الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٨
الفصل الثاني
في الأدلّة المنفصلة
تخصيص العامّ ، إمّا أن يكون بالعقل ، أو بالحسّ ، أو بالسّمع فهاهنا مباحث :
[المبحث] الأوّل : في تخصيص العامّ بالعقل
اختلف النّاس في ذلك ، فذهب الجمهور إلى جوازه ، ومنعه طائفة شاذّة من المتكلّمين.
والتحقيق : أنّ النزاع لفظيّ ، فإنّه لا خلاف في المعنى ، لأنّ اللفظ لمّا دلّ على ثبوت الحكم في جميع الصور ، والعقل منع من ثبوته في حقّ العاجز ، فإمّا أن يحكم بمقتضى العقل ، والنقل معا ، ويلزم اجتماع النقيضين.
أو يرجّح النقل على العقل ، وهو محال ، لأنّ العقل أصل النّقل ، فلو قدحنا فيه لتصحيح فرعه لزم إبطالهما معا.
أو يرجّح العقل على النقل ، وهو المقصود من تخصيص العموم ، مثال ذلك قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِ
شَيْءٍ)(١) فإنّ ذاته تعالى مندرجة تحت الشّيء ، مع أنّه يستحيل إرادة ذاته من هذا الخطاب.
وكذا قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(٢) ، والصبيّ والمجنون غير مرادين.
وإخراج ذاته تعالى عن عموم الخطاب الأوّل ، معلوم بضرورة العقل ، وإخراج الصّبيّ والمجنون عن الخطاب الثاني معلوم بنظره ، لعدم الفهم في حقّهما ، فمعنى التخصيص موجود.
وأمّا اطلاق لفظ المخصّص ، فإن أريد به الأمر الّذي يؤثّر في اختصاص اللّفظ العامّ ببعض مسمّياته ، فالعقل غير مخصّص ، لأنّ المقتضي لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلّم ، والعقل دليل على تحقّقها ، فهو دليل المخصّص لا نفسه ، لكن هذا كما منع العقل من تسميته بالمخصّص ، فكذا يمنع الكتاب والسنّة ، لأنّ المؤثّر هو الإرادة لا الألفاظ.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : التخصيص إخراج بعض ما تناوله اللّفظ عنه ، وهو غير متصوّر هنا ، لأنّ دلالة الألفاظ وضعيّة تابعة لقصد المتكلّم ، ونحن نعلم قطعا أنّ المتكلّم لا يريد بلفظه الدلالة على ما يخالف صريح العقل ، فلا يكون لفظه دالّا عليه لغة ، ومع انتفاء الدّلالة اللغويّة على الصّورة المخرجة بالعقل ، لا يكون تخصيصا.
__________________
(١) الزمر : ٦٢.
(٢) آل عمران : ٩٧.
الثاني : التخصيص بيان والمخصص مبين ، والبيان تابع للإشكال فيكون متأخرا عن المبين. والعقل سابق فلا يكون مبيّنا ولا مخصصا.
الثالث : لو جاز التخصيص بالعقل ، لجاز النّسخ به ، لاشتراكهما في كونهما بيانا وتخصيصا.
الرابع : يحتمل أن تكون صحّة الاحتجاج بالعقل مشروطة بعدم معارضة عموم الكتاب.
الخامس : نمنع تخصيص الصّبيّ والمجنون ، فإنّ خطابهما ممكن ، كما في أرش الجنايات وقيم المتلفات وإجماع الفقهاء على صحّة صلاة الصّبيّ ، واختلافهم في صحّة إسلامه ، ولو لا دخوله تحت الخطاب لما كان كذلك.
والجواب عن الأوّل : امتناع قصد المتكلّم لا يقتضي امتناع الدخول لغة ، ونحن نسلّم امتناع القصد ، لا امتناع الدخول لغة ، والتخصيص إنّما حصل باعتبار الدخول لغة إلى القصد ، وإلّا لزم التناقض.
وفيه نظر ، لبقاء التناول له بعد التخصيص.
فالتحقيق : أنّه تخصيص باعتبار قصور جزئيّات المراد عن جزئيّات التناول.
وعن الثاني : أنّ المخصّص يجب تأخّره باعتبار كونه مخصّصا ومبيّنا لا باعتبار ذاته.
وعن الثالث : أنّ امتناع النسخ بالعقل ، من حيث ، إنّ الناسخ معرّف لبيان مدّة الحكم المقصودة في نظر الشرع ، وذلك ممّا لا سبيل للاطّلاع عليه عقلا ،
بخلاف معرفة استحالة كون ذاته تعالى مخلوقة أو مقدورة.
على أنّا نمنع كون العقل ليس بناسخ ، فإنّ تجدّد عجزه ، قد نسخ عنه الفعل (١) بالعقل (٢).
وعن الرابع : ما تقدّم ، من أنّه مع التعارض بين النّقل والعقل ، يجب تقديم العقل وتأويل النّقل.
وعن الخامس : أنّ تعلّق الحقّ بمالهما من باب خطاب الوضع ، وهو غير متعلّق بالصّبيّ ، ووجوب الأداء ثابت بخطاب التكليف متعلّق بالوليّ ، لا بهما.
وصحّة صلاته وإسلامه لا تدلّ على دخوله تحت خطاب التكليف ، فإنّ صحّة الصلاة معناها ، انعقادها سببا لثوابه ، وسقوط الخطاب عنه بهما إذا صلّى في أول الوقت ، وبلغ في آخره ، لا بمعنى أنّه امتثل أمر الشرع حتّى يكون داخلا تحت خطاب التكليف ، بل إن كان ولا بدّ ، فهو داخل تحت خطاب الوليّ لفهمه بخطابه ، دون خطاب الشّرع ، وكذا صحّة إسلامه.
على أنّ منع تخصيص الصّبيّ غير مضرّ ، إذ ليس القصد آحاد المسائل.
لا يقال : إذا كان الفهم شرطا فما معنى قول الفقهاء : النائم في جميع الوقت مخاطب بالصّلاة.
لأنّا نقول : ليس المراد أنّه يصلّي وهو نائم ، أو أنّه يزيل النّوم عن نفسه ، بل
__________________
(١) في «أ» و «ب» : النّقل.
(٢) وذلك كمن سقطت رجلاه ، فيسقط عنه وجوب غسلهما بالعقل ومع ذلك ففي تسميته نسخا ، تأمّل ، لأنّه من قبيل فقد الموضوع.
ما ذكره قاضي القضاة في تفسير قولهم : إنّ الإنسان مخاطب ، وهو لوجوه :
الأوّل : أنّه مكلّف بما تضمّنه الخطاب.
الثاني : أنّ سