الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٨
الثالث : دليل الخطاب عند من يقول به كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «في سائمة الغنم زكاة» فإنّه يدلّ على النفي في كلّ ما ليس بسائمة.
واعلم أنّ اللّفظ إمّا خاصّ مطلقا ، وهو ما يمنع فيه الشركة ، كزيد ، وعمرو.
وإمّا عامّ مطلقا ، كالمعلوم ، والمذكور ، إذ لا يخرج منه معدوم ، ولا موجود.
وإمّا عامّ وخاصّ بالإضافة ، كالمؤمنين ، فإنّه عامّ باعتبار شموله لآحاد المؤمنين ، وخاصّ بالإضافة إلى جملتهم ، فإنّه يتناولهم خاصّة دون المشركين ، فهو عامّ باعتبار شموله لما شمله ، وخاصّ باعتبار اقتصاره على ما شمله ، وقصوره عمّا لم يشمله.
ومن هنا قيل (١) : ليس في الألفاظ عامّ مطلق ، فإنّ المعلوم لا يتناول المجهول ، والمذكور لا يتناول المسكوت عنه.
المبحث الخامس : في إثبات صيغته
اختلف النّاس في ذلك ، فذهبت المرجئة (٢) إلى أنّ العموم لا صيغة له تخصّه في لغة العرب ، وهو مذهب السيد المرتضى (٣).
وذهب جماعة من المعتزلة والشافعي وكثير من الفقهاء إلى أنّ للعموم
__________________
(١) القائل هو الغزّالي في المستصفى : ٢ / ١٠٦.
(٢) تقدّم تفسير المرجئة في الجزء الأوّل : ٣٤٢.
(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.
صيغة تخصّه وهي أقسام يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
وذهب آخرون إلى أنّ كلّ صيغة يدعى فيها العموم ، فهي للخصوص حقيقة ، ومجاز فيما عداه.
ونقل عن الأشعري مذهبان :
الاشتراك بين العموم والخصوص ، والوقف.
ووافقه القاضي أبو بكر على الوقف. (١)
ومن الواقفيّة (٢) من فصّل بين الإخبار ، والوعد ، والوعيد ، والأمر ، والنّهي ، فقال بالوقف في الإخبار والوعد والوعيد ، دون الأمر والنّهي.
لنا : المعقول ، والمنقول.
أمّا المعقول ، فوجهان : القدرة على وضع الألفاظ للعموم ثابتة بالضّرورة ، والدّاعي موجود ، إذ الحاجة ماسّة إلى إعلام الغير معنى العموم وإلى التّعبير عنه ، ليفهم السّامع ، أنّ المتكلّم قصده ، وهو معنى ظاهر مشهور بين النّاس تكثر مزاولتهم له ، ويحتاجون فى أكثر محاوراتهم إليه ، ولا مفسدة فيه ، ولا مانع من عقليّ أو نقليّ.
وإذا ثبتت القدرة على الفعل والدّاعي ، وانتفى الصّارف ، وجب وجود الفعل.
__________________
(١) التقريب والإرشاد : ٣ / ٥٠.
(٢) الواقفيّة : فرقة من المعتزلة ، وهم القائلون بالوقف في خلق القرآن. لاحظ معجم الفرق الإسلاميّة : ٢٦٩ ، تأليف : شريف يحيى الأمين.
اعترض الغزالي عليه : (١) بأنّه قياس في اللّغة.
سلّمنا الوجوب ، لكن نمنع عصمة الواضع ، حتّى لا يخالف الحكمة.
سلّمنا ، لكن نمنع عدم الوضع ، فإنّ المشترك موضوع ولا يخرج عن الوضع باشتراكه.
والجواب : أنّا لم نستدلّ بما ذكرناه على أنّه قياس ، بل استدللنا بوجود العلّة على وجود المعلول ، ولا نفي بالواجب هنا ، الّذي يستحقّ تاركه الذّمّ ، حتّى يشترط العصمة ، وإذا ضممنا إلى دليلنا أنّ الأصل عدم الاشتراك ، تمّ المطلوب.
