نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

الأوّل : أن يتّحد السبب في الأمر ، كقوله في الظهار : أعتق رقبة ، ثمّ يقول فيه : أعتق رقبة مؤمنة ، فهاهنا تجب رقبتان بظاهر الأمرين إن كان الأمر المتكرّر يفيد تكرار المأمور ، وإن علم اتّحاد العتق في الموضعين وعدم تكرّره ، وجب تقييده بالإيمان ، ويحمل المطلق على المقيّد إجماعا بيانا لا نسخا ، لأنّ المطلق جزء من المقيّد والآتي بالكلّ آت بالجزء لا محالة ، فالآتي بالمقيّد يكون عاملا بالدليلين ، والآتي بالمطلق يكون مهملا لأحدهما.

والعمل بالدّليلين أولى من إهمال أحدهما ، مع إمكان العمل به.

لا يقال : نمنع من كون المطلق جزءا من المقيّد ، فإنّهما ضدّان ، فلا يجتمعان.

سلّمنا ، لكنّ حكم المطلق عند عدم التّقييد يمكّن المكلّف من الإتيان بأيّ فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة ، وخروج عهدة المكلّف بالإتيان بأيّ فرد ، والتقييد يمنع من ذلك ، فيضاد حكماهما ، وزالت المكنة ، فليس تقييد المطلق بالمقيّد أولى من حمل المقيّد على المندوب ، والمطلق على أصله.

لأنّا نقول : المطلق هو الحقيقة ، والمقيّد هي مع قيد زائد ، فالحقيقة أحد جزئي المقيّد.

ويمنع التّضادّ بين الإطلاق والتقييد ، فإنّ الإطلاق كون اللّفظ دالّا على الحقيقة من حيث هي هي مع حذف القيود الإيجابيّة والسلبيّة ، وهو لا ينافي التقييد حينئذ.

ولا نريد بالإطلاق دلالة اللّفظ على الحقيقة من حيث هي عارية عن القيود.

٣٨١

فالأوّل هو أخذ الحقيقة لا بشرط شيء والثاني أخذها بشرط لا شيء ، وبينهما فرق.

ولأنّ شرط الخلوّ عن كلّ القيود غير معقول ، لأنّ الخلوّ قيد ، ودلالة المطلق على التمكّن من أيّ فرد ليست لفظيّة وضعيّة ، ودلالة المقيّد على وصف التقييد وضعيّة من حيث اللّغة ، فهو أولى بالرّعاية. (١)

وفيه نظر ، فإنّ حمله على الندب لا يقتضي ضعف دلالته على معناه ، ولا إهمال شيء منها ، أقصى ما في الباب ، أنّه حمل الأمر فيه على الندب ، إمّا على سبيل المجاز أو لا على الخلاف ، ودلالة المقيّد على التقييد لا يتعيّن في حالتي الحمل على الوجوب أو الندب.

بل الوجه في الجواب أن يقال : حمله على الوجوب يقتضي يقين البراءة والخروج عن العهدة بيقين ، بخلاف حمله على الندب ، فإنّ يقين البراءة لا تحصل ، بل ولا ظنّها ، لقوّة كون الأمر للوجوب أو للاشتراك اللفظيّ ، ومعها لا براءة يقينيّة.

أو يقال : حمل المطلق على المقيّد لا يخرجه عن حقيقته إلى مجازه قطعا ، بل يكون العامل برقبة مؤمنة موفيا (٢) للعمل باللّفظ المطلق في حقيقته ، ولهذا لو أنّه أدّاه قبل ورود التقييد ، لكان قد عمل باللّفظ في حقيقته ، بخلاف تأويل المقيّد وصرفه عن حقيقته إلى مجازه ، ولا شكّ في أولويّة استعمال اللّفظ في حقيقته من مجازه.

__________________

(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٥٨.

(٢) في «ب» و «ج» : برقبة موفيا.

٣٨٢

ولأنّ الإطلاق يجري مجرى العامّ ، والتّقييد يجري مجرى الخاصّ ، والخاصّ مقدّم.

على أنّ هذا الحمل ممتنع لو صرّح في المقيّد بالوجوب.

وقيل : إن تأخّر المقيّد عن المطلق كان نسخا. (١)

وليس بجيّد ، وإلّا لكان التخصيص نسخا ، ولكان تأخّر المطلق نسخا.

