نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

وقال أبو الحسين البصري : إنّه حقيقة في الأوّل ومجاز في الثاني (١).

وهو الحقّ عندي.

وقال القفّال (٢) من الشافعية : إنّه حقيقة في النقل والتحويل. (٣)

لنا وجوه :

الأوّل : المجاز أولى من الاشتراك على ما تقدّم ، وقد استعمل في هذين ، ولم يقل أحد : إنّه لقدر مشترك بينهما ، فيكون حقيقة في أحدهما ، وجعله حقيقة في الأوّل أولى ، لمشابهة الثاني له في الزوال عن الأوّل.

الثاني : إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم : «نسخت الكتاب» مجاز ، لأنّ ما في الكتاب لم ينقل حقيقة ، وإذا كان اسم النسخ مجازا في النقل ، كان حقيقة في الإزالة ، لعدم استعماله فيما سواهما ، وهو حجّة أبي الحسين. (٤)

وفيه نظر ، لأنّ المجاز هنا في النقل الّذي هو مرادف للنسخ ، ولا يلزم من كونه مجازا في هذه الصورة باعتبار مجازيّة النقل كونه مجازا في النقل.

ولأنّ النقل كما لم يتحقّق لما في الكتاب ، كذا لا تتحقّق الإزالة ، فلو منع من كونه في النقل حقيقة ، منع من كونه في الإزالة حقيقة.

نعم أنّه يبطل الاستدلال بهذا المثال على كونه حقيقة في النّقل.

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٣٦٤.

(٢) تقدّمت ترجمته ص ٨٥.

(٣) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٣ / ٧١.

(٤) المعتمد : ١ / ٣٦٤.

٥٨١

واعترض (١) أيضا : بأنّ إطلاق اسم النسخ في الكتاب إن كان حقيقة ، بطل كلامكم ، وإن كان مجازا ، امتنع أن يكون التجوّز مستعارا من الإزالة لأنّه غير مزال ، ولا يشبه الإزالة.

فلا بدّ من استعارته من [معنى] آخر ، وليس الّا النّقل ، فكان مستعارا منه ، ووجه استعارته منه : أنّ تحصيل مثل ما في المنسوخ في المنقول إليه ، يجري مجرى نقله وتحويله ، فكان منه بسبب من أسباب التجوّز ، وإذا كان مستعارا من النقل ، كان اسم النسخ حقيقة في النقل ، لأنّ المجاز لا يتجوّز به في غيره بإجماع أهل اللغة.

سلّمنا أنّه مجاز في نسخ الكتاب ، لكنّه ليس مجازا في نسخ المواريث وغيرها. (٢)

الثالث : يطلق على الإزالة اسم النّسخ ، كما تقدّم ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، وإذا كان حقيقة في الإزالة ، لم يكن حقيقة في النقل ، دفعا للاشتراك.

اعترض (٣) : بأنّ وصف الريح بأنّها ناسخة ، وكذا الشّمس ، مجاز ، لأنّ المزيل هو الله تعالى ، وإذا كان مجازا ، امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله.

وبالمعارضة بأنّ النسخ قد أطلق على النقل والتحويل ، والأصل الحقيقة ، فلا يكون حقيقة في غيره ، دفعا للاشتراك.

__________________

(١) المعترض هو الآمدي.

(٢) الإحكام : ٣ / ٧١.

(٣) نقله الرازي ولم يسمّ قائله. لاحظ المحصول : ١ / ٥٢٥.

٥٨٢

والجواب عن الأوّل من وجهين :

الأوّل : لا يمنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث إنّه فعل السّبب المؤثّر ، وهو الشمس والريح المؤثّرين في تلك الإزالة ، ويكونان أيضا ناسخين ، لاختصاصهما بذلك التأثير.

الثاني : أهل اللّغة إنّما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشّمس والريح ، ونحن إنّما تمسّكنا بإطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة ، لا بإسنادهم إلى غير الله تعالى.

