نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

يَتَرَبَّصْنَ)(١) فإنّه عامّ في الرجعيّة والبائن ، وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(٢) خاصّ.

وورد عطف الواجب على المندوب في قوله : (وَآتُوهُمْ)(٣) فإنّ الإيتاء واجب ، والكتابة مستحبّة ، وعطف الواجب على المباح في قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ)(٤) ولو اقتضى العطف التسوية في أصل الحكم وتفصيله ، لكان العطف في ذلك على خلاف الأصل. (٥)

وفيه نظر ، للمنع من عموم (وَالْمُطَلَّقاتُ) على ما يأتي ، وعطف الأحكام المختلفة جائز ، لم ينازع فيه أحد ، وليس البحث فيه ، بل في أنّ التقييد في المعطوف عليه بعامّ ، وكان مضمرا في المعطوف ، هل يقتضي تقييد المضمر أو لا.

الثالث : الاشتراك في أصل الحكم متيقّن ، وفي صفته محتمل ، فجعل العطف أصلا في المتيقّن دون المحتمل أولى. (٦)

وفيه نظر ، فإنّ أصل الحكم هو عدم القتل ، ولا يمكن التشريك فيه.

الرابع : لو كان التقييد مشتركا لكان نحو : «ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا» أي يوم الجمعة.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

(٣) النور : ٣٣ وقوله : (وَآتُوهُمْ) عطف على قوله : (فَكاتِبُوهُمْ) الّذي هو أمر مستحبّ.

(٤) الأنعام : ١٤١ ، وقوله : (وَآتُوا حَقَّهُ) عطف على قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) الّذي هو أمر مباح.

(٥) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٧٠.

(٦) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٧١.

٣٦١

واعترض بالتزامه ، وبالفرق بأنّ ضرب عمرو في غير يوم الجمعة ، ليس بممتنع واحتجّت الحنفيّة بوجوه :

الأوّل : لو لم يقدّر شيء لامتنع قتله مطلقا ، وهو باطل ، فيجب الأوّل للقرينة.

وفيه نظر ، فإنّ الإطلاق إن عني به عدم قتله وإن خرج عن العهد ، منعنا الملازمة ، وإن عني عدم قتله ما دام في عهده مطلقا ، منعنا بطلان التالي

الثاني : حرف العطف يوجب جعل المعطوف والمعطوف عليه في حكم جملة واحدة ، فالحكم على أحدهما يكون حكما على الآخر.

واعترض : (١) بأنّ العطف يقتضي اتّحادهما فيما فيه العطف ، لا فيما زاد على أصل الحكم.

الثالث : المعطوف إذا لم يستقلّ ، فلا بدّ من الإضمار ، وليس غير حكم المعطوف عليه إجماعا ، ولا بعضه ، لأنّ غير المعيّن يقتضي الإجمال ، وهو خلاف الأصل ، والمتعيّن (٢) منتف ، فوجب إضمار كلّ ما ثبت للمعطوف عليه.

اعترض (٣) : بالتشريك في أصل الحكم المذكور دون صفته ، وهو مدلول اللّفظ من غير إبهام ولا إجمال.

__________________

(١) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٧١.

(٢) في «أ» : والمتيقّن.

(٣) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٧١.

٣٦٢

المبحث الثاني عشر : في أنّ رجوع الضمير إلى البعض ، هل يقتضي التخصيص أم لا؟

اعلم أنّ العموم إذا تعقّبه ضمير يرجع إلى بعضه خاصّة ، إمّا في استثناء ، أو صفة ، أو حكم ، هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض أو لا؟

أمّا الاستثناء ، فكقوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)(١) ثمّ قال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ)(٢) فاستثنى العفو ، وعلّقه بكناية راجعة إلى النساء.

ومعلوم أنّ العفو إنّما يصحّ من المالكات لأمورهنّ دون الصغيرة والمجنونة ، فهل يقال : الصغيرة والمجنونة غير مرادتين من لفظ النساء في أوّل الكلام.