احتجوا : بأنّه لو كان تقييدا ، لكان المراد باللّفظ المطلق إنّما هو المقيّد ، فيكون المراد من لفظ الرّقبة إنّما هو المؤمنة ، لأنّ المعنيّ بكونه بيانا كونه مبيّنا لمراد المتكلّم ، لكنّ دلالة الرّقبة على المؤمنة ، إنّما هو بالمجاز ، لأنّ المطلق لم يوضع للمقيّد ، وإذا كان مجازا ، والأصل عدمه ، كان نسخا لا تقييدا.

والجواب : أنّه آت فيما إذا تقدّم المقيّد على المطلق ، مع أنّكم تحملون المطلق على المقيّد.

وينتقض (٢) بتقييد الرقبة في الظهار بالسّلامة عن العيوب ، لأنّ الرقبة مطلقة فدلالتها على السليمة مجاز.

والتحقيق : أنّ المطلق دالّ على عتق أيّ رقبة كانت ، فيكون المرجع بالتّقييد إلى التّخصيص.

الثاني : أن يتّحدا في السبب في النهي أو النّفي ، مثل أن يقول في

__________________

(١) لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٣٦٨ ، قسم المتن.

(٢) لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٣٧٠ ، قسم المتن.

٣٨٣

كفّارة الظّهار : لا تعتق مكاتبا ، ثمّ يقول فيه : لا تعتق مكاتبا كافرا ، ولا خلاف في العمل بهما ، والجمع بينهما في النهي ، لإمكانه فيجري المطلق على إطلاقه في المنع من عتق المكاتب في الظهار أصلا على التأبيد ، لأنّ النّهي يفيده ولا يخصّه (١) النّهي المقيّد بالكفر ، لأنّه بعض ما دخل تحته ، والعموم لا يخصّص بذكر بعضه.

فإن علمنا بدليل خارجيّ انّ المنهيّ عنه بأحد النّهيين ، هو المنهيّ عنه بالآخر ، من غير فرق بينهما في عموم ولا خصوص ، وجب أن يقيّد المطلق بالكفر ، فيصير التّكليف في الموضعين النّهي عن التكفير بالكافرة.

الثالث : أن يتّحد الحكم ويختلف السّبب ، كإطلاق الرّقبة في كفّارة الظهار ، وتقييدها في القتل بالإيمان.

وللناس فيه ثلاثة مذاهب ، طرفان وواسطة.

الأوّل : قال بعض الشافعية : تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظا ، لأنّ الشافعي ينزّل المطلق على المقيّد ، فناوله (٢) بعضهم بالحمل على التقييد مطلقا ، من غير حاجة إلى دليل آخر.

ومنهم من حمله على ما إذا وجد بينهما علّة جامعة مقتضية للإلحاق.

الثاني : قول جماعة الحنفيّة : إنّه لا يجوز تقييد المطلق بطريق ما البتّة.

__________________

(١) في «أ» : ولا يخصّصه.

(٢) أي تلقّاه.

٣٨٤

الثالث : قول أكثر المحقّقين كأبي الحسين (١) ، والسيد المرتضى ، (٢) وغيرهما : إنّه يجوز تقييد المطلق بالمقيّد على تقدير تسويغ القياس مع وجود شرائطه ، لا أنّه يجب التقييد بالقياس مطلقا.

والأوّل باطل ، فإنّه لو قال : «أوجبت في كفّارة القتل رقبة مؤمنة ، وأوجبت في الظّهار أيّ رقبة كانت» لم يكن أحد الكلامين مناقضا للآخر ، فليس تقييد أحدهما مقتضيا تقييد الآخر (٣).

وفيه نظر ، فانّ «أعتق أيّ رقبة شئت» سيق في التخيير ، بخلاف «أعتق رقبة» فلا يجوز حمل الثاني على الأوّل نعم أعتق رقبة ، كما يجامع التقييد ، فكذا التخيير بين أيّ فرد ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ.

ولأنّ ظاهر المطلق يقتضي إجراء الحكم على إطلاقه ، فلو خصّ بالمقيّد ، لوجب أن يكون بينهما ربط يوجب تقييد أحدهما بما قيّد به الآخر ، وإلّا لم يكن تقييده به أولى من عدم تقييده.

والربط إمّا من حيث اللّفظ أو الحكم.

