نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

يجب عليه المعرفة عند خوفه بالخاطر ، وإذا طلب المخصّص وجده ، وإذا نظر فيه ، اعتقد التخصيص ، وبمثل هذا يعلم التخصيص إذا كان المخصّص عقليّا.

لا يقال : دلالة العقل حاضرة عند السامع للعموم ، فأمكنه العلم بالتخصيص ، وليس كذلك التّخصيص بالسّمعيّ إذا لم يسمعه.

لأنّا نقول : لا فرق بينهما ، لأنّ كثيرا من المذاهب لا يعلم الإنسان أنّ عليها دليل عقليّ ، بل ربما استبعد أن يكون عليها دليلا عقليّا ، كما لا يعلم أنّ على كثير من المذاهب دلالة شرعيّة ، فكما جاز أن يكلّف طلب أحدهما بالخاطر ، جاز مثله في الآخر.

احتجّ المخالف بوجوه :

الأوّل : إسماع العامّ دون إسماع المخصّص ، إغراء بالجهل ، فيمتنع صدوره من الحكيم ، لقبحه.

الثاني : ذلك العامّ لا يدلّ على ذلك المخاطب ، فإسماعه وحده كخطاب العربيّ بالزنجيّة.

الثالث : دلالة العامّ مشروطة بعدم المخصّص ، فلو جاز سماع العامّ دون سماع المخصّص ، لما جاز الاستدلال بشيء من العمومات إلّا بعد البحث التامّ ، وسؤال كلّ عالم في الدنيا : هل وجد [له] مخصّص أو لا؟ وهو يفضي إلى سقوط العمومات.

الرابع : لو جاز أن يسمعه العامّ دون الخاصّ ، لجاز أن يسمعه المنسوخ دون الناسخ والمجمل دون البيان.

٤٨١

الخامس : لو أسمعه العام دون الخاص لوجب على المكلّف التوقّف حتى تفحّص عن المخصّص ، وذلك قول أصحاب الوقف.

السادس : يجب على الإنسان العمل على ما يعلمه من الأدلّة الشرعيّة ، ولا يلزمه طلبها ، ألا ترى أنّه يلزمه أن يعمل على ما في عقله ، ولا يجب عليه أن يتوقّف ويطوف البلاد ليعلم هل بعث نبيّ ينقله عمّا في عقله أو لا؟ فكذا ينبغي إذا سمع العامّ أن يعتقد استغراقه ، ولا يلزمه طلب ما يخصّصه ، فلو جاز أن يسمع العامّ دون الخاصّ ، لكان مباحا له أن يعتقد استغراقه ، وفي ذلك إباحة الجهل.

والجواب عن الأوّل : المنع من كونه إغراء بالجهل إذا أشعره بالمخصّص ، وأخطره بباله ، وخوّفه من ترك طلبه.

وأيضا ، يلزم ما ذكرتم في المخصّص العقليّ.

وعن الثاني : بالفرق ، فإنّ الزنجيّ لا يفهم من العربيّة شيئا ، وليس كذلك من خوطب بالعامّ ، وهو يجوّز كون المخصّص في الشرع ، وينتقض بالعقليّ.

وعن الثالث : أنّ كون اللّفظ للاستغراق حقيقة ، وهو مجاز في غيره ، يفيد ظنّ الاستغراق ، والظنّ حجة في العمومات. (١)

وفيه نظر للمنع من الظنّ مع تجويز المخصّص الغالب في عمومات الشرع.

__________________

(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٥٠٠ ، وفي المطبوع منه «حجّة في العمليّات» أي في الأحكام العملية ، وعلى فرض صحّة نسختنا فالمراد ، الظنّ حجة في استفادة العموم من الألفاظ.

٤٨٢

وأيضا يلزم عدم البحث عن المخصّص.

وعن الرابع : بجواز ذلك إذا أشعره بالناسخ والبيان ، وكان أبو علي تارة يسوّي بين إسماع العموم من دون المخصّص ، وبين إسماع المنسوخ من دون الناسخ ، وتارة لا يجيز ذلك في العموم ، ويجيزه في الناسخ ، والوجه التسوية في المنع والجواز.

وعن الخامس : بالنقض بالمخصص العقليّ.

وأيضا ليس في ذلك دخول في قول أصحاب الوقف ، فإنّهم يقفون في العموم ، مع علمهم بتجرّده عن القرائن ، ونحن لا نقف فيه حينئذ.

وعن السادس : أنّه يلزمهم مثله في العموم إذا كان المخصّص عقليا.

وأيضا ، فإنّه يدلّ على جواز أن يسمع الله تعالى [المكلّف] العامّ ، ولا يسمعه الخاصّ ، ويجوز [له] أن يعمل بالعامّ ، من غير أن يطلب الخاصّ ، كما يجوز أن لا يعرّفه الله سبحانه أنّه قد بعث نبيّا ، ولا يلزمه طلبه ، بل يعمل على ما في عقله ، فدليلهم يدلّ على شيء فاسد عندنا وعندهم ، وهو جواز أن لا يسمع الخاصّ ولا يلزمه الطلب.

وأيضا ، فإنّ الذي ذكروه هو أنّه لا يجب على الإنسان أن يطوف البلاد ويسأل هل بعث نبيّ أم لا؟ بل يفعل بحسب ما في عقله ، ونظيره إذا سمع المكلّف العامّ ، أن لا يلزمه ان يطوف البلاد بطلب المخصّص ، وكذلك نقول ، فإنّ الواجب عليه العمل بالعامّ ، وإن كان مخصوصا ، فإنّما يلزمه تخصيصه بشرط أن يبلغه المخصّص ، فأمّا إذا سمع بنبيّ في بلد ، فإنّه يجب عليه أن يسأل عنه ، كما يلزمه أن يسأل عمّا يخصّص العموم في بلده.

٤٨٣

فإن قيل : إذا كان العموم ناقلا عمّا في العقل ، وكان العمل به قد حضر وقته ، وضاق الوقت عن طلب المخصّص ما الّذي يلزمه؟

قلنا : الأقرب أنّه يلزمه العمل على العموم ، لأنّه لو لم يجز ذلك لم يسمعه الله تعالى إيّاه قبل تمكينه من المعرفة بالمخصّص ، فيجب [عليه] العمل بالعامّ ، ثمّ يطلب المخصّص فيما بعد.

ويحتمل أن يقال : يعمل على ما في عقله ، لأن من شرط العمل على العموم أن يعلم فقد المخصّص ، وهو غير حاصل ، ويجوز أن يكون له مصلحة في سماع العموم في ذلك الوقت.

المبحث العاشر : في البيان التدريجي

اختلف القائلون بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب في جواز التدريج في البيان ، فذهب بعضهم إلى المنع ، وآخرون إلى الجواز.

احتجّ الأولون بأنّ التنصيص على إخراج البعض دون غيره ، يوهم وجوب استعمال اللّفظ في الباقي ، وانتفاء التخصيص بشيء آخر ، وهو تجهيل للمكلّف ، وإنّما ينتفي هذا التجهيل بالتنصيص على كلّ ما هو خارج عن العموم واحتجّ الآخرون : بالوقوع فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(١) على التدريج من ذكر نصاب السرقة أوّلا ، وعدم الشبهة ثانيا ، مع عموم اللّفظ لكلّ سارق.

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

٤٨٤

وكذا بيّن قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) بتفسير الاستطاعة بذكر الزّاد والراحلة أوّلا ، ثمّ ذكر الأمن في الطريق ، والسّلامة من طلب الخفارة ثانيا ، وغير ذلك ، والوقوع دليل الجواز.

ثمّ أجابوا عن حجّة المانعين : بأنّ الاقتصار على الخطاب العامّ دون ذكر المخصّص ، مع كونه ظاهرا في التعميم بلفظه ، إذا لم يوهم المنع من التخصيص ، جائز ، فإخراج بعض ما تناوله اللفظ ، مع أنّه لا دلالة على إثبات غير ذلك البعض بلفظه ، أولى أن لا يكون موهما لمنع التخصيص ، وهذا البحث ساقط عنّا.