وأمّا الصّفة ، فكقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)(٣) ثمّ قال : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً)(٤) يعني الرّغبة في مراجعتهنّ ، ومعلوم أنّه لا يتأتّى في البائنة.

وأمّا الحكم ، فكقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ

__________________

(١) البقرة : ٢٣٦.

(٢) البقرة : ٢٣٧.

(٣) الطلاق : ١.

(٤) الطلاق : ١.

٣٦٣

ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(١) ثمّ قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(٢) وهذا لا يتأتّى في البائنة.

فنقول : اختلف الناس في ذلك ، فذهب قاضي القضاة إلى أنّه لا يجب تخصيص ذلك العموم بتلك الأشياء ، وهو اختيار جماعة من المعتزلة والأشاعرة.

وذهب آخرون إلى وجوب التخصيص ، وهو الحقّ.

وتوقّف السيد المرتضى (٣) ، وأبو الحسين البصري (٤) ، والجويني (٥) ، وفخر الدين الرازي (٦).

احتجّ القاضي عبد الجبار : بأنّ اللّفظ عامّ يجب إجراؤه على عمومه إلّا أن يضطرّنا شيء إلى تخصيصه ، وكون آخر الكلام مخصوصا ، لا يقتضي تخصيص أوّله. (٧)

واحتجّ غيره : بأنّ مقتضى اللّفظ إجراؤه على ظاهره من العموم ، ومقتضى اللّفظ الثاني عود الضّمير إلى جميع ما دلّ عليه اللّفظ المتقدّم إذ لا أولويّة

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٤٩.

(٤) المعتمد : ١ / ٢٨٤.

(٥) البرهان في أصول الفقه : ١ / ٢٦٦.

(٦) المحصول : ١ / ٤٥٦.

(٧) نقله أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٢٨٤.

٣٦٤

لاختصاص بعض المذكور السابق به دون البعض ، وإذا قام الدّليل على تخصيص الضمير ببعض المذكور السابق ، وخولف ظاهره ، لم يلزم منه مخالفة الظاهر الآخر ، بل يجب إجراؤه على ظاهره إلى أن يقوم دليل على تخصيصه.

والدّليل على ما قلناه ، أنّ الضّمير لا بدّ وأن يرجع إلى السّابق قطعا ، فإمّا أن يرجع إلى كلّه ، أو بعضه.

والثانى محال ، لعدم الأولويّة ، ولاستلزامه الإجمال ، فثبت الأوّل ، وإنّما يصحّ لو كان المراد بالأوّل من يصحّ العود إليه.

والجواب عن حجّة القاضي : أنّ التخصيص يقتضي تخصيص أوّل الكلام ، لوجوب رجوع الضمير إلى جميع ما تقدّم ، لأنّ معنى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ)(١) إلّا أن يعفو النّساء اللّواتي طلّقتموهنّ ، ولو أنّه تعالى صرّح بذلك ، لكان لفظ النّساء مقصورا على من يصحّ عفوه.

وعن الثاني : أنّ الضمير ليس للعموم ، وهو عبارة عمّا تقدّم ، إذ الضّمير هو المظهر في الحقيقة ، وإنّما اختلفا في الإضمار والإظهار ، فلا يكون الأوّل للعموم.

احتجّ المتوقّفون : بأنّ ظاهر العموم المتقدّم يقتضي الاستغراق ، وظاهر الكناية يرجع إلى كل ما تقدّم ، لأنّ الكناية يجب رجوعها إلى المذكور المتقدّم ، وهو المطلّقات ، وليست رعاية ظاهر العموم أولى من رعاية ظاهر الكناية فوجب التوقف.

__________________

(١) البقرة : ٢٣٧.