أمّا اللفظ ، فبأن يكون بين الكلامين تعلّق بحرف عطف أو إضمار ، وهو منتف هنا.

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٢٩١.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٧٧.

(٣) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٥٩.

٣٨٥

وأمّا الحكم ، فبأن يتّفق الحكمان في علّة التقييد بالصّفة ، وهو تقييد بالقياس ، وليس هو المتنازع ، أو بأن يمتنع في التقييد أن يكون الحكم مقيّدا في كفّارة وغير مقيّد في أخرى ، وهذا غير ممتنع لأنّه كما يجوز أن تكون المصلحة فيهما التقييد ، جاز أن تكون المصلحة فيهما أن يختلفا في التقيد.

فلو جاز مع فقد الوصلة والربط أن يقيّد أحدهما بما يقيّد به الآخر ، جاز أن يثبت لأحدهما بدل ، لأنّ للآخر بدلا ، أو يخصّ أحد العمومين ، لأنّ الآخر مخصوص ، هذا دليل أبي الحسين (١).

وفيه نظر ، لأنّا نمنع الأولويّة لو انتفى الربط ، فإنّها ثابتة ، إذ التقييد بالإيمان يدلّ على أولويّته ورجحانه ، فيجب التقييد به ، طلبا للمصلحة الراجحة ، والحصر ممنوع.

احتجوا بوجوه :

الأوّل : القرآن كالكلمة الواحدة ، وإذا ثبت التقييد في أحد الحكمين ، ثبت في الآخر ، وإلّا لزم الاختلاف المنافي للوحدة.

الثاني : الشهادة لمّا قيّدت بالعدالة مرّة واحدة ، وأطلقت في سائر الصّور ، حمل المطلق على المقيّد ، فكذا هنا.

الثالث : قوله تعالى : (وَالذَّاكِراتِ)(٢) حمل على قوله [في أوّل الآية :] : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً) من غير دليل خارج.

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٢٩٠ ـ ٢٩١.

(٢) الأحزاب : ٣٥.

٣٨٦

والجواب عن الأوّل : ان عنيت بوحدة القرآن عدم تناقضه ، فهو مسلّم ، لكن لا تناقض هنا.

وإن عنيت اتّحاده في كلّ الأشياء فهو باطل بالضرورة ، فإنّ فيه العامّ ، والخاصّ ، والمجمل ، والمبيّن ، والظاهر ، والمأوّل ، والأمر ، والنهي ، وغير ذلك ، فلم لا يكون فيه الإطلاق والتقييد؟

على أنّهم سلّموا ثبوته في غير الأحكام المتماثلة.

وعن الثاني : التقييد في الشهادة في كلّ حكم بالإجماع ، لا من كونها مقيّدة في أحد الحكمين.

وعن الثالث : أنّ التقييد لدليل اقتضاء العطف التسوية ، لعدم استقلال المعطوف بالدلالة ، فوجب ردّه إلى ما هو معطوف عليه ، ومشارك له في حكمه.

ولأنّ الفرق حصول الرّبط هنا بالعطف ، بخلاف صورة النزاع.

وأمّا الحنفيّة ، فإنّهم اختلفوا ، فقال بعضهم : سبب المنع من التقييد بالإيمان ، أنّ قوله : أعتق رقبة ، يقتضي تمكّن المكلّف من إعتاق أيّ رقبة شاء من رقاب الدّنيا ، فلو دلّ القياس على أنّه لا يجوز إلّا المؤمنة ، لكان القياس دليلا على زوال تلك المكنة الثابتة بالنّصّ ، فيكون القياس ناسخا ، وأنّه غير جائز.

ولأنّ تقييده بالإيمان زيادة على النصّ ، والزيادة على النصّ نسخ ، والنسخ لا يجوز بالقياس.

وقال آخرون : إنّ تقييده بالإيمان زيادة على حكم قد قصد استيفاؤه.

٣٨٧

وقال آخرون : إنّ تخصيصه وتقييده بالإيمان ، هو مخصّص لحكم (١) قد قصد استيفاؤه.

والجواب عن الأوّل : نمنع تحقّق النسخ ، فإنّه رفع حكم ثبت بخطاب سابق ، وليس ذلك ثابتا هنا ، بل هو تقييد لمطلق ، وهو لا يزيد على تخصيص العامّ ، وعندكم يجوز التخصيص بالقياس ، فكذا التقييد ، فينتقض كلامكم.

