نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

(فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً)(١) فلمّا دلّ الدليل على تفصيل هذا السبيل ، ثبت اسم النسخ.

وليس من شرط اسم النسخ أن يكون الكلام المنسوخ متناولا للفظ المنسوخ ، فإنّ الأمر لا يفيد التكرار ، فلو أمر الله تعالى بالفعل ، ثمّ دلّ دليل على التكرار ، ودلّ دليل على رفع بعض المرّات ، كان رفعه نسخا.

وأمّا شرط الصحّة ، فهو : أن يكون إزالة لحكم الفعل ، دون نفس الفعل وصورته ، فإنّ صورة الصلاة إلى بيت المقدس ، لا تصحّ إزالتها بالأدلّة الشرعيّة ، وإنّما الأدلّة الشرعيّة دلّت على زوال وجوبها.

وليس من شرط الصحّة أن يكون المنسوخ شائعا في جملة المكلّفين ، بل يصحّ أن يكون الحكم المنسوخ لم يتوجّه جنسه إلّا إلى مكلّف واحد.

وأمّا شرط الحسن : فإن لا يكون إزالة لنفس ما تناوله التعبّد ، على الحدّ الّذي تناوله ، بل لا بدّ من أن يزيل التعبّد بمثله في وقت آخر وعلى وجه آخر ، ولهذا لم يحسن نسخ الشيء قبل وقته ، ولا نسخ ما لا يجوز أن يتغيّر وجهه ، كالمعرفة ، لأنّ كونها لطفا لا يتغيّر ، ولا نسخ قبح الجهل ، لعدم تغيّره ، ويحسن نسخ قبح بعض الآلام ، أو حسن بعض المنافع.

ويشترط أيضا تمييز الناسخ من المنسوخ عند المكلّف ، وقدرته عليه.

__________________

(١) النساء : ١٥.

٦٠١

المبحث الثاني : في جواز النسخ

اتّفق المسلمون على جواز النسخ عقلا ، وهو قول أرباب الشرائع إلّا بعض اليهود.

واتّفقوا على وقوعه سمعا ، إلّا ما نقل عن أبي مسلم بن بحر الأصفهاني ، (١) فإنّه أنكره سمعا ، وجوّزه عقلا وعن بعض اليهود أيضا ، وعن بعضهم جوازه عقلا ووقوعه سمعا. (٢)

لنا على الجواز : أنّ أفعاله تعالى إمّا أن تكون معلّلة بالأغراض والمصالح والحكم أو لا ، وعلى التقديرين ، فالجواز ظاهر.

أمّا على رأي النفاة ، كالاشاعرة ، فإنّه يفعل ما يشاء كيف يشاء ، ويغيّر ويبدّل على حسب إرادته ومشيئته ، فلا استبعاد حينئذ من أن يأمر بشيء ، وينهى عنه ، لتساوي نسبتهما إليه تعالى.

وأمّا على رأي المعتزلة ، فإنّ المصالح تتغيّر بتغيّر الأزمنة ، كما تتغيّر بتغيّر الأشخاص ، وكما جاز أن يأمر زيدا بشيء ، وينهى عمرا عنه ، في وقت واحد ،

__________________

(١) محمد بن بحر الأصفهاني ، أبو مسلم ، معتزليّ ، ولي أصفهان وبلاد فارس ، للمقتدر العباسي ، من كتبه : «جامع التأويل» في التفسير و «الناسخ والمنسوخ» وغيرهما ، ولد سنة ٢٥٤ ، وتوفّي سنة ٣٢٢ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٦ / ٥٠.

(٢) وفي الحقيقة انقسمت اليهود إلى فرق ثلاث : فذهبت طائفة إلى امتناعه عقلا وسمعا ، وأخرى إلى امتناعه سمعا لا عقلا ، وقالت العيسوية منهم بجوازه عقلا ووقوعه سمعا.

٦٠٢

كذا جاز أن يأمر زيدا في وقت ، ونهاه عنه في وقت آخر.

وأيضا ، فكما جاز أن يقول : «تمسكوا بالسبت ما عشتم إلّا السبت الفلاني» جاز أن يقول : «تمسّكوا بالسبت ما عشتم ما لم أنسخه عنكم» والعلم بذلك قطعيّ ، ولهذا اختلفت الأزمنة في وقوع العبادات فيها ، فبعضها يجب وقوع العبادة فيه ، وبعضها يجوز ، وبعضها يحرم ، وقد خصّ الشارع كلّ زمان بعبادة غير عبادة الزمان الآخر ، كأوقات الصلوات والحجّ والصوم ، ولو لا اختلاف المصالح باختلاف الأوقات لما كان كذلك.

