة ، والاستثناء عند عبد الجبّار ليس بتخصيص.
__________________
(١) في «أ» : اختص.
(٢) في «أ» : اختص.
(٣) لاحظ التقريب والإرشاد : ٣ / ٧٠.
(٤) العنكبوت : ١٤.
والجواب : ما تقدّم.
وأيضا ، فإنّ «الواو» في «مسلمون» ك «ألف» ضارب و «واو» مضروب ، و «اللام» في المسلم وإن كان كلمة ، حرفا أو اسما ، فالمجموع (١) الدّال والألف موضوعة للألف ، وكذا «الخمسون» للخمسين ، وإلّا للرفع ، ومعرفة الباقي حصلت بالحساب. (٢)
تذنيب
إذا قال الله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(٣) وقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : في الحال «إلّا زيدا» فهذا تخصيص بدليل متّصل أو منفصل؟ فيه احتمال ، ينشأ من تغاير المتكلّمين ، ومن كونه صلىاللهعليهوآلهوسلم إنما نطق بالوحي ، فكان الخطاب منه تعالى في الحقيقة.
__________________
(١) أي المجموع هو الدّالّ.
(٢) يريد أن كلّا من الألفاظ الثلاثة : «الألف» و «الخمسين» و «إلّا» استعمل في معناه الموضوع له ، غير أنّ المخاطب ، قام بالمحاسبة وإخراج الخمسين عن الألف ، يستنتج بأنّه لبث في قومه تسعمائة وخمسين عاما ، ولعلّ المصنّف يريد التفريق بين الإرادة الاستعماليّة والجدّيّة ، فالجملة حسب الإرادة الأولى استعملت في معانيها اللغوية ، لكن الإرادة الجدّيّة تعلقت بغيرها والتفصيل يطلب من كتب أصحابنا المتأخّرين.
(٣) التوبة : ٥.
المبحث السّادس :
في جواز التمسّك بالعامّ المخصوص
اختلف الناس في ذلك ، فمنع عيسى بن أبان (١) ، وأبو ثور (٢) من التمسّك بالعامّ المخصوص ، فيما عدا المخصوص على كلّ حال.
وأجاز آخرون التمسّك به على كلّ حال.
وأجاز قوم ذلك في حال دون حال ، واختلفوا في تفصيل تلك الحال :
فقال : الكرخي (٣) : إن خصّ بشرط أو استثناء ، صحّ التعلّق به فيما عدا المخصوص ، وإن خصّ بمنفصل ، لم يصحّ.
وقال البلخي (٤) : ان خصّ بمتّصل كالشّرط والصّفة والاستثناء ، كان حجّة وإلّا فلا.
وقال أبو عبد الله (٥) : إن كان التّخصيص والشرط قد منعا من تعلّق الحكم
__________________
(١) تقدّمت ترجمته ص ٢١٦.
(٢) هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي ، الفقيه صاحب الإمام الشافعي ، له مصنّفات ذكر في بعض كتبه اختلاف مالك والشافعي ، وذكر مذهبه ، وهو أكثر ميلا إلى الشافعي مات سنة ٢٤٠ ه. لاحظ الأعلام للزركلي : ١ / ٣٧.
(٣) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.
(٤) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٣٦٧.
(٥) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.
بالاسم العامّ ، وأوجبا تعلّقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر ، لم يجز التعلّق به ، وإن لم يمنعا من تعلّقه باسم العامّ ، صحّ التعلّق به.
فالأوّل كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(١) لأنّ قيام الدلالة على اعتبار الحرز ومقدار المسروق يمنع من تعلّق القطع بالسرقة ، ويقتضي وقوعه على الحرز الّذي لا ينبئ اللفظ عنه ، فلم يجز التعلّق به.
والثاني ، كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(٢) لأنّ قيام الدّليل على المنع من قتل معطي الجزية ، لا يمنع من تعلّق القتل بالشّرط ، فلم يمنع التعلّق به من قتل من لم يعط الجزية.