الثاني : معنى العموم ظاهر مشهور ، يجري مجرى «السّماء» و «الأرض» وغيرهما في ظهورهما ، وشدّة الحاجة إلى العبارة عنهما ، ولا مانع هناك من الوضع ، وكما لم يجز مع هذه الأوصاف أن تتوالى الأعصار لأهل اللّغة ، ولا يضعوا للسّماء والأرض لفظا يخصّ كلّ واحد منهما ، مع أنّهم قد وضعوا الأسماء للمعاني ، ولما لا حاجة شديدة إليه ، بل قد وضعوا للمعنى الواحد ألفاظا كثيرة ، كذا لا يجوز أن يهملوا الاستغراق ، ولا يضعوا له أسماء تدلّ (٢) عليه ، وكيف يجوز من الامم العظيمة في الأعصار المترادفة ان يضعوا الأسماء الكثيرة للمعنى الواحد ، وأن يضعوا ألفاظا لاصطلاحات (٣)
__________________
(١) المستصفى : ٢ / ١١٣.
(٢) في «ج» : اسما ليدلّ.
(٣) في «ب» و «ج» : الألفاظ الاصطلاحات.
خاصّة ، ويعدلوا عن وضع لفظ يختص معنى ظاهرا.
لا يقال : لا يمتنع من الأمم إهمال ذلك ، فإنّ العرب مع كثرتها ، لم يضعوا الفعل الحال عبارة تخصّه دون الفعل المستقبل ، ولا وضعوا للاعتماد سفلا ، ولا للاعتماد علّوا ، ولا لرائحة الكافور ، ولا للكون يمنة ويسرة ألفاظا تخصّها ، مع ظهورها وشدّة الحاجة إلى التعبير عنها.
لأنّا نقول : أجاب قاضي القضاة بمنع ظهورها ، فلذلك لم يضعوا لها ألفاظا.
اعترضه ابو الحسين بأنّه لا شيء أظهر من رائحة الكافور ومفارقتها لرائحة المسك ، والاعتماد والمدافعة.
ثمّ أجاب : بأنّا أوجبنا للشيء الظاهر عبارة تدلّ على التعبير عنه إمّا مفردة أو مركّبة ، وعند خصومنا ليس في اللّغة كلام مفرد لا مركّب يدلّ على الاستغراق وحده.
وهذه الأشياء لها عبارات تعرف بها ، وهي أسماء مضافة ، فإذا قلنا : «رائحة المسك» و «الاعتماد سفلا» أو «علوّا» أو «يضرب الآن» تميّزت هذه المعاني من غيرها.
ثمّ اعترض نفسه : بأنّ الاشتراك بين الاستغراق والبعض ، معنى معقول تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، وتدعو الضّرورة إلى أن يجعل المتكلّم غيره في
شكّ من استغراق كلامه أو قصره على البعض ، فينبغي أن يكون في اللّغة لفظ يفيده.
وأجاب بحصول ذلك بالترديد ، فيقول : «جاءني إمّا كلّ الناس أو بعضهم».
فإن قالوا : إنّ في اللّغة ما يفيد الاستغراق ، وهو قولنا : «استغراق».
قلنا : مذهبكم خلاف ذلك ، وهو : أنّ حسن الاستفهام ، والتأكيد ، والاستثناء ، يدلّ على عدم الاستغراق ، ونحن نعلم حسن «استغرقت أكل الخبز إلّا هذا الرغيف» ويحسن الاستفهام والتأكيد فيقول (١) : «استغرقت أكل الخبز كلّه».
لا يقال : الاستغراق يستغنى عنه بأن يعدّد المتكلّم الأشخاص الدّاخلين تحت حكمه.
لأنّا نقول : قد يريد الإنسان أن يعبّر عن جميع الناس ، ليدلّ على حكم شامل لهم ، ويمتنع أن يعدّهم واحدا واحدا ، ولا يكفي التعليل في التعميم مثل : «كلّ من دخل داري ضربته ، لأنّه دخل داري» لخفاء علل أكثر الأحكام ، كما إذا أراد أن يخبر بأنّ كلّ إنسان في الدار نائم ، أو ضارب ، وغيرهما ممّا يكثر تعدّده ، لم تعرف علّة ذلك ، وقد تختلف العلل بالنسبة إلى الأشخاص ، فلا يمكن تعميم العلّة فيهم.
لا يقال : إنّما يلزم ذلك لو كانت اللّغة وضعيّة ، حتّى إذا وضعوا أسماء (٢)
__________________
(١) في «أ» : فنقول.
(٢) في «ب» و «ج» : اسما.
