نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

لأنّا فرضنا إجماعهم على التخصيص بأخبار الآحاد.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما خالفه فردّوه» نمنع دلالته على صورة النزاع ، فإنّ المخصّص مبيّن لا مخالف ، لأنّه دل على أنّ المراد من العموم ، ما عدا صورة التخصيص ، فلا يكون مخالفا ، والتخصيص إذا لم يكن له سبب ظاهر ، ووجد ما يصلح للسببيّة ، غلب على الظنّ استناد الحكم إليه.

وفرض التواتر أوّلا ، بعيد ، لعدم خفائه عن الصحابة.

سلّمنا ، لكن لا يضرّنا ، لأنّ البحث عن المخصّص الآن لعموم المتواتر هل يجوز أن يكون خبر واحد ، لأنّ المفسدة الّتي يذكرونها ، وهو ترجيح المظنون على المعلوم متحقّقة هنا ، والأصل عدم القرائن.

احتجّ المانعون بوجوه :

الأوّل : الإجماع على المنع ، كما روي عن عمر أنّه قال في خبر فاطمة بنت قيس (١) ، حيث روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة : كيف ندع كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا بقول امرأة لا ندري صدقت أو كذبت (٢).

الثاني : روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا ورد عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله ،

__________________

(١) فاطمة بنت قيس بن خالد ، القرشية الفهريّة ، كانت من المهاجرات الأوّل.

قال ابن الأثير في أسد الغابة : إنّها قالت طلّقني زوجي ثلاثا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا سكنى لك ولا نفقة». لاحظ أسد الغابة : ٥ / ٣٧١ برقم ٧١٩٤.

(٢) صحيح مسلم ، كتاب الطلاق ، باب المطلّقة ثلاثا لا نفقة لها ولا سكنى ، برقم ٣٦٠١.

٣٠١

فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردّوه» (١) والمخصّص للكتاب ، على مخالفة الكتاب ، فوجب ردّه.

الثالث : الكتاب مقطوع به ، وخبر الواحد ظنيّ ، والمقطوع أولى من المظنون.

الرابع : لو جاز التخصيص بخبر الواحد ، لجاز الفسخ به ، والتالي باطل إجماعا ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ النسخ نوع من التخصيص ، فإنّه يخصّص في الأزمان ، والتخصيص المطلق أعمّ منه ، فلو جاز التخصيص بخبر الواحد ، لكانت العلّة أولويّة تخصيص العامّ على الخاصّ ، وهو قائم في النسخ.

والجواب عن الأوّل : قول عمر ليس حجّة ، فضلا عن أن يكون إجماعا.

على أنّا نقول بموجبه ، فإنّ الخبر المشكوك في صدقه لا يجوز التخصيص به ، بل بما يظنّ صدقه ، وانتفاء التهمة والنسيان عنه ، بل هو دليل لنا ، لأنّه علّل بعدم علمه بصدقها أو بكذبها ، لا بكونها خبر واحد. (٢)

وفيه نظر ، لوجود العلّة في التنازع.

__________________

(١) تقدم الحديث آنفا.

(٢) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٤١٨ ؛ ونقله الرازي في محصوله : ١ / ٤٣٥.

٣٠٢

وعن الثاني : أنّه ورد في السنّة المتواترة أيضا وما تقدّم.

وعن الثالث : أنّه منقوض بالبراءة الأصليّة.

وأيضا ، فإنّ الكتاب وإن كان مقطوعا به ، لكن في متنه ، دون دلالته ، فإنّه مظنون فيها ، وخبر الواحد مقطوع في دلالته مظنون في متنه ، فتعادلا (١).

وأيضا ، فإنّ الدليل القطعيّ ، لمّا دلّ على وجوب العمل بخبر الواحد ، لم يكن العمل به مظنونا ، فإنّ الله تعالى لو قال : «مهما ظننتم صدق الرّاوي فاعلموا أنّ حكمي ذلك» ثمّ ظننّا صدق الراوي ، صار ذلك الحكم قطعيّا.

وعن الرابع : بالإجماع على الفرق بين النسخ ، والتخصيص ، فإنّه دلّ على الثاني بخبر الواحد ، دون الأوّل.

