نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

المسائل الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة ، التمسّك بدليل العقل فيها ، فإنّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها. (١)

تقسيم الأدلّة إلى اجتهادية وأصول عملية

تقسيم الأدلّة إلى اجتهادية وأصول عملية من خصائص الفقه الشيعي ، وأمّا الفرق بينهما فهو كالتالي :

وهو انّه لو كان الملاك في اعتبار شيء حجّة على الحكم الشرعي هو كونه أمارة للواقع وطريقا إليه عند المعتبر فهو دليل اجتهادي كالأدلّة الأربعة. فإنّ الملاك في حجّيتها هو ما ذكرنا ، فإنّ كلّا من الكتاب والسنّة حتّى الخبر الواحد منها طريق إلى الواقع وكاشف عنه إما كشفا تاما كما إذا أفاد القطع ، أو كشفا غير تام كما في خبر العدل ، وعلى كلّ تقدير فالملاك لاعتباره حجّة هو كاشفيته عن الواقع.

وأمّا إذا كان الملاك بيان الوظيفة ووضع حلول عملية للمكلّفين عند قصور يد المجتهد عن الواقع فهو أصل عملي ، فالملاك لاعتبار هذا القسم من الأدلّة هو رفع التحيّر وإراءة الوظيفة عند اليأس عن العثور على دليل موصل للواقع ، ولذلك أخذ في لسان حجّيتهم الجهل بالواقع وعدم توفر طريق في

__________________

(١) السرائر : ١ / ٤٦.

٢١

متناوله. وهذه الأصول العامّة الّتي تجري في عامّة أبواب الفقه لا تتجاوز الأربعة ، وهي :

١. أصالة البراءة.

٢. أصالة الاشتغال.

٣. أصالة التخيير.

٤. أصالة الاستصحاب.

ولكلّ منها مجرى خاص :

أمّا الأولى : فمجراها هو الشكّ في التكليف ، فإذا كان المجتهد شاكّا في أصل الوجوب أو الحرمة ، وتفحّص عن مظانّ الأدلة ولم يقف على دليل وحجّة على الحكم الشرعي ، فوظيفته الحكم بالبراءة عن التكليف. كما إذا شكّ مثلا في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا أو ما أشبهه ذلك ، والأصل له رصيد قطعي وهو :

أ. قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن أمّتي تسعة ... وما لا يعلمون.

ب. حكم العقل بقبح عقاب الحكيم دون بيان واصل.

وأمّا الثانية : فمجراها فيما إذا علم بالحكم الشرعي ولكن تردّد الواجب أو الحرام بين أمرين ، فيجب عليه الجمع بين الاحتمالين بالإتيان بهما عند تردّد الواجب ، والاجتناب عنهما عند تردّد الحرام.

مثلا إذا علم بفوت صلاة مردّدة بين المغرب والعشاء يجب عليه الجمع بينهما ، أو إذا علم نجاسة أحد الإنائين من غير تعيين يجب الاجتناب عن كليهما.

٢٢

وأمّا الثالثة : إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة ولم يقف على دليل شرعي يوصله إلى الواقع ، فالوظيفة العملية هي التخيير.

وأمّا الرابعة : وهو ما إذا علم بوجوب شيء أو بطهارته لكن شك في بقاء الحكم أو بقاء الموضوع وتفحّص ولم يقف على بقائه أو زواله ، فالمرجع هو الأخذ بالحالة السابقة أخذا بقول الإمام الصادق عليه‌السلام «لا ينقض اليقين بالشك».

هذه هي الأصول العملية الأربعة الّتي استنبطها المجتهدون من الكتاب والسنّة ، وليس لها دور إلّا عند فقد النص على الحكم الشرعي ، ولكلّ مجرى خاصّ وليس الملاك في اعتبارها كونها كاشفة عن الواقع بل كونها مرجعا للوظيفة الفعلية.

تقسيم الأصول إلى محرز وغير محرز

إنّ الأصول العملية تنقسم إلى : أصول محرزة. وأصول غير محرزة ، والمراد من الإحراز ، هو إحراز الواقع والكشف عنه ، وذلك لأنّ بعض الأصول فيه جهة كشف عن الواقع ، كشفا ضعيفا ، لكن العقلاء لا يعتبرون في معاملاتهم وسياساتهم كونه حجّة لهذه الجهة ، بل الملاك لاعتباره هو تسهيل الأمر في الحياة ووضع حلول عملية في ظرف الجهل والشكّ ، كما أنّ الشارع الّذي أمضاه واعتبره حجّة في الفقه ، لم يعتبره لهذه الغاية حتى يكون أمارة عقلانية كخبر الثقة.

ومثّلوا لذلك بالأصول العملية الثلاثة :

١. الاستصحاب.

٢٣

٢. قاعدة اليد.

٣. قاعدة التجاوز.

فالأوّل منها أصل عام يجري في عامّة أبواب الفقه ، بخلاف الأخيرين فإنّهما خاصان ببعض الأبواب.

وما سوى ذلك أصل غير محرز كأصالة البراءة والاشتغال والتخيير.

هذه هي أدلّة الأحكام عند الشيعة الإمامية ، فهلمّ معي ندرس ما ذكره الأستاذ حول أدلّة الأحكام عند الشيعة لنرى فيه مواقع الخطأ والالتباس على ضوء الدراسة الصحيحة لأصول الفقه عند الإمامية.

١. مسلك الشيعة هو مسلك الغزالي

يقول الأستاذ : جعلت الشيعة أدلّة الأحكام المعتمدة أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، ثم قال : ولا يخفى على الدارس أنّ هذا هو مسلك الإمام الغزالي في باب الأدلّة. (١)

يلاحظ عليه : لا نظن أنّ الأستاذ يتّهم الشيعة بمتابعتهم الغزالي في حجّية الكتاب والسنّة ، فإنّ المسلمين قاطبة يقولون بذلك. وإنّما مظنّة التهمة قولهم بحجّية العقل.

فنقول : هناك فرق واضح بين المسلكين : الإمامي والغزّالي ، فإنّ الأوّل يعتمد على التحسين والتقبيح العقليين ، والغزّالي تبعا لإمام مذهبه يرفض ذلك

__________________

(١) الصفحة : ٨٦ من المجلة المذكورة.

٢٤

ويقول : إنّ لله عزوجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ، لأنّه متصرّف في ملكه ... (١)

والعقل الّذي هو مصدر التشريع عند الإمامية أو كاشف عن التشريع الإلهي ـ على الاصح ـ هو العقل المعتمد على حكمين ينبعان من صميم العقل.

١. التحسين والتقبيح العقليان.

٢. الملازمات العقلية.

وأين الغزّالي ومنهاج أستاذه عن القول بهما؟!

وتضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على حجّية العقل قبل أن يولد الغزالي بقرون ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «حجّة الله على العباد النبي ، والحجّة فيما بين العباد وبين الله ، العقل». (٢)

وقال الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام (المتوفّى : ١٨٣ ه‍) مخاطبا هشام بن الحكم : «يا هشام إن لله على الناس حجتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ؛ فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأمّا الباطنة فالعقول». (٣)

إنّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أعطوا للعقل أهمية كبيرة ، فهذا هو الإمام الباقر عليه‌السلام يقول : «إنّ الله لمّا خلق العقل استنطقه ـ إلى أن قال : ـ وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحبّ إليّ منك ، ولا أكملتك إلّا في من أحب ، أما إنّي إيّاك

__________________

(١) قواعد العقائد : ٦٠ و ٢٠٤.

(٢) الكليني : الكافي : ١ / ٢٥ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ٢٢.

(٣) الكافي : ١ / ١٦ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ١٢.

٢٥

آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك أعاقب وإيّاك أثيب». (١)

فكان المترقب من الأستاذ المحترم أن لا يقضي في الموضوع إلّا بعد الإحاطة بأصول الشيعة الإماميّة.

٢. تقييم تعريفه للأدلّة الاجتهادية والأصولية العلمية :

قد تعرّفت على ما هو الفرق بين الأدلّة الاجتهادية والأصولية العملية ، وعلى تقسيم الأصول إلى أصل محرز وغير محرز.

وللأستاذ كلام في هذا الصدد نأتي به :

أ. الأدلّة الأربعة المعتمدة المشار إليها آنفا تسمى الأدلة المحرزة ـ الكتاب ، السنّة ، العقل ، والإجماع ـ ويقابلها الأصول العملية باعتبارها تعطي حلولا عملية للمكلّفين حين يتعذر عليها إحراز الحكم الشرعي من دليله.

يلاحظ عليه : أنّه أصاب في التفريق بين الأدلة الأربعة والأصول العملية إلّا أنّ وصف الأدلّة الأربعة بالأدلّة المحرزة ، خلاف المصطلح وإنّما يوصف بها بعض الأصول ، فمنها أصل محرز ومنها غير محرز. كما تقدّم في كلامنا ، وإنّما توصف الأدلّة الأربعة ، بالأدلّة الاجتهادية.

ب. ويدخل ضمن هذه الأصول العملية جملة قواعد : أهمها قاعدة الاحتياط ، انطلاقا من أنّ الأصل هو شغل الذمّة بالتكليف وانّ لله في كلّ نازلة حكما يتعيّن الالتزام به ، وقاعدة البراءة الأصلية ، انطلاقا من أنّ الأصل براءة

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٠ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ١.

٢٦

الذمّة من التكليف ، قاعدة الاستصحاب الّتي تقضي بإبقاء ما كان على ما كان انطلاقا من أنّ اليقين لا يرتفع بالشكّ. (١)

يلاحظ عليه : أنّ قاعدة الاحتياط تنطلق من العلم القطعي بنفس التكليف في الواقعة بلا تردد فيه ، والجهل بالموضوع ، كما إذا علم بفوت إحدى الصلاتين المغرب أو العشاء ، فيجب عليه قضاؤهما ، وما ذكره من المنطلق يعني أنّ «الأصل هو شغل الذمّة بالتكليف» له لا صلة له بقاعدة الاحتياط ، بل أساسه هو العلم بالتكليف والجهل في المتعلّق.

والعجب انّه عند ما يفسّر قاعدة الاحتياط عند الإمامية ، يقول : الأصل شغل الذمّة بالتكليف.

وعند ما يفسّر قاعدة البراءة عندهم بقوله : الأصل براءة الذمّة من التكليف ، وهذا هو نفس التناقض ، فلو كان الأصل هو الاشتغال فما معنى كون الأصل هو البراءة؟!

وهذا يكشف عن أنّ الأستاذ لم يكن ملمّا بأصول الفقه عند الإمامية حيث ارتكب في بيانها التناقض.

كما أنّ ما ذكره : «أنّ لله في كلّ نازلة حكما يتعيّن الالتزام به» وجعله منطلقا للاحتياط عجيب جدا ، لأنّ العلم بأنّ لله في كلّ نازلة حكما لا يسبب الاحتياط ، وإذ من المحتمل أن يكون حكم الله في المورد هو الإباحة أو الكراهة ، أو الاستحباب.

__________________

(١) مجلة الواضحة : ٨٧ بتلخيص.

٢٧

٣

هل سنّة وراء سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

السنّة هي المصدر الثاني للعقيدة والشريعة ، سواء أكانت منقولة باللفظ والمعنى ، أو كانت منقولة بالمعنى فقط ، إذا كان الناقل ضابطا في النقل.

وقد خصّ الله بها المسلمين دون سائر الأمم حيث إنّهم اهتموا بنقل ما أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول وفعل وتقرير ، وبذلك صارت السنّة من مصادر التشريع الإسلامي.

وقد أكد أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على أنّ السنّة الشريفة هي المصدر الرئيسي بعد الكتاب ، وأنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد بيّنه سبحانه في الذكر الحكيم أو ورد في سنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيء حدّا ، وجعل عليه دليلا يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا». (١)

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة». (٢)

__________________

(١ و ٢) الكليني : الكافي : ١ / ٥٩ ، باب الرد إلى الكتاب والسنّة ، الحديث ٢ ، ٤.

٢٨

وروى سماعة عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه‌السلام ، قال : قلت له : أكل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه ، أو تقولون فيه؟

قال : «بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه». (١)

روى أسامة ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام وعنده رجل من المغيرية (٢) ، فسأله عن شيء من السنن؟ فقال : «ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلّا وقد خرجت فيه سنّة من الله ومن رسوله ، ولو لا ذلك ، ما احتجّ علينا بما احتج؟»

فقال المغيري : وبما احتج؟

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(٣) فلو لم يكمل سنّته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس ، ما احتجّ به». (٤)

روى أبو حمزة ، عن أبي جعفر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته في حجّة الوداع : «أيّها الناس اتّقوا الله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به». (٥)

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من التأكيد على السنّة والركون إليها.

__________________

(١) الكافي : ١ / ٦٢ ، باب الرد إلى الكتاب والسنة ، الحديث ١٠.

(٢) هم أصحاب المغيرة بن سعيد ، الذي تبرّأ منه الإمام الصادق عليه‌السلام.

(٣) المائدة : ٣.

(٤) المجلسي : البحار : ٢ / ١٦٨ ح ٣.

(٥) البحار : ٢ / ١٧١ ح ١١.

٢٩

أئمة أهل البيت عليهم‌السلام حفظة سنن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم بأمور ومهام لها صلة بالجوانب المعنوية ـ بالإضافة إلى إدارة دفّة الحكم ـ وهي :

١. تبيين الأحكام الشرعية والإجابة عن الحوادث المستجدّة الّتي لم يبيّن حكمها في الكتاب ولا في السنّة الصادرة إلى يومها.

٢. تفسير القرآن الكريم وتبيين مجملاته وتقييد مطلقاته وتخصيص عموماته.

٣. الردّ على الشبهات والتشكيكات الّتي يطلقها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى بعد الهجرة.

ومن المعلوم أنّ من يقوم بهذه المسئوليات ، سوف يورث فقده فراغا هائلا في نفس هذه المجالات ، ومن الخطأ أن نتّهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ أنّه قد ارتحل من دون أن يفكّر في ملء تلك الثغرات المعنوية الحاصلة برحيله ...

فإذا رجعنا إلى أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقف على أنّه قد سدّ هذه الثغرات باستخلاف من جعلهم قرناء الكتاب وأعداله ، وأناط هداية الأمّة بالتمسّك بهما ، ونذكر نماذج من كلماته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال :

١. روى ابن الأثير الجزري في «جامع الأصول» عن جابر بن عبد الله ، قال :

رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع يوم عرفة وهو على ناقته القصواء

٣٠

يخطب ، فسمعته يقول : «إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي». (١)

٢. وأخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم ، قال :

قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة ، وحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ، ثمّ قال :

أمّا بعد : ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما : كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغب فيه.

ثمّ قال : وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي. (٢)

٣. أخرج الترمذي في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة يوم عرفة على ناقته القصواء يخطب فسمعته ، يقول : يا أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي. (٣)

٤. أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود إلى السماء

__________________

(١) جامع الأصول : ١ / ٤٢٤.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٣٢٥.

(٣) سنن الترمذي : ٥ / ٦٦٢ ، باب مناقب أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣١

والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. (١)

وهذا الحديث المعروف بحديث الثقلين رواه عن النبي أكثر من ثلاثين صحابيا ، ودوّنه ما يربو على ثلاثمائة عالم في كتبهم في مختلف العلوم والفنون ، وفي جميع الأعصار والقرون ، فهو حديث صحيح متواتر بين المسلمين ، وقد عيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببركة هذا الحديث من يسدّ هذه الثغرات ويكون المرجع العلمي بعد رحيله وليس هو إلّا أهل بيته.

وبهذا يتبين أن العترة عليهم‌السلام عيبة علم الرسول وخزنة سننه وحفظة كلمه ، تعلموها بعناية من الله تبارك وتعالى كما تعلّم صاحب موسى بفضل من الله دون أن يدرس عند أحد ، ولذلك تمنّى موسى عليه‌السلام أن يعلمه ممّا علّم.

قال سبحانه حاكيا عن لسان نبيه موسى عليه‌السلام : (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)(٢).

وعلى ضوء ذلك فليس لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام سنّة ولا تشريع ، وما أثر عنهم من قول وفعل أو تقرير فإنّما يعتبر ، لكونهم حفظة سنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يصدرون ولا يحكمون إلّا بسنّته.

فلو قيل : إنّ قول الإمام عليه‌السلام أو فعله أو تقريره سنّة إنّما يراد به أنّهم تراجم سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله وأفعاله.

فما قاله العلّامة الشيخ المظفر قدس‌سره من أنّ المعصوم من آل البيت عليهم‌السلام يجري

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ١٤.

(٢) الكهف : ٦٦.

٣٢

قوله مجرى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كونه حجة على العباد ، إنّما يريد ذلك وما أحسن قوله «يجري مجرى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فلو كان أئمة أهل البيت عليهم‌السلام هم أصحاب سنن في عرض سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما ذا قال «يجري قولهم مجرى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»؟!

هذه عقيدة الإمامية من أوّلهم إلى آخرهم ؛ فالتشريع لله سبحانه فقط ، والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المبلّغ عن الله سبحانه في ما شرّعه ، وأئمة أهل البيت خلفاء رسول الله وحفظة سننه وتراجم كلمه ، والمبلّغون عنه السنن حتى يجسّدوا إكمال الدين في مجالي العقيدة والشريعة.

وحين قال سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(١) فإنّما هو لأجل نصب علي عليه‌السلام أوّل أئمة أهل البيت عليهم‌السلام للخلافة لكي يقوم بنفس المسئوليات الّتي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائما بها طيلة أيّام رسالته ، ويملأ الثغرات الّتي أعقبتها رحلته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أنّه نبي يوحى إليه وهذا وصي حافظ لسننه.

سنّة الصحابة في مقابل سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لقد تبيّن لنا أنّ الأستاذ قد عجب من وجود سنّة لأهل البيت عليهم‌السلام ، وقد فسّرنا معنى ذلك عند الإماميّة ، وقلنا بأنّه ليس للأئمة سنّة سوى ما سنّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن ألفت نظره إلى أنّ أهل السنّة قد قالوا بوجود سنن أخرى بعد سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإليك ما يشير إلى ذلك :

__________________

(١) المائدة : ٣.

٣٣

١. الحديث المعروف عندهم : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديين الراشدين ، تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ».

يقول ابن قيم الجوزية في تفسير الحديث : فقد قرن سنّة خلفائه بسنّته وأمر باتّباعها كما أمر باتباع سنّته ، وهذا يتناوله ما أفتوا به وسنّوه للأمّة وإن لم يتقدّم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه شيء وإلّا كان ذلك سنّة. (١)

فالرواية تدل على أنّ للصحابة سنّة كسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعندهم سنّة أبي بكر وسنّة عمر وسنّة عثمان وسنّة علي.

٢. روى السيوطي قال حاجب بن خليفة : شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة فقال في خطبته : على أنّ ما سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه. (٢)

أبعد هذه النصوص يصحّ للأستاذ أن يستغرب من وجود سنّة لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام : أعلام الهدى ومصابيح الدجى وقرناء الكتاب ، وثاني الثقلين ...

ولو لا المخافة من تكدير مياه الصفاء لبسطنا القول في ذلك.

طرق علم الأئمة بالسنّة

قد أشرنا إلى أنّه ليس لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام سنّة خاصّة ، بل هم حفظة سنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولسائل أن يسأل : ما هي طرقهم إلى سنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكثرهم لم

__________________

(١) إعلام الموقعين : ٤ / ١٤٠.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ١٦٠.