وقال قاضي القضاة : إنّ كان العموم المخصوص والمشروط ، لو تركنا وظاهره من دون الشرط والتخصيص كنّا نمتثل ما أريد منّا ، ونضمّ إليه ما لم يرد منّا ، احتجنا إلى بيان ما لم يرد منّا ، ولم نحتج إلى بيان ما أريد ، إذ كنّا نصير إليه من دون البيان ، ويصحّ التعلّق بالظاهر فيه ، كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ).
وإن كنّا لو تركنا والظاهر من دون الشرط ، لم يمكننا امتثال ما أريد منّا ، احتجنا إلى بيان ما أريد منّا ، إذ لسنا نكتفي بالظاهر فيه ، ولم يصحّ التمسّك به كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ). (٣)
__________________
(١) المائدة : ٣٨.
(٢) التوبة : ٥.
(٣) لاحظ كلام قاضي القضاة في المعتمد : ١ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦.
وهذا الذي ذكره عقد مذهب ودلالة ، وينبغي أن يزاد في الأوّل أن لا يكون العموم قد خصّص تخصيصا مجملا.
وقيل (١) : إنّه حجّة في أقلّ الجمع لا فيما زاد ، واتّفق الكلّ على أنّه إذا خصّ بمجمل ، فإنّه لا يبقى حجّة إلّا بعد البيان.
والحقّ أنّه حجّة ، لنا وجوه :
الأوّل : اللفظ العامّ كان متناولا للكلّ ، فكونه حجّة في كلّ واحد من تلك الأقسام ، إمّا أن يكون موقوفا على كونه حجّة في الآخر ، أو على كونه حجّة في الكلّ ، أو لا يتوقّف على شيء منهما.
والأوّل باطل ، لأنّه إن كان كونه حجّة في كلّ واحد من تلك الأقسام مشروطا بكونه حجّة في الآخر ، لزم الدّور.
وإن افتقر كونه حجّة في هذا ، على كونه حجّة في ذلك ، من غير عكس ، لزم الترجيح من غير مرجّح ، لأنّ نسبة اللفظ إلى كلّ واحد على السويّة ، فليس جعل البعض مشروطا بالآخر ، أولى من العكس.
ولأنّه يلزم المطلوب ، لأنّ كونه حجّة في الكلّ يتوقّف على كونه حجّة في كلّ واحد من تلك الأقسام ، لأنّ الكلّ لا يتحقّق إلّا بتحقّق جميع الأفراد ، فلو توقّف كونه حجّة في البعض على كونه حجّة في الكلّ ، لزم الدّور.
__________________
(١) نقله الآمدي عن البعض ولم يعيّن قائله. لاحظ الإحكام : ٢ / ٣٥٣.
وحيث بطل القسمان ، ثبت كونه حجّة في ذلك البعض لا يتوقّف على كونه حجّة في البعض الآخر ، ولا على كونه حجّة في الكلّ ، فإذن هو حجّة في البعض ، سواء ثبت كونه حجّة في البعض الآخر أو لا.
أعترض (١) : بأنّه لا يلزم من عدم توقّف الشيء على غيره جواز وجوده بدونه كما في المتلازمين ، وإن عنى بتوقّفه عليه عدم وجوده بدونه ، لم يلزم الدّور في المتلازمين.
الثاني : المقتضي لثبوت الحكم في غير محلّ التخصيص قائم ، والمعارض الموجود لا يصلح معارضا ، فوجب ثبوت الحكم في غير محلّ التخصيص.
إنّما قلنا : إنّ المقتضي قائم ، لأنّه هو اللّفظ الدالّ على ثبوت الحكم في كلّ الصور والدالّ عليه في كلّ الصّور دالّ عليه في محل التخصيص وغيره ، فثبت قيام المقتضي في غير محلّ التخصيص.
وأمّا عدم المعارض ، فلأنّ المعارض ليس إلّا كون الحكم غير ثابت في صورة التّخصيص ، ولا يلزم من عدم الحكم في هذه الصورة عدمه في الأخرى ، كما لا يلزم من ثبوته في صورة ثبوته في الأخرى (٢).
وفيه نظر ، لأنّ المقتضي هو اللّفظ الدّالّ على الجميع ، مع
__________________
(١) المعترض سراج الدّين الأرموي في التحصيل من المحصول : ١ / ٣٧٠. والضمير في قوله : «وإن عنى» يرجع إلى الفخر الرازيّ.