المبحث الحادي عشر : في حكم العامّ قبل دخول وقته

إذا ورد لفظ عامّ بعبادة أو بغيرها ، قبل دخول وقت العمل به ، قال أبو بكر الصّيرفي (٢) : يجب اعتقاد عمومه جزما قبل ظهور المخصّص ، وإذا ظهر المخصّص ، تغيّر ذلك الاعتقاد.

وغلطه الباقون ، لأنّ احتمال إرادة الخصوص به قائم ، ولهذا لو ظهر المخصّص لم يكن ممتنعا ، ووجب اعتقاد الخصوص ، وما هذا شأنه يمتنع اعتقاد عمومه جزما ، قبل الاستقصاء في البحث عن مخصّصه ، وعدم الظفر به ، على وجه يسكن النّفس إلى عدمه ، فلا بدّ في الجزم باعتقاد عمومه من اعتقاد انتفاء مخصّصه بطريقه.

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٤٠.

٤٨٥

وقد أجمع الأصوليّون على امتناع العمل بالعامّ قبل البحث عن المخصّص ، لكن اختلفوا : فقال القاضي أبو بكر (١) وجماعة من الأصوليّين : يمتنع العمل به واعتقاد عمومه إلّا بعد القطع بانتفاء المخصّص ، وإلّا فالجزم بعمومه ، وبالعمل به مع احتمال وجود المعارض ممتنع ، ومعرفة انتفاء المخصّص بطريق القطع ممكن : بأن تكون المسألة الّتي تمسّك فيها بالعموم ممّا يكثر الخلاف فيها بين العلماء ، ويطول النزاع بينهم ، ولم يطلع أحد منهم على موجب التخصيص ، مع كثرة البحث ، فلو كان هناك مخصّص لامتنع خفاؤه عنهم.

ولأنّه لو كان المراد بالعموم الخصوص ، لوجب أن ينصب الله تعالى عليه دليلا ويبلّغه للمكلّفين.

وذهب ابن سريج ، (٢) والجويني (٣) والغزّالي (٤) وأكثر الأصوليّين إلى امتناع اشتراط القطع في ذلك ، إذ لا طريق إلى معرفته إلّا بالسبر ، وهو غير يقينيّ ، ووجوب اطّلاع العلماء عليه لو كان ظنّيّ ، ولو اطّلع بعضهم لم يقطع بوجوب نقله ، وليس كلّ عامّ كثر خوض العلماء فيه ، بل الواجب الظّنّ المستند إلى البحث بحيث لو كان مخصّص لظهر.

أمّا القطع بالنّفي ، فإنّه يقتضي تعطيل أكثر العمومات ، وكذا البحث في كلّ دليل مع معارضه.

__________________

(١) التقريب والإرشاد : ٣ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦.

(٢) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٥٩.

(٣) لاحظ البرهان في أصول الفقه : ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(٤) المستصفى : ٢ / ١٧٨.

٤٨٦

الباب الثاني :

في الظاهر والمؤوّل

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل :

في الماهيّة

«الظاهر» في اللّغة هو الواضح المنكشف ، من : ظهر الأمر الفلاني أي وضح وانكشف.

وأمّا في الاصطلاح وقد اختلفوا في حدّه : فقال أبو الحسين البصري (١) وتبعه الإمام فخر الدين (٢) : «الظاهر هو : ما لا يفتقر في افادته لمعناه إلى غيره سواء أفاده وحده أو مع غيره».

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٢٩٥.

(٢) المحصول : ١ / ٤٦٢.

٤٨٧

وبهذا القيد الأخير يمتاز عن النصّ امتياز العامّ عن الخاصّ. (١)

وفيه نظر ، فإنّ النصّ والظاهر نوعان مندرجان تحت الحكم ، فلا يجوز تعريفه بما يندرج النوع الآخر فيه.

وقيل : الظاهر هو ما ظهر المراد به وغير المراد ، لكنّ المراد أظهر ، وهو تعريف دوريّ ، ولأنّ الكلام متى وضح المراد به فقد ظهر ، سواء كان محتملا لغيره أو لا.