٣٤

يعاصروه ولم يسمعوها عنه مباشرة. ومن المعلوم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عاصره الإمام علي والإمامان الحسن والحسين عليهم‌السلام ، فقط؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة لمن عرف أحاديث الشيعة وأنس بجوامعهم ، فإنّ لهم عليهم‌السلام طرقا إلى سنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نأتي ببعضها :

الأوّل : السماع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الأئمة عليهم‌السلام يروون أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سماعا منه بلا واسطة أو بواسطة آبائهم ، ولذلك ترى في كثير من الروايات أن الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : حدّثني أبي عن زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي عن علي أمير المؤمنين عن الرسول الأكرم.

وهذا النمط من الروايات كثير في أحاديثهم.

فأئمة أهل البيت عليهم‌السلام رووا أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الطريق دون أن يعتمدوا على الأحبار والرهبان أو على مجاهيل أو شخصيات متسترة بالنفاق.

الثاني : كتاب علي عليه‌السلام

كان لعلي عليه‌السلام كتاب خاص بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد حفظته العترة الطاهرة عليهم‌السلام وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونقلت نصوصه في موضوعات مختلفة ، وقد بث الحرّ العاملي في موسوعته الحديثية ، أحاديث ذلك الكتاب

٣٥

حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات ، ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.

وإليك شذرات من أقوال الأئمة بشأن هذا الكتاب الّذي كانوا يتوارثونه وينقلون عنه ويستدلّون به :

قال الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام : «إنّ العلم فينا ونحن أهله ، وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره ، ومنه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلّا وهو عندنا مكتوب ، بإملاء رسول الله وخطّ علي بيده». (١)

وقال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام لأحد أصحابه ـ أعني حمران بن أعين ـ وهو يشير إلى بيت كبير : «يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعا بخطّ علي عليه‌السلام وإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لو ولّينا الناس لحكمنا بما أنزل الله ، لم نعد ما في هذه الصحيفة».

وقال عليه‌السلام أيضا لبعض أصحابه : يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام عند ما سئل عن الجامعة : «فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه ، وليس من قضية إلّا فيها حتّى أرش الخدش».

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام في تعريف كتاب علي عليه‌السلام : «فهو كتاب طوله سبعون ذراعا إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فلق فيه ، وخط علي بن أبي طالب عليه‌السلام بيده ، فيه والله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ، حتّى أنّ

__________________

(١) الاحتجاج : ٢ / ٦ ؛ بحار الأنوار : ٨٩ / ٤٧.

٣٦

فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة». (١)

ويقول سليمان بن خالد : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعا ، إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وخطّ عليّ عليه‌السلام بيده ، ما من حلال ولا حرام إلّا وهو فيها حتّى أرش الخدش».

وقد كان علي عليه‌السلام أعلم الناس بسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكيف لا يكون كذلك ، وهو القائل : «كنت إذا سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاني ، وإذا سكت ابتدأني». (٢)

الثالث : انّهم محدّثون

لأجل إيقاف القارئ على المحدّث في الإسلام ومفهومه نذكر شيئا في توضيحه.

«المحدّث» من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ورؤية صورة ، أو يلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى ، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.

فالمحدّث بهذا المعنى ممّا أصفقت الأمّة الإسلامية عليه ، بيد أنّ الخلاف في مصاديقه ، فالسنّة ترى عمر بن الخطاب من المحدّثين ، والشيعة ترى عليا وأولاده الأئمة منهم.

__________________

(١) قد جمع العلّامة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتاب علي في موسوعته بحار الأنوار : ٢٦ / ١٨ ـ ٦٦ تحت عنوان ، باب جهات علومهم وما عندهم من الكتب ، الحديث ١٢ ، ١ ، ١٠ ، ٢٠.

(٢) المستدرك : ٣ / ١٢٥.