ولأنّ التخصيص ، أهون من النّسخ ، ولا يلزم من تأثير الشّيء في الضّعيف تأثيره في القويّ.

__________________

(١) في «ج» : فيقابلا.

٣٠٣

الفصل الثالث

في بناء العام على الخاص

إذا ورد خبران عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهما كالمتنافيين ، فإمّا أن يكونا عامّين ، أو خاصّين ، أو أحدهما عامّا والآخر خاصّا وهذا الأخير إمّا أن يعلم تاريخهما أو لا.

والأوّل ، إمّا أن يقترنا أو لا ، وحينئذ فإمّا أن يتقدّم العامّ أو الخاصّ ، فالأقسام أربعة:

الأوّل : أن يعلم الاقتران مثل أن يقول : «في الخيل زكاة» ثمّ يقول عقيبه : «ليس في الذكور من الخيل زكاة» وهنا يكون الخاصّ مخصّصا للعامّ عند الجمهور وقال بعض من شذّ : إنّ ذلك القدر من العامّ يصير معارضا بالخاصّ. (١)

لنا وجوه :

الأوّل : الخاصّ في دلالته على محلّه أقوى من دلالة العامّ عليه ، والأقوى راجح.

__________________

(١) نقله الرّازي عن البعض ولم يسمّ قائله ، لاحظ المحصول : ١ / ٤٤١.

٣٠٤

بيان الصغرى : أنّ العامّ يجوز إطلاقه من غير إرادة صورة الخاصّ ، ولا يمكن ذلك في الخاصّ.

وأمّا الكبرى : فظاهرة لأنّ العمل بالمرجوح أو ترك راجح لأجله ، خلاف المعقول.

الثاني : العمل بالعامّ في جميع الصور ، يقتضي إلغاء الخاصّ بالكليّة ، والعمل به في غير صورة الخاصّ ، مع العمل بالخاصّ ، عمل بالدّليلين ، فيكون الثّاني أولى.

الثالث : العرف يقتضي بما قلناه ، فإنّ من قال لعبده : إذا دخلت السوق فاشتر كلّ لحم ، ولا تشتر لحم بقر ، فإنّه يفهم إخراج لحم البقر من كلامه الأوّل ، وشراء غيره ، إمّا على سبيل البداء ، أو أنّه لم يرده من لفظ العموم.

لا يقال : جاز أن يكون الأمر بالعامّ للندب وعدم الزكاة في الذّكور على نفي الوجوب ، وهو وإن كان مجازا في استعمال العامّ المقطوع ، إلّا أنّ تخصيصه مجاز أيضا ، فلم كان أحد المجازين أولى من الآخر؟

لأنّا نقول : ظاهر العموم يقتضي الإيجاب في الإناث والذكور ، فلو حملناه على النّدب لكنّا قد عدلنا عن ظاهره في الإناث لا لدليل ، لانّه يتناول الإناث ، وليس كذلك إذا أخرجنا الذكور عن الوجوب ، لأنّا حينئذ نكون قد عدلنا عن ظاهر العامّ في صورة الذكور خاصّة لدليل تناولها واقتضى إخراجها.

وأيضا ، فإنّ ذلك غير صورة النزاع ، إذ التقدير ينافي النّصّين في الأحكام ، وما ذكرتموه لا تنافي فيه ، فإنّ ثبوت الاستحباب ونفي الإيجاب غير متنافيين ، إنّما النزاع في حكمين متنافيين بأن نقول : تجب الزكاة في الخيل ، ثمّ [نقول :] لا

٣٠٥

تجب في ذكور الخيل ، ولا يمكن هنا الاعتذار بما ذكرتموه. (١)

وفيه نظر ، لأنّ التنازع في المتنافيين ظاهرا لاستحالته حقيقة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ثابت هنا ، وإنّما حملناه على الندب ، لثبوته ظاهرا ، ولا يلزم من امتناع العذر فيما ذكرتم امتناعه هنا.

الثاني : أن يتأخّر الخاصّ ، فإن ورد [الخاصّ] قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، كان بيانا للتخصيص كالأوّل ، ويجوز ذلك عند من يجوّز تأخير بيان العامّ ، ولا يجوز عند المانعين منه ، ولا يكون نسخا إلّا عند من يجوّز نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به.