وقال الغزّالي : الظاهر اللّفظ الّذي يغلب على الظنّ فهم معنى منه ، من غير قطع. (٢)

اعترض (٣) : بأنّه غير جامع ، لأنّه يخرج منه ما فيه أصل الظّنّ دون غلبة الظنّ مع كونه ظاهرا ، ولهذا يفرق بين قولنا : ظنّ ، وغلبة ظنّ.

ولأنّ غلبة الظنّ ما فيه أصل الظّنّ وزيادة.

ولأنّه اشتمل على زيادة مستغن عنها ، وهي قوله : «من غير قطع» فإنّ من ضرورة كونه مفيدا للظنّ أن لا يكون قطعيّا.

وفيه نظر ، لأنّ المراد هنا بغلبة الظنّ : هو الظنّ الغالب (٤) على الشك.

__________________

(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٦٢ ، وتنظّر فيه المصنّف.

(٢) المستصفى : ٢ / ٤٨.

(٣) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٣٦.

(٤) في «ب» : لغلبته.

٤٨٨

ولأنّ مراتب الظنّ غير منحصرة وإن كانت محدودة بطرفي العلم والشكّ ، لكن كلّما يفرض ظنّا يفرض ما هو دونه وفوقه ، فيكون ظنّا غالبا ، وما يفيد غلبة الظنّ ، قد يفيد العلم فلا بدّ من التعرض لنفيه.

وقيل (١) : «اللفظ الظاهر ما دلّ على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي ، ويحتمل غيره احتمالا مرجوحا».

فقولنا : بالوضع الأصلي أو العرفي ، احتراز عن دلالته على المعنى الثاني ، إذا لم يصر عرفيّا ، كلفظ الأسد في الإنسان وغيره.

وقولنا : «يحتمل غيره ، احتراز عن القاطع الّذي لا يحتمل التأويل.

وقولنا : احتمالا مرجوحا ، احتراز عن الألفاظ المشتركة». (٢)

وفيه نظر ، لعدم اختصاص الظاهر بما دلّ بالأصل أو العرف ، بل كلّ لفظ يترجح معنى فيه فهو ظاهر بالنسبة إليه.

والتحقيق : أنّه من الأمور الإضافيّة يختلف باختلاف ما ينسب إليه ، وهو قد يضاف تارة إلى الأشخاص ، وتارة إلى المعاني ، والأخير هو المراد هنا ، وهو ما تترجّح دلالته على ما أضيف إليه ، فإن جعلناه جنسا للنصّ ، اقتصرنا عليه ، وإلّا أضيف إليه ترجيحا غير مانع من النقيض.

__________________

(١) القائل هو الآمدي في الإحكام.

(٢) الإحكام : ٣ / ٣٦.

٤٨٩

وأمّا المؤوّل : فاعلم أنّ التأويل في اللّغة مأخوذ من آل يئول أي رجع ، ومنه قولهم : تأوّل فلان الآية بكذا ، أي نظر إلى ما يؤول إليه معناها.

وفي الاصطلاح قال الغزالي : إنّه احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظنّ من المعنى الّذي دلّ (١) عليه الظاهر (٢).

واعترض (٣) عليه بوجوه :

الأوّل : التأويل ليس هو نفس الاحتمال الّذي حمل اللّفظ عليه ، بل [هو] حمل اللّفظ عليه ، وبينهما فرق.

الثاني : يخرج منه ما صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره بدليل قاطع.

الثالث : أنّه حدّ التأويل ، من حيث هو تأويل وهو شامل للتأويل بدليل وغيره ، ولهذا يقال : تأويل بدليل ، وتأويل بغير دليل ، فلا يجوز حدّه بأحد أخصّيه ، إلّا أن يقال : إنّه حدّ التأويل الصحيح.

وقيل (٤) : التأويل المطلق (٥) : حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه ، مع

__________________

(١) في المصدر : «يدلّ».

(٢) المستصفى : ٢ / ٤٩.

(٣) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٣٧.

(٤) القائل هو الآمدي.

(٥) أي مع قطع النظر عن الصحّة والبطلان.

٤٩٠

احتماله له ، والتأويل الصحيح : حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده.

فالحمل على غير مدلوله ، احتراز عن الحمل على نفس مدلوله.

وقولنا : الظاهر منه ، احتراز عن صرف اللفظ المشترك من أحد مدلوليه إلى الآخر ، فإنّه لا يسمّى تأويلا. (١)

وفيه نظر ، فإنّا نمنع كون المشترك دالّا على أحد معانيه وإن كان موضوعا له.

وقولنا : مع احتماله له ، احتراز عن صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما لا يحتمله أصلا ، فإنّه لا يكون تأويلا صحيحا.

وقولنا : بدليل يعضده ، ليخرج التأويل من غير دليل ، وهو يعمّ القاطع والظنيّ.

إذا ثبت هذا ، فالتأويل لا يتطرّق إلى النصّ ، ولا إلى المجمل ، بل إلى ما كان ظاهرا لا غير.

__________________

(١) الإحكام : ٣ / ٣٧.

٤٩١

المبحث الثاني :

في جواز التأويل

الدليل إمّا عقليّ أو نقليّ ، والعقليّ لا يمكن الرجوع عنه ، والعدول إلى غيره ، إذ شرط كونه دليلا سلامته عن جميع الاحتمالات ، سواء القريب والبعيد في ذلك ، فإنّ البعيد كالقريب في العقليّات ، ودليل العقل لا يمكن مخالفته بوجه ما ، والبعيد يمكن أن يكون مرادا من اللّفظ بوجه ما ، فلا يجوز التمسّك في العقليات إلّا بالنصّ القاطع الّذي لا يتطرّق إليه احتمال لا قريب ولا بعيد.

أمّا النقلي ، فانّه قابل للتأويل ، ويجوز مخالفته لدليل أقوى منه.

ولا خلاف في أنّ التأويل مقول ، معمول به مع حصول شرائطه ، وقد أجمع علماء الأمصار عليه في كلّ الأعصار.

ويشترط فيه كون اللفظ قابلا للتأويل ، بأن يكون ظاهرا فيما صرف عنه محتملا لما صرف إليه.

وأن يكون الدليل الصّارف للفظ عن مدلوله الظاهر راجحا على ظهور

٤٩٢

اللفظ في مدلوله ، ليتحقّق صرفه عنه إلى غيره ، إذ لو كان مساويا له ، حصل التردّد ، ولم يجز العدول ، لأنّه ترجيح من غير مرجّح.

ولو كان مرجوحا ، لم يجز العدول باعتباره اتّفاقا ، فلا بدّ وأن يكون الدليل الصارف للفظ عن مدلوله راجحا على ظهور اللفظ ، ويختلف الترجيح باعتبار قوّة الظهور وضعفه.

قيل (١) : ويشترط أيضا كون الناظر المتأوّل أهلا لذلك.

وفيه نظر ، إذ الاعتبار بالدليل لا بالناظر.

ويشبه أن يكون كلّ تأويل صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز ، ويدخل فيه تخصيص العامّ ، فإنّ وضعه وإن كان للاستغراق ، إلّا أنّ الاقتصار على البعض مجاز.

واعلم أنّ الاحتمال قد يكون قريبا على ما بيّناه ، فيكفي فيه دليل قريب وإن لم يكن بالغا في القوّة.

وقد يكون بعيدا ، فيفتقر إلى دليل قويّ ، بحيث يكون ذلك الاحتمال البعيد أغلب على الظنّ من مخالفة ذلك الدليل.

وقد يكون ذلك الدّليل ظاهرا آخر أقوى منه.

وقد يكون دليلا عقليّا ، أو قياسا منصوص العلّة.

وقد يكون قرينة قرب تأويل لا ينقدح إلّا بتقدير قرينة ، وان لم تنقل

__________________

(١) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٣٨.