وعلى الوقوع وجوه :

الأوّل : الأدلة القاطعة على نبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائمة ، وإنّما يصحّ مع القول بالنسخ.

الثاني : إجماع الأمّة على وقوع النسخ ، كما في الاستقبال إلى الكعبة ، الناسخ للاستقبال إلى بيت المقدس ، والاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيّام الناسخ للاعتداد بالحول ، وغير ذلك من الآيات.

الثالث : قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(١).

وجه الاستدلال : أنّ صحّة التمسّك بالكتاب إن توقّفت على صحّة النسخ ، عاد الأمر إلى أنّ نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تصحّ إلّا مع القول بالنسخ ، وقد صحّت

__________________

(١) البقرة : ١٠٦.

٦٠٣

نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصحّ النسخ ، وإن لم تتوقّف تمسّكنا بالآية.

واعترض (١) : بأنّ ملزوميّة الشيء لغيره لا يقتضي وقوعه ولا صحّة وقوعه.

ولنا على اليهود وجوه :

الأوّل : ورد في التوراة أنّ الله تعالى قال لنوح عليه‌السلام عند خروجه من الفلك : «إنّي جعلت لك كلّ دابّة مأكلا لك ولذريّتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ، ما خلا الدّم فلا تأكلوه» ثمّ حرم على موسى وعلى بني اسرائيل كثيرا من الحيوانات.

الثاني : ورد في التوراة أنّ الله تعالى أمر آدم أن يزوّج بناته من بنيه ، وقد حرم ذلك في شريعة من بعده.

الثالث : لا شكّ في تجدّد إيجاب أو حظر بعد أن لم يكن ، وهو ناقل عن حكم الأصل ، الّذي هو الإباحة ، إمّا لحكمة تجدّدت ومصلحة حضرت أو لا لذلك ، على اختلاف الرأيين ، فجاز أن يتجدّد ايجاب أو حظر ينقل عن حكم آخر ناقل عن حكم الأصل لأحد الاعتبارين.

الرابع : أباح السّبت ثمّ حرّمه ، وجوّز الختان ثمّ أوجبه.

واعترض (٢) : بأنّهما ناقلان عن حكم الأصل ، فلا يكونان نسخا.

__________________

(١) المعترض هو سراج الدين الأرموي في التحصيل من المحصول : ٢ / ١١.

(٢) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٨١.

٦٠٤

وفيه نظر ، فإنّ التقدير : أنّه أباح ، والإباحة وإن كانت هي الأصل ، إلّا أنّه لا ينافي حكم الشارع بها ، فرفعها يكون نسخا.

واحتجّ منكرو النسخ عقلا : بأنّ الفعل إن كان حسنا ، قبح النّهي عنه ، وإن كان ، قبيحا قبح الأمر به.

والجواب ما تقدّم ، من جواز كون الفعل مصلحة في وقت ، ومفسدة في آخر ، فيأمر به في وقت علمه بكونه مصلحة فيه ، وينهى عنه في وقت كونه مفسدة فيه ، كما أنّه تعالى يعلم أنّ مرض زيد أو فقره مصلحة له في وقت فيفعل ذلك به ، وأنّ عافيته وغناه مصلحة في آخر ، فيفعل به ذلك.

واحتج منكروه شرعا بوجوه :

الأوّل : لمّا بيّن [الله] شرع موسى عليه‌السلام ، فإمّا أن يكون قد دلّ على دوامه أو لا.

فإن كان الأوّل ، فإمّا أن يضمّ إليه ما يدلّ على أنّه سينسخه أو لا ، والأوّل باطل :

إمّا أوّلا ، فللتنافي بين التنصيص على الدوام وعلى عدمه.

وإمّا ثانيا ، فلأنّه لو كان ، لنقل متواترا ، كما نقل شرعه ، لأنّه كيفيّة فيه ، وإذا نقل الأصل وجب نقل الكيفيّة ، وإلّا لجاز في شرعنا أن ينقل أصله دون نقل كيفيّة وردت ، وحينئذ ينتفي طريق القطع بدوام شرعنا ، وهو محال.

ولأنّه من الوقائع العظيمة الّتي تتوفّر الدّواعي على نقلها ، لما فيها من التخفيف بسقوط التكليف.

٦٠٥

ولو كان كذلك ، لنقل متواترا ، وكان العلم بتلك الكيفيّة ، كالعلم بأصل الشرع ، حتّى يكون علمنا بأنّ موسى عليه‌السلام نصّ على أنّ شرعه سينسخ ، كعلمنا بأصل شرعه ، ولو كان كذلك لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه ، وحيث نازعوا دلّ على أنّه لم ينصّ على الكيفيّة.

وإن لم يضمّ إليه ما يدلّ على أنّه سيصير منسوخا ، فيستحيل أن ينسخ ، وإلّا كان تلبيسا ، إذ ذكر لفظ يدلّ على الدّوام مع أنّه غير مراد عين التلبيس (١).

ولتطرّقه في شرعنا ، لانتفاء طريق إلى العلم بانتفاء نسخه ، أقصى ما في الباب : انّ الشارع نصّ على تأبيد هذه الشريعة ، وأنّها لا تنسخ ، لكن ذلك ثابت أيضا في شريعة موسى عليه‌السلام ، مع تحقّق النسخ ، فجاز في شرعنا ذلك وهو محال.

وينتفي الوثوق بوعده ووعيده مع تجويز مخالفة الظاهر.

والإجماع لا يفيد بيان دوامه ، لأنّه إنّما يعرف كونه دليلا بآية أو حديث ، وإنّما تتمّ دلالتهما لو أجرينا لفظهما على ظاهره ، فإذا جوّزنا خلافه انتفى دليل الإجماع.

ولا التواتر (٢) لانتهائه إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شريعتي مؤبّدة غير

__________________

(١) في «أ» : هو التلبيس.

(٢) عطف على قوله : «والإجماع» أي لا يفيد التواتر بيان دوامه كما كان الإجماع غير مفيد ، كما مرّ.

٦٠٦

منسوخة» أو معناه ، لكنّه لعلّه أراد شيئا يخالف ظاهرها.

وإن لم يكن قد بين دوام شرع موسى عليه‌السلام ، ولا انقطاعه ، اقتضى الفعل مرّة واحدة لما تقدّم من أنّ الأمر لا يقتضي التكرار ، وهو باطل ، أمّا أوّلا ، فللإجماع على دوام شرعه إلى ظهور عيسى عليه‌السلام ، وأمّا ثانيا ، فلأنّه حينئذ لا يقبل النسخ.

الثاني : تواتر النقل عن موسى عليه‌السلام أنّه قال : «تمسّكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض» والتواتر حجّة ، وكذا قول عيسى عليه‌السلام.

الثالث : نسخ ما أمر به ، إمّا أن يكون لحكمة ظهرت لم تكن ظاهرة حال الأمر ، وهو قول بالبداء ، أو لا لحكمة ظهرت ، فيكون عبثا ، وهو قبيح على الحكيم.

الرابع : لو جاز نسخ الأحكام الشرعيّة باعتبار اختلاف الأوقات في المصلحة والمفسدة ، لجاز نسخ ما وجب من الاعتقادات في باب التوحيد والعدل وغير ذلك ، والتالي باطل بالإجماع.

الخامس : الحكم المنسوخ ، إمّا أن يكون موقّتا ، فلا يقبل النسخ ، لانتهاء الحكم بانتهاء مدّته ، أو مؤبّدا ، فيستلزم الجهل ، لاستلزام اعتقاد المكلّف دوام الحكم عليه وتأبيده ، والجهل قبيح وأن ينتفي طريق معرفة التأبيد بتقدير إرادة التأبيد وذلك يوجب عجز الربّ تعالى عن تعريفنا تأبيد الحكم ، وهو محال.

٦٠٧

السادس : لو جاز رفع الحكم بعد وقوعه ، فإمّا أن يكون رفعه قبل وجوده ، ولا يتصور رفع ما لم يوجد ، أو بعد عدمه ، وارتفاع المعدوم محال ، أو حال وجوده ، وهو جمع بين النقيضين.

السابع : الفعل إن كان طاعة ، استحال النهي عنه ، وإن كان معصية ، استحال الأمر به.

الثامن : إن كان [الفعل] مرادا ، فقد صار بالنّهي مكروها ، وإن كان مكروها ، فقد صار بالأمر مرادا.

