نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه الّتي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وبذلك أبان للقرآن وجها خاصّا لدلالته ، لا يلتفت إليه إلّا من نزل القرآن في بيته ، وليس هذا الحديث غريبا في مورده ، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه عليهم‌السلام.

هذه إلمامة عابرة في بيان طرق أهل البيت عليهم‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فما روي عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام حول علمهم بالسنّة فانما هو ناظر إلى ما سبق ذكره.

سئل الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : أكل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه ، أو تقولون فيه؟ فقال : «لا بل كل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه». (١)

فالإمام يريد بالسنّة ما ذكرنا (مصادرها وطرقها) لا خصوص السنّة الموجودة في أفواه الناس وعلى ألسنتهم ، وإن كان ربّما يلتقي علمهم بالسنن بما رواه الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض المواضيع.

هذه الرواية العابرة توقفنا على مدى ما تلقاه الأئمة عليهم‌السلام من سنن النبي ، أفبعد هذا يصح أن نعتمد على ما رواه البخاري عن أبي جحيفة الّذي قال : قلت لعلي : عندكم كتاب؟ قال لا إلّا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة. قال : قلت : فما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر. (٢)

__________________

(١) الكافي : ١ / ٦٢ ، باب الرد إلى الكتاب والسنّة ، الحديث ١٠.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ٦٤ باب كتابة العلم ، الحديث ٥٢.

٤١

كيف لا يكون عند علي عليه‌السلام كتاب يجمع فيه سنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهؤلاء هم أبناء علي عليه‌السلام ينقلون عنه ويعتمدون عليه؟!

والعجب ما ورد في هذه الرواية من أنّ الصحيفة الّتي كان يحتفظ بها علي لم تشتمل إلّا على جمل محدودة ، فلو لم يكن عند علي وأبنائه المعصومين إلّا ما جاء في هذه الرواية ، فمن أين هذه العلوم الموروثة عنه وعن أبنائه الصادقين الّتي بهرت العقول؟!

كيف لا يكون عند علي عليه‌السلام سوى ما في هذه الصحيفة أو ما في ألسن الناس مع أنّ المسلّم عند الفريقين أنّ عليا كانت عنده علوم وأسرار لم تكن عند غيره ، وكان الصحابة يرجعون إليه في المشاكل والمسائل العويصة ، فهذا عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء كانوا يرجعون إليه ويسألونه ، كيف لا وهو باب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد قام زميلنا الجليل المغفور له الشيخ علي الأحمدي. (١) بجمع ما ورد في كتاب علي عليه‌السلام ممّا هو مبثوث في الجوامع الحديثية ورتّبه على ٢٦ بابا ، وما جمعه إنّما هو غيض من فيض وقليل من كثير ممّا كان في الأصل.

__________________

(١) مكاتيب الرسول : ٢ / ١٣٥ ـ ٣١٣.

٤٢

٤

تقييم الإجماع عند الإماميّة

عدّ الأصوليون الإجماع من أحد الأدلّة الشرعية ، غير أنّهم اختلفوا في ملاك الحجيّة فالمحقّقون من السنّة قالوا : إنّ الإجماع يجب أن يكون مستندا إلى دليل شرعي قطعي أو ظنّي كالخبر الواحد والمصالح المرسلة والقياس والاستحسان.

فلو كان المستند دليلا قطعيا من قرآن أو سنّة متواترة ، يكون الإجماع مؤيدا معاضدا له (١) ؛ ولو كان المستند دليلا ظنيا ، فيرتقي الحكم بالإجماع من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين. ومثله إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة ، فالاتفاق على حكم شرعي ـ استنادا إلى ذلك الدليل ـ يجعله حكما شرعيا قطعيا إلهيا وإن لم ينزل به الوحي. (٢)

وعلى ضوء ذلك فالإجماع عند أهل السنّة من مصادر التشريع في عرض

__________________

(١) لا يذهب عليك أنّه إذا كان في المورد دليل قرآني أو سنّة متواترة ، فلا حاجة للتأييد والتعضيد ، والأولى أن تخص مورده بما إذا لم يكن في مورده إلّا دليل ظنّي.

(٢) الوجيز في أصول الفقه لوهبة الزحيلي : ٤٩.

٤٣

الكتاب والسنّة ، لكن بشرط أن يكون الحكم مستندا إلى دليل ظني ، فعندئذ يجعله إجماع العلماء حكما قطعيا.

وأمّا عند الشيعة فالإجماع بما هو هو ليس من مصادر التشريع وانّما يكشف عن وجود الدليل ، فالاتّفاق مهما كان واسعا ، لا يؤثر في جعل الحكم ، شرعيا إلهيّا وانّما المؤثر في ذلك المجال ، نزول الوحي به فقط.

نعم للإجماع دور في كشف الدليل الأعم من القطعي والظنّي ، وقد اختلفوا في كيفية كشفه إلى أقوال يجمعها أمران :

١. استكشاف الدليل بالملازمة العادية بين فتوى المجمعين وقول الإمام.

٢. استكشاف الإجماع موافقة الإمام عليه‌السلام لكونه من جملة المجمعين.

أمّا الثاني فمشروط بشرطين :

أ. ان يكون الإمام ظاهرا لا غائبا.

ب. أن تتوفر الحرية في الفتوى ويكون للإمام حرية تامة في إظهار رأيه ، ومثل ذلك لم يتّفق في عصر الحضور إلّا في فترة قليلة ، وهي الّتي عاصرها الإمامان الصادقان : الباقر والصادق عليهما‌السلام. وبسبب عدم توفر هذين الشرطين في عصر الأئمة لم يلتفت إليها إلّا القليل من العلماء ، وإنّما المهم استكشاف وجود الدليل عن إجماع المجمعين بأحد الطريقين التاليين :

أ. تراكم الظنون مورث لليقين بالحكم الشرعي ، لأنّ فتوى كلّ فقيه وإن كانت تفيد الظن ، إلّا أنّها تعزز بفتوى فقيه ثان فثالث ، إلى أن يحصل للإنسان من إفتاء جماعة على حكم ، القطع بالصحة ، إذ من البعيد أن يتطرق البطلان إلى فتوى هؤلاء الجماعة.

٤٤

ب. الإجماع كاشف عن دليل معتبر.

إنّ حجيّة الإجماع ليس لأجل إفادته القطع بالحكم ، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا ، وهذا هو الّذي اعتمد عليه صاحب الفصول ، وعدّة من المتأخرين.

قال صاحب الفصول : سنكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمة في الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان. (١)

قراءة صاحب المقال للاجماع عند الشيعة

إنّ الدكتور أحمد الريسوني «حفظه الله» بعد أن ذكر أنّ الإجماع عند الشيعة ليس حجة بما هو هو ، وانّما ملاك حجّيته كشفه عن الدليل ، حاول أن يطبق نظرية أهل السنّة على نظرية الشيعة. فقال :

وهذا القول في حقيقة الإجماع وحقيقة حجّيته ليس بغريب على أصوليّ السنّة ، فهو بعض ما يتضمّنه قولهم : «الإجماع لا بدّ فيه من مستند» ، ثم ذكر كلام إمام الحرمين والشريف التلمساني (٢).

وما استنتجه من التوفيق بين النظريتين عمل مشكور عليه ، إلّا أنّنا نشير إلى أنّهما ليستا متحدتين بالشكل الّذي ذكره الأستاذ ، وانّما هما متحدتان في شيء ومختلفتان في شيء آخر.

__________________

(١) الفصول في علم الأصول للشيخ محمد حسين الحائري.

(٢) الصفحة : ٩١ من المجلة المذكورة.

٤٥

١. تشتركان في أنّ إجماع المجمعين لا بدّ أن يكون على أساس دليل ، ولا يصح إفتاؤهم بلا دليل.

٢. وتختلفان في أنّ للإجماع ـ عند أهل السنّة ـ دورا في إضفاء المشروعية على الحكم المجمع عليه ، بحيث يجعله حكما ـ كسائر الاحكام الواردة في الكتاب والسنّة ـ سواء أصح المستند الظني في الواقع أم لم يصح ، وكأنّ الاتفاق ، عملية كيمياوية تقلب النحاس ذهبا. إمّا مطلقا وفي عامّة الموارد ، أو فيما إذا كان مستند الإجماع ، مثل القياس والمصالح والمفاسد العامّة ، وهذا ليس شيئا خفيا على من له إلمام بأصول الفقه لدى السنّة ، وقد وقفت على كلام الفقيه المعاصر «وهبة الزحيلي» حتى أنّ الكاتب صرح بذلك في مقاله الّذي يقول فيه :

«وقد يكون إجماعهم ناشئا عن قياس ظنّي في أصله ، ولكن الإجماع على الحكم أضفى عليه صوابا ويقينا (١) لا يحتمل الشك.

وقد يكون الإجماع منعقدا عن نظر استصلاحي سديد ، ومن خلال الإجماع عليه تأكّدت موافقته القطعية للشرع وللمصالح الّتي اعتبرها.

هذا الّذي عليه السنّة وأمّا الشيعة فهم عن بكرة أبيهم ، لا يقيمون للإجماع دورا سوى الكشف عن الدليل : القطعي أو الظنّي ، وليس له دور في إضفاء الصواب على الدليل والمشروعية على الحكم ـ لو فرض عدم صحته ـ فلذلك ليس الإجماع بما هو هو ، من مصادر التشريع.

__________________

(١) أمّا اليقين فنعم ، وأمّا الصواب فلا ، فيما إذا كان غير صحيح.

٤٦

نقد الإجماع الدخولي

قد عرفت أنّ ملاك حجّية الإجماع هو كشفه عن الدليل بأحد الوجهين التاليين :

أ. كشفه عن دخول الإمام في المجمعين.

ب. كشفه عن وجود الدليل والحجة.

أمّا القسم الأوّل فقد عرفت اختصاصه بعصر الحضور ، لكن بشرط أن تسود الحرية عامّة أهل الفتوى في البلد الّذي يقيم فيه المعصوم ، كالمدينة المنورة كما كان ذلك في بعض الأعصار أيّام نشوب الصراع بين الأمويين والعباسيين.

فلو وصل إلينا أنّ كلّ من يؤخذ عنه الفتوى في المدينة أفتوا على حكم من الأحكام ولم يشذّ منهم أحد ، نكشف اتّفاق الإمام الباقر والصادق معهم ، لأنّ لسان الإجماع هو كلّ من يؤخذ عنه الفتوى ، وهما من أبرز من يؤخذ منهم الفتوى.

وعلى ضوء ذلك نقف على مدى صحة رأي الأستاذ حول الإجماع الدخولي. قال :

«ولست أدري كيف استساغ علماء الإمامية وأذكياؤهم هذا التناقض الواضح ، إذ يعتبرون الإجماع كاشفا عن قول المعصوم ، ثم يشترطون دخول هذا المعصوم؟ وإذا دخل المعصوم في الإجماع ـ بحيث كان قوله معروفا وثابتا ـ

٤٧

فأي كشف بقي للإجماع أن يقوم به؟ ثم إذا كان قول المعصوم حجة في ذاته فأي حاجة وأي قيمة للإجماع مع ثبوت قول المعصوم؟ (الصفحة ٩٣).

ويلاحظ عليه : أنّه تصوّر أنّ الإجماع الدخولي عبارة عن معرفتنا بدخول الإمام شخصيا ضمن المجمعين فرتّب عليه ما رتب ، حيث قال : «فعند ذلك أي كشف بقي للإجماع أن يقوم به».

وبعبارة أخرى : تصور انّ الإجماع الدخولي عبارة عن رؤية الإمام شخصيا بين المجمعين ، أو سماع صوته منهم ، أو ثبوت تواجده بين المجمعين بخبر قطعي ، فعند ذلك قال: «فأي دور يبقى للإجماع بعد معرفة الإمام».

ولكن خفي عليه واقع هذا القسم من الإجماع ، فالمراد به ما إذا ثبت بخبر قطعي ، أنّ علماء المدينة وكلّ من يؤخذ عنه الفتوى ، اتّفقوا على حكم من الأحكام الشرعية وكان أهل البيت يتمتّعون بالحرية لإظهار رأيهم وإبداء ما عندهم ، فعند ذلك نستكشف دخول الإمام المعصوم في المجمعين وتواجده فيهم على نحو لو لا هذا الإجماع والاتّفاق بالنحو الّذي عرفت لم يكن لدينا طريق لمعرفة قول الإمام ، وعندئذ يكون للإجماع دور الكشف عن دخولهم فيهم.

وبذلك تقف على ما هو المقصود للمحقّق حيث قال : «فلو خلت المائة من علمائنا من قوله ، لما كان حجّة ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة».

إنّ الممعن في كلامه من أوّله إلى آخره يقف على أنّ الغاية من هذا المقال ، هو التركيز على أنّ حجّية الإجماع ، لأجل وجود الإمام في المجمعين إمّا دخولا ، أو كشفا عن دليل وصل إلى يد المجمعين ، عنهم عليهم‌السلام فجاء قوله كمثال يبين مقصده.

٤٨

٥

خبر الواحد والقياس ظنّيان

فلما ذا التفريق بينهما؟

قد عجب الدكتور أحمد الريسوني من تفريق الإماميّة بين خبر الواحد والقياس في الحجيّة قائلا بأنهما ظنّيان ، فلما ذا فرّقت الإماميّة بينهما وقالوا بحجية الأوّل دون الثاني؟ وقد أطال الكلام في ذلك وما ذكرناه لبّ إشكاله ، ولإيضاح المقام نقدم أمورا :

الأمر الأوّل : اتّفقت الأمّة الإسلامية على أنّ البدعة أمر محرم كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا ، وهي عبارة عن إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّ الاعتماد على الظن ـ الّذي لم يقم على حجّيته دليل قطعي من الشارع ـ والإفتاء على وفقه والالتزام بأنّ مؤدّاه حكم الله تعالى في حقّه وحقّ غيره ، هو نفس البدعة ومن مصاديقها ، فبضم الثاني إلى الأوّل يتشكّل قياس منطقي ينتج حرمة العمل بالظن الّذي لم يقم الدليل القطعي على حجّيته ، فتكون صورة القياس كالتالي :

٤٩

العمل بالظن الّذي لم يقم على حجّيته دليل شرعي بدعة في الدين.

البدعة في الدين حرام بالاتّفاق.

فتكون النتيجة :

العمل بالظن الّذي لم يقم على حجّيته دليل شرعي حرام بالاتّفاق.

وعلى ضوء هذا تقول الإمامية بأنّ الضابطة الكلّية في العمل بكلّ ما لم يقم دليل على حجّيته ، سواء أكان مفيدا للظن أو لا ، هي المنع لكونه تشريعا قوليا وبدعة فعلية وعملية ، وتقوّلا على الله بغير علم.

نعم لو قام الدليل القطعي على حجّية ظن مثلا في مورد أو موارد يؤخذ بهذا الظن بحكم الشرع ، لأنّه يكون العمل عندئذ بإذن الشارع وأمره فيخرج عن الضابطة الكلية : «العمل بالظن الّذي لم يقم دليل شرعي على حجيته : بدعة».

الأمر الثاني : ذهب جمهور الإمامية إلى خروج عدّة من الظنون عن الضابطة خروجا عن الموضوع لا خروجا عن الحكم ، وهي الظنون الّتي قام الدليل على حجّيتها ، ولأجل ذلك توصف بالظنون العلمية ، أي إنها ظنون ولكن دلّ الدليل العلمي على جواز العمل بها وهي عبارة عن :

١. خبر الواحد إذا أخبر عن حسّ.

٢. حجّية الظواهر على القول بأنّها ظنّية الدلالة.

٣. الإجماع المنقول ـ بخبر الواحد ـ في مقابل الإجماع المحصّل ـ إذا كشف نقل الإجماع عن وجود دليل معتبر عن المجمعين إلى غير ذلك.

هذا هو رأي جمهور الإمامية ، نعم قد خالف في حجية خبر الواحد قليل

٥٠

من المتقدّمين كالسيد المرتضى والقاضي ابن البرّاج وأمين الإسلام الطبرسي وابن إدريس الحلي رضي الله عنهم.

ثمّ إنّ القائلين بالحجية ألّفوا في ذلك المجال كتبا ورسائل أجابوا فيها عن شبهات النافين ، شأن كلّ مسألة نظرية لا تخلو من مخالف.

هذا إجمال الكلام حول حجّية خبر الواحد الّذي عليه بناء العقلاء ، وعليه تدور رحى حياتهم ومعاشهم بالشروط المذكورة في محلها.