٣٦٥

أجاب القائلون بالعموم : بأنّ إجراء اللّفظ على عمومه ، وتخصيص المتأخّر أولى من العكس ، لأنّ دلالة الأوّل ظاهرة ، ودلالة الثاني غير ظاهرة ، ولا يخفى أنّ دلالة المظهر ، أقوى من دلالة المضمر. (١)

أعترضه أبو الحسين : بأنّه ليس القول بأنّ العموم أولى ، لأنّه ظاهر ، بأولى من أنّ التمسّك بالكناية أولى ، لأنّها كناية (٢).

وليس بجيّد ، لأنّ الظاهر لا يتوقّف على الكناية في الدلالة ، والكناية تتوقّف على الظاهر ، والموقوف عليه أولى.

والجواب الصحيح : أنّ مراعاة ظاهر الكناية أولى ، لأنّ تعميم الظاهر يقتضي إلى الإضمار والإجمال.

أمّا الإضمار ، فلأنّ التقدير يصير : «إلّا أن يعفو بعضهنّ» ومراعاة ظاهر الكناية يقتضي التخصيص ، وقد تقدّم أنّ التخصيص خير من الإضمار.

وأمّا الإجمال ، فلعدم إشعار المضمر بالمراد منه.

قيل : لو خصّص الأوّل لزم تخصيصهما معا ، فيلزم مخالفة ظاهرين. (٣)

وليس بجيّد ، لأنّ الثاني بعد تخصيص الأوّل لا يكون عامّا ، فلا يلزم مخالفة ظاهر آخر.

__________________

(١) لاحظ الإحكام للآمدي : ٢ / ٤٢٥.

(٢) المعتمد : ١ / ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٣) لاحظ رفع الحاجب في مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٣٥٣ ، قسم المتن.

٣٦٦

المبحث الثالث عشر : في الحكم الخاص المقترن بالعلة

إذا حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحكم في واقعة خاصّة ، وذكر العلّة ، فقال الشافعي : إنّه يعمّ من وجدت تلك العلّة في حقّه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ أعرابيّ محرم وقصت (١) به ناقته : «لا تخمروا رأسه ، ولا تقربوه طيبا ، فإنّه يحشر يوم القيامة ملبّيا» (٢). وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قتلى «أحد» : «زمّلوهم بكلومهم (٣) ودمائهم ، فإنّهم يحشرون يوم القيامة ، وأوداجهم تشخب دما» (٤). وكما لو قال : حرّمت الخمر لكونه مسكرا.

ومنعه القاضي أبو بكر (٥).

والحقّ أن يقال : إنّ عموم الحكم ليس بالنظر إلى الصيغة الواردة ، فإنّه لو كان كذلك لكان إذا قال لوكيله : «أعتق سالما لكونه أسود» لاقتضى عتق كلّ عبد أسود ، كما لو قال : «أعتق عبيدي السّودان» نعم أنّه مستفاد من العلّة إن قيل به ، على ما يأتي البحث فيه.

فإن قلنا به ، لم يندرج قوله لوكيله : «أعتق سالما لكونه أسود» لأنّ الوكيل

__________________

(١) وقصت الناقة : رمت براكبها فدقت عنقه. المصباح المنير.

(٢) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز باب الكفن في الثوبين برقم ١٢٦٥ ؛ ومستدرك الوسائل : ٢ / ١٧٧ ، الباب ١٣ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٥ و ٦.

(٣) الكلم : الجرح ، والجمع كلوم وكلام. لسان العرب.

(٤) مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٤٣١ ؛ ومستدرك الوسائل : ٢ / ١٨٠ ، الباب ١٤ من أبواب غسل الميت ، الحديث ٨ ولاحظ وسائل الشيعة : ٢ / ٧٠١ ، الباب ١٣ من أبواب غسل الميت ، الحديث ١١.

(٥) التقريب والإرشاد : ٣ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٣٦٧

إنّما يتصرّف فيما يأمره الموكّل نصّا ، لا بالقياس على ما يأمره به ، والفائدة في ذكر العلّة معرفة كون الحكم معلّلا ، إلّا أن يكون اللّفظ عامّا لغير محلّ التخصيص.