(٢) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٠٣.
إرادته ، وبالتخصيص خرج عن ذلك. (١)
الثالث : الإجماع وقع على الاحتجاج بالعامّ المخصوص فيكون حجّة.
أمّا المقدّمة الأولى ، فلأنّ فاطمة عليهاالسلام احتجّت على أبي بكر في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ)(٢) مع أنّه مخصّص بالكافر والقاتل ، ولم ينكر أحد من الصحابة احتجاجها ، مع ظهوره واشتهاره ، بل عدل أبو بكر في حرمانها من الميراث إلى حديث رواه.
ولأنّ عليّا عليهالسلام احتجّ على جواز الجمع بين الاختين في الملك بقوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)(٣) مع أنّه مخصوص بالأخت والبنت.
واحتجّ ابن عبّاس على تحريم نكاح المرضعة بعموم قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)(٤) وقال : قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير (٥) ، مع أنّه مخصوص بشرائط الرضاع.
وأمّا الثانية ، فظاهرة لما يأتي من بعد أنّ الإجماع حجّة.
__________________
(١) في «ب» : خرج عنه ذلك.
(٢) النساء : ١١.
(٣) النساء : ٣.
(٤) النساء : ٢٣.
(٥) نقله الهيثمي في مجمع الزوائد : ٤ / ٢٦١ ، وعلاء الدين الكاشاني في بدائع الصنائع : ٣ / ٤٠٥ ، والرازي في تفسيره : ١٠ / ٣٠ في ذيل الآية ٢٣ من سورة النساء وفيه : جاء رجل إلى ابن عمر فقال : قال ابن الزبير : لا بأس بالرضعة ولا بالرضعتين ، فقال ابن عمر : قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير. ونقله الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٥٤ ، وأبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٢٦٨.
الرابع : العامّ قبل التخصيص حجّة في كلّ أقسامه بالإجماع ، فيكون بعد التخصيص كذلك ، لأنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان ، إلّا أن يوجد معارض ، والأصل عدمه.
الخامس : لو قال : أكرم كلّ من دخل داري ، ثمّ قال بعد : لا تكرم فلانا ، أو قال في الحال : إلّا فلانا ، فترك ، عدّ عاصيا.
احتج ابن أبان بوجوه :
الأوّل : دلالة العامّ على ما عدا محلّ التخصيص على سبيل المجاز ، وإلّا لم يكن للعموم ، أو كان مشتركا ، والتقدير خلافهما ، وإذا كان مجازا ، كان متردّدا بين أقلّ الجمع وما عدا صورة التخصيص.
ولا يمكن الحمل على الجميع ، لما فيه من تكثّر جهات التجوّز ، وليس حمله على أحد المجازات أولى ، لعدم دلالة اللّفظ عليه وكان مجملا.
الثاني : أنّه بالتخصيص خرج عن كونه ظاهرا وما لا يكون ظاهرا لا يكون حجّة.
الثالث : العامّ بعد التخصيص ينزّل منزلة قوله تعالى : «اقتلوا المشركين إلّا بعضهم» والمشبّه به ليس بحجّة ، فكذا المشبّه.
والجواب عن الأوّل : المنع من عدم أولويّة البعض ، فإنّ كلّ الباقي بعد التخصص أقرب إلى الاستغراق من بعض الباقي ، فيكون هو المراد ، وينتفي الإجمال.
ثمّ يعارض بأنّه قبل التخصيص كان حجّة في كلّ قسم بالإجماع ، فإن كان مجازا عاد ما ذكرتموه من المحذور.
وعن الثاني : إن أراد بقوله : «ليس ظاهرا» أنّه ليس حقيقة ، فمسلّم ، لكن كونه حجّة ، لا يتوقّف على كونه حقيقة.
وإن أراد أنّه لا يكون حجّة ، فهو ممنوع ، والأصل في ذلك أنّه ليس بظاهر في العموم ، وهو ظاهر في الباقي.
وعن الثالث : بالمنع من التساوي ، لحصول الجهالة في المشبّه به ، دون المشبّه.
احتجّ من قال : إنّه يحمل على أقل الجمع ، بأنّه المتيقّن ، وما زاد مشكوك فيه.
والجواب : حمله على أقلّ الجمع يقتضي الإجمال لإبهامه ، بخلاف ما قلناه ، من الحمل على كلّ الباقي.
ولأنّه أقرب إلى الحقيقة ، فكان أولى.
ولأنّ حمله على أقلّ الجمع مخلّ بمراد المتكلّم ، وحمله على ما قلناه غير مخلّ به.
المبحث السابع :
في جواز التمسّك بالعام قبل البحث عن المخصّص
الخلاف هنا مع ابن سريج (١) فإنّه قال : لا يجوز التمسّك بالعامّ ما لم يستقص في طلب المخصّص ، فإذا لم يوجد بعد ذلك مخصّص ، جاز التمسّك به.
وقال الصّيرفي (٢) : يجوز التمسّك به ابتداء ، ما لم تظهر دلالة مخصّصة.
والأقرب الأوّل.
لنا : أنّ المجتهد يجب عليه البحث عن الأدلّة وكيفيّة دلالتها ، والتخصيص كيفيّة في الدلالة ، فيجب عليه البحث عن ثبوته وعدمه بقدر الإمكان ، لأنّ العامّ بتقدير قيام المخصّص ، لا يكون حجّة في صورة التخصيص ، فقبل البحث عن وجود المخصّص يجوز أن يكون العامّ حجّة ويجوز أن لا يكون ، والأصل عدم كونه حجّة.
__________________
(١) تقدمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٥٩.
(٢) هو محمد بن عبد الله الصيرفي ، أبو بكر أحد المتكلمين الفقهاء من الشافعيّة ، ومن كتبه «البيان في دلائل الإعلام على أصول الأحكام» في أصول الفقه ، مات سنة ٣٣٠ ه. لاحظ الأعلام للزركلي : ٦ / ٢٢٤.
لا يقال : ظنّ كونه حجّة أقوى من ظنّ كونه غير حجّة ، لأنّ إجراءه على العموم أولى من حمله على التخصيص ، ولمّا ظهر هذا القدر من التفاوت ، كفى ذلك في ثبوت الظنّ.
لأنّا نقول : نمنع من قوّة ظنّ كونه حجّة ، وإنّما يحصل بعد البحث عنه.
احتج الصّيرفي بوجهين :
الأوّل : لو لم يجز التمسّك بالعامّ إلّا بعد طلب المخصّص ، لما جاز التمسّك بالحقيقة إلّا بعد طلب أنّه هل وجد ما يقتضي الصّرف إلى المجاز ، والتّالي باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية : أنّ المانع من التمسّك في العامّ قبل البحث عن المخصّص ، ليس إلّا احتمال الخطأ ، وهذا المعنى موجود في الحقيقة والمجاز ، فيشتركان في الحكم.
وبيان بطلان التالي : أنّ العرف خاصّ يحمل الألفاظ على ظواهرها من غير بحث [عن] أنّه هل وجد ما يصرف اللفظ عن حقيقته أو لا.
وإذا كان في العرف كذلك ، وجب في الشرع لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن. (١)
الثاني : الأصل عدم التخصيص ، وهذا يوجب ظنّ عدم المخصّص ، فيكفي في إثبات ظنّ الحكم.
والجواب عن الأول : بالفرق بين العامّ والحقيقة ، فإنّ كلّ العمومات
__________________
(١) عوالي اللآلي : ١ / ٣٨١ وأخرجه أحمد بن حنبل في مسنده : ١ / ٣٧٩.
مخصوصة إلّا قوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١) فكان حمل اللّفظ على عمومه مرجوحا في الظنّ قبل البحث عن المخصّص ، وأمّا الحقيقة ، فإنّ أكثر الألفاظ محمولة على الحقائق.
وعن الثاني : أنّه معارض بأنّ الأصل عدم كونه حجّة.
تذنيب
لمّا أوجبنا البحث عن المخصّص ، لم نوجب العلم بنفيه في دلالة العامّ ، لعدم إمكانه ، بل نوجب اجتهاد المجتهد في ذلك ، بأن يتصفّح الأدلّة العقليّة والنقليّة ، فإذا لم يجد مخصّصا ، وغلب على الظنّ النفي ، وليس ذلك بقطعيّ ، فإنّ عدم الوجدان لا يوجب عدم الوجود قطعا بل ظنّا.