٤٩٣

القرينة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما الربا في النسيئة» (١) ، فإنّه لا يجوز حمله على ظاهره لثبوت رباء الفضل بالإجماع ، فيحمل على مختلفي الجنس ، ولا ينقدح هذا التخصيص إلّا بتقدير واقعة وسؤال عن مختلفي الجنس ، ولكن يجوز بتقدير مثل هذه القرينة إذا اعتضد بنصّ.

وقوله عليه‌السلام : لا تبيعوا البرّ بالبرّ إلّا سواء بسواء ، (٢) نصّ في إثبات ربا الفضل ، وقوله عليه‌السلام «إنّما الرّبا في النسيئة» ، حصر للرّبا في النسيئة ، ونفي لربا الفضل.

فالجمع بالتأويل الّذي ذكرناه أولى من مخالفة النصّ ، وإذا كان الاحتمال قريبا ، والدليل قربيا ، وجب على المجتهد الترجيح والمصير إلى ما غلب على ظنّه ، فليس كلّ تأويل مقبولا ، بل هو مختلف ، ولا ضابط له ، إلّا أنّا نذكر أمثلة لتأويلات مقبولة وأخرى مردودة ، ليتميّز الناظر فيها ، ويستعدّ لتأويل ما يرد عليه من الألفاظ المفتقرة إليه.

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ٧٦٠ برقم ٢٢٥٧ ؛ وعوالي اللآلي : ٣ / ٢٢٠.

(٢) سنن النسائي : ٧ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ؛ وسنن البيهقي : ٥ / ٢٧٦.

٤٩٤

المبحث الثالث :

في ذكر أمثلة التأويلات

ويشتمل على مسائل :

المسألة الأولى

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفيروز الدّيلمي وقد أسلم عن عشر نسوة (١) : «أمسك أربعا وفارق سائرهن» محمول على ظاهره ، لا يفتقر إلى التأويل عندنا ، وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة : إنّه متأوّل ، والأصل في ذلك أنّ الكافر إذا تزوّج أكثر من أربع نسوة ، ثمّ أسلم تخيّر في إمساك أربع منهنّ ، ويفارق البواقي ، سواء ترتب عقدهنّ ، أو اصطحب عندنا وعند الشافعي.

وقال أبو حنيفة : يصحّ نكاح الأوائل دون الزائد على الأربع.

__________________

(١) هكذا في النسخ الّتي بأيدينا ولكن سيأتي من المصنّف من أنّه أسلم على أختين وهذا هو الصحيح وقد ذكر في أسد الغابة في ترجمة فيروز الديلمي أنّه أسلم عن أختين ، والّذي أسلم عن عشرة هو غيلان بن سلمة ، لاحظ أسد الغابة : ٣ / ٤٦٤ برقم ٤٢٤٧ ، وأيضا ص ٤٤٧ برقم ٤١٩١.

٤٩٥

واستدلّ أصحابنا بهذا الحديث ، وتأوّله أبو حنيفة بتأويلات ثلاثة :

الأوّل : يحتمل أنّه أراد بالإمساك ابتداء النكاح ، ويكون معنى قوله «أمسك أربعا» أنكح منهنّ أربعا ، ومعنى «فارق سائرهنّ» : لا تنكحهنّ.

الثاني : يحتمل أنّ النكاح كان واقعا في ابتداء الإسلام قبل حصر عدد النساء في أربع ، فكان ذلك النكاح واقعا على وجه الصحّة ، والباطل من أنكحة الكفّار ليس إلّا ما كان مخالفا لما ورد به الشرع حال وقوعها.

الثالث : يحتمل أنّه أمر الزوج باختيار أوائل النساء ، وهذه التأويلات وإن كانت منقدحة عقلا إلّا أنّ القرائن يدفعها ، فإنّ التأويل وان احتمل لكن قد تجمع قرائن تدلّ على فساده وآحاد تلك القرائن لا تدفعه ، لكن يخرج بمجموعها عن أن يكون منقدحا غالبا ، والظاهر هنا قد اعتضد بقرائن جعلته أقوى في النّفس من التأويل المحتمل ، وان استند إلى قياس.