واعترض مانع النسخ من المسلمين على الأوّل من أدلة الوقوع : بمنع توقّف نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على النسخ ، لجواز أن يكون موسى وعيسى عليهما‌السلام أمرا باتّباع شرعهما إلى ظهور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحينئذ يزول التعبّد بشرعهما ، ويثبت التعبّد بشرع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير نسخ ، ولهذا قد ورد عن موسى وعيسى عليهما‌السلام البشارة بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن.

وعلى الثاني : بمنع الإجماع مع ظهور الخلاف.

والجواب عن الأوّل : أنّ المسلمين اتّفقوا على أنّه تعالى بيّن شرع موسى بلفظ يدلّ على الدوام ، لكن اختلفوا فقال أبو الحسين وجماعة : يجب أن يذكر معه ما يدلّ على أنّه سيصير منسوخا في الجملة ، إزالة للتلبيس ومنعه آخرون وقد تقدّم.

إذا ثبت هذا فنقول : على اختيار أبي الحسين يجوز أن يكون الله تعالى قد بيّن على سبيل الإجمال أنّ شرعه سينسخ ، وقد نقل في القرآن وفي التوراة أيضا.

٦٠٨

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن لا ينقله أهل التواتر لإجماله ، فلذلك لم يشتهر اشتهار أصل شريعته.

لا يقال : إذا وصل أصل الشرع إلى أهل التواتر ، دون المخصّص ، أوصله إليهم ولم ينقلوه ، كما نقلوا الأصل ، جاز مثله في شرعنا ، فينتفي القطع بدوام شرعنا مع هذا التجويز ، بل نقل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسخ الصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، ولم ينقل ، وإن انتفى هذان الاحتمالان ، بطل النسخ.

لأنّا نقول : إنّما يلزم ذلك ، لو كان في اليهود من العدد من يحصل العلم بقولهم في كلّ عصر ، وليس كذلك ، فإنّ «بخت نصّر» استأصلهم ، وانقطع تواترهم ، فلا جرم انقطعت الحجّة بقولهم ، بخلاف شرعنا ، فإنّ نقلته بلغوا حدّ التواتر في كلّ عصر ، فلم يجز الإخلال بشيء ممّا أبلغه إلى حدّ التواتر.

وعلى اختيار الباقين ، يمنع كونه تلبيسا ، بل هو كإنزال المتشابهات على ما سبق.

وعن الثاني بوجوه :

الأوّل : نمنع أنّ موسى عليه‌السلام قال ذلك ، وتواتر اليهود انقطع ، وقد نسب وضع هذا القول إلى ابن الراوندي (١) ليعارض به دعوى الرسالة من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما ظهر من استهزائه بالدّين ، ولهذا لمّا أسلم أحبارهم

__________________

(١) أحمد بن يحيى بن محمد بن اسحاق أبو الحسين الراوندي أو ابن الراوندي كان من متكلّمي المعتزلة ثم اعتنق مذهب الشيعة الإمامية ورمي بعقائد فاسدة ، توفّي سنة ٢٤٥ ه‍. اقرأ ترجمته في طبقات المتكلمين : ١ / ٣٦٣ ـ ٣٦٥.

٦٠٩

مثل : كعب الأحبار (١) ، وابن سلام (٢) ، ووهب بن منبّه (٣) ، وغيرهم ، وقد كانوا أعرف من غيرهم بالتوراة ، لم يذكروا ذلك ، ولو كان ذلك حقّا لعارضوا به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : سلّمنا صحّة النقل لكن لفظ التأبيد قد جاء في التوراة للمبالغة في طول الزمان دون الدوام ، فإنّه قال في العبد : «يستخدم ستّ سنين ، ثمّ يعتق في السابعة ، فان أبى العتق ، فلتثقب أذنه ، ويستخدم أبدا».

وقال في البقرة الّتي أمروا بذبحها : «يكون ذلك سنّة أبدا» ثمّ انقطع التعبّد بذلك عندهم.

وأمرهم في قصّة دم الفصيح بأن يذبحوا الجمل ، ويأكلوا لحمه ملهوجا ، ولا يكسروا منه عظما ، ويكون لهم هذا سنّة أبدا ، ثمّ زال التعبّد بذلك.

__________________

(١) كعب بن نافع : المعروف ب «كعب الأحبار» يعدّ من التابعين كان من كبار علماء اليهود ، فاسلم ـ أو استسلم ـ في أيّام خلافة أبي بكر وخرج إلى الشام فسكن حمص وتوفّي فيها سنة ٣٢ ه‍ ، عن عمر يناهز مائة وأربع سنين. الأعلام للزركلي : ٥ / ٢٢٨. وهو من كبار ناشري الاساطير والاسرائيليات في الاوساط الإسلامية ترى في احاديثه التركيز على التجسيم ، ورؤية الله ، اقرأ حياته في حقل خداعه عقول معاصريه من المسلمين في كتاب «بحوث في الملل والنحل» : ١ / ٨١ ـ ٨٨.

(٢) عبد الله بن سلام بن الحارث الاسرائيلي ، صحابي أسلم عند قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة مات سنة ٤٣ ه‍ ، لاحظ الاصابة برقم ٤٧٢٥.

(٣) وهب بن منبّه : اليمني الصنعائي من التابعين ، نشر الاسرائيليات بين المسلمين ، ولّاه عمر بن عبد العزيز قضاء صنعاء ومات بها. ولد سنة ٣٤ ـ وتوفّي ١١٤ ه‍. الاعلام للزركلي : ٨ / ١٢٥.

اقرأ دوره في بثّ الاساطير في كتاب «بحوث في الملل والنحل» : ١ / ٨٩ ـ ٩٠.

٦١٠

وقال في السفر الثاني : «قرّبوا إليّ كلّ يوم خروفين : خروفا غدوة ، وخروفا عشيّة ، قربانا دائما لاحقا بكم».

ففي هذه الصور وجدت ألفاظ التأبيد من غير دوام ، فكذا ما ذكرتموه.

الثالث : قال قاضي القضاة : الأمر بالفعل أبدا لا يقتضي الدوام ، لعلمنا أنّ التكليف منقطع ، ولهذا لا يفهم من قول القائل لغيره : «لازم فلانا أبدا» أو «أحبسه أبدا» [الدوام]. (١)

واعترضه أبو الحسين : «بأنّ التأبيد يفيد الدّوام في الأوقات كلّها ، وإنّما يخرج ما بعد الموت (٢) والعجز من الخطاب للدلالة ، وما عداهما باق على الظاهر ، كما لو قال : «افعل في كلّ وقت إلّا أن تعجز أو تموت» حسب ما نقوله في ألفاظ العموم كلّها» (٣).

وفيه نظر ، فإنّا نعلم أنّ التكليف كما ينقطع بالموت والعجز ، كذا ينقطع بالنسخ ، فإذا اقتضى الأوّل الخروج عن الدّلالة ، اقتضاه الثاني ، وحينئذ لا منافاة بين كلام موسى عليه‌السلام وبين النسخ ، كما لا منافاة بينه وبين الموت والعجز.

وعن الثالث : أنّ النسخ ليس بحكمة ظهرت ، بل تجدّدت لتجدّد الوقت ، وقد كانت معلومة في الأزل ولم تكن حاصلة ، لعدم وقتها.

__________________

(١) نقله عنه أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٧٢.

(٢) في المصدر : ما بعد الوقت.

(٣) المعتمد : ١ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣.

٦١١

وعن الرابع : أنّ النسخ لا يرد على جميع الأحكام ، بل على ما يقبل التبديل والتّغيير ، على ما يأتي.

والأصل في ذلك : أنّ اعتقاد التوحيد وكلّ ما تستند معرفته إلى العقل ، فإنّ وجوبه ثابت بالعقل عند المعتزلة ، ويمنع نسخ ما ثبت وجوبه عقلا ، لأنّ الشارع لا يأتي بما يخالف العقل.

ولأنّ الأحكام الشرعية إنّما هي ألطاف في الواجبات العقليّة ، ومقرّبة إليها ، فلا تكون رافعة لها.

وعند الأشاعرة ، يجوز نسخه ، ومنعوا الإجماع ، لأنّ العقل يجوز أن لا يرد الشرع بوجوبه ابتداء ، فضلا عن نسخه بعد وجوبه.

وعن الخامس : بالمنع من عدم قبول الوقت النسخ ، فإنّه جائز عند الأشاعرة ، كما لو قال : «صم رمضان هذه السنة» ثمّ ينسخه في شعبان.