__________________
(١) الأنعام : ١٠١.
الباب الثالث :
في المقتضي للتخصيص
وفيه فصول :
الفصل الأوّل :
في الأدلّة المتّصلة
وفيه مطالب :
المطلب الأوّل : في الاستثناء
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل : في حقيقة الاستثناء
وهو استفعال من الثني ، وهو الرّجوع ، وهو هنا كذلك ، فإنّ الحاكم على جملة بشيء إذا استثنى بعضها عن ذلك الحكم ، فكأنّه قد رجع عمّا حكم به أوّلا في ذلك المستثنى.
وهو إمّا متّصل ، وهو الّذي يكون المستثنى من جنس المستثنى منه.
وإمّا منفصل ، وهو الّذي يكون من غير جنسه.
وهو حقيقة في المتّصل إجماعا ، واختلف في المنفصل ، فقيل : إنّه حقيقة فيه أيضا.
وقيل : مجاز.
وقيل : إنّه للقدر المشترك بين المتّصل والمنفصل على ما يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا فنقول : من جعله متواطئا حدّه بأنّه «ما دلّ على مخالفة ب «إلّا» غير الصفة ، وأخواتها». (١)
ومن جعله مشتركا بينهما ، أو حقيقة في المتّصل دون المنفصل لم يكن له جمعهما في حدّ واحد ، وحينئذ يقال في المنقطع : إنّه ما دلّ على مخالفة ب «إلّا» غير الصفة وأخواتها ، من غير إخراج.
وأمّا المتّصل ، فقد اختلف في تعريفه ، فقال الغزالي ، إنّه قول ذو صيغ مخصوصة محصورة ، دالّ على أنّ المذكور [فيه] لم يردّ بالقول الأوّل. (٢)
وأورد على طرده (٣) التخصيص بالشّرط ، والوصف ب «الّذي» والغاية ،
__________________
(١) لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٢٣٨ ، قسم المتن.
(٢) المستصفى : ٢ / ١٧٩.
(٣) المورد هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٨٩ ، ولاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٢٤١ ، قسم المتن.
ومثل : «قام القوم ولم يقم زيد» ولا يرد الأوّلان.
وأورد على عكسه : «قام القوم إلّا زيدا» فإنّه ليس بذي صيغ.
وقال الآخرون : الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ «إلّا» أو ما يقوم مقامه.
ونقض بمثل «قام القوم ولم يقم زيد» فإنّه قائم مقام قوله «إلّا زيدا» في إخراج بعض الجملة.
وقيل : إنّه عبارة عمّا لا يدخل في الكلام إلّا لإخراج بعضه بلفظ «إلّا» ، ولا يستقلّ بنفسه ، لأنّ المخرج إن كان معنويّا ، كالعقل والقياس ، خرج عن الحدّ.
وإن كان لفظيّا منفصلا ، كان مستقلّا بالدّلالة ، وإلّا لكان لغوا ، وهو خارج عن الحدّ.
وإن كان متّصلا ، فإن كان صفة مثل : «أكرم بني تميم الطّوال» خرج منهم القصار ، ولفظ «الطّوال» لم يتناول القصار ، بخلاف «أكرم بني تميم إلّا زيدا» وكذا إن كان شرطا.
وإن كان غاية ، فقد يدخل «كالمرافق» (١) بخلاف الاستثناء.
واعترض : بأنّ الاستثناء لإخراج بعض ما دلّ عليه الكلام ، لا لإخراج بعض الكلام وما يناقضه بقولنا : «جاء القوم غير زيد» فإنّه استثناء مع أنّ «غيرا» قد يدخل صفة مثل : «عندي درهم غير جيّد» فقد دخلت لا لإخراج بعضه.
__________________
(١) إشارة إلى قوله تعالى : (إِلَى الْمَرافِقِ) المائدة : ٦.
وقيل (١) : إنّ الاستثناء عبارة عن لفظ متّصل بجملة لا يستقلّ بنفسه دالّ على أنّ مدلوله غير مراد ممّا اتّصل به ، بحرف «إلّا» أو أحد أخواتها.