وأمّا القياس فقد رفضه علماء الإمامية عن بكرة أبيهم إذا كان مستنبط العلّة ، لأجل أنّ القياس مفيد للظن ، والضابطة الكلّية في الظن حرمة العمل به ما لم يقم دليل على حجّيته.

ثم إنّهم استثنوا من حرمة العمل بالقياس موارد أبرزها ما يلي :

١. إذا كانت العلة منصوصة من جانب الشرع كأن يقول الخمر حرام لكونه مسكرا ، فيحكم بحرمة كلّ مسكر.

قالوا : إنّ ذلك في الحقيقة ليس عملا بالقياس وإنّما هو عمل بالسنّة ، أي عموم العلّة كما لا يخفى.

٢. القياس الأولويّ ، فإذا قال الشارع : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١) يفهم منه حرمة الشتم والضرب بطريق أولى ، لحصول القطع والعلم بالحكم.

ثم إنّ رفض الإمامية العمل بالقياس في مجال مستنبط العلة ، لأجل أنّ استخراج علّة الحكم بالسبر والتقسيم مظنة للاشتباه ، وذلك بالبيان التالي :

__________________

(١) الاسراء : ٢٣.

٥١

أوّلا : نحتمل أن يكون الحكم في الأصل معللا عند الله بعلّة أخرى غير ما ظنّه القائس ، مثل كونه صغيرا أو قاصر العقل ، في قوله : «لا يزوّج البكر الصغير إلّا وليّها» حيث ألحق بها أصحاب القياس الثّيب الصغيرة ، بل المجنونة والمعتوهة ، وذلك بتخريج المناط وانّه هو قصور العقل وليس للبكارة مدخلية في الحكم ، فهل يمكن ادّعاء القطع بذلك ، وقد قال سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)؟! (١)

إنّ الإنسان لم يزل في عالم الحسّ تنكشف له أخطاؤه ، فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة ، فكيف بملاكات الأحكام ومناطاتها المستورة عن العقل إلّا في موارد جزئية كالإسكار في الخمر ، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر ، أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟ وأمّا ما يرجع إلى العبادات والمعاملات خصوصا فيما يرجع إلى أبواب الحدود والديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية وإن كان يظن شيئا.

قال ابن حزم : وإن كانت العلّة غير منصوص عليها ، فمن أيّ طريق تعرف ولم يوجد من الشارع نصّ يبيّن طريق تعرّفها؟ وترك هذا من غير دليل يعرّف العلّة ، ينتهي إلى أحد أمرين : إمّا أنّ القياس ليس أصلا معتبرا ، وإمّا أنّه أصل عند الله معتبر ولكن أصل لا بيان له وذلك يؤدي إلى التلبيس ، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، فلم يبق إلّا نفي القياس.

ثانيا : لو افترضنا أنّ القائس أصاب في أصل التعليل ، ولكن من أين يعلم

__________________

(١) الإسراء : ٨٥.

٥٢

أنّها تمام العلّة ، ولعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضم إليه في الواقع ولم يصل القائس إليه؟

ثالثا : احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئا أجنبيا إلى العلّة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس عليه.

رابعا : احتمال أن يكون في الأصل خصوصية في ثبوت الحكم وقد غفل عنها القائس.

ولأجل وجود هذه الاحتمالات الّتي لا تنفك عن ذهن القائس ، رفضت الإماميّة ، العمل بالقياس إذا كان مستنبط العلّة.

التفريق بين الظنّيين لما ذا؟

إنّ الدكتور أحمد الريسوني ـ حفظه الله ـ قد أخذ على علماء الإمامية بموارد ، قائلا : إنّهم يقولون بعدم حجّية الظن ومع ذلك يعملون به في الموارد التالية :

١. الخبر الواحد.

٢. الظواهر.

٣. المرجّحات الظنية عند التعارض.

٤. الأصول العمليّة.