وعن الثاني : النّقل أخصّ من الزوال ، لأنّ وجود النقل يستلزم عدم صفة ، وحصول أخرى عقيبهما ، فإذن مطلق العدم أعمّ من عدم يحصل عقيبه شيء آخر ، وإذا دار اللّفظ بين العامّ والخاصّ ، كان جعله حقيقة في العامّ أولى. (١)

واعترض : بمنع كون الإزالة أعمّ ، لأنّ النقل كما استلزم إعدام صفة وتجدّد أخرى ، كذا الإزالة لأنّها [هي] الإعدام ، (٢) وهو يستلزم زوال صفة الوجود وتجدّد صفة العدم ، وهما [صفتان] متقابلتان ، مهما انتفت إحداهما تحقّقت الأخرى ، وإذا تساويا عموما وخصوصاً ، فلا أولويّة.

وبالجملة فالبحث في ذلك راجع إلى اللّغة.

__________________

(١) الاستدلال مذكور في الإحكام للآمدي ، ثمّ اعترض عليه كما سيوافيك.

(٢) في «ج» : لأنّها للإعدام.

٥٨٣

المبحث الثاني : في حدّه

اختلف الناس في حدّه ، فقال القاضي أبو بكر (١) ، وارتضاه الغزّالي (٢) : إنّه الخطاب الدالّ على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدّم ، على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.

فقولنا : «الخطاب» يشتمل اللّفظ والفحوى والمفهوم ، ويجوز النسخ بجميع ذلك ، فهو أولى من قولنا : «النصّ».

وقولنا : «على ارتفاع الحكم» لتناول الأمر والنّهي والخبر.

وقولنا : «بالخطاب المتقدّم» ليخرج ابتداء الأحكام ، لأنّ ابتداء إيجاب العبادات في الشرع ، يزيل حكم العقل من براء الذّمة ، ولا يسمّى نسخا ، لأنّه لم يزل حكم خطاب.

وقلنا : «لولاه لكان ثابتا» لأنّ حقيقة النسخ هو الرفع ، وإنّما يكون رافعا ، لو كان المتقدّم بحيث لو لا طريانه لبقي.

وقلنا : «مع تراخيه عنه» لأنّه لو اتّصل به ، كان بيانا ، لا نسخا.

واعترض (٣) من وجوه :

الأوّل : الخطاب الدالّ على الارتفاع ناسخ للحكم ، لا نسخ له ، فإنّ النسخ

__________________

(١) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٣ / ٧٣ ؛ والرازي في محصوله : ١ / ٥٢٦.

(٢) المستصفى : ١ / ٢٠٧.

(٣) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٧٣ ؛ والرازي في محصوله : ١ / ٥٢٧.

٥٨٤

هو الارتفاع لا ما به الارتفاع ، أعني الرافع ، وبينهما فرق.

وقد اجيب (١) : بأنّ النسخ هو الرفع الّذي هو الفعل ، لا الارتفاع الّذي هو الانفعال ، والرفع هو الخطاب الدالّ على الارتفاع ، لأنّ الرفع الّذي هو الفعل صفة الرافع ، وذلك هو الخطاب.

وفيه نظر ، فإنّ الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى ، واللّفظ دليل عليه ، والنسخ مغاير للفظ الّذي أسند إليه النسخ مجازا.

الثاني : الناسخ قد يكون فعلا ، كما إذا فعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلا ، وعلمنا بالضّرورة أنّه قصد به رفع ما كان ثابتا ، فإنّه نسخ وليس بخطاب.

لا يقال : الناسخ في الحقيقة هو الخطاب الدالّ على وجوب متابعته في فعله.

لأنّا نقول : لو لم يوجد لفظ دالّ على وجوب المتابعة ، ثمّ فعل ، ووجدت قرائن تفيد العلم بأنّ غرضه إزالة الحكم الّذي كان ثابتا ، فإنّه يكون نسخا إجماعا ، مع انتفاء الخطاب في هذه الصورة.

وأجيب : بأنّ فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس ناسخا لانّه مبلّغ عنه تعالى ، ففعله دليل على الخطاب الدالّ على نسخ الحكم ، لا أنّ نفس الفعل هو الدالّ على الارتفاع. (٢)

وفيه نظر ، فإنّا نسمّي الناسخ كلّ خطاب رفع حكما ، إمّا بالذات أو بالتبعيّة ، ولهذا يجوز نسخ السنّة بالسنّة وبالكتاب ، وبالعكس.

__________________

(١) المجيب هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٧٤.

(٢) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ٧٤.