قال القاضي أبو بكر (١) : يحتمل أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّل ذلك في حقّ الأعرابيّ بما علمه من كونه مات مسلما مخلصا في عبادته ، محشورا ملبّيا وقصت به ناقته ، لا بمجرّد إحرامه ، وفي قتلى «أحد» لعلوّ درجتهم في الجهاد ، وتحقّق شهادتهم ، لا بمجرّد الجهاد ، وفي تحريم الخمر ، لكونه خمرا مسكرا.

وهذا وإن كان موجّها ، إلّا أنّه على خلاف ما ظهر من تعليله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمجرّد الإحرام والجهاد ، وسيأتي.

المبحث الرّابع عشر : في أنّ خطابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقتضي تخصيصه به

إذا خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحدا من أمّته لم يكن ذلك خطابا للباقين إلّا بدليل منفصل عند أكثر المحقّقين.

وقال جماعة من الحنابلة أيضا : إنّه يكون خطابا للباقين.

لنا : أنّ الخطاب توجّه إلى الواحد ، وهو موضوع في اللّغة لذلك الواحد ، فلا يكون متناولا لغيره بوضعه.

احتجّوا بوجوه :

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٦٨

الأوّل : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)(١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت إلى النّاس كافّة» (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت إلى الأسود والأحمر» (٣) وهو يقتضي التشريك.

الثاني : قوله : «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» (٤) نصّ في التعميم عند خطاب الواحد.

الثالث : إجماع الصحابة على الاحتجاج في الحوادث بحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على آحاد الأمّة كحكمهم في الزنا بما حكم به على «ماعز» وضرب الجزية على المجوس بضربها على مجوس هجر (٥) ولو لا أنّ حكمه على واحد يقتضي التعميم ، لم يجز التّعدية إلّا بدليل ، والأصل عدمه.

ولأنّه لو كان ، لبيّنوه.

الرابع : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّص بعض الصحابة بأحكام دون غيره ، ونصّ عليه ،

__________________

(١) سبأ : ٢٨.

(٢) مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٣٠١ ؛ والمعجم الكبير للطبراني : ٧ / ١٥٥ برقم ٦٦٧٤ ؛ كنز العمال : ١١ / ٤٢٦ و ٤٣٩ و ٥٥٥.

(٣) مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ٣٠٤ وج ٤ / ٤١٦ وج ٥ / ١٤٥ ؛ وكنز العمال : ١١ / ٤٣٨ برقم ٣٢٠٦١ و ٣٢٠٦٤ ؛ ونقله ابن أبي الحديد في شرح النهج : ٥ / ٥٤.

(٤) تقدم تخريج الحديث ص ١٩٤.

(٥) «هجر» اسم لمناطق مختلفة ... منها «هجر البحرين» و «هجر نجران» وقيل : «هجر» ناحية البحرين كلّها وهو الصواب. معجم البلدان : ٥ / ٣٩٣.

وفي كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في رسالته إلى معاوية : فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر. نهج البلاغة ، قسم الرسائل برقم ٢٨.

٣٦٩

كتخصيص أبي بردة (١) في التضحية بعناق ، وقال : «تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك» (٢) وتخصيص خزيمة (٣) بقبول شهادته وحده ، وتخصيص عبد الرحمن بن عوف (٤) بلبس الحرير.

ولو لا أنّ الحكم بإطلاقه على الواحد حكم على الأمّة ، لما احتاج إلى التنصيص بالتخصيص.

والجواب عن الأوّل : أنّا نقول بموجبه ، فإنّه مرسل إلى النّاس كافّة ، ومبعوث إلى كلّ واحد ، ولكن لا يجب تساويهم في الأحكام ، بل بمعنى لكلّ شخص حكمه الخاصّ به ، كأحكام المريض ، والصحيح ، والمقيم ، والمسافر ، والحرّ ، والعبد ، والحائض ، والطاهر ، وغير ذلك ، ولا يلزم من ذلك اشتراك الجميع في كلّ حكم.