لغرض هو قائم في الاستغراق ، وجب أن يضعوا له كلاما أيضا ، ولا يلزم لو كانت توقيفيّة.
لأنّا نقول : على تقدير التوقيف يجب إذا لم يوقفوا على وضع كلام لمعنى تشتدّ حاجتهم إلى التعبير عنه أن يضعوا له ، كما أنّ المستحدث للصّناعة يلتجئ إلى وضع اسم لها ، وإن كان أصل الوضع ليس له ، وكذا من ولد له ولد ، وإذا وجب ذلك في الشخص الواحد ، فالأمم الكثيرة في الأزمنة المتطاولة المتّصلة ، أولى بوجوب ذلك (١).
وأمّا المنقول فمن وجوه :
الأوّل : لو كانت الألفاظ الّتي يدعى عمومها مشتركة بين العموم والخصوص ـ كما ذهب إليه القائلون بأنّه لا صيغة للعموم تخصّه ـ لكان التأكيد يزيد الاشتباه ، والتّالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية : أنّه إذا قال : «رأيت القوم كلّهم أجمعين» يكون قد أكّد لفظة «كلّ» وهي مشتركة بين الاستغراق ، وما تحته من الجموع ، والتأكيد يفيد تقوية المعنى ، فيلزم زيادة الالتباس والإبهام ، وهو باطل قطعا ، للعلم بأنّ مقاصد اللّغة في ذلك الإيضاح ، دون تأكيد الاشتراك.
ولو أرادوا تأكيد الإبهام ، لم يعمدوا إلى هذا التأكيد.
ولفظة «أجمعين» عندهم مشتركة أيضا ، وكلّ من دلّ على شيء
__________________
(١) لاحظ المعتمد : ١ / ١٩٥ ـ ١٩٧.
بدلالة (١) ، ثمّ تابع بين الأدلّة عليه ، فإنّه يتأكّد ذلك المدلول ، وجرى قولنا : «رأيت القوم كلّهم أجمعين» مجرى «رأيت جمعا إمّا كلّ القوم أو بعضهم» ثمّ تكرّر هذا الكلام مرّة أخرى ، في أنّه يؤكّد الالتباس.
الثاني : لو كانت لفظة «كلّ» وما أشبهها من ألفاظ العموم ، للاشتراك بين الاستغراق والبعض ، لجاز أن تكون لفظة «كلّ» مؤكّدة للاستغراق ، والتالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية : أنّ كلّ واحدة من هذه الألفاظ حقيقة في الكلّ ، وحقيقة في البعض ، فلو جاز أن يتأكّد باللفظة [الثانية] «الكلّ» ، جاز أن يتأكّد بها البعض.
لا يقال : إنّ لفظة «كلّ» و «أجمعين» أكثر استعمالا في الاستغراق من غيره.
لأنّا نقول : إن كانت حقيقتها الاستغراق خاصّة ، فهو مذهبنا ، وإن كانت مشتركة ، لزم ما قلناه ولا يلزم من غايتها زوال الاشتراك ، والّا فهو مطلوبنا.
لا يقال : إذا قال : «رأيت النّاس كلّهم أجمعين» علمنا أنّه رأى أكثر ممّا لو قال : «رأيتهم كلّهم» أو «رأيتهم أجمعين».
لأنّا نقول : إذا كانت كلّ واحدة من لفظتي : «كلّ» و «أجمعين» لا يفيد هذه
__________________
(١) في «أ» و «ج» : بدلالته.
الكثرة ، وجب على الاجتماع مثله ، لأنّ المركّب من الكلام إنّما يفيد تركيب معان مفردة فقط ، دون شيء زائد.
الثالث : قال قاضي القضاة : الّذي يفسد قول الذاهبين إلى أنّ «لفظ العموم مشترك بين الاستغراق وبين ما دونه» أنّ أهل اللّغة فصّلوا بين لفظ العموم وبين النّكرة المثبتة ، كرجل ، ولن يتمّ ذلك إلّا مع القول بأنّ في العموم ضربا من الاستغراق.
واعترض (١) : بأنّ ذلك يتمّ من دون ما ذكره ، لأنّ النكرة في الإثبات تتناول واحدا غير معيّن ، ولفظ «العموم» يفيد الجمع المستغرق وغير المستغرق على البدل.
الرابع : فرّق أهل اللغة من تأكيد العموم وتأكيد الخصوص ، فقالوا : «رأيت زيدا نفسه» ولم يقولوا : «أجمعين» وقالوا : «رأيت القوم أجمعين» ولم يقولوا : «نفسه» ، فكما اختلف التأكيد لا بالقصد ، كذا يجب اختلاف المؤكّد لا بالقصد.
وهذه الدلالة يبطل بها قول من جعل اللّفظ العامّ للخصوص (٢) خاصّة ، لا للجمع المشترك بين كلّ الجموع ، ولا يقع على الواحد إلّا مجازا.
الخامس : كلّ من أراد أن يخبر عن الاستغراق فلا بدّ له من استعمال هذه
__________________
(١) المعترض هو أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٢٠٦.
(٢) في «ب» : للمخصوص.
الألفاظ الّتي يدّعى أنّها للعموم ، فيجب أن تكون موضوعة له ، لأنّه لا مندوحة عنها ، وجرى مجرى كلّ الحقائق الّتي يفزع [فيها] إلى العبارات الموضوعة لها.
احتجّ منكرو العموم : بأنّ العلم بكون هذه الصّيغ موضوعة للعموم ، إمّا أن يكون عقليا ، وهو محال ، إذ لا مجال للعقل في الوضع ، وإمّا أن يكون نقليّا ، وهو باطل ، إذ لا تواتر ، وإلّا لعرفه الكلّ ، والآحاد لا تفيد التّعيين ، بل الظنّ ، والمسألة علميّة ، فلا يجوز الاستدلال فيها بالظّنّ.
والجواب : المنع من كونه غير معلوم ، فإنّ كلّ من استقرأ اللّغات ، علم بالضّرورة أنّ لفظة «كلّ» و «جميع» للعموم.
سلّمنا ، لكن نعلم بالعقل ، وله مجال في اللّغات بواسطة مقدّمات نقليّة.
سلّمنا ، لكن جاز التمسّك في هذه بالآحاد.
ونمنع كونها علميّة.
واحتجّ القائلون بالخصوص بوجوه :
الأوّل : الخصوص متيقّن ، والعموم محتمل ، فحمله على المتيقّن أولى.
الثاني : غالب استعمال هذه الصيغ في الخصوص كما يقال : جمع السلطان ، التّجار ، والصّنّاع ، وكلّ صاحب حرفة ، وأنفقت دراهمي ، وغير ذلك ، والأصل ، صرف الأغلب إلى الحقيقة.
الثالث : إذا قال السيّد لعبده : «أكرم الرجال ، ومن دخل داري فاعطه درهما» فإنّه لا يحسن منه الاستفسار عن إرادة البعض من ذلك ، ويحسن
الاستفسار عن إرادة الجميع ، وجعل الصيغة حقيقة فيما لا يحسن الاستفسار عنه ، أولى ممّا يحسن ، لأنّ الاستفهام ، طلب الفهم ، وطلب الفهم عند حصول المقتضي للفهم عبث ، لكنّ من المعلوم حسن أن يقول العبد : كلّ الرجال أكرمهم وكلّ داخل أعطيه (١) أو بعضهم حتّى الفسّاق.
الرابع : لو كان قوله : «رأيت الرّجال» مثلا للعموم ، لكان إذا أريد به الخصوص ، يلزم كذب المخبر ، كما لو قال : «رأيت عشرين» وكان قد رأى عشرة بخلاف ما إذا كانت للخصوص ، وأريد بها العموم.
الخامس : لو كانت للعموم ، لم يفد تأكيدها شيئا غير ما أفادت ، وذلك عبث.
السادس : لو كانت للعموم ، لكان الاستثناء نقضا لإفادة الاستغراق بأوّل الكلام ، ثمّ بالاستثناء رجع عن تلك الإفادة ، كما لو قال : «ضربت كلّ من في الدّار» ثمّ يقول : «لم أضرب كلّ من في الدّار».
ولأنّ العموم لو استغرق ، لكان قوله : «ضربت الكلّ» بمنزلة «ضربت زيدا وعمروا وخالدا» ثمّ يقول : «إلّا زيدا» ، ولمّا لم يحسن هنا ، فكذا ثمّ ، ولمّا حسن ثمّ ، دلّ على أنّها ليست للاستغراق.