وأمّا على رأي المعتزلة ، فيمنع من عدم قبول التأبيد للنسخ (١) فلا جهل.

أمّا عند أبي الحسين ، فلوجوب اقتران اللفظ بما يدلّ على النسخ إجمالا. (٢)

وأمّا عند غيره ، فإنّ دلالة الخطاب على التأبيد ، لا يستلزم التأبيد مع القول بجواز النسخ ، فإذا اعتقد المكلّف التأبيد ، فالجهل إنّما جاء من قبل نفسه لا من

__________________

(١) في «أ» و «ب» : النّسخ.

(٢) لاحظ المعتمد : ١ / ٣٧٢.

٦١٢

مقتضى الخطاب ، بل الواجب اعتقاد التأبيد بشرط عدم النّاسخ.

سلّمنا اقتضائه إلى الجهل في حقّ العبد ، لكنّ عند الأشاعرة أنّه لا يقبح منه تعالى ، ثمّ منعوا قبحه إذا اشتمل على مصلحة زائدة على مفسدة جهله ، من زيادة الثواب باعتقاد الدوام ، والعزم عليه ، والانقياد له ، وامتثال حكمه تعالى في الأمر والنهي ، ولا يلزم تعجيزه تعالى ، لجواز أن يخلق فينا العلم الضروريّ بدوامه.

وعن السادس : بأنّ فيه نظرا ، فإنّ الرفع إن عني به نفي الأثر ، فهو حالة العدم ، وإن عني به الإعدام ، فهو متقدّم بالذات على العدم تقدّم العلّة على المعلول.

وقيل (١) : إنا وإن أطلقنا لفظة الرفع في النسخ إنّما نريد به امتناع استمرار المنسوخ ، وأنّه لو لا الخطاب الدالّ على الانقطاع لاستمرّ.

وفيه نظر ، لأنّه يستلزم استعمال المجاز في الحدّ ، وهو منهيّ عنه.

وأيضا ، فهو مبنيّ على أنّ النسخ بيان لا رفع.

وعن السابع : أنّ الطاعة والمعصية ليستا من صفات الأفعال مطلقا ، بل من حيث صدورهما عن العبد امتثالا للأمر أو للإرادة على الخلاف ، فالفعل الصادر عن المكلّف إذا كان مأمورا به ، كان طاعة ، وإذا نهي عنه ففعله كان معصية.

__________________

(١) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٨٤.

٦١٣

وعن الثامن : أنّه مراد ومكروه باعتبار الوقتين ، ولا استحالة في ذلك.

على أنّ الأشاعرة منعوا من استلزام الأمر والنهي الإرادة والكراهة.

قال قاضي القضاة (١) : قولهم : الأمر المؤبّد يقتضي اعتقاد وجوب العبادة أبدا ، والعزم على أدائها أبدا ، باطل لأنّه إنّما يقتضي ذلك بشرط كون الفعل مصلحة.

وأجاب عن قولهم : «إنّ ذلك يمنع من القدرة على تعريفنا دوام الشريعة» بأنّ ذلك غير مانع ، لأنّه يجوز أن يضطرّ الأمّة إلى قصد نبيّها أنّ شريعته لا تنسخ ، ويجوز أن يعلموا ذلك بأن يقول : «شريعتي مصلحة ما بقي التكليف» وبأن ينقطع الوحي.

وأجاب عن قولهم : إنّ في تأخير بيان النسخ إلباس ، بأنّ الإلباس إنّما يثبت إذا لم يبيّن الحكيم ما يجب بيانه ممّا يحتاج المكلّف إليه ، وما لا يحتاج إليه فلا يجب بيانه ، فلا إلباس في فقد بيانه ، وليس يحتاج المكلّف في حال الخطاب إلى معرفة وقت ارتفاع العبادة ، وبأنّ العبادة تنقطع بالعجز ، ولا يعلم متى يطرأ ، ولم يكن في ذلك إلباس ، فكذا في النسخ.

فإن قلت : الأمر بالفعل مشروط بالتمكّن.

قلنا : والأمر بالعبادة مشروط بكونها مصلحة.

__________________

(١) نقله عنه أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٧٣ ـ ٣٧٥.

٦١٤

فإن قلت : إنّما نعلم كونها مصلحة بالأمر ، فإذا كان الأمر مؤبّدا ، كانت المصلحة مؤبّدة.