فقولنا : «لفظ» احتراز عن الدلائل العقليّة والحسيّة الموجبة للتخصيص.
وقولنا : «بجملة» احتراز عن الدلائل المنفصلة.
وقولنا : «ولا يستقلّ بنفسه» احتراز عن مثل [قولنا] : «قام القوم ، ولم يقم زيد».
وقولنا : «دالّ» احتراز عن الأسماء المؤكّدة والصّفة ، مثل : «قام القوم العلماء كلّهم».
وقولنا : «بحرف إلّا أو أخواتها» احتراز عن مثل : «قام القوم دون زيد» (٢).
وفيه نظر ، لأنّه حدّ الاستثناء بأنّه لفظ ، والاستثناء معنى ، واللفظ دالّ عليه.
ولأنّ قوله : «متّصل بجملة» ينتقض بالاستثناء المفرّغ مثل : «ما قام إلّا زيد».
ولأنّ مدلول كلّ استثناء متّصل مراد بالأوّل.
وقيل : الاستثناء لفظ متّصل بجملة لا يستقلّ بنفسه ، دالّ على أنّ مدلوله غير مراد بما اتّصل به ، ليس بشرط ، ولا صفة ، ولا غاية.
ويرد مع ما تقدّم : «قام القوم إلّا زيدا».
وقيل : إخراج ب «إلّا» و «أخواتها».
وقيل (٣) : إخراج بعض الجملة من الجملة بلفظة «إلّا» وما يقوم مقامه.
__________________
(١) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٩٠.
(٢) الإحكام للآمدي : ٢ / ٣٩٠.
(٣) القائل هو سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي في التحصيل من المحصول : ١ / ٣٧٣ ومحمد بن الحسين الأرموي في الحاصل من المحصول : ١ / ٥٣٦.
والأقرب : أنّه إخراج بعض ما تناوله اللّفظ عن الإرادة بإحدى الصّيغ الموضوعة له في اللّغة.
المبحث الثاني : في شروطه
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في أنّ شرط الاستثناء الاتّصال
ذهب المحقّقون من الفقهاء والمتكلّمين إلى أنّ شرط الاستثناء اتّصاله بالمستثنى منه ، بحيث لا يتخلّل بينهما شيء يفصل بينهما عرفا ، واحترزنا بذلك عن النّفس والسعال وطول الكلام ، فإنّه لا يعدّ في العرف فاصلا.
ونقل عن ابن عباس صحّة الاستثناء المنفصل وإن طال الزمان شهرا. (١)
وقال بعض المالكيّة : يجوز تأخير الاستثناء ، لفظا ، لكن مع إضماره متّصلا بالمستثنى منه ، ويكون المتكلّم به مدينا فيما بينه وبين الله تعالى.
وقال بعض الفقهاء : يجوز المنفصل في كتاب الله تعالى دون غيره.
لنا وجوه :
الأوّل : لو جاز تأخير الاستثناء لما استقرّ شيء من العقود ، في الطلاق والعتاق والبيوع والإقرار ، ولا يتحقّق الحنث أصلا ، لجواز أن يرد عليه الاستثناء فيغيّر حكمه.
__________________
(١) لاحظ الإحكام للآمدي : ٢ / ٣٩١ ؛ والحاصل من المحصول : ١ / ٥٣٧.
الثاني : العرف قاض بإلغاء المنفصل ، فإنّ من قال لوكيله : بع ثوبي من أيّ شخص كان ، ثمّ قال في غد : إلّا من زيد ، فإنّه لا يجعل الاستثناء عائدا إلى ما تقدّم.
وكذا لو قال : «لفلان عليّ عشرة» ثمّ قال بعد شهر : إلّا درهما ، عدّ لاغيا.
وكذا لو قال : «رأيت زيدا» ثمّ قال بعد شهر : قائما ، فإنّهم لا يعدّون ذلك مخبرا عن زيد بشيء.
وكذا لو قال : «أكرم زيدا» ثمّ قال بعد شهر : إن دخل داري ، فإنّه لا يعدّ شرطا.