وعن الثاني : أنّ التعميم ثبت حينئذ من هذا الحديث ، لا من مجرّد حكمه على الواحد ، لأنّ الحكم هو الخطاب ، وخطاب الواحد ليس خطابا لغيره ، فإنّه لو كان خطابا لغيره لزم منه التخصيص بإخراج من لم يكن

__________________

(١) تقدمت ترجمته ص ١٩٥.

(٢) تقدّم تخريج الحديث ص ١٩٥.

(٣) خزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري ، أبو عمارة صحابيّ من أشراف الأوس في الجاهلية والإسلام وهو ذو الشهادتين ، جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهادته بشهادة رجلين ، شهد مع عليّ عليه‌السلام «صفّين» واستشهد فيها سنة ٣٧ ه‍. لاحظ أسد الغابة : ٢ / ١١٩ برقم ١٤٤٦ ؛ والأعلام للزركلي : ٢ / ٣٠٥.

(٤) تقدّمت ترجمته ص ١٩٥.

٣٧٠

موافقا لذلك الواحد ، في السبب الموجب للحكم عليه.

ولأنّه لو كان خطابه المطلق خطابا للجماعة ، لما احتاج إلى قوله : «حكمي على الواحد» أو كانت فائدته التأكيد ، والأصل في دلالة اللّفظ التأسيس.

سلّمنا ، لكن حكمه على الواحد ، لو كان حكما على الجماعة لهذا الحديث ، لم يلزم أن يكون حكمه للواحد حكما للجماعة ، والفرق ظاهر ، والخلاف واقع في الجميع. (١)

وفيه نظر ، فإنّ المراد بحكمه عليه التشريع في حقّه ، سواء كان له أو عليه ، لأنّ قبول الأمر والانقياد إلى حكمه وإن كان له ، واجب.

ولأنّه إذا ثبت الأوّل ثبت الثّاني ، لعدم القائل بالفرق.

وعن الثالث : أنّه حكاية حال ، فلا يقتضي التعميم ، ولأنّ حكمهم إنّما كان لعلمهم بالمشاركة في السبب ، للإجماع على أنّهم لو لم يعلموا السبب وتساويهم فيه ، لما حكموا بالتشريك في الحكم.

وعن الرابع : أنّ الفائدة زوال توهّم المساواة أو التأكيد.

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٧٤.

٣٧١

المبحث الخامس عشر : في أنّ قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)(١) هل هو للعموم أم لا؟

ذهب الأكثر إلى عموم هذا ، وأنّه يقتضي أخذ الصدقة من كلّ نوع من أنواع مال كلّ مالك.

وخالف فيه الكرخي (٢) وقصره على أخذ صدقة واحدة من نوع واحد.

احتجّ الأوّلون : بأنّ «أموالا» جمع أضيف إلى مثله ، فيفيد العموم ، لما تقدّم ، فيصير التقدير : «خذ من كلّ نوع من أموالهم صدقة» فتتعدّد الصّدقة بتعدّد الأموال.

قال الكرخي : «صدقة» نكرة مضافة إلى جملة الأموال ، فإذا أخذ من نوع واحد من المال صدقة ، صدق قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) لأنّ المال الواحد جزء من جملة الأموال ، فإذا أخذت الصّدقة من جزء المال ، صدق أخذها من المال ، ولهذا وقع الإجماع على أنّ كلّ درهم ودينار موصوف بأنّه مال ، ولا يجب أخذ الصدقة منه ، والأصل أن يكون ذلك لعدم دلالة اللّفظ عليه لا للمعارض. (٣)

__________________

(١) التوبة : ١٠٣.

(٢) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.

(٣) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٨٤.

٣٧٢

وفيه نظر ، فإنّ القائل بالتعميم لم يقل به بالنظر أي صدقة النكرة ، بل بالنظر إلى الجمع المضاف ، وقد سبق أنّه للعموم ، ونمنع صدق أخذ الصدقة من أموالهم عند أخذها من مال واحد.