٥٨٥

الثالث : إذا اختلف الأمّة على قولين ، سوّغت للعامّي الأخذ بأيّهما شاء ، فإذا أجمعت بعد ذلك على أحد القولين ، حرم تقليد الآخر فهذا الإجماع الثاني خطاب نسخ جواز الأخذ بأيّهما كان ، مع أنّ الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به.

ويمكن الجواب : بأنّ ما ذكرناه حدّ مطلق النسخ ، لا الجائز شرعا.

وأجيب (١) : بأنّ الحكم غير مستند إلى قول أهل الإجماع ، بل إلى الدّليل السمعيّ الموجب لإجماعهم على ذلك الحكم.

ويضعّف بما تقدّم.

الرابع : كون النسخ رفعا باطل ، على ما يأتي ، فلا يجوز أخذه في الحدّ.

الخامس : قوله : «بالخطاب المتقدّم» خطأ ، لأنّ المرتفع لو ثبت بفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكان رافعه ناسخا.

السادس : قوله : «متراخ عنه» زيادة مستغنى عنها ، فإن قوله : «على وجه لولاه لكان ثابتا» يغني عنه ، لأنّ ذكر التراخي (٢) إنّما وقع احترازا عن الخطاب المتّصل ، كالاستثناء ، والشرط ، والغاية ، وفي الحدّ ما يدفع النقض بذلك ، وهو : ارتفاع الحكم ، والخطاب المتّصل بالخطاب الأوّل في هذه الصّور ، ليس رافعا لحكم الخطاب المتقدّم في الذّكر ، بل هو مبيّن أنّ الخطاب المتقدّم لم يرد الحكم

__________________

(١) المجيب هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٧٤.

(٢) في «أ» : المتراخي.

٥٨٦

فيما استثنى ، وفيما خرج عن الشرط ، والغاية ، والتقيد بالرفع يدفع النقض بالخطاب الوارد بما يخالف حكم الخطاب المتقدّم إذا كان حكمه موقّتا ، من حيث إنّ الخطاب الثاني لا يدلّ على ارتفاع حكم الخطاب الأوّل ، لانتهائه بانتهاء وقته.

وقال الجويني : النسخ اللّفظ الدالّ على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأوّل. (١)

ويضعّف بأنّ اللّفظ دليل النسخ لا نفسه ، ولا يطّرد فإنّ لفظ «العدل نسخ حكم كذا» ، ليس بنسخ (٢) ، ولا ينعكس ، لأنّه قد يكون بفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ حاصله : اللّفظ الدالّ على النسخ ، لأنّه فسّر الشرط بانتفاء النسخ ، وانتفاء انتفائه حصوله.

وقالت الفقهاء : إنّه النّصّ الدالّ على انتهاء مدّة الحكم الشرعيّ مع التأخّر عن مورده. (٣)

ويردّ بما تقدّم ، من أنّ النصّ دليله وعدم الاطّراد والانعكاس ، كما سبق.

واعلم أنّ القائلين بأنّ النسخ ليس هو الرفع بل ما دلّ عليه ، إن هربوا من الرفع ، لكون الحكم قديما ، والتعلّق قديما ، فانتهاء أمد الوجوب ينافي بقاءه

__________________

(١) الموجود في البرهان للجويني هو : أنّ النسخ هو اللّفظ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعيّ ، مع التأخير عن مورده. البرهان : ٢ / ٨٤٢ والمضمون واحد.

(٢) الكاشف عن المحصول : ٥ / ٢١٦.

(٣) لاحظ منتهى الوصول والأمل لابن الحاجب : ١٥٨.

٥٨٧

عليه ، وهو معنى الرفع ، وإن هربوا لأنّه لا يرتفع التعلّق بالمستقبل ، لزمهم منع النسخ قبل الفعل ، كما هو مذهب المعتزلة.

وإن كان لأنّه بيان أمد التعلّق بالمستقبل المظنون استمراره ، فلا بدّ من زواله.

وقالت المعتزلة : «النسخ اللّفظ الدالّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنصّ المتقدّم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا».

ويرد ما تقدّم على حدّ القاضي ، والمقيّد بمرّة واحدة مدّة العمر ، ثمّ ينسخ ، فإنّ اللّفظ الدالّ عليه ، لا يكون دالّا على أنّ مثل الحكم الثابت بالخطاب المتقدّم زائل على وجه لولاه لكان المثل ثابتا ، لأنّه يكون هو بعينه ثابتا لا مثله.