وإليك دراسة هذه الموارد من رؤية الدكتور وما يمكن القول حولها ، ونذكر كلامه ضمن مقاطع قال :

٥٣

١. انّ الإمامية إذ يرفضون الأخذ بالقياس والاستصلاح باعتبار أنّ إفادتهما ظنّية ، فإنّهم يقبلون الظنّيات في كثير من أصولهم وقواعدهم ، في مقدّمها أخذهم بأخبار الآحاد فإنّهم يسلّمون بكون أخبار الآحاد لا تسلم من الظنية والاحتمال ، وأذن الشرع استثناء في اعتبارها. ويكون الإجماع لديهم على حجّيتها. (١)

أقول : هذا ملخّص كلامه ، والقارئ الكريم ـ بعد الاطّلاع على ما ذكرنا من الأمور ـ يقف على الفرق الواضح عندهم بين خبر الواحد العدل ، والقياس ، فإنّ الأخذ بالأوّل ليس بملاك إفادته الظن ، بل لأجل قيام الدليل الشرعي على حجّيته ، ولو كان الدليل قائما على حجّية القياس لأخذوا به.

وبعبارة أخرى : انّ خبر الواحد ممّا قام الدليل القطعي على حجّيته فصار ظنا علميا ، أي ظنا بالذات ولكن ذو رصيد علمي ، بخلاف القياس إذ لم يرد عندهم دليل يثبت حجّيته لو نقل بقيام الدليل على خلافه.

ولأجل أن يقف الأستاذ الكريم على الفوارق بين خبر الواحد والقياس نقترح عليه مراجعة كتابنا المعنون : «أصول الفقه المقارن فيما لا نص فيه».

٢. ومن المواطن الّتي أخذوا فيها بالظنيات أيضا قولهم بحجية الظواهر ، أي أنّهم يعتمدون اعتمادا أساسيا على ما يفهم من ظواهر النصوص ، والظواهر كما هو معلوم لا تكاد تسلم من الظنية والاحتمال (٢).

أقول : إنّ العمل بالظواهر ممّا أطبق العقلاء على العمل به ، ولا نجد بينهم

__________________

(١) الصفحة ٩٤ من المجلة.

(٢) الصفحة ٩٥ من المجلة.

٥٤

من ينكر حجّية الظواهر ، فإن رحى الحياة في المجتمع الإنساني تدور عليها ، وليس كلّ كلام ، نصا في مدلوله.

إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام وأصحابهم يعلّمون الناس بظواهر كلماتهم ، والمستمعون يتلقّونها حجّة شرعية دون أن يناقشوا في حجّية الظواهر.

فأين الظواهر من القياس الظني الّذي تضاربت فيه الآراء وأنكر حجيته أئمة أهل البيت ولفيف من الصحابة والتابعين. أضف إلى ذلك قيام الدليل على حجّية الظواهر دون القياس ، فهذا هو الفارق بينهما.

٣. ان الترجيحات ـ عند تعارض الخبرين ـ كلّها أو معظمها ترجيحات ظنية تعليلية وتقريبية ، فقد جرى ديدنهم على ترجيح ما ظهر أنّه الأقرب إلى واقع الحكم الشرعي الحقيقي ، وهذا كما لا يخفى ليس إحرازا للحكم الشرعي بالضرورة وانّما هو ظني وتقريب. (١)

أقول : هذا هو المورد الثالث الّذي أثار إعجاب الأستاذ من التفريق بينه وبين القياس والاستحسان وأمثالهما حيث أخذوا بالمرجّحات الظنية ورفضوا القياس والاستحسان.

ولكن الإجابة عنه واضحة ، وهي قيام الحجّة على لزوم الترجيح بالمرجّحات ، وقد تضافرت الأخبار الّتي ثبتت حجّيتها على لزوم الترجيح بالمرجحات المنصوصة كموافقة الكتاب وموافقة السنّة وموافقة المشهور وغيرها.

__________________

(١) المجلة : ص ٩٦.

٥٥

نعم هناك من يستنبط من هذه الروايات لزوم الترجيح بكلّ مرجّح وإن لم يكن منصوصا كالشيخ الأنصاري في فرائده ، ومنهم من لا يقبل ذلك ، وعلى كلّ تقدير فالفارق بين العمل بالمرجّحات والقياس والاستحسان وجود الدليل على لزوم الترجيح بها وعدمه في القياس والاستحسان.

ولو أنّ صاحب المقال أحاط بأصول الفقه عند الإمامية لما أثار عجبه هذا التفريق ، بل وجه اهتمامه إلى التركيز على موضوع آخر وهو طرح القياس على صعيد البحث على ضوء دراسة أدلّة المثبتين والنافين دون أن يربط العمل بالقياس بالعمل بخبر الواحد والظواهر.