وإن ورد [الخاصّ] بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، كان نسخا وبيانا لمراد المتكلّم فيما بعد ، دون ما قبل ، لأنّ البيان لا يتأخّر عن وقت الحاجة.

الثالث : أن يتأخّر العامّ ، وقد اختلف فيه.

فقال الشافعي : العامّ يبنى على الخاصّ ، وبه قال أبو الحسين البصري (٢) وهو الأقوى.

وقال أبو حنيفة والقاضي عبد الجبار : إنّ العامّ المتأخّر ينسخ الخاصّ المتقدّم.

وتوقف ابن القاصّ (٣).

__________________

(١) لاحظ المعتمد : ١ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٢) المعتمد : ١ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٣) هو أبو العباس أحمد بن أبي أحمد المعروف ب «ابن القاصّ» الطبري ، الفقيه الشافعي ، أخذ الفقه عن ابن سريج ، توفّي سنة ٣٣٥ ه‍. لاحظ وفيات الأعيان : ١ / ٦٨ برقم ٢٢ ؛ وفي الاعلام للزركلي : ١ / ٩٠ «أحمد بن أحمد» مكان «أبي أحمد».

٣٠٦

لنا ما تقدّم ، من أنّ الخاصّ أقوى دلالة ، فيكون العمل به أرجح.

ومن أنّ العمل بالعامّ في جميع الصور ، يوجب إلغاء الخاصّ ، واعتبار الخاصّ لا يوجب إلغاء واحد منهما ، فكان أولى. (١)

وفيه نظر ، فإنّه على تقدير تأخير العامّ عن وقت العمل بالخاصّ ، فيكون نسخا ، لا إلغاء للخاصّ ، إذ قد عمل به أوّلا ، فكان التخصيص في زمانه ، وليس التخصيص في أعيان العامّ ، أولى من التخصيص في أزمان الخاصّ.

واحتجّ أبو الحسين : بأنّ قوله : «لا تقتلوا اليهود» يمنع من قتلهم أبدا ، وقوله من بعد : «اقتلوا الكفّار» يفيد قتلهم في حالة من الحالات ، والخبر الخاصّ يمنع من قتلهم في تلك الحالة ، فإذا تمانعا ، والخاصّ أخصّ باليهود ، وأقلّ احتمالا ، وجب القضاء به.

ولو قال : «اقتلوا اليهود» ثمّ قال : «لا تقتلوا الكفّار» وقد بقيت من اليهود بقيّة لم يقتلوا ، فالأمر يقتضي قتلهم في حال من الحالات ، والنّهي يمنع من ذلك ، فإذا تمانعا في تلك الحال ، قضي بالخاصّ. (٢)

واحتجّت الشافعيّة : بأنّ الخاصّ معلوم دخول ما تناوله تحته ، ودخول ذلك تحت العامّ مشكوك فيه ، والعامّ لا يترك بالشك.

وهو ضعيف ، لأنّهم إن أرادوا أنّ العامّ لو انفرد لم يعلم دخول ما تناوله تحته ، فممنوع ، وإن ارادوا أنّه لا يعلم ذلك لأجل الخاصّ ، ففيه النّزاع ، وهو ترك

__________________

(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٤٢.

(٢) المعتمد : ١ / ٢٥٧.

٣٠٧

قولهم أيضا ، لقطعهم على خروج ذلك من العموم ، ولا يشكّون فيه.

واحتجّوا أيضا : بأنّ تقدّم الخاصّ [على العامّ] كالعهد بين المتكلّم والمخاطب ، فانصرف الخطاب العامّ إليه.

وهو ضعيف ، فإنّ معنى قولهم : إنّه كالعهد ، أنّ المتكلّم قد دلّ بالخاصّ المتقدّم على أنّ مراده بالعامّ ما دون الخاصّ ، وأنّه لا يفهم السامع إلّا ذلك ، وفيه النّزاع.

واحتجّ أبو حنيفة بوجوه :

الأوّل : تناول العامّ لآحاده يجري مجرى ألفاظه خاصّة ، يتناول كلّ واحد منها ما دلّ عليه ، فإنّ قوله : «اقتلوا المشركين» بمنزلة قوله : «اقتلوا زيدا المشرك ، وعمرا ، وخالدا» ولو قال ذلك بعد قوله : «لا تقتلوا زيدا» كان الثاني ناسخا ، فكذا ما قلناه.