والتحقيق : أنّ الجمع هنا إن كان بمنزلة كلّ واحد ، وجب أن يأخذ من كلّ واحد صدقة ، وإن كان للكلّ ، من حيث هو كليّ مجموعيّ (١) ، صدق بأخذ صدقة واحدة من مال واحد.

خاتمة

تشتمل على مسائل :

الأولى : قد بيّنا أنّه لا يجوز التّمسّك بالعامّ قبل المخصّص ، ولا يشترط القطع ، بل الظّنّ المستند إلى البحث التامّ بحيث لو كان لظهر عليه.

وقال القاضي أبو بكر : يشرط القطع بنفي المخصّص ، لأنّ الاعتقاد الجازم من غير دليل قاطع جهل ، وقد سلك في العلم بنفي المخصّص مسلكين :

أحدهما : إذا بحث في مسألة قتل المسلم بالذّمّي مثلا من مخصّصات قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقتل مؤمن بكافر» وقال : هذه مسألة كثر الجدال فيها ، وطال خوض العلماء ، فيستحيل عادة أن يشذّ عن جميعهم دليل ، والأدلّة المنقولة عنهم علم بطلانها فأعلم انتفاء المخصّص.

الثاني : يمكن أن يدّعي المجتهد اليقين ، وإن لم يدّع الإحاطة بجميع

__________________

(١) في «ب» : كلّ مجموع.

٣٧٣

المدارك ، إذ يقول : لو كان الحكم خاصّا لنصب الله عليه دليلا للمكلّفين ، ولبلغهم ذلك ، وما خفى عليهم.

واعترض الغزالي على الأوّل بوجهين :

الأوّل : أنّه حجر على الصّحابة أن يتمسّكوا بالعموم في كلّ واقعة لم يكثر الخوض فيها ، ولم يطل البحث عنها ، ولا شكّ في عملهم معه ، وجواز التخصيص ، بل مع جواز نسخ لم يبلغهم ، كما حكموا بصحّة المخابرة بدليل عموم إحلال البيع ، حتّى روى رافع بن خديج (١) النّهي عنه.

الثاني : أنّه بعد طول الخوض لا يحصل اليقين ، بل إن سلّم أنّه لا يشذّ المخصّص عن جميع العلماء ، ومن أين عرف أنّه بلغه كلام جميعهم؟ فلعلّ منهم من تنبّه لدليل ، ولم يكتبه في تصنيف ، ولا نقل عنه.

والثاني (٢) كالأوّل ، فإنّه لو اجتمعت الأمّة على شيء أمكن القطع بأن لا دليل يخالفه ، إذ يستحيل إجماعهم على الخطأ ، أمّا في مسألة الخلاف كيف يتصور ذلك؟ (٣)

وفيه نظر ، فإنّه لم يحجر على أحد بل ادّعى أنّ العموم إذا لم يعلم انتفاء

__________________

(١) رافع بن خديج بن رافع الأنصاريّ الأوسي الحارثي ، صحابيّ ، كان عريف قومه في المدينة ، فشهد أحدا والخندق وأكثر المشاهد ، وأصابه يوم أحد سهم في ترقوته ، فنزع السهم وبقي النصل إلى أن مات ، توفّي سنة ٧٤ ه‍. لاحظ أسد الغابة : ٢ / ١٦٠ برقم ١٥٨٠ ؛ والأعلام للزركلي : ٣ / ١٢.

(٢) أي المسلك الثاني.

(٣) المستصفى : ١ / ١٧٧ ـ ١٧٨.

٣٧٤

المخصّص لا يجوز التمسّك به ، والصحابة عارفون بالأحكام ، لقرب عهدهم بالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلّ أن يخفى عنهم بعد البحث اليسير ، بخلاف غيرهم ، لتطاول الأزمنة المقتضي لاندراس الأقوال وأدلّتها ، والعلماء المشهورون قلّ أن يخفى كلامهم ، والمعتبر إنّما هو قول من بلغ رتبة الاجتهاد ، وقلّ خفاء مثله ، ومع ذلك فالوجه ما قلناه من الاكتفاء بالظّنّ.