٤. وممّا أخذه الأستاذ على الإمامية هو العمل بالأصول العملية ، أعني : البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، فقد قال : إنّ ما يسمّونه أصولا عملية هي قواعد توصل إلى الظن ، والرجحان ، ومع ذلك أجازوا بل أوصوا بالعمل بها عند عدم الدليل الصريح. (١)

أقول : أظن انّ القارئ في غنى عن تكرار الجواب فإنّ الإشكال في الجميع واحد والجواب مثله ، وهو أنّ الفارق وجود الدليل على حجّية الأصول ، سواء أكانت مفيدة للظن أم لا ، ومن درس الأصول العملية في الكتب الأصولية للشيعة الإمامية يقف على أنّهم يستدلّون عليها بطرق مختلفة من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. فكيف يقاس ذلك بالقياس الّذي تواتر النهي عن العمل به عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهذا هو قول الإمام الصادق عليه‌السلام لأبان بن تغلب : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين». (٢)

__________________

(١) الصفحة ٩٦ من المجلة.

(٢) الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

٥٦

استدلاله على حجية القياس عن طريق العقل

إنّ الأستاذ الفاضل يستدلّ على حجّية القياس عن طريق العقل قائلا : إنّ الإمامية وبخاصة متأخّريهم يجعلون من الأدلّة الشرعية «الدليل العقلي» ، بينما هم يرفضون القياس وهو من بديهيات العقول وأوّلياتها ، يقوم على قاعدة لا ينكرها عقل ولا عاقل ، وهي «أنّ ما ثبت لشيء ثبت لمثله» ، وهذا هو العدل الّذي قامت به الأرض والسماوات وجاءت به الكتب والرسالات.

أقول : لا شكّ أنّ العقل أحد الحجج الشرعية ، وذلك في مجالات خاصة ، ممّا للعقل إليها سبيل ، ونمثل لذلك بنموذجين :

الأوّل : إذا استقل العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه وتجرّد في قضائه عن كلّ شيء إلّا النظر إلى نفس الفعل يكون حكم العقل كاشفا عن حكم الشرع ، وهذا نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحسنه معه ، فيستكشف منه أنّ الشرع كذلك.

الثاني : إذا أمر المولى بشيء واستقلّ العقل بوجود الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو وجوب الشيء وحرمة ضده ، أو امتناع اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد بعنوانين ، أو جوازه إلى غير ذلك من أنواع الملازمات ، فيكشف حكم العقل عن حكم الشرع.

ففي هذين الموردين وما يشبههما يكون العقل قاطعا بالحسن والقبح أو الملازمة بين الوجوبين أو الحرمتين ، وعند ذلك نستكشف من خلال كونه

٥٧

سبحانه حكيما لا يعبث ، الحكم الشرعي ؛ للحسن والقبح ، أو للمقدّمة وضد الواجب.

وأمّا القياس فهو ليس دليلا عقليا قطعيا ، وإنّما هو دليل ظني بشهادة أنّه لو كان دليلا قطعيا لما اختلف فيه اثنان كما لم يختلفوا في حجية خبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم.

فإنّ إطلاق الدليل العقلي على القياس على وجه الإطلاق غير صحيح ، بل يجب أن يقال الدليل العقلي الظني ، لأنّ الدليل العقلي ـ عند الإطلاق ـ ينصرف إلى الدليل العقلي المفيد للعلم.

الخلط بين المماثل والمشابه

والّذي ألفت نظر الأستاذ إليه هو أنّ القياس ليس من باب المماثلة ، بل من باب المشابهة ، وكم هو الفرق بين التماثل والتشابه ، فما ذكره من أنّ «ما ثبت لشيء ثبت لمثله» راجع إلى المتماثلين ، والفرق بينهما واضح ، وذلك لأنّ التماثل عبارة عن دخول شيئين تحت نوع واحد وطبيعة واحدة ، فالتجربة في عدة من مصاديق طبيعية واحدة تفيد العلم بأنّ النتيجة لطبيعة الشيء لا لأفراد خاصة ، ولذلك يقولون : إنّ التجربة تفيد العلم ، وذلك بالبيان التالي :