وقال قوم : «النسخ إزالة الحكم بعد استقراره».

واعترضه أبو الحسين : بأنّ استقرار الحكم هو كونه مرادا ، فإزالته بعينه بلاء (١).

وقيل : «إنّه إزالة مثل الحكم بعد استقراره» وهذا يلزم عليه أن يكون متى زال الحكم بالعجز ، أن يكون زواله نسخا.

وقيل : «إنّه نقل الحكم إلى خلافه» ويلزم أن يكون نقل الحكم إلى خلافه بالشرط ، والغاية ، والعجز نسخا.

والأولى : أنّ النسخ هو : رفع الحكم الشرعيّ بطريق شرعيّ متأخّر ،

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٣٦٧.

٥٨٨

فخرج (١) المباح بالأصل ، والرفع بالنوم والغفلة ، لأنّه الرفع بالعقل ، والحكم المقيّد بوقت ، مثل : صلّ إلى وقت كذا ، والمخصّصات المتّصلة كالشروط ، والاستثناء.

واعترض : بأنّ الحكم خطابه تعالى وهو قديم ، فلا يصحّ رفعه.

والجواب : أنّه غير وارد علينا ، لأنّ الحكم عندنا حادث.

واعتذر بعض الأشاعرة : بأنّ المراد بالحكم هنا ما يحصل على العبد بعد أن لم يكن ، وهو تعلّق الخطاب بأفعال المكلّفين تعلّق التخيير ، لا التعلّق المعنويّ ، ولهذا فإنّ الوجوب المشروط بالعقل غير ثابت عند انتفائه ، ولا شكّ في أنّ العقل حادث ، فيكون الوجوب حادثا.

ولأنّا نقطع بأنّه إذا ثبت تحريم شيء بعد أن كان واجبا ، انتفى ذلك الوجوب ، وهو المعنيّ من الرفع ، بعد أن نعلم أنّ رفع الخطاب المتعلّق إنّما يكون برفع تعلّق الخطاب ، لا برفع نفس الخطاب. (٢)

وفيه نظر ، فإنّ الحكم لا يعقل إلّا متعلّقا ، فحدوث التعلّق الّذي هو لازم ، يستدعي حدوث ملزومه.

__________________

(١) أخرج ثلاثة :

١. المباح بالأصل.

٢. الرفع بالنوم والغفلة.

٣. الحكم المقيّد في لسان الدليل سواء كان القيد ، هو الوقت أو أمرا آخر كالشرط والاستثناء.

(٢) لاحظ الكاشف عن المحصول : ٥ / ٢١٧.

٥٨٩

المبحث الثالث : في أنّ النسخ رفع أو بيان

ذهب القاضي أبو بكر إلى أنّ النسخ رفع ، وعنى بذلك أنّ خطابه تعالى تعلّق بالفعل بحيث لو لا طريان الناسخ ، لبقي حكمه ، لكن زال بطريان الناسخ. (١)

وقال الاستاذ أبو اسحاق (٢) : إنّه بيان انتهاء مدّة الحكم ، على معنى أنّ الخطاب الأوّل انتهى بذاته في ذلك الوقت ، وحصل بعده حكم آخر ، لا تأثير له في زوال الأوّل. (٣)

احتجّ القاضي : بأنّ النسخ لغة الإزالة ، فيكون في الشرع كذلك ، لأصالة عدم التغيير.

وأيضا ، الخطاب قد كان متعلّقا بالفعل ، وذلك التعلّق إن عدم لذاته ، استحال وجوده ، فلا بدّ من مزيل ، وليس إلّا الناسخ.

اعترض (٤) : بأنّ التمسّك بالألفاظ ، لا يعارض الأدلة العقليّة ، وكلام الله تعالى عنده قديم ، كان متعلّقا من الأزل إلى الأبد باقتضاء الفعل إلى وقت النسخ ، والمشروط يعدم بعدم شرطه ، فلا يفتقر في زواله إلى مزيل آخر.

__________________

(١) نقله عنه الرّازي في محصوله : ١ / ٥٢٨.

(٢) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٥١.