[المسألة] الثانية : ظنّ قوم أنّ قوله تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ)(١) من العامّ ، وتمسّكوا به على إيجاب الوتر ، وإخراج ما دلّ على عدم وجوبه عنه لا يمنع التمسّك به ، وقد بيّنا أنّ المفرد المحلّى باللّام لا يقتضي العموم ، نعم أنّ قوله تعالى : (مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٢) قرينة تدلّ على حثّ فعل كلّ ما صدق عليه اسم الخير ، أمّا لفظ الخير فلا.

وقال الغزاليّ : إنّه مجمل (٣).

وليس بمعتمد.

الثالثة : قوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)(٤) للعموم ، فيجوز التمسّك به في منع قتل المسلم بالذّميّ ، لأنّه يفيد نفي السّلطنة ، إلّا ما دلّ [عليه] الدليل من الدّية ، والضمان ، والسرقة ، وطلب الثمن ، وغيره.

__________________

(١) الحجّ : ٧٧.

(٢) التغابن : ١٦.

(٣) المستصفى : ١ / ١٤٧.

(٤) النساء : ١٤١.

٣٧٥

والأصل فيه : أنّه نكرة في معرض النفي ، وقد بيّنا أنّها للعموم.

وقال الغزالي : إنّه مجمل. (١)

وليس بجيّد ، وكذا قال في نفي الاستواء (٢) : إنّه مجمل. (٣)

الرابعة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فيما سقت السماء العشر» (٤) من قبيل العامّ إلّا ما خصّه الدليل ، لما تقدّم من أنّ «ما» للعموم.

وقال قوم : لا يجوز أن يتمسّك بعمومه ، لأنّ المقصود ذكر الفصل بين العشر ونصف العشر ، وهو غلط ، لعدم التنافي.

الخامسة : قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٥) ليس عامّا ولا مجملا ، وتردّد الشافعي في كونه مجملا أو عامّا ، من حيث إنّ الألف واللام احتمل أن تكون فيه للتعريف ، ومعناه : أحلّ الله البيع الّذي عرّف الشرع (٦) شرطه.

السادسة : قال الغزّالي : اسم المفرد يفيد العموم في مواضع ثلاثة :

الأوّل : ان يحلّى بلام التعريف مثل «لا تبيعوا البرّ بالبرّ».

الثاني : دخول النّفي عليه مثل : «ما رأيت رجلا» فإنّ النفي لا خصوص فيه ، بل هو مطلق ، فإذا أضيف إلى منكّر مبهم لم يتخصّص ، بخلاف : «رأيت

__________________

(١) المستصفى : ١ / ١٤٧.

(٢) إشارة إلى قوله سبحانه وتعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) الحشر : ٢٠.

(٣) المستصفى : ١ / ١٤٧.

(٤) تقدم تخريج الحديث ص ٢٩٠.

(٥) البقرة : ٢٧٥.

(٦) في «أ» : الشارع.

٣٧٦

رجلا» فإنّه إثبات ، والإثبات يتخصّص في الوجود ، فإذا أخبر عنه لم يتصوّر عمومه ، فإذا أضيف إلى مفرد اختصّ به.

الثالث : أن يضاف إليه أمر أو مصدر ، والفعل بعد غير واقع ، بل منتظر ، مثل : «أعتق رقبة» أو «فتحرير رقبة» فإنّه تمثيل بعتق أيّ رقبة كانت ، والاسم متناول لها ، فنزّل منزلة العموم ، بخلاف : «أعتقت رقبة» فإنّه إخبار عن فعل ماض دخل في الوجود ، ولا يدخل إلّا فعل خاصّ (١).

أمّا الأوّل ، فقد تقدّم أنّه ليس للعموم.

وأمّا الثاني ، فقد بيّنا أنّه للعموم.

وأمّا الثالث ، فإنّه مطلق لا عامّ.