وأيضا ، انّكم اعتبرتم سلامة الرقبة من كثير من العيوب ، فإن كان اشتراط الإيمان نسخا ، كان نفي تلك العيوب نسخا.

وعن الثاني (٢) : بالمنع من الاستيفاء بدون القيد لأنّ الخصم يقول : قيام الدلالة على صحّة علّة القياس يدلّ على أنّه تعالى لم يستوف حكم المطلق بهذا الكلام كما في العموم.

ولأنّ تقييد المطلق بالقياس إمّا لأنّ المطلق لا يتأتّى فيه التخصيص ، كما لا يتأتّى في العين الواحدة ، وهو باطل ، فإنّ المطلق يشتمل على جميع الصفات والأحوال ، أو لأنّ القياس غير دليل ، أو هو دليل لكن لا يخصّ به العامّ ، ونحن إنّما بحثنا على تقديره ، وباقي الأقسام ظاهر ممّا تقدّم.

__________________

(١) في «ب» و «ج» : بحكم.

(٢) في «أ» و «ب» : وعن الباقين.

٣٨٨

المبحث الثالث :

في الجمع بين المطلق والمقيد

إذا أطلق الحكم في موضع ، وقيّد مثله في موضعين بقيدين متضادّين ، كقضاء رمضان ، ورد مطلقا في قوله تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(١) وقيّد صوم التمتّع بالتفريق في قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ)(٢) وقيّد صوم كفّارة الظّهار بالتتابع في قوله تعالى : (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ)(٣).

فالحنفيّة ، منعوا من التقييد هنا ، لأنّه مع القيد الواحد باق على إطلاقه ، فمع المقيّد بالضّدّين أولى بالبقاء.

وأمّا القائلون بأنّ المطلق يتقيّد بالمقيّد لفظا ، فإنّه منع هنا من ذلك ، لأنّه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر.

وأمّا من حمل المطلق على المقيّد بقياس ، فإنّه يحمله هنا على أحدهما إن كان القياس عليه أولى من الآخر ، وإلّا بقى على إطلاقه.

* * *

__________________

(١) البقرة : ١٨٤.

(٢) البقرة : ١٩٦.

(٣) المجادلة : ٤.

٣٨٩
٣٩٠

المقصد السادس : في باقي صفات الدلالة

وفيه أبواب :

[الباب] الأوّل :

في المجمل والمبيّن

وفيه فصول :

[الفصل] الأوّل :

في المجمل

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في الماهيّة

قد عرفت فيما تقدّم انّ اللفظ إن لم يحتمل غير ما أريد به كان نصّا ، فإن احتمل ، فإن تساويا ، فالمجمل بالنسبة إلى كلّ منهما ، وإن ترجّح أحدهما ، فالرّاجح ظاهر ، والمرجوح مأوّل.

٣٩١

أمّا النصّ ، فهو كلّ كلام تظهر إفادته لمعناه ، ولا يتناول أكثر منه ، هذا ما ذكره فخر الدين الرازي (١) واحترز بالكلام عن أدلّة العقل والأفعال ، الّتي لا تسمّى نصوصا ، وعن المجمل مع البيان ، فإنّه لا يسمّى نصّا ، لأنّ قولنا : نصّ ، عبارة عن خطاب واحد دون ما يقترن به.

ولأنّ البيان قد يكون غير القول ، والنصّ لا يكون إلّا قولا.

واحترزنا بقولنا : تظهر إفادته لمعناه ، عن المجمل.

لا يقال : إنّه قد يقال : نصّ الله تعالى على وجوب الصلاة وإن كان قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) مجملا.

لأنّا نقول : إنّه نصّ في إفادة الوجوب ، وليس بمجمل فيه ، بل في متعلّقه.

واحترزنا بقولنا : لا يتناول أكثر منه ، لأنّ الرّجل إذا قال لغيره : اضرب عبيدي ، لم يقل أحد إنّه نصّ على ضرب سالم من عبيده ، لأنّه لا يفيده على التّعيين ، ويقال : إنّه نصّ على ضرب جملة عبيده ، لأنّه لا يفيد سواهم. (٢)

وفيه نظر ، لأنّ إدخال لفظي الكلّ والبعض في الحدّ غلط.

ولأنّه يدخل فيه الظاهر ، وهو قسيم له.