(٣) نقله عنه الرّازي في محصوله : ١ / ٥٢٨ ـ ٥٢٩.

(٤) المعترض هو الرّازي في محصوله : ١ / ٥٣٢.

٥٩٠

واحتج أبو اسحاق بوجوه :

الأوّل : الناسخ طارئ متضادّ للمنسوخ المتقدّم ، وليس زوال الباقي بطريان الحادث أولى من ارتفاع الطارئ ، لأجل بقاء الباقي ، ويستحيل وجودهما معا ، وكذا عدمهما ، أو سبب عدم كلّ واحد وجود صاحبه ، فلو عدما معا لوجدا معا ، وهو باطل بالضرورة.

لا يقال : الحادث أقوى من الباقي ، لكونه متعلّق السّبب ، بخلاف الباقي ، لاستغنائه عن السبب ، وإلّا لزم تحصيل الحاصل أو خلاف الغرض.

ولأنّ الحادث ، جاز أن يكون أكثر من الباقي.

ولأنّ عدم الطارئ بالباقي ، يستلزم الجمع بين النقيضين ، وهو وجود الطارئ وعدمه دفعة.

لأنّا نقول : كما أنّ الحادث متعلّق السبب ، فكذا الباقي ، لإمكانه وهو المحوج إلى العلّة ، فوجوده يستدعي وجود علّة الحاجة ، والتأثير في التبعيّة ، وهي حادثة يحتاج الباقي إليها.

وأيضا ، الباقي إمّا أن يحصل له حالة البقاء أمر زائد على ما كان حاصلا له حالة الحدوث أو لا.

فإن كان الأوّل ، كان ذلك الزائد حادثا ، فهو لحدوثه يساوي الضدّ الطارئ في القوّة ، وإذا استويا امتنع الترجيح من غير مرجّح ، وإذا امتنع عدم كيفيّة الباقي ، امتنع عدمه قطعا.

٥٩١

وإن كان الثاني ، وهو : أن لا يحصل [أمر] زائد ، كانت قوّته حالة البقاء مساوية لقوّة الحادث ، فيمتنع الرجحان. (١)

وفيه نظر ، لجواز تجدّد الضعيف ، ويمنع اجتماع الأمثال ، ونحن لا نقول : الطارئ يوجد ويعدم حالة وجوده ، بل الباقي يمنعه من الدخول في الوجود.

واعترض (٢) بمنع عدم الأولويّة ، إذ العلة التامّة لعدم الشيء ، تنافي وجوده وبالعكس ، ولو لا الأولويّة لامتنع حدوث العلّة التامّة لعدم الشيء ولا لوجوده.

وفيه نظر ، فإنّ أبا اسحاق إنّما حكم بعدم الرفع ، لأنّ التنافي حاصل من الطّرفين ، فليس تعليل أحدهما بالآخر أولى من العكس ، نظرا إلى التنافي ، ولا دليل غيره ، للأصل ، فامتنع الحكم بالرفع.

الثاني : طريان الحكم الطارئ مشروط بزوال المتقدّم ، فلو كان زوال المتقدّم معلّلا بطريان الطارئ ، لزم الدور.

اعترض (٣) : بمنع أنّه مشروط ، ولا يلزم من منافاة الشيء لغيره كون وجوده مشروطا بزواله ، كالعلّة مع عدم المعلول.

وفيه نظر ، فإنّا لم نستدلّ بالمنافاة على كون الطارئ مشروطا بزوال

__________________

(١) الاستدلال للرّازي في محصوله : ١ / ٥٢٩.

(٢) المعترض هو سراج الدّين الأرموي في التحصيل من المحصول : ٢ / ١٠.

(٣) المعترض هو أبو عبد الله محمد بن محمود العجلي الأصفهاني في الكاشف عن المحصول : ٥ / ٢٢٧.

٥٩٢

المتقدّم ، بل الطارئ مشروط بمحلّ يطرأ عليه ، وليس كلّ محلّ صالحا لأن يحلّ فيه كلّ عرض، بل لا بدّ في كلّ عرض من محلّ خاصّ به ، قابل له ، وإنّما يكون قابلا لو خلا عن المقابل له ، فمن هذه الحيثيّة شرطنا في الطارئ زوال السابق ، والمعترض توهّم الاشتراط بمجرّد المنافاة ، ولم يتفطّن الوجه فيه.