* * *

__________________

(١) المستصفى : ١ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

٣٧٧

الباب الرّابع :

في المطلق والمقيّد

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل :

في ماهيّتهما

وقد عرفت فيما سبق أنّ المطلق هو اللّفظ الدالّ على الماهيّة من حيث هي هي ، لا يفيد العموم ، ولا الخصوص ، ولا يفيد الوحدة والكثرة (١) بل نفس الماهيّة ونريد به هنا أعمّ من ذلك ، وهو هذا والنكرة المثبتة ، إمّا في معرض الأمر مثل : «أعتق رقبة» أو مصدر الأمر مثل : «فتحرير رقبة» أو الإخبار عن المستقبل مثل : «سأعتق رقبة» ولا يتصوّر المطلق في معرض الخبر عن الماضي مثل : «ضربت رجلا» ضرورة تعيّنه باعتبار إسناد الضرب إليه.

ورسم : «بأنّه اللّفظ الدالّ على مدلول شائع في جنسه». (٢)

__________________

(١) في «ب» و «ج» : أو الكثرة.

(٢) كذا عرّفه الآمدي في الإحكام : ٣ / ٣.

٣٧٨

فاللفظ كالجنس للمطلق وغيره ، وخرج بالدّال المهمل ، وقولنا : «على مدلول» ليعمّ الوجود والعدم ، وخرج بالشائع في جنسه ، أسماء الأعلام والمعارف ، والعمومات ، لاستغراقها.

وفي إخراجها به نظر ، فالأولى زيادة «على البدل».

وأمّا المقيّد ، فيقال لمعينين :

الأوّل : ما كان من الألفاظ دالّا على معنى ، كزيد ، وهذا الرّجل.

الثاني : ما كان من الألفاظ دالّا على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة كقولنا : «ثوب مصريّ» وهذا وإن كان مطلقا في جنسه من حيث هو ثوب مصريّ ، إلّا أنّه مقيّد بالنّسبة إلى مطلق الثوب ، فهو مطلق ومقيّد باعتبارين.

ورسم : بأنّه ما أخرج من شياع بوجه ، ك «رقبة مؤمنة». (١)

__________________

(١) التعريف لابن الحاجب في مختصره ، لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٣٦٦ ، قسم المتن.

٣٧٩

المبحث الثاني :

في حكم الجمع بينهما

كلّما تقدّم في باب تخصيص العموم من المتّفق عليه ، والمختلف فيه ، والمزيّف ، والمختار ، فإنّه جار في تقييد المطلق ، وإذا تعقّب التقييد جملة واحدة ، فلا خلاف في أنّه يغيّر حكمها من الإطلاق إلى التقييد.

ففي هاهنا البحث عن حكم الجمع بينهما ، فنقول : المطلق والمقيّد إذا وردا فإمّا أن يكون حكم أحدهما مخالفا لحكم الآخر ، كقوله : (آتُوا الزَّكاةَ) وأعتقوا رقبة مؤمنة ، أو أطعم طعاما من أطعمة العراق ، واكس ثوبا ، وهذا لا خلاف في أنّه لا يحمل المطلق هنا على المقيّد ، ولا يتقيّد الثوب بقيد العراق ، لإمكان الجمع بينهما من غير تناف.

ولعدم تعلّق أحدهما بالآخر ، إلّا في صورة واحدة ، وهي في مثل : أعتق رقبة ، في كفّارة الظهار ، ثمّ يقول : لا تملك رقبة كافرة ، فإنّه يقتضي تقييد الرقبة بعدم الكفر ، لكنّ القيد هنا في المطلق ضدّ القيد في المقيّد ، لامتناع الجمع بينهما.

وإمّا أن لا يكون مخالفا ، فإمّا أن يتّحد السّبب ، أو يتكثّر ، إمّا مع التماثل ، أو لا ، وعلى كلّ تقدير ، فالخطاب الوارد إمّا أمر ، أو نهي ، فالأقسام ستّة :

٣٨٠