قلنا : إنّما علمنا كون الفعل مصلحة ، من حيث علمنا أنّ الحكيم لا يأمر بما ليس بمصلحة ، وكما علمنا ذلك ، فقد علمنا أنّه لا يأمر بما لا يقدر عليه ، فإن دلّ الأمر المؤبّد على دوام المصلحة ، دلّ أيضا على دوام التمكن.

وبأنّ الشاهد قد فرّق بين النسخ وبيان وصف العبادة ، فإنّه من أمر عبده بأخذ وظيفة [له] في كلّ يوم ، لم يلزمه أن يبيّن له في الحال متى يقطع ذلك ، ولا يجوز أن لا يبيّن له في الحال صفة الوظيفة.

واعترض أبو الحسين على الأوّل : بأنّه يعلم أنّ الأمر المؤبّد مصلحة بنفس الأمر المؤبّد ، فيلزم أن يعتقد وجوب فعله أبدا من غير اشتراط ذلك.

وعلى الثاني : بأنّه إن جاز أن تعلم الأمة ذلك من قصد نبيّها فالنبيّ لا بدّ من أن يعرف انّ شريعته لا تنسخ بخطاب أو تنتهي إلى خطاب ، فإن جاز أن يعترض (١) الأمر المؤبّد النسخ ، جاز مثله في ذلك الخطاب الّذي عرّف به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو جبرئيل أنّ الشريعة لا تنسخ.

وإنّما يعلم (٢) أنّ الوحي منقطع إذا قال النبيّ : «شريعتي دائمة ولا نبيّ بعدي» فإن جاز تأخير بيان النسخ مع تناول الأمر لجميع الأوقات ، جاز أن يكون

__________________

(١) في «أ» : أن يعرض.

(٢) في المصدر : نعلم.

٦١٥

مراده «لا نبيّ بعدي إلّا فلان» ويتأخّر بيان هذا التخصيص.

وقوله : «شريعتي مصلحتي ما بقي التكليف» يقتضي ظاهره دوام المصلحة بشرعه مدّة التكليف ، كما يفيد ذلك ، الأمر بها أبدا ، لأنّ أمر الحكيم بالفعل يدلّ على كونه مصلحة في الأوقات الّتي أمر بالفعل فيها ، كما أنّ خبره عن كونه مصلحة يدلّ على ذلك ، فإن جاز تأخير بيان نسخ أحدهما جاز مثله في الآخر.

وعلى الثالث : بأنّه لا يحتاج أيضا في حالة ورود العموم ، [و] الخصوص ، والخطاب المجمل ، إلى أن تعرف صفة المجمل ، ومن لم يدخل تحت العموم ، وإنّما يحتاج إلى ذلك عند الفعل.

فإن قلت : يحتاج في تلك الحال إلى بيان صفة العبادة ، وتخصيص العامّ ، ليعلم من دخل تحت العام ممّن لم يدخل تحته ، وليعلم صفة ما كلّف ، فعدم بيان ذلك مخلّ بعلمه.

قلت : وكذلك تأخير بيان النسخ مخلّ بعلمه أنّ العبادة دائمة. (١)

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

٦١٦

المبحث الثالث : في جواز النسخ في القرآن

اتّفق المسلمون على ذلك وخالف فيه أبو مسلم بن بحر الأصفهاني. (١)

لنا وجوه :

الأوّل : أنّ الاعتداد بالحول (٢) منسوخة بأنّ الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيّام. (٣)

أجاب [أبو مسلم] : بأنّ الاعتداد بالحول لم يزل بالكليّة ، لأنّها لو كانت حاملا وامتدّ حملها حولا ، اعتدّت به ، وإذا بقي الحكم في بعض الصور ، كان تخصيصا ، لا نسخا. (٤)

وهو خطأ ، فإنّ عدّة الحامل تنقضي بأبعد الأجلين من وضعه ومضيّ

__________________

(١) تقدّمت ترجمته ص ٦٠٢.

(٢) في قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) البقرة : ٢٤٠.

(٣) في قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) البقرة : ٢٣٤.

وربما يورد بأن اللازم هو تقدّم المنسوخ على الناسخ ، ليصحّ وقوع النسخ.

وأمّا المقام فالناسخ متقدّم على المنسوخ ، كما هو معلوم بملاحظة رقم الآيات.

يلاحظ عليه : بأنّ اللازم هو تقدّم المنسوخ في النزول على الناسخ لا في ترتيب الآيات.