الثاني : الخاصّ المتقدّم يمكن نسخه ، والعامّ يمكن أن يرفعه ، فكان ناسخا له.

الثالث : تردّد الخاصّ المتقدّم بين كونه منسوخا ومخصّصا يمنع من كونه مخصّصا ، لأنّ البيان لا يكون ملبسا (١).

الرابع : قال ابن عباس : «كنّا نأخذ بالأحدث فالأحدث» (٢) فإذا كان العامّ متأخّرا ، وجب الأخذ به.

__________________

(١) في «ب» و «ج» : ملتبسا.

(٢) تقدم تخريج الحديث آنفا.

٣٠٨

الخامس : لفظان متعارضان ، وعلم التاريخ ، فوجب تسليط الأخير على الأوّل ، كما لو كان الأخير خاصّا.

واحترزنا بقولنا : «لفظان» عن العامّ المخصوص بالعقل ، فإنّ المتقدّم هناك هو المتسلّط.

والجواب عن الأوّل : بالمنع من التساوي ، فإنّ تعديد الجزئيّات يمنع من تخصيص بعضها ، لما فيه من المناقضة ، بخلاف ذكر العامّ ، فإنّه وإن جرى مجرى ألفاظ خاصّة بآحاد ما تناوله في كونه متناولا لها ، فإنّه لا يجري مجراها في امتناع دخول التخصيص عليه ، لأنّ الخاصّ لم يدخل تحته أشياء فيخرج بعضها ، والعامّ قد تناول أشياء يمكن أن يراد به بعضها ، فصحّ قيام الدّليل عليه.

وعن الثاني : أنّه لا يلزم من إمكان رفعه له ، أن يكون رافعا ، مع أنّه كما يمكن أن يتصوّر فيه كونه رافعا للخاصّ المتقدّم ، يمكن أن يتصوّر فيه كونه مخصوصا بالخاصّ المتقدّم.

فإن قالوا : تأخّره يقتضي كونه ناسخا.

قلنا : انّه نفس النزاع.

وأيضا ، فإنّما يمكن أن ينسخ المتقدّم إذا لم يثبت كونه مخصوصا بالمتقدّم ، فبيّنوا ذلك ، وقد تمّ مطلوبكم.

وعن الثالث : أنّ الخصم يقول : إنّه ليس تردّد عندي بين هذين ، بل قد صحّ كونه مخصّصا.

٣٠٩

ثمّ إن هذا التردّد من كونه بيانا للتخصيص ، منع التردّد من كون العامّ ناسخا للخاصّ.

وعن الرابع : أنّ قول الصحابة ليس حجّة.

مع أنّا نخصّه بما إذا كان الأحدث هو الخاصّ ، لأنّ لفظه ليس للعموم.

سلّمنا ، لكن ذلك مع تعارض الدّليلين وتنافي الحكمين ، فإنّ المتأخّر يكون ناسخا ، ويتعيّن العمل به حينئذ ، ويمنع التعارض هنا ، فإنّ صورة الخاصّ ليست مرادة من العامّ المتأخّر.

وعن الخامس : بالمنع من التعارض ، لما بيّنا من منع كون صورة الخاصّ مرادة من لفظ العامّ.

سلّمنا ، لكنّ الفرق بين صورة النزاع وبين ما إذا تأخّر الخاصّ واقع ، فإنّ الخاصّ أقوى ، فوجب تقديمه.

ولأنّا لو لم نسلّط الخاصّ المتأخّر على العامّ المتقدّم ، لزم إلغاء الخاصّ بالكليّة ، أمّا لو لم نسلّط العامّ المتأخّر على الخاصّ المتقدّم ، لم يلزم ذلك.

احتجّ القائلون بالوقف : بأنّ كلّ واحد من هذين الخطابين ، أعمّ من صاحبه من وجه ، وأخصّ من [وجه] آخر ، فإنّه إذا قال : «لا تقتلوا اليهود» ثمّ قال بعده : «اقتلوا المشركين» كان بينهما عموم من وجه.