السابع : لو كانت للعموم ، لما صحّ جمعها ، فإنّ الجمع يفيد ما لا يفيده المجموع (٢) ولا كثرة بعد الاستغراق ، فلا يجمع.
__________________
(١) في «ب» : أكرمتهم وكل داخل أعطيته.
(٢) في «ج» : لا يفيده الواحد.
والتّالي باطل ، لقولهم : «منان ، منون» (١).
الثامن : يصحّ إدخال لفظي «كلّ» و «بعض» على ما ادّعيتم عمومه ، مثل : «كلّ من دخل داري أكرمه ، وبعض من دخل» من غير تكرير ولا نقض.
والجواب عن الأوّل : المنع من تيقّن الخصوص ، وإلّا لم يكن العموم محتملا ، وأنتم قد اعترفتم به.
سلّمنا ، لكنّ ذلك لا يدلّ على أنّه حقيقة في الخصوص ، فإنّ الثلاثة متيقّنة الإرادة من العشرة ، ولا يلزم كون لفظة «العشرة» حقيقة في الثلاثة ومجازا في الزائد.
لا يقال : الزيادة على الثلاثة في العشرة متيقّنة.
لأنّا نقول : لو كانت متيقّنة ، لامتنع الاستثناء.
والحاصل ، أنّ الخصوص إن كان كلّ المراد ، لم يكن متيقّنا ، وإن كان مرادا في الجملة ، لم يدلّ على الوضع له.
سلّمنا ، لكن يعارض بكونه حقيقة في العموم ، إذ من المحتمل أن يكون مراد المتكلّم العموم ، فلو حمل لفظه على الخصوص ، لم يحصل مراده ، ولو أراد الخصوص ، حصل مقصوده لو حمل على العموم ، وليس أحدهما أولى من الآخر.
__________________
(١) تثنية «من» وجمعها ، قال شمر بن الحارث :
أتوا ناري فقلت منون أنتم |
|
فقالوا الجن قلت عموا ظلاما |
لاحظ. لسان العرب : ٣ / ١٦٧ (حسد) وج ١٣ / ١٩٩ (منن).
وعن الثاني : بالمنع من كونها للخصوص في الأمثلة.
سلّمنا ، لكن نمنع عليه الاستعمال.
وما ذكرتموه من الأمثلة وغيرها نادر بالنّسبة إلى مظانّ العموم (١) في هذه الصّيغ.
سلّمنا ، لكنّ الغلبة لا تدلّ على الحقيقة ، فإنّ المجازات العرفيّة غالبة ، ولم تخرج عن كونها مجازات فيما غلب استعمالها فيه.
وعن الثالث : حسن الاستفهام عن إرادة العموم لا يخرج الصّيغة عن كونها حقيقة في العموم إذ التأكيد أمر مطلوب ، كما إذا قال : «رأيت السّلطان» حسن أن يستفهم هل رأيت السلطان نفسه أو أتباعه.
وعدم حسن الاستفهام عن البعض لتيقّنه لا يقتضي كونه حقيقة فيه.
ولو كان حسن الاستفهام لأجل الاشتراك ، لوجب أن لا يحسن الجواب إلّا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة.
ثمّ نقول : الاستفهام إمّا أن يقع ممّن يجوز عليه السهو ، أو ممّن لا يجوز عليه والأوّل قد يحسن لغير ما ذكرتم :
الأوّل : ربّما ظنّ السّامع أنّ القائل غير متحفّظ في كلامه ، أو هو كالساهي ، فيستفهمه حتّى إن كان ساهيا زال سهوه ، فأخبر عن تيقّظ ، ولهذا يحسن أن يجاب عن الاستفهام بعين ما وقع عنه الإخبار.
__________________
(١) في «ج» : مكان العموم.
الثاني : قد يظنّ السّامع لأجل أمارة أنّ المتكلّم أخبر بالعامّ عن جماعة على سبيل المجازفة ، وتشتدّ عناية السامع الى المعرفة فيستفهم ، ليعلم المتكلّم شدّة اهتمامه فلا يجازف (١) بكلامه.
ولهذا إذا قال : رأيت كلّ من في الدار ، فيقال : أرأيت زيدا فيهم؟ فإذا قال : نعم ، زالت التهمة ، لقلّة احتمال الخاصّ ، وقد لا يتحقّق من قرينة فتدعوه معرفته لشدّة (٢) اهتمام السائل إلى أن يقول : لا أتحقّق رؤيته.