(٤) نقله عنه الرّازي في محصوله : ١ / ٥٣٩.

٦١٧

أربعة أشهر وعشرة ، فلو وضعت لأقلّ من سنة أو أكثر إن فرض ، انقضت العدّة ، فجعل السّنة مدّة العدّة قد زال بالكلّية.

الثاني : أمر الله تعالى بتقديم الصدقة بين يدي [نجوى] الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ثمّ نسخه.

أجاب أبو مسلم : بأنّ زواله لزوال سببه ، وهو امتياز المنافقين من حيث إنّهم لا يتصدّقون عن المؤمنين ، فلمّا حصل الغرض زال التعبّد بالصدقة.

واعترض (٢) : بأنّه لو كان كذلك ، لكان من لم يتصدّق منافقا ، وهو باطل ، لأنّه لم يتصدّق غير عليّ عليه‌السلام.

ويدلّ عليه قوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ)(٣).

وفيه نظر ، فإنّا نقول : بفسق من لم يتصدّق مع المناجاة ، ونمنع ذلك في أكابر الصحابة ، لقصر المدّة.

الثالث : أمر بثبات الواحد للعشرة (٤) ، ثمّ نسخه بالثبات للاثنين. (٥)

__________________

(١) في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) المجادلة : ١٢.

(٢) المعترض هو الرّازي في محصوله : ١ / ٥٣٩.

(٣) المجادلة : ١٣.

(٤) في قوله سبحانه : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) الأنفال : ٦٥.

(٥) في قوله سبحانه : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) الأنفال : ٦٦.

٦١٨

الرابع : قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(١).

أجاب أبو مسلم : بأنّ النسخ الإزالة ، والمراد هنا الإزالة من اللّوح المحفوظ.

واعترض [بوجهين](٢) :

[١]. بأنّ الإزالة من اللوح المحفوظ لا تختصّ ببعض القرآن ، وهذا النسخ مختصّ ببعضه.

[٢]. ولأنّه ليس المراد الإزالة عن اللوح المحفوظ ، فإنّه قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) والقرآن خير كلّه ، من غير تفاوت فيه ، فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ ، وكتابة أخرى بدلها ، لما تحقّق هذا الوصف ، وإنّما تتحقّق الخيريّة بالنّسبة إلينا فيما يرجع إلى أحكام الآيات المرفوعة عنّا ، والموضوعة علينا ، من حيث إنّ البعض قد يكون أخفّ من البعض فيما يرجع إلى تحمّل المشقّة ، أو أنّ ثواب البعض أجزل من البعض ، على اختلاف المذاهب ، فوجب حمل النسخ على نسخ أحكام الآيات ، لا على ما ذكروه.

وفيهما نظر ، لمنع مقولتي الأول ، فإنّه يجوز أن لا يزول جميع القرآن من

__________________

(١) البقرة : ١٠٦.

(٢) الوجه الأوّل ذكره الرّازي في محصوله : ١ / ٥٤٠. وحاصله : ان النسخ في الآية عبارة عن ازالة البعض ، وهي لا تختص ببعض القرآن بل تعم كله.

٦١٩

اللوح المحفوظ ، ويمنع اختصاص النسخ بمعنى الإزالة ببعضه.

والآية (١) الّتي حكمها خير من الأخرى الّتي هي مجرّدة عن أحكام التكليف فجازت إزالتها وإثبات ما يتضمّن التكليف ، ويمنع عدم تفاوت الآيات في الخيريّة ، فالأفصح خير.

الخامس : قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)(٢).

ثمّ أزالهم عنها بقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(٣).

أجاب أبو مسلم : بأنّ حكم تلك القبلة لم يزل بالكلّية ، لجواز التوجّه إليها عند الإشكال أو العذر.

واعترض (٤) : بعدم الفرق حينئذ بين بيت المقدس وسائر الجهات ، فالخصوصيّة الّتي بها امتاز بيت المقدس عن غيره من الجهات ، قد بطلت ، فكان نسخا.

السادس : قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ)(٥).

__________________

(١) ناظر إلى ردّ الاعتراض الثاني.

(٢) البقرة : ١٤٢.

(٣) البقرة : ١٤٤.

(٤) المعترض هو الرازي في محصوله : ١ / ٥٤٠.

(٥) النحل : ١٠١.

٦٢٠