والاعتذار بإخراج المجمل مع البيان ، بأنّ النصّ كلام واحد غير مفيد لانتقاض الحدّ بصدقه على ما لا يصدق المحدود عليه.

__________________

(١) المحصول : ١ / ٤٦٢.

(٢) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٦٢.

٣٩٢

وقوله : «لا يتناول أكثر منه» لا يقع احترازا عن ضرب سالم من عبيده ، لأنّه بعض المعنى.

وقال الشافعي : النّصّ خطاب يعلم ما أريد به من الحكم ، سواء كان مستقلّا بنفسه، أو علم المراد بغيره ، وكان يسمّي المجمل نصّا. (١)

وهو خلاف المتعارف من الفرق بينهما ، ومع ذلك فإنّه ليس بجيّد ، لأنّ الحكم عنده هو خطابه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين ، ويصير الحدّ : النّصّ خطاب يعلم ما أريد به من خطاب الله تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التخيير.

وفيه تخصيص للنصّ بما يستفاد منه خطاب الله تعالى خاصّة ، وتخصيص بما يتعلّق بأفعال المكلّفين.

وقال قاضي القضاة : النّصّ هو خطاب يمكن أن يعرف به المراد (٢).

ويدخل فيه المجمل والظاهر.

وقال أبو الحسين : يجب أن يشترط النصّ على ثلاث شرائط :

أن يكون كلاما.

وأن لا يتناول إلّا ما هو نصّ فيه ، وإن كان نصّا فى أشياء كثيرة وجب أن لا يتناول سواها.

__________________

(١) نقله أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(٢) نقله أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٢٩٥.

٣٩٣

وأن تكون إفادته لما يفيده ظاهرة غير مجملة.

أمّا كونه عبارة ، فلأنّ أدلّة العقول (١) والأفعال لا تسمّى نصوصا.

وأمّا ظهور الدلالة ، فلأنّ المفهوم من قولنا : إنّ العبارة نصّ في هذا الحكم ، إفادتها على جهة الظهور.

ولأنّ النصّ لغة مأخوذ من الظهور ، وبهذا يقال : «منصّة العروس» لما ظهرت وارتفعت.

وأمّا اشتراط افادة ما هو نصّ فيه فقط ، لأنّ الإنسان إذا قال لغيره : «اضرب عبيدي» لم يقل [أحد] إنّه نصّ على ضرب «زيد» من عبيده ، لما أفاده وأفاد غيره ، ويقال : إنّ كلامه نصّ في ضرب جملة عبيده ، لما لم يفد سواهم ، فإذا كان كذلك ، وجب أن يحدّ بأنّه كلام تظهر إفادته لمعناه ، ولا يتناول أكثر ممّا قيل : إنّه نصّ.

وفخر الدين أخذه ، وأفسد الحدّ بإدخال لفظة كلّ ، وأصلحه بإسقاط لفظة نصّ ، لئلّا يدور.

وأمّا المجمل ، فهو في اللّغة عبارة عن الجمع ، يقال : «أجمل الحساب» إذا جمعه ، ولهذا يوصف العموم بأنّه «مجمل» بمعنى أنّ المسمّيات قد أجملت تحته.

وقيل : [هو] المحصّل ومنه «أجملت الشيء إذا حصّلته».

__________________

(١) في «ب» و «ج» : المعقول.

٣٩٤

وأمّا في الاصطلاح فقد حدّه بعض الأشاعرة بأنّه اللّفظ الّذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء. (١)

وهو باطل ، فإنّه ليس بمانع لدخول المهمل فيه ، وليس بمجمل ، لأنّ الإجمال والبيان من صفات الألفاظ الدالّة ، ولا دلالة في المهمل.

ويدخل فيه قولنا : مستحيل ، فإنّه لا يفهم منه عند الإطلاق شيء ، وليس بمجمل ، لأنّ مدلوله ليس بشيء.

وليس بجامع ، لأنّ المجمل المتردّد بين محامل ، يفهم منه انحصار المراد به في أحدها ، وإن لم يكن معيّنا ، وكذا ما هو مجمل من وجه ، ومبيّن من آخر ، كقوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ)(٢).

لا يقال : المراد به أنّه الّذي لا يفهم منه شيء عند إطلاقه من جهة ما هو مجمل.

لأنّا نقول : إنّه تعريف المجمل بالمجمل ، ولا يصحّ تعريف الشيء بنفسه.