الثالث : روى المخالف أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه ، فليأت الّذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه» ولو كان الاستثناء المنفصل صحيحا ، لأرشد الله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إليه ، لكونه طريقا مخلصا للحالف عن الحنث ، وهو أسهل من التكفير ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما يقصد الأسهل والأيسر ، فحيث لم يرشد إليه دلّ على عدم صحّته. (١)
وفيه نظر ، لأنّا نمنع الحديث أوّلا ، وثانيا بأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أرشد إلى ما هو أكثر ثوابا.
احتجّ المخالف بوجوه :
الأوّل : يجوز تأخير النّسخ والتخصيص ، فكذا الاستثناء.
الثاني : روي أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «والله لأغزونّ قريشا» ثمّ سكت ، ثم قال بعده :
__________________
(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٩١.
«إن شاء الله تعالى» (١) ولو لا صحّة الاستثناء بعد السكوت ، لما فعله.
الثالث : ما روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه سألته اليهود عن عدّة أهل الكهف ، وعن مدّة لبثهم فيه ، فقال : «غدا أجيبكم» ولم يقل : «إن شاء الله تعالى» ، فتأخّر عنه الوحي بضعة عشر يوما ، ثمّ نزل عليه (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ)(٢) فقال : إن شاء الله ، بطريق الإلحاق بخبره الأوّل ، ولو لم يكن صحيحا ، لما فعله.
الرابع : ابن عبّاس كان من فصحاء العرب ، ويلقّب بترجمان القرآن ، وقد قال بصحّة [الاستثناء] المنفصل ، ولو كان باطلا لم يخف عنه ذلك.
الخامس : الاستثناء بيان وتخصيص للكلام الأوّل ، فجاز تأخيره ، كالأدلّة المنفصلة.
السادس : الاستثناء رافع لحكم اليمين ، فجاز تأخيره ، كالكفّارة.
والجواب عن الأوّل : المطالبة بالجامع ، والنقض بالشرط وخبر المبتدأ.
وعن الثاني : أنّ السكوت كان لعارض كنفس أو سعال.
وعن الثالث : أنّ قوله : «إن شاء الله» ليس عائدا إلى الخبر الأوّل إلى «أفعل ذكر الرّب» كما إذا قال لغيره : افعل كذا ، فقال إن شاء الله ، أي أفعله إن شاء الله.
__________________
(١) عوالي اللآلي : ٣ / ٤٤٣ ؛ سنن البيهقي : ١٠ / ٤٧ ـ ٤٨.
(٢) الكهف : ٢٣ ـ ٢٤ ، والقصة نقلها الطبرسي في المجمع في ذيل الآية ٩ و ٢٤ من سورة الكهف.
وعن الرابع : أنّ قول ابن عبّاس ، إن ثبت ، فمحمول على إضمار الاستثناء ، ويدين المكلّف في ذلك ، فيما بينه وبين الله تعالى ، وإن تأخّر الاستثناء لفظا ، أو على الاستثناء المأمور به ، وهو الاستثناء بالمشيئة إن قلنا بجواز تأخيرها.
وعن الخامس : أنّه قياس في اللّغة ، فلا يصحّ ، ثمّ ينقض (١) بالخبر والشرط ، كما سبق.
وعن السادس : بالفرق ، فإنّ الكفّارة رافعة ، لإثم الحنث ، لا لنفس الحنث ، والاستثناء مانع من الحنث وإثمه ، فما التقيا في الحكم حتّى يصحّ قياس أحدهما على الآخر ، كيف وإنّ الخلاف إنّما وقع في صحّة الاستثناء المنفصل من جهة اللّغة ، لا من جهة الشّرع ، ولا قياس في اللّغة.
المسألة الثانية : في الاستثناء المنفصل
قد عرفت أنّ الاستثناء قسمان : متّصل ومنفصل ، وكلاهما مستعمل إجماعا.
أمّا الأوّل ، فهو المتداول بين العقلاء في أكثر محاورات الاستثناء.
وأمّا الثاني ، فيدلّ عليه قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ)(٢) وغير ذلك ممّا يأتي.
__________________
(١) في «أ» : ينتقض.
(٢) الحجر : ٣٠ ـ ٣١.