أمّا التأويل الأوّل ، فبعيد بوجوه.

الأوّل : المتبادر إلى الفهم من لفظ الإمساك إنّما هو الاستدامة دون الابتداء والتجديد.

الثاني : أنّه قارن لفظ الإمساك بلفظ المفارقة ، وإنّما يفهم من المفارقة المجانبة بعد الاتّصال.

الثالث : أنّه فوّض الإمساك والمفارقة إلى اختياره ، وعندهم إنّهما غير واقعين باختياره ، لوقوع الفراق بنفس الإسلام ، وتوقّف النكاح على رضا المرأة.

الرابع : انّه لو أراد ابتداء النكاح لذكر شرائطه ، لأنّه وقت الحاجة إليه ، فلا

٤٩٦

يجوز تأخير البيان عنه مع دعاء الحاجة إليه ، لقرب عهده بالإسلام.

الخامس : أمر الزوج بإمساك أربع من العشر ، وبمفارقة البواقي والأمر إمّا للوجوب أو الندب ، وحصر التزويج في العشر ليس واجبا ولا مندوبا إليه ، والمفارقة ليست من فعل الزوج حتّى يكون الأمر متعلّقا بها.

السادس : الظاهر من الزوج المأمور إنّما هو امتثال أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمخالفة بعيدة ولم ينقل أحد تجديد النكاح في هذه الصورة ، فدلّ على أنّ المراد بالإمساك مفهومه الظاهر.

السابع : أنّه لا يتوقّع في طرد العادة اتّفاقهنّ على الرّضا على حسب مراده ، بل ربما كان يمتنع جميعهنّ فكيف أطلق الأمر مع هذا الإمكان؟

الثامن : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أمسك» أمر ، وظاهره الإيجاب ، فكيف أوجب عليه ما لم يجب ، فلعلّه أراد أن لا ينكح أصلا.

التاسع : أنّه ربما أراد أن لا ينكحهنّ بعد أن قضى وطره بهنّ ، فكيف حصره فيهنّ؟ بل كان ينبغي أن يقول : انكح أربعا ممّن شئت من نساء العالمين من الأجنبيّات ، فإنّهن عنده كسائر نساء العالم.

العاشر : الزّوج إنّما سأل عن الإمساك بمعنى الاستدامة ، لا التجديد ، وعن الفراق بمعنى انقطاع النكاح ، والأصل في جوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المطابقة.

وأمّا تأويل الثاني ، فبعيد أيضا ، لأنّه لو لم يكن الحصر ثابتا في ابتداء الإسلام ، لما خلا ابتداء الإسلام عن الزيادة عن الأربع عادة ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة ذلك في ابتداء الإسلام ، ولو وقع ، لنقل.

٤٩٧

وأمّا التأويل الثالث ، فبعيد أيضا ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواحد كان قد أسلم على خمس نسوة : اختر منهنّ أربعا وفارق واحدة ، قال المأمور : فعمدت إلى أقدمهنّ عندي ، ففارقتها.

تذنيب

وقد تأوّلوا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفيروز الديلمي (١) وقد أسلم على أختين : «أمسك أيّتهما شئت وفارق الأخرى» بما تقدّم من التأويلات الثلاثة.

والتأويل الأوّل بعيد لما تقدّم من الوجوه ، وكذا الثاني.

وقوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ)(٢) قال المفسّرون : المراد به ما سلف في الجاهلية قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والثالث هنا أبعد ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمسك أيّتهما شئت ، فإنّه نصّ على التّخيير بالتصريح وهو ينافي مذهبهم.

المسألة الثانية

قال علماؤنا وأبو حنيفة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في أربعين شاة شاة» (٣) المراد به

__________________

(١) يكنّى أبا عبد الله ، وهو قاتل الأسود العنسي الّذي ادّعى النبوّة ، توفّي في خلافة عثمان ، ترجمه في أسد الغابة : ٣ / ٤٦٣ برقم ٤٢٤٧ ، ونقل حديثه مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أسلم وتحته أختان.