ولأنّ الإجمال قد يكون في دلالة الأفعال ، كما في دلالة الأقوال ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو قام مصلّيا تردّد بين الوجوب والندب ، فلا يصحّ تقييده باللّفظ.

وقال الغزالي : إنّه اللّفظ الصّالح لأحد معنيين ، الّذي لا يتعيّن معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال. (٣)

ويبطل بأنّه خصّصه باللّفظ ، وينتقض بالمطلق.

__________________

(١) نقله الآمدي في الإحكام عن بعض أصحابه ، لاحظ الإحكام : ٣ / ٦.

(٢) الأنعام : ١٤١.

(٣) المستصفى : ٢ / ٢٨.

٣٩٥

وقال السيّد المرتضى : إنّه الخطاب الّذي لا يستقلّ بنفسه في معرفة المراد به. (١)

وذكر أبو الحسين له ، ثلاثة حدود :

الأول : أنّه ما أفاد جملة من الأشياء.

ويدخل فيه العامّ والمركّبات.

الثاني : ما لا يمكن معرفة المراد [به].

ويبطل بالمهمل ، وبالمجاز إذا أريد ، فإنّه لا يفهم المراد منه (٢).

وفيه نظر ، لاحتمال أن يريد ما لا يمكن معرفة المعنى الّذي أريد باللّفظ ، فيخرج المهمل ، والمجاز المراد مجمل.

الثالث : ما أفاد شيئا من جملة أشياء هو متعيّن في نفسه ، واللّفظ لا يعيّنه ، ولا يلزم «اضرب رجلا» لإفادته «ضرب رجل» وليس بمتعيّن في نفسه ، بل أيّ رجل ضربته جاز ، بخلاف اسم القرء ، فإنّه يفيد الطّهر وحده ، أو الحيض وحده ، واللّفظ لا يعيّنه.

وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٣) يفيد وجوب فعل متعيّن في نفسه ، غير شائع (٤).

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٣٣٣.

(٢) هذا ما استشكله الآمدي على صاحب المعتمد ، لاحظ الإحكام : ٣ / ٧.

(٣) البقرة : ٤٣.

(٤) المعتمد : ١ / ٢٩٣.

٣٩٦

وهو يشعر بتقييد الحدّ باللّفظ حيث قال : «واللفظ لا يعيّنه» فلا يكون جامعا ، لخروج الإجمال في دلالة الفعل.

وقيل (١) : المجمل ما لم تتّضح دلالته.

وينتقض بالمجاز ، ويمنع عدم دخوله.

وقيل : ما له دلالة على أحد أمرين ، لا مزيّة لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه ، ولا يمكن حمله على المراد منه إلّا بدليل من خارج.

فقولنا : «ما له دلالة» يعمّ القول والفعل وغيرهما من الأدلّة المجملة.

وقولنا : «على أحد أمرين» ليخرج ما له دلالة على واحد لا غير.

وقولنا : «لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه» احتراز عن اللّفظ الّذي هو ظاهر في معنى وبعيد عن غيره كالحقيقة والمجاز ، والقيد الآخر احتراز عن المطلق.

المبحث الثاني : في أقسام المجمل

الدليل الشرعيّ إمّا أن يكون أصلا ، أو مستنبطا منه.

والأوّل ، إمّا أن يكون لفظا ، أو فعلا.

فاللفظ إمّا أن يكون مجملا ، أو لا.

والمجمل ، إمّا أن يحكم عليه بالإجمال ، حال كونه مستعملا في

__________________

(١) القائل هو ابن الحاجب ، لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٣٧٧ ، قسم المتن.

٣٩٧

موضوعه ، أو حال كونه مستعملا في بعض موضوعه ، أو حال كونه مستعملا لا في موضوعه ، ولا في بعض موضوعه.

فالأوّل أن يكون اللّفظ محتملا لمعان كثيرة ، فلا يكون حمله على البعض أولى.

فإن كان وضعه لتلك المعاني بحسب معنى واحد مشترك فيه ، فهو المتواطئ كقوله : (وَآتُوا حَقَّهُ) أو لا بحسب معنى واحد ، وهو المشترك كالقرء.

والثاني ، وهو أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا في بعض موضوعه ، فهو كالعامّ المخصوص بصفة مجملة ، كقوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ)(١) فلو لا قيد الإحصان لم يحتج إلى بيان ، فبالقيد صار مجملا ، لعدم العلم بالإحصان ، فلم ندر ما أبيح لنا.

أو باستثناء ، كقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ)(٢).

أو بدليل منفصل مجهول ، كما لو قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(٣) : المراد بعضهم.

والثالث : وهو أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا ، لا في موضوعه ، ولا في بعضه ، فهو الأسماء الشرعيّة وغيرها.

__________________

(١) النساء : ٢٤.

(٢) المائدة : ١.

(٣) التوبة : ٥.

٣٩٨

فالأوّل : كأمره بالصّلاة ، ولم نعلم انتقال الأسماء إلى هذه فإنّا نفتقر إلى البيان.

والثّاني : أن يدلّ الاسم على عدم إرادة الحقيقة ، والمجازات متعدّدة ، ولا أولويّة لإرادة أحدهما ، فيفتقر إلى البيان.

وأمّا الفعل فإنّ مجرّد وقوعه لا يدلّ على وجه وقوعه إلّا أن يقترن به ما يدلّ على الوجه ، فيستغنى عن البيان ، كما لو قام إلى صلاة بأذان وإقامة ، فإنّا نعلم وجوبها ، وكما إذا داوم على الإتيان بالسجودين ، فإنّا نعلم أنّه من أفعال الصلاة.

وأمّا إذا لم يقترن به قرينة تدلّ على الوجه ، فلا بدّ من البيان.

وأمّا المستنبط ، فهو القياس ، ولا إجمال فيه حتّى يحتاج إلى بيان.

وأمّا غير المجمل ، فهو المبيّن ، فإن اكتفى بنفسه وصريحه في معرفة المراد ، فلا يحتاج إلى بيان ، إذ لو احتاج لناقض قولنا : إنّه يكفي بنفسه ، نحو قوله [تعالى] : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١).

وإن لم يكف بنفسه ، فإمّا أن لا يختلّ بيانه على السّامع أو يختلّ.

والأوّل إمّا أن يكون بيانه بالتعليل أو لا ، والأوّل إمّا بطريق الأولى ، كتحريم التأفيف في دلالته على المنع من الضرب ، لأنّه تقرّر في العقل أنّ من منع من شيء لغرض فإنّه يمنع ممّا ساواه فيه أو زاد عليه في معنى ذلك

__________________

(١) الأنعام : ١٠١.

٣٩٩

الغرض ، فاللّفظ يدلّ عليه ، وإن لم يكن موضوعا له.

أو لا بطريق الأولى كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الهرّة : «إنّها ليست بنجسة ، إنّها من الطوّافين عليكم والطّوّافات» (١) فيعلم بذلك العلّة في الطهارة ، ومشاركة غيرها ، لأنّ العلّة يتبعها حكمها.

وأمّا البيان الّذي لا يختلّ وليس بتعليل فضربان :

الأوّل : أن يكون الخطاب أمرا بشيء ، فيعلم وجوب ما لا يتمّ إلّا به ، وإلّا كان إيجابا ، لما لا يطاق.

الثاني : أن يظهر في العقل كون ظاهر الخطاب غير مراد ، ويعلم بالعادة أنّه مستعمل في وجه من وجوه المجاز ، فيعلم أنّه المراد نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢).

وأمّا الّذي يختلّ على السامع بيانه ، فقد تقدّم في أقسام المجمل.

واعلم أنّ الإجمال قد يكون في لفظ مفرد إمّا بالأصالة ، كالمشترك عند القائلين بامتناع تعميمه ، وذلك إمّا بين مختلفين ، كالعين ، أو نقيضين كالقرء ، للطّهر والحيض ، أو ضدّين ، كالجون للأسود والأبيض ، وكالمجازات المتعدّدة بعد تعذّر الحقيقة ، أو بالإعلال ، كالمختار (٣) للفاعل والمفعول.

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٣٠٣ ؛ سنن أبي داود : ١ / ١٩ برقم ٧٥ ؛ صحيح الترمذي : ١ / ١٥٣ برقم ٩٢ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ١٣١ برقم ٣٦٧ ؛ وسنن النسائي : ١ / ٥٥.

(٢) يوسف : ٨٢.

(٣) فإنّه بواسطة اعتلاله صالح للفاعل والمفعول.

٤٠٠