الثالث : قد يستفهم طلبا لقوّة الظّنّ.
الرابع : أن توجد قرينة تقتضي التخصيص ، مثل ما لو قال : ضربت كلّ من في الدار ، وكان فيها الوزير ، فإنّ الظنّ يقضي بعدم (٣) ضربه ، ومع التعارض يحتاج إلى الاستفهام ، ليقع الجواب [عنه] بخاصّ لا يقبل التخصيص.
وأمّا إن وقع ممّن لا يجوز عليه السّهو فذاك (٤) لأنّ دلالة الخاصّ أقوى ، فيطلب الخاصّ بعدم العامّ ، تحصيلا لتلك القوّة.
وعن الرابع : أنّ الكذب إنّما يلزم لو لم يرد المجاز مع صلوحه ، كما لو قال : «رأيت أسدا» بخلاف العشرة والعشرين ، فإنّ لفظة العشرين ، لم توضع للعشرة ، حقيقة ولا مجازا.
__________________
(١) في «أ» و «ج» : فلا يتجازف.
(٢) في «أ» : بشدّة.
(٣) في «ب» و «ج» : لعدم.
(٤) في «أ» و «ب» : فذلك.
وعن الخامس : انّ المراد بالتأكيد التقوية والعلم بعدم مجازفة المتكلّم ، وعدم إرادة التخصيص.
وأيضا ، المتكلّم إمّا أن يجوز عليه السّهو ، فيحسن التأكيد ، لما تقدّم ، أولا يجوز ، فيفيد قوّة الظّن ، ويعارض بجواز تأكيد المتخصّص ، مثل : جاء زيد نفسه ، وتأكيد ألفاظ العدد مثل : عشرة كاملة ، ولأنّ التأكيد تقوية ما كان حاصلا ، فلو كان الحاصل هو الاشتراك لتأكّد ذلك الاشتراك على ما مرّ تقريره.
لا يقال : التأكيد يعيّن اللّفظ لأحد مفهوميه.
لأنّا نقول : إنّه حينئذ يكون بيانا لا تأكيدا.
وعن السادس : النّقض بالفاظ العدد ، فإنّها صريحة في ذلك العدد ، مع صحّة الاستثناء منه ، والفرق بين الاستثناء والنّقض : أنّ الاستثناء كالجزء من الكلام ، لعدم استقلاله ، فيجب تعلّقه بما تقدّم ، فتصير الجملة شيئا واحدا ، يفيد إرادة ما عدا المستثنى ، بخلاف «ضربت كلّ من في الدّار ، لم أضرب كلّ من في الدّار» لاستقلال كلّ من الكلامين بنفسه ، فلا حاجة إلى تعلّقه بما تقدّم عليه ، وإذا لم يتعلّق به ، أفاد الأوّل ضرب الجميع ، والآخر نفيه وكان نقضا.
وأمّا الثاني : فلا جامع فيه.
ثمّ الفرق : أنّ الاستثناء إخراج بعض من كلّ ، بخلاف «ضربت زيدا وعمرا إلّا زيدا» لانصراف إلّا زيدا ، إلى زيد ، لا إلى عمرو ، لأنّ زيدا ليس بجزء منه ، ولا إليهما معا ، لاستقلال كلّ منهما بنفسه ، ولا يشملهما لفظ واحد ، وهو كلّ
(لهما) (١) فيكون الاستثناء قد دلّ على أنّ لفظة «الكلّ» مستعملة فيما عداه ، فصار نقضا.
بخلاف «رأيت كلّ الناس إلّا زيدا».
وأيضا ، كونه حقيقة في الاستغراق لا ينافي جواز التجوّز بغيره ، والاستثناء دليل على عدم استعمال (٢) المجاز فيه.
ثمّ نقول : ظاهر العموم الاستغراق مع التجرّد عن الاستثناء ، أو مع عدمه ، فإن قالوا بالأوّل ولم يتجرّد في الاستثناء ، فلا يكون نقضا ، وإن قالوا بالثاني منعنا ذلك ، على أنّ العموم إنّما يستغرق ما دخل عليه ، فإذا كان معه استثناء ، فهو داخل على ما عدا المستثنى ، وهو مستغرق له ، ولم يكن الاستثناء نقضا ، فإنّه لا فرق بين قولنا : «كلّ من في الدار الّا بني تميم» وبين قولنا : «كلّ من في الدار من غير بني تميم» لأنّ كلّ واحد منهما يفيد عموم الحكم فيمن عدا بني تميم ، وحينئذ لم يستعمل كلّ في غير ظاهرها ، ولا يكون الاستثناء نقضا.
والحاصل : أنّ العموم فيما عدا المستثنى كالمقيّد بالشرط والصفة ، وكما لا يصحّ العموم المشروط ، كذا العموم المستثنى بعضه.
وعن السابع : أنّه ليس بجمع في الحقيقة ، على ما اتّفق عليه أهل اللّغة ، وإنّما هو إشباع الحركة ، وإلحاق زيادة النّون.
__________________
(١) ما بين القوسين يوجد في «أ» و «ج» ولعلّه زائد.
(٢) كذا في «أ» ولكن في «ب» و «ج» : على استعمال.
سلّمنا كونه جمعا ، لكن قال سيبويه (١) : إنّه إنّما تجمع حالة الوقف ، إذا حكي بها الجمع المنكّر ، وحينئذ لا تكون للعموم.
وعن الثامن : أنّ لفظ العموم قد استعمل في غيره مجازا من غير نقض ، وقد يؤكّد ، فلا يكون مكرّرا.
احتجّ القائلون بالاشتراك بوجهين :
الأوّل : الألفاظ الّتي يدّعى عمومها ، قد استعمل في العموم تارة ، ولا نزاع فيه ، وفي الخصوص أخرى ، فإنّ من قال : «من دخل داري وهبته» قلّما يريد به العموم ، والاستعمال دليل الحقيقة في كلا المعنيين ، فيكون مشتركا ، فإنّ الظاهر من استعمال اللفظ في شيء كونه حقيقة فيه ، لأنّه الأصل ، وإلّا لتعذّر علينا الحكم بكون اللفظ حقيقة في شيء ، إذ لا طريق سواه.
ولأنّه لو لم يكن حقيقة في العموم والخصوص ، لكان مجازا في أحدهما ، واللفظ لا يستعمل في المجاز إلّا مع قرينة ، والأصل بخلافه.
ولأنّ القرينة إن عرفت ضرورة ، امتنع وقوع الخلاف فيها ، ولا تعرف نظرا ، لأنّا لمّا نظرنا في أدلّة المثبتين لهذه القرينة ، لم نجد فيها ما يعوّل عليه. (٢)
الثاني : حسن الاستفهام عن إرادة الجميع أو البعض ، يدلّ على اشتراكه فيهما.
__________________
(١) تقدمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٦٩.
(٢) حاصله : أنّ القرينة إمّا أن تعرف ضرورة أو نظرا ، والأوّل باطل ، وإلّا لامتنع وقوع الخلاف فيها والثاني أيضا مثله ، لأنّا لمّا نظرنا ...
والجواب عن الأوّل : إن ادّعيت أنّ الاستعمال لا يكون إلّا مع الحقيقة ، بطل المجاز ، وإن سلّمت جواز اقترانه مع المجاز ، لم يبق مطلق الاستعمال دليلا على الحقيقة.
لا يقال : الاستعمال مع كون المجاز على خلاف الأصل ، دليل على الحقيقة.
لأنّا نقول : قولك : «المجاز على خلاف الأصل» ظنيّ ، والمسألة عندك علميّة.
وأيضا ، فالاشتراك على خلاف الأصل أيضا ، والمجاز خير منه عند التّعارض.
وفساد طريق آخر على كون اللفظ حقيقة ، لا يدلّ على صحّة هذا الطريق ، أعني الاستعمال.
لأنّا قد بيّنا فساده ، فلا يصير صحيحا لفساد غيره (ونمنع انحصار الطريق). (١)
والضروريّ قد ينازع فيه الأقلّ ، وأكثر أهل اللغة سلّموا العموم.
سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّه لم يوجد ما يدلّ على المجاز في الخصوص ، وعدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.
والسيّد المرتضى على هذا عوّل (٢) وكلامه يدلّ على المطالبة بالدلالة
__________________
(١) ما بين القوسين يوجد في «ب».
(٢) في «ب» : يعوّل.
على كون هذه الصّيغة مجازا في الخصوص ، مع أنّه شرع في الاستدلال على كونها مشتركة بين العموم والخصوص (١).