(٢) النساء : ٢٣.

(٣) وسائل الشيعة : ٦ / ٧٨ ، الباب ٦ من أبواب زكاة الأنعام ، الحديث ١ ؛ وسنن ابن ماجة : ١ / ٥٧٧ برقم ١٨٠٥ ؛ وسنن ابن داود : ٢ / ٩٨ ، برقم ١٥٦٨.

٤٩٨

مقدار قيمة شاة ، وإنّما احتاجوا إلى هذا التأويل ، لما علم من أنّ المقصود من إيجاب الزكاة إنّما هو دفع حاجة الفقراء وسدّ خلاتهم ، وذلك يحصل بالقيمة ، كما يحصل بالعين ، بل ربما كانت القيمة أبلغ في حصول المقصد ، لإمكان صرفها إلى أيّ نوع شاء الفقير من شراء الشاة وغيرها.

واستبعده الشافعي لوجوه ثلاثة : الأوّل : أنّه يرفع النصّ ، لأنّ قوله تعالى : (وَآتُوا الزَّكاةَ)(١) نصّ ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في أربعين شاة شاة ، بيان للنصّ ، وهو نصّ في وجوب الشاة ، وإيجاب القيمة رفع وجوب الشاة وإسقاطها ، فيكون رفعا للنصّ.

الثاني : سدّ الخلة وإن كان مقصودا ، إلّا أنّه ليس كلّ المقصود ، بل ربّما قصد مع ذلك التعبّد باشتراك الفقير في جنس مال الغنيّ ، فالجمع بين الظّاهر وبين التعبّد ومقصود سدّ الخلّة أغلب على الظنّ في العبادات الّتي مبناها على الاحتياط من تجريد النظر إلى مجرّد سدّ الخلّة.

الثالث : التعليل بسدّ الخلّة مستنبط من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في أربعين شاة شاة ، يرجع إلى الأصل بالإبطال ، أو على الظاهر بالرفع ، وظاهره وجوب الشاة على التعيين وهذا التأويل يرفع هذا الوجوب بما استنبط منه من العلّة الّتي هي دفع الحاجة ، وإذا استنبطت العلّة من الحكم وأوجبت رفعه ، كانت باطلة.

والجواب عن الأوّل : بالمنع من كون إيجاب القيمة إسقاطا للشاة ورفعها لها ، بل هو توسيع للوجوب لا إسقاطه ، وإنّما إسقاطه ترك الشاة لا إلى بدل أمّا إذا

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

٤٩٩

لم يجز تركها إلّا ببدل يقوم مقامها ، فلا يخرجها عن كونها واجبة ، كما في خصال الكفّارة إذا فعل واحدة فقد أدّى واجبا ، وإن كان الواجب يتأدّى بالخصلة الأخرى.

نعم أنّه يرفع تعيين الوجوب لا أصله ، واللّفظ نصّ في أصل الوجوب لا في تعيينه وتضييقه ، وإن كان ظاهره التّعيين ، لكنّه يحتمل التخيير ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «استنج بثلاثة أحجار» فإنّ إقامة المدر مقامه لا يبطل وجوب الاستنجاء ، لأنّ الحجر آلة يجوز أن يتعيّن ، ويجوز أن يتخيّر بينها وبين ما في معناها.

وعن الثاني : أنّ التعبّد بإيجاب العين وإن كان محتملا إلّا أنّ ذكر عين الشاة معيار لمقدار الواجب ، فلا بدّ من ذكرها ، فإنّ القيمة تعرف بها ، وهي تعرف بها (١) ولو فسّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلامه بذلك لم يكن فيه تناقض.

وعن الثالث : بالمنع من رجوع الاستنباط على الأصل بالإبطال ، وقد بيّنّا أنّه توسيع للواجب.

المسألة الثالثة

قال علماؤنا قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ)(٢) الآية ، محمول على بيان المصرف وشروط الاستحقاق ، لا على التمليك لكلّ صنف

__________________

(١) أي بنفس الشاة.

(٢) التوبة : ٥٩.

٥٠٠