فإنّ قوله : لا تقتلوا اليهود ، أخصّ باعتبار أنّ اليهود أخصّ من المشركين ، وأعمّ من حيث إنّه دخل في المتقدّم من الأوقات ما لم يدخل فيها المتأخّر ، وهو الزّمان المتخلّل بين ورود المتقدّم والمتأخّر ، فالخاصّ المتقدّم أعمّ في الزّمان

٣١٠

وأخصّ في الأعيان ، والعامّ المتأخّر بالعكس (١).

وإذا كان كلّ منهما أعمّ من وجه ، وجب الوقف ، والرجوع إلى الترجيح ، كما في العامّين أو الخاصّين.

والجواب : أنّ العموم من وجه إنّما عرض باعتبار فرض المتقدّم نهيا ، فإنّه يعمّ الأزمنة ، أمّا لو فرضناه أمرا ، فإنّه لا يقتضي العموم ، بل يكون خاصّا باعتبار الأزمان والأعيان ، لعدم إفادة [الأمر] التكرار.

وعلى تقدير كون العامّ المتأخّر نهيا ، يكون أعمّ من المتقدّم في الأعيان والأزمان ، لعدم تناول الأمر كلّ الأزمان. (٢)

وفيه نظر ، فإنّ النّهي كالأمر في أنّه لا يقتضي التكرار على ما بيّناه.

والأقرب منع العموميّة هنا ، وإلّا لزم المحال ، وهو نفيها على تقدير ثبوتها ، لأنّها إنّما تثبت لو ثبت الخاصّ المتقدّم مع العامّ المتأخّر في زمان المتأخّر ، بحيث تتحقّق عموميّة حكم الخاصّ بالنّسبة إلى الزّمان ، لكن لو ثبت ذلك تقدّم حكم العامّ عليه من هذه الحيثيّة ، بمعنى أنّه يبطل حكمه ، فلا يساويه في الثبوت ، فلا تتحقّق العموميّة.

الرابع : أن يجهل التاريخ ، وقد اختلفوا هنا.

فقال الشافعي : يبنى العامّ على الخاصّ ، ويخصّ الخاصّ العامّ.

وقال أبو حنيفة ، بالوقف والرجوع إلى غيرهما ، أو إلى ما يترجّح به

__________________

(١) فالعامّ أخصّ لعدم شموله الزّمان المتقدّم عليه ، وأعمّ لشموله اليهود وسائر المشركين.

(٢) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٤٤ ، وتنظّر فيه المصنّف رحمه‌الله.

٣١١

أحدهما على الآخر ، وهو سديد على أصله ، لأنّ الخاصّ دائر بين أن يكون منسوخا ، أو مخصّصا ، أو ناسخا مقبولا ، أو ناسخا مردودا ، وحينئذ يجب التوقّف.

واحتجّ الشافعيّ بوجوه :

الأوّل : ليس للخاصّ مع العامّ إلّا المقارنة ، أو التقدّم ، أو التأخّر ، وعلى التقادير الثلاثة ، يكون الخاصّ مخصّصا للعامّ ، فكذا مع جهل التاريخ.

ويضعّف : بأنّ الخاصّ المتأخّر إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، كان مخصّصا ، وإن ورد بعده ، كان ناسخا.

وحينئذ ، فإن كانا قطعيّين ، أو ظنّيّين ، أو العامّ ظنّيا ، والخاصّ قطعيّا ، وجب ترجيح الخاصّ على العامّ ، لتردّده بين أن يكون ناسخا ، أو مخصّصا.

ولو كان العامّ قطعيّا ، والخاصّ ظنيّا ، فإن كان الخاصّ مخصّصا ، جاز ، لما بيّنا من جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

وإن كان ناسخا ، لم يجز العمل به ، فيكون مردودا.

فقد تردّد الخاصّ بين أن يكون مخصّصا ، وبين أن يكون ناسخا مقبولا ، وبين أن يكون ناسخا مردودا ، وحينئذ لا يجب تقديم الخاصّ على العامّ.

الثاني : العامّ يخصّ بالقياس مطلقا ، فلأن يخصّ بخبر الواحد أولى.

وهو ضعيف ، للمنع من الأصل.

ولأنّ القياس يقتضي أصلا يقاس عليه ، وذلك الأصل إن كان مقدّما على العامّ ، لم يجز القياس عليه ، وكذا إذا لم يعلم تقدّمه وتأخّره.

٣١٢

الثالث : فقهاء الأمصار في هذه الأعصار يخصّصون أعمّ الخبرين بأخصّهما ، مع فقد علمهم بالتاريخ.

لا يقال : إنّ ابن عمر لم يخصّ قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)(١) بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تحرّم الرّضعة ولا الرّضعتان. (٢)

وعنه [أيضا] أنّه لمّا سئل عن نكاح النصرانيّة حرّمه ، لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ)(٣) وجعل هذا العامّ رافعا لقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)(٤) مع خصوصه.

لأنّا نقول : إنّما ادّعينا إجماع أهل هذه الأعصار ، مع أنّه يحتمل أن يكون ابن عمر امتنع من ذلك لدليل ، أو لأنّه لا يرى تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

وقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) جاز أن يكون متأخّرا فيرفع حكم المتقدّم وإن كان عامّا ، لأنّه ربما كان يعتقد ذلك.

الرابع : إذا جهل التاريخ ، وجب حملها على الاقتران ، كالغريقين إذا جهل التقدّم والاقتران ، فإنّ أمرهما يحمل على الاقتران.

ويضعّف بأنّ الأمّة لم تجمع على ذلك ، بل جماعة من الصحابة ورّث كلّ واحد منهما من الآخر ، ومنهم من لم يورّث أحدهما من الآخر.

__________________

(١) النساء : ٢٣.

(٢) لاحظ سنن البيهقي : ٧ / ٤٥٨.

(٣) البقرة : ٢٢١.

(٤) المائدة : ٥.

٣١٣

الخامس : إذا وجب تخصيص العموم بالاستثناء ، فكذا بالخبر الخاصّ.

وهو ضعيف ، لعدم الجامع.

مع قيام الفرق ، فإنّ الاستثناء لمّا لم يستقلّ بنفسه ، علم اقترانه [للعموم] ، فلم يمكن أن يكون منسوخا ، بخلاف الخاصّ المستقلّ ، فإنّه يمكن أن يكون متقدّما ، وإنّما يماثل الاستثناء الخاصّ المقارن. (١)

السادس : القياس يعترض به على العامّ ، فالخبر الخاصّ أولى بذلك.

وهو ضعيف ، فإنّ أصل القياس إن كان متقدّما على العامّ ، وكان منافيا له ، فإنّه لا يجوز القياس عليه عند الخصم ، لأنّه منسوخ بالعامّ ، مثل أن يقول : «لا تبيعوا البرّ» ثم يقول بعد وقت : «أحللت جميع البياعات» فإنّ المخالف ينسخ تحريم البرّ ، ولا يجوز قياس الأرز عليه في التحريم ، وإن اشتبه تقدّمه ، لم يجز القياس عليه أيضا.

وإن كان أصل القياس غير متقدّم للعامّ على وجه ينافيه ، صحّ القياس عليه ، وخصّ به العامّ ، مثل أن ينهى عن بيع البرّ ، ثمّ يقول بعد مدة : «أبحت بيع ما سوى البرّ» فإنّه لا ينسخ النهي عن بيع البرّ ، فيجوز أن يقاس على البرّ المكيلات ، ويخصّ من جملة هذا العموم ، ولا يشبه ذلك مسألتنا ، لأنّ صورة النزاع يمكن أن يكون الخبر المتقدّم منسوخا بالعامّ.

السابع : لو لم يخصّ العامّ بالخاصّ ، لزم إلغاء الخاصّ.

__________________

(١) يحتمل ان يكون الخاصّ متقدّما وبالتالي مستقلّا ، كما يحتمل أن يكون مقارنا للعامّ ، مماثلا للاستثناء.

٣١٤

وهو ضعيف ، فإنّ إلغاء الخاصّ إن أريد أن لا يستعمل أصلا ، فالحكمة تمنع منه ، ونحن لا نقول به.

وإن أردتم أن لا نستعمله الآن ، وإن كان مستعملا في وقت ، فذلك جائز عندنا ، وهذه حالة المنسوخ ولو جعل اللّازم إمكان الإلغاء تمّ الدليل.

الثامن : لو لم يخصّ العامّ بالخاصّ ، لوجب إمّا نسخ الخاصّ بالعامّ ، أو إلغاؤهما ، والأوّل باطل ، مع فقد التاريخ ، وكذا الثاني ، لأنّ كلام الحكيم لا يجوز إلغاؤه.

وهو ضعيف ، فإنّ الخصم يقول : إنّ التخصيص يحتاج إلى تاريخ ، لأنّه لا يخصّ العامّ بخبر متقدّم.

وإن أريد بإلغائهما الرّجوع إلى غيرهما ، أو إلى ترجيح ، فالخصم لا يمنع منه ، لأنّ المنع منه ، انّما يكون إذا أمكن استعمال الكلامين ، ولا يمنع (١) مع فقد الإمكان. وقد علم أنّه ليس الحمل على التخصيص أولى من النسخ ، ولا بالعكس.

واحتجّت الحنفيّة بوجوه :

الأوّل : العامّ يجري في تناوله الآحاد مجرى ألفاظ خاصّة بالأعداد ، وهذه لا يعترضها الخاصّ ، فكذا العامّ.

وقد تقدّم ضعفه ، على أنّه يقتضي منع التّخصيص مطلقا.

__________________

(١) في «ب» : يمتنع.

٣١٥

الثاني : لو خصّ أخصّ (١) الخبرين أعمّهما ، لخصّ أخصّ العلّتين أعمّهما.

وهو قياس بغير جامع.

على أنّه يقتضي منع التّخصيص أيضا مع المقارنة ، ومنع تخصيص العلّة.

ثمّ قالوا : إذا وجب التوقّف في الخبرين ، وجب العدول إلى الترجيح.

وقد ذكر عيسى بن أبان (٢) وجوها له. (٣)

الأوّل : اتّفاق الأمّة على العمل بأحدهما ، كخبر الأوساق.

الثاني : عمل الأكثر بأحدهما ، وعيبهم على تارك العمل به ، كعملهم بخبر أبي سعيد ، وعيبهم على ابن عبّاس حين نفى الرّبا في النقدين.

الثالث : أن تكون الرواية لأحدهما أشهر.

وزاد أبو عبد الله البصري (٤) أمرين :

أن يكون أحدهما بيانا للآخر بالاتّفاق ، كاتّفاقهم على أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا قطع إلّا في ثمن المجنّ» (٥) بيان لآية السرقة ، فوجب لذلك بناؤها عليه.

وأن يتضمّن أحدهما حكما شرعيّا.

وهذه الأمور أمارة لتأخّر أحد الخبرين ، فإنّه لو كان متقدّما منسوخا ، لما

__________________

(١) في «أ» : أحد.

(٢) تقدّمت ترجمته ص ٢١٦.

(٣) نقلها عنه أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٤) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.

(٥) لاحظ مستدرك الوسائل : ١٨ / ١٢١ ، الباب ٢ من أبواب حدّ السرقة ، الحديث ١ و ٨.

٣١٦

اتّفقت الأمّة على استعماله ، ولما عابوا من ترك استعماله ، ولما كان نقله أشهر ، ولما أجمعوا على أنّه بيان لناسخه. وكون الحكم غير شرعيّ يقتضي كون الخبر الّذي تضمّنه مصاحبا للعقل (١) ، وأنّ الخبر المتضمّن للحكم الشرعيّ متأخّر عنه.

وهذا الوجه ضعيف.

وأمّا حكم العامّين المتعارضين ، والخاصّين المتعارضين ، فسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى في باب التّراجيح.

* * *

قال المحقّق :

جاء في نسخة «ج» ما هذا نصّه :

تمّ الجزء الأوّل من نسخة المصنّف بخطّه دام ظله.

وفي نسخة «ألف» : تمّ الجزء الأوّل من كتاب «نهاية الوصول إلى علم الأصول» ويتلوه الجزء الثاني في الفصل الرابع «فيما ظنّ أنّه من مخصّصات العموم وليس كذلك» ، وفيه مباحث.

والحمد لله وحده ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد النبيّ وآله الطّاهرين.

__________________

(١) في «أ» : مصاحبا للفعل.

٣١٧

الفصل الرابع :

فيما ظنّ أنّه من مخصّصات العموم ، وليس كذلك

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في تخصيص عموم الكتاب والسّنّة بالقياس

اختلف الناس في ذلك ، (١) فذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأبو الحسين البصري (٢) ، وأبو الحسن الأشعري ، وأبو هاشم أخيرا إلى جوازه.

وقال أبو عليّ الجبائيّ وأبو هاشم أوّلا بالمنع مطلقا ، وهو مذهب

__________________

(١) قال الغزّالي في المستصفى : اختلفوا في ذلك على خمسة مذاهب :

فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأبو الحسن الأشعري إلى تقديم القياس على العموم.

وذهب الجبائي وابنه وطائفة من المتكلمين والفقهاء إلى تقديم العموم.

وذهب القاضي وجماعة إلى التوقّف ، لحصول التعارض.

وقال قوم : يقدّم على العموم جليّ القياس دون خفيّه.

وقال عيسى بن أبان : يقدّم القياس على عموم دخله التّخصيص ، دون ما لم يدخله. المستصفى : ٢ / ١٦٢.

(٢) المعتمد : ٢ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

٣١٨

الإماميّة ، ومنهم من فصّل ، وفيه أربعة وجوه :

الأوّل : قال عيسى بن أبان (١) : إن تطرّق التخصيص إلى العموم جاز ، وإلّا فلا.

والثاني : قال الكرخي (٢) : إن خصّ بمنفصل جاز ، وإلّا فلا.

الثالث : قال ابن سريج (٣) وجماعة من الفقهاء : يجوز بالقياس الجليّ ، دون الخفيّ.

ثم اختلف هؤلاء في تفسير الجليّ والخفيّ على ثلاثة أوجه :

الأوّل : الجليّ : قياس المعنى ، والخفيّ : قياس الشبه.

الثاني : الجليّ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقضي القاضي وهو غضبان» (٤) وتعلّل بما يدهش العقل عن إتمام الفكر ، حتّى يتعدّى إلى الجائع ، والعطشان ، والحاقن (٥).

الثالث : قال أبو سعيد الاصطخريّ (٦) : الجليّ هو الّذي لو قضى القاضي بخلافه نقض قضاؤه.

__________________

(١) تقدّمت ترجمته ص ٢١٦.

(٢) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.

(٣) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٥٩.

(٤) الكافي : ٧ / ٤١٣ ، باب أدب الحكم ، الحديث ٢.

(٥) الحاقن : الّذي احتبس بوله فتجمّع. المعجم الوسيط.

(٦) هو الحسن بن أحمد بن يزيد الاصطخريّ ، فقيه شافعيّ ، صنّف كتبا كثيرة ، ولي قضاء قم ثم حسبة بغداد ، مات سنة ٣٢٨ ه‍ ، لاحظ الأعلام للزركلي : ٢ / ١٧٩.

٣١٩

الرابع : قال الغزّاليّ : القياس والعامّ إن تفاوتا في إفادة الظّنّ رجّحنا الأقوى ، وإن تعادلا توقّفنا (١).

وقال القاضى أبو بكر (٢) والجويني (٣) بالوقف.

قال الجويني : القول بالوقف يشارك القول بالتّخصيص.

وبيانه باعتبارين :

أمّا اعتبار المشاركة ، فلأنّ المطلوب من تخصيص العامّ بالقياس إسقاط الاحتجاج بالعامّ ، والوقف يشاركه فيه.

وأمّا اعتبار المباينة ، فلأنّ القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس ، والواقف لا يحكم به.

واعلم أنّ نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب ، كنسبة قياس المتواتر إلى عموم المتواتر ، وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد ، والخلاف آت في الجميع ، وكذا قياس المتواتر بالنّسبة إلى عموم الكتاب ، وبالعكس.

أمّا قياس خبر الواحد إذا عارضه عموم الكتاب ، أو عموم خبر المتواتر ، فإنّ تجويزه أبعد.

والّذي نذهب نحن إليه : أنّ القياس إذا نصّ على علّته ، جاز العمل به ، وسيأتي بيانه في باب القياس.

__________________

(١) المستصفى : ٢ / ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٢) الإرشاد والتقريب : ٣ / ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٣) البرهان في أصول الفقه : ١ / ٢٨٦.

٣٢٠