وعن الثاني : ما تقدّم ، من أنّ حسن الاستفهام لا يدلّ على الاشتراك.
احتجّ القائلون بالتعميم في الأمر والنّهي دون الخبر ، بانعقاد الاجماع على التكليف بأوامر عامّة ونواه عامّة ، فلو لم يكن الأمر والنّهي للعموم ، لما عمّ التكليف ، أو كان تكليفا بما لا يطاق.
أمّا الخبر ، فليس بتكليف ، ولأنّه يجوز وروده بالمجهول من غير بيان ، كقوله [تعالى] : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ)(٢).
والجواب : لا فرق بين الأمر والخبر ، فإنّه كما وقع التكليف بأوامر عامّة ، كذا وقع التكليف بمعرفة ، بالأخبار العامّة (٣) مثل : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٤) ، وكذلك عمومات الوعد والوعيد ، للانزجار عن المعاصي ، والانقياد إلى فعل الطّاعات.
وإذا تساوى التكليف ، فلا فائدة في الفرق بين الأمر والخبر.
__________________
(١) لاحظ الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٠١ ـ ٢٠٣.
(٢) مريم : ٧٤.
(٣) كذا في «ب» ولكن في «أ» و «ج» : والجواب : قد أمرنا بالتكليف بالأخبار العامّة.
(٤) الحديد : ٣.
المبحث السادس : في صيغ العموم
وفيه مطالب :
[المطلب] الأوّل : في أنّ لفظي «كلّ» و «جميع» للعموم
ويدلّ عليه وجوه :
الأوّل : قولنا : «جاءني كلّ فقيه» يناقضه عرفا : «ما جاءني كلّ فقيه» ولهذا يستعمل كلّ منهما في تكذيب الآخر ، وإنّما يتحقّق التناقض لو أفاد الكلّ الاستغراق ، لأنّ النّفي عن الكلّ لا يناقض الثبوت في البعض. (١)
وفيه نظر ، لأنّ التناقض لا يتوقّف على أن يكون «كلّ» للعموم ، فإنّه على تقدير أن يكون سور إيجاب جزئيّ يكون نفيه سور سلب كليّ كما في قولنا : «واحد من الناس كاتب ليس ولا واحد من الناس بكاتب».
وأيضا ، يكفي في التناقض اتّحاد المورد.
الثاني : لفظ الكلّ والبعض متقابلان ، وإنّما يحصل التقابل لو كانت لفظة الكلّ ، غير محتملة للبعض. (٢)
__________________
(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٣٦٧.
(٢) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٣٦٧.
وفيه نظر ، فإنّ القائلين بالخصوص ، يمنعون التّقابل بينهما.
سلّمنا ، لكن يكفي في التقابل احتمال كلّ للعموم ، دون البعض.
الثالث : سبق الفهم دليل الحقيقة ، وإذا قال «رأيت كلّ من في الدّار» سبق الفهم إلى أنّه رأى الجميع ، ولو كان لفظ الكلّ مشتركا بين الجميع والبعض لما حصل السّبق ، كما في الألفاظ المشتركة.
الرابع : لو قال السّيّد لعبده : «كلّ من دخل داري فاعطه درهما» فلو أعطى العبد كلّ داخل ، لم يتوجّه عليه ذمّ ، ولو أعطى طويلا ، فقال السّيّد : لم أعطيته مع أنّي أردت القصار؟ كان للعبد أن يقول : إنّك أمرتني بإعطاء الجميع دون القصار ، وهذا قد دخل ، وكلّ عاقل سمعه لام السّيّد على تعيينه ، وعذر العبد على فعله ، ولو انعكس الحال ، فأعطى الطوال خاصّة ، ومنع القصار ، كان للسيّد أن يذمّه على منع القصار ، ولا يقبل عذر العبد بأنّ فلانا قصير ولفظ السيّد عامّ فلعلّه أراد الطوال ، واستحقّ العبد المؤاخذة. (١)
وفيه نظر ، لأنّ القائل بعدم العموم يمنع من عدم توجّه الذّمّ بإعطاء الجميع قبل الاستفهام.
وذمّ السيّد (٢) على منع القصار لا باعتبار العموم بل باعتبار التخصيص مع احتمال اللفظ على السّويّة.
__________________
(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٣٦٨.
(٢) في «أ» : ولوم السيّد.