الثالث : حدوث الطارئ إن كان حال كون الأوّل معدوما ، لم يؤثّر في عدمه ، لاستحالة إعدام المعدوم ، وإن كان حال كونه موجودا ، اجتمعا في الوجود ، فلا يتنافيان ، فلا يرفع أحدهما الآخر.

وليس ذلك كالكسر مع الانكسار ، لأنّ الانكسار عبارة عن زوال تلك التأليفات عن أجزاء الجسم ، والتأليفات أعراض غير باقية ، فلا يكون للكسر أثر في إزالتها.

اعترض (١) : بأنّ إثبات العدم ليس إعدام المعدوم ، كما أنّ إثبات الوجود ليس إيجاد الموجود على (٢) معنى اختيار القسم الأوّل ، وهو أن يوجد مع عدمه ، ولا يلزم من ذلك إعدام المعدوم ، وانّما يلزم لو لم يكن هو المعدوم ، أمّا إذا كان هو المعدوم ، والعدم المثبت للعدم ، كما أنّ الموجد هو المثبت للوجود ، فلا يلزم إعدام المعدوم.

والتحقيق أن نقول : إن عنيت المعيّة الذاتيّة لم تكن حدوث الطارئ حالة عدم الزائل ، ولا يلزم الاجتماع في الوجود.

__________________

(١) المعترض هو سراج الدّين الأرموي في التحصيل من المحصول : ٢ / ١٠.

(٢) في «أ» : وعلى.

٥٩٣

وإن عنيت الزمانيّة لم يلزم انتفاء التأثير كالعلّة مع المعلول.

الرابع : كلامه قديم ، فلا يجوز رفعه.

والاعتذار بأنّ المرفوع تعلّق الخطاب ، باطل ، لأنّه إن لم يكن ثبوتيّا ، استحال رفعه وإزالته ، وإن كان ثبوتيّا ، فإن كان حادثا كان محلّا للحوادث ، وإن كان قديما لزم عدم القديم. (١)

وفيه نظر ، لأنّ المرفوع لا يجب أن يكون ثبوتيّا.

واعترض (٢) أيضا : بأنّ حدوث التعلّق لا يوجب كون الباري محلّا للحوادث.

وفيه نظر ، فإنّ التعلّق صفة للحكم ، فيقوم به لا بغيره ، والحكم صفة لله تعالى (٣) عندهم ، فيقوم به ، والقائم بالقائم بالشيء قائم بذلك الشيء.

وهذه الوجوه أقوى لزوما للقاضي من غيره ، لأنّه هو الّذي عوّل عليها في امتناع إعدام الضدّ بالضدّ ، والقول بكون النسخ رفعا ، هو نفس القول بالإعدام بالضدّ.

الخامس : علمه تعالى إن تعلّق باستمرار الحكم أبدا ، استحال نسخه ، وإلّا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وإن تعلّق باستمراره إلى الوقت المعيّن ، بطل القول بالرفع ، لأنّه تعالى علم عدم بقائه إلّا إلى ذلك الوقت ، فيستحيل وجوده

__________________

(١) الاستدلال للرّازي في محصوله : ١ / ٥٣٠.

(٢) المعترض هو سراج الدّين الأرموي في التحصيل من المحصول : ٢ / ١٠.

(٣) في «ب» و «ج» : صفة الله تعالى.

٥٩٤

بعده ، لاستحالة انقلاب علمه ، وإذا كان ممتنع الوجود بعد ذلك ، استحال أن يقع [زواله] بمزيل ، لأنّ الواجب لذاته ، يمتنع أن يكون واجبا لغيره ، وهذه حجّة الجويني. (١)

واعترض (٢) بجواز أن يتعلّق علمه تعالى بعدم بقاء الحكم إلّا إلى ذلك الوقت ، لطريان الناسخ ، وإذا علم زواله بالناسخ ، لم يقدح في تعليل زواله بالناسخ ، كما أنّه تعالى علم بوجود العالم وقت وجوده ، فيجب وجوده ، ولا يقدح الوجوب في افتقاره إلى المؤثّر ، لأنّه علم أنّه يوجد في ذلك الوقت بذلك المؤثّر.

المبحث الرابع : في الفرق بين النسخ والبداء

البداء هو الظهور يقال : بدا لنا سور القرية : إذا ظهر بعد خفائه ، وليس الأمر والنهي عن البداء بسبيل ، لكنّهما قد يدلّان عليه ، وذلك بأن يتّحد الأمر والنهي في جميع ما يتعلّقان به ، فيكون الأمر واحدا ، وكذا المأمور به والزمان والوجه.

ولمّا كان النسخ يتضمّن الأمر بما نهي عنه ، والنّهي بما أمر به ، وحصل الوهم لبعض الناس بأنّ المصلحة والمفسدة لازمان ، لا يتعاقبان على فعل واحد ، ظنّ أنّ الأمر بعد النهي وبالعكس ، إنّما يكون لخفاء المصلحة أوّلا وظهورها ثانيا.

ولمّا خفي الفرق بين النسخ والبداء على بعض اليهود ، منعوا من النسخ ،

__________________

(١) البرهان : ٢ / ٨٤٤ ـ ٨٤٥.

(٢) المعترض هو الرّازي في محصوله : ١ / ٥٣١.

٥٩٥

كما امتنع البداء عليه تعالى ، والفرق ظاهر ، فإنّ شرائط البداء (١) إذا اختلّ بعضها انتفى البداء ، دون النّسخ.

__________________

(١) شرائط البداء ما مرّ في كلامه أعني «بأن يتّحد الأمر والنّهي الخ» توضيحه : أنّ لتحقّق البداء شروطا أربعة:

١. أن يكون الفعل المأمور به واحدا.

٢. أن يكون المكلّف واحدا.

٣. أن يكون الوجه واحدا.

٤. أن يكون الوقت واحدا.

لاحظ الذريعة للسيّد المرتضى : ١ / ٤٢١.

الفرق بين البداء والنسخ أن الأوّل يستعمل في التكوين والآخر في التشريع. والتفريق بينهما والقول بجواز الثاني دون الأوّل نابع عن عدم التصوّر الصحيح للبداء الّذي هو من صميم عقيدة الشيعة الإماميّة.

إنّ البداء عبارة عن تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة ، وهذا يستمدّ صحّته من قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١].

وقد تضافرت الروايات على أن الصدقة وبرّ الوالدين يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء. [الدر المنثور : ٤ / ٦٦].

وأمّا استخدام هذا اللفظ في هذه المسألة فقد جاء تبعا للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى البخاري في صحيحه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في شأن ثلاثة أشخاص ؛ أبرص وأقرع وأعمى : «بدا لله عزوجل أن يبتليهم» [صحيح البخاري : ٤ / ١٧٢]. ومن المعلوم أن هذا النوع من الاستعمال من قبيل المشاكلة والتحدث بلسان القوم حتّى يفقهوا ويفهموا الموضوع ، وإلّا فالله سبحانه أجلّ من أن يكون له الظهور بعد الخفاء.

وبذلك يعلم أن العجاجة الّتي أثارها الآمدي في إحكامه [٣ / ٧٦] ، في هذا المورد ، واستخدامه في بيان هذه المسألة العلميّة عبارات مشينة ، نابعة عن عدم معرفته بحقيقة البداء عند القائلين به ، ولو تدبّر لعلم أن البداء من المسائل الّتي اتّفق عليها المسلمون لبّا ، وإن تحاشى البعض عن استخدام لفظ البداء.

٥٩٦

والنسخ جائز على الله تعالى ، لأنّ حكمه تابع للمصالح ، وهي ممّا يتغيّر بتغيّر الأزمان ، والأشخاص ، والأحوال ، فيتغيّر الحكم حينئذ ، وهو معنى النسخ.

والبداء لا يجوز عليه ، لأنّ أمره ونهيه إذا اتّحد متعلّقهما من كلّ وجه ، دلّ على الجهل ، أو على فعل القبيح ، وهما محالان في حقّه تعالى.

المبحث الخامس : في الفرق بين التخصيص والنسخ

النسخ والتخصيص مشتركان في أنّ كلّ واحد منهما مخصّص للحكم ببعض ما تناوله اللّفظ لغة ، إلّا أنّ بينهما فرقا ، وقد ذكروا الفرق بينهما من وجوه عشرة. (١)

الأوّل : التخصيص يبيّن أنّ الخارج به عن العموم لم يرد المتكلّم بلفظه الدلالة عليه ، والنسخ يبيّن أنّ الخارج به لم يرد التّكليف به ، وإن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه.

وفيه نظر ، لما تقدّم ، من قبح الخطاب بدون ذكر ما يدلّ على نسخه إجمالا أو تفصيلا.

الثاني : التخصيص لا يرد على الأمر بمأمور واحد ، والنسخ قد يرد على الأمر بمأمور واحد.

__________________

(١) هذه الفروق ذكرها الآمدي في الإحكام : ٣ / ٧٧ ، وتنظّر المصنّف في بعضها.

٥٩٧

وفيه نظر ، لمنع ورود النسخ في الواحد.

الثالث : النسخ لا يكون في نفس الأمر إلّا بخطاب من الشارع ، بخلاف التخصيص الجائز بالقياس وغيره من الأدلة السمعيّة.

الرابع : الناسخ لا بدّ وأن يكون متراخيا عن المنسوخ ، بخلاف المخصّص ، فإنّه يجوز أن يتقدّم العامّ وأن يقارنه وأن يتأخّر عنه.

الخامس : التخصيص لا يخرج العامّ عن الاحتجاج به مطلقا في مستقبل الزمان ، لأنّه يبقى معمولا به فيما عدا صورة التخصيص ، بخلاف النّسخ ، فإنّه قد يخرج الدّليل المنسوخ حكمه عن العمل به في مستقبل الزمان بالكليّة ، عند ما إذا ورد النسخ على الأمر بمأمور واحد.

وفيه ما تقدّم من النظر.

السادس : يجوز التخصيص بالقياس ، ولا يجوز النّسخ به ، وهو راجع إلى ما تقدّم.

السابع : النسخ رفع الحكم بعد ثبوته ، بخلاف التخصيص.

الثامن : يجوز نسخ شريعة بشريعة ، ولا يجوز تخصيص شريعة بأخرى.

التاسع : العامّ يجوز نسخه حتى لا يبقى منه شيء ، بخلاف التّخصيص.

العاشر : التخصيص أعمّ من النّسخ ، فإنّ النّسخ تخصيص الحكم ببعض الأزمان ، والتخصيص قد يكون بإخراج بعض الأزمان ، وقد يكون بإخراج بعض الأعيان وبعض الأحوال.

٥٩٨

واعترض (١) بأنّ ما ذكر من صفات التخصيص الفارقة بينه وبين النسخ إن ثبت دخولها في مفهوم التخصيص ، أو كانت لازمة خارجة لا وجود لها في النسخ ، فلا يكون التخصيص أعمّ من النسخ ، لوجوب صدق الأعمّ مع جميع صفاته اللازمة لذاته على الأخصّ ، وذلك ممّا لا يصدق على النسخ تحقيقا ، وإلّا فلقائل أن يقول : ما ذكر من الصفات الفارقة بين النسخ والتخصيص ، إنّما هي فروق بين أنواع التخصيص ، وليست من لوازم مفهوم التخصيص ، بل التخصيص أعمّ من النسخ ، ومن جميع الصّور المذكورة.

__________________

(١) الآمدي في الإحكام اعترض على الفرق العاشر الّذي قال به بعض المعتزلة. لاحظ الإحكام : ٣ / ٧٨.

٥٩٩

الفصل الثاني :

في جواز النسخ

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في شرائط النسخ

شرائط النسخ قسمان :

منها : ما هو متّفق عليه.

ومنها : ما هو مختلف فيه.

وعلى كلا التقديرين ، فإمّا أن يكون لوصف النسخ نسخا ، أو لصحّته ، أو لحسنه.

أمّا شرائط الوصف : فإن يكون الحكمان : الناسخ والمنسوخ شرعيّين ، فإنّ العجز يزيل التعبّد الشّرعيّ ، والشرع يزيل حكم العقل ، ولا توصف هاتان الإزالتان بأنّهما نسخ.

وأن يكون الناسخ منفصلا من المنسوخ إمّا في الجملة أو التفصيل ، فإنّ المتصل كالغاية لا يكون ناسخا ، بل المنفصل إمّا اجمالا أو تفصيلا ، كقوله تعالى :

٦٠٠