٣٧

أخرج البخاري في صحيحه : عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ؛ فإن يكن من أمّتي منهم فعمر. (١)

وقد أفاض شرّاح صحيح البخاري الكلام حول المحدّث. (٢)

وللمحدّثين من أهل السنّة كلمات حول المحدّث نأتي بملخّصها :

يقول القسطلاني حول الحديث : يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوة. (٣)

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كان في الأمم قبلكم محدّثون ، فإن يكن في أمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم : اختلف تفسير العلماء للمراد ب «محدّثون» فقال ابن وهب : ملهمون ، وقيل : يصيبون إذا ظنّوا فكأنّهم حدّثوا بشيء فظنّوه ، وقيل : تكلّمهم الملائكة وجاء في رواية مكلّمون. (٤)

وقال الحافظ محب الدين الطبرسي في «الرياض» ، ومعنى «محدّثون» ـ والله أعلم ـ أن يلهموا الصواب ، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدّثهم

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٢٠٠ ، باب مناقب المهاجرين وفضلهم ، دار الفكر ، بيروت.

(٢) لاحظ : إرشاد الساري ، شرح صحيح البخاري للقسطلاني : ٦ / ٩٩.

(٣) ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري : ٥ / ٤٣١.

(٤) شرح صحيح مسلم للنووي : ١٥ / ١٦٦ ، دار الكتاب العربي ، بيروت.

٣٨

الملائكة لا لوحي ، وإنّما بما يطلق عليه اسم حديث ، وتلك فضيلة عظيمة. (١)

وحصيلة الكلام : انّه لا وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها إلى العامّة من دون أن يكونوا أنبياء ، أو معدودين من المرسلين ، والله سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) ولم يكن المصاحب نبيّا ، بل كان وليّا من أولياء الله سبحانه وتعالى بلغ من العلم والمعرفة مكانة ، دعت موسى ـ وهو نبيّ مبعوث بشريعة ـ إلى القول : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً).(٢)

ويصف سبحانه وتعالى جليس سليمان ـ آصف بن برخيا ـ بقوله : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي). (٣)

وهذا الجليس لم يكن نبيّا ، ولكن كان عنده علم من الكتاب ، وهو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي يتدرّج عليها الصبيان والشبان في المدارس والجامعات ، بل كان علما إلهيا أفيض عليه لصفاء قلبه وروحه ، ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه ويقول : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي). (٤)

والإمام علي والأئمة من بعده ، الذين أنيطت بهم الهداية في حديث

__________________

(١) الرياض النضرة : ١ / ١٩٩.

(٢) الكهف : ٦٦.

(٣) النمل : ٤٠.

(٤) الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف : ٢ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

٣٩

الثقلين ، ليسوا بأقلّ من مصاحب موسى عليه‌السلام ، أو جليس سليمان ، فأي وازع من أن يقفوا على سنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق الإشراقات الإلهية.

الرابع : الاستنباط من الكتاب والسنّة

هذا هو الطريق الرابع ، فقد كانوا عليهم‌السلام يستدلّون على الأحكام الإلهية بالكتاب والسنّة بوعي متميز يبهر العقول ويورث الحيرة ، ولو لا خشية الإطالة في المقام لنقلنا نماذج كثيرة من ذلك ، ونكتفي هنا بانموذج واحد وهو : قدّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الإمام علي الهادي عليه‌السلام (١) يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : يضرب حتى يموت ، فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلة ، فكتب عليه‌السلام : بسم الله الرحمن الرحيم. (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)(٢).

فأمر به المتوكل فضرب حتى مات. (٣)

إنّ الإمام الهادي ببيانه هذا شقّ طريقا خاصّ ا لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم ، طريقا لم يكن يحلم به فقهاء عصره ، وكانوا يزعمون أنّ مصادر

__________________

(١) الإمام العاشر وهو علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق عليهما‌السلام.

(٢) غافر : ٨٤ ـ ٨٥.

(٣) مناقب آل أبي طالب : ٤ / ٤٠٥.

٤٠