إذا أجرينا ـ مثلا ـ تجربة على جزئيات من طبيعة واحدة ، كالحديد ، تحت ظروف معينة من الضغط الجوي ، والجاذبية ، والارتفاع عن سطح البحر ، وغيرها مع اتّحادها جميعا في التركيب ، فوجدنا أنّها تتمدد مقدارا معينا ، ولنسمّه (س) ، عند درجة خاصة من الحرارة ولنسمّها (ح). ثمّ كررنا هذه التجربة على هذه

٥٨

الجزئيات ، في مراحل مختلفة ، في أمكنة متعددة ، وتحت ظروف متغايرة ، ووجدنا النتيجة صادقة تماما : يتمدد الحديد بمقدار (س) عند درجة (ح). فهنا نستكشف أنّ التمدد بهذا المقدار المعين ، معلول لتلك الدرجة الخاصة من الحرارة فقط ، دون غيرها من العوامل. فعندئذ يقال : «ما ثبت لشيء ، ثبت لمثله» أو حكم الأمثال ـ فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

وأمّا التشابه فهو عبارة عن وقوع فردين مختلفي الطبيعة تحت صفة واحدة توجب التشابه بينهما ، وهذا كالخمر والفقاع فإنّهما نوعان وبينهما تشابه في الإسكار. فلو أثبتت التجربة أنّ للخمر اثرا خاصا ، لا يمكن القول بثبوته للفقاع والنبيذ بل لا بد من التماس الدليل على المشاركة ، وراء المشابهة.

وأوضح من ذلك مسألة الاستقراء ، فإنّ ما نشاهده من الحيوانات البرية والبحرية ، أنواع مختلفة. فلو رأينا هذا الحيوان البري وذلك الحيوان البحري كلّ يحرك فكّه الأسفل عند المضغ ربما نحكم ـ بلا جزم ـ بذلك على سائر الحيوانات من دون أن تكون بينها وحدة نوعية أو تماثل في الحقيقة ، والدافع إلى ذلك التعدّي في الحكم هو التشابه والاشتراك الموجود بين أنواع الجنس الواحد رغم اختلافها في الفصول والأشكال ، ولكن لا يمكن الجزم بالحكم والنتيجة على وجهها الكلي لإمكان اختلاف أفراد نوعين مختلفين في الحكم.

وبذلك يعلم أنّ القياس عبارة عن تعميم حكم مشابه إلى مشابه لا حكم مماثل إلى مماثل ، ومن المعلوم أنّ تعميم الحكم من طبيعة إلى طبيعة أمر مشكل لا يصار إليه إلّا إذا كان هناك مساعدة من جانب العرف لإلغاء الخصوصية ، وإلّا يكون التعميم عملا بلا دليل.

٥٩

مثلا دلّ الكتاب العزيز على أنّ السارق والسارقة تقطع أيديهما ، والحكم على عنوان السارق ، فهل يلحق به النبّاش الّذي ينبش القبر لأخذ الأكفان؟ فإنّ التسوية بين العنوانين أمر مشكل ، يقول السرخسي :

لا يجوز استعمال القياس في إلحاق النبّاش بالسارق في حكم القطع ، لأنّ القطع بالنصّ واجب على السارق. (١)

والحاصل : أنّ هناك فرقا واضحا بين فردين من طبيعة واحدة ، فيصحّ تعميم حكم الفرد إلى الفرد الآخر لغاية اشتراكهما في النوعية ، وأنّ حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد ، لكن بشرط أن يثبت أنّ الحكم من لوازم الطبيعة لا الخصوصيات الفردية.

وأمّا المتشابهان فهما فردان من طبيعتين ـ كالإنسان والفرس ـ يجمعهما التشابه والتضاهي في شيء من الأشياء ، فهل يصحّ تعميم حكم نوع إلى نوع آخر؟ كلّا ، إلّا إذا دلّ الدّليل على أنّ الوحدة الجنسية سبب الحكم ومناطه وملاكه التام (٢) ، كما دلّ الدليل في أنّ سبب الحرمة في الخمر ، هو الإسكار ، وإلّا فلا يصحّ إسراء حكم من طبيعة إلى طبيعة أخرى بمجرد التشابه بينهما ، أو الاشتراك في عرض من الأعراض.

__________________

(١) أصول السرخسي : ٢ / ١٥٧.

(٢) أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه : ١٠٨ ـ ١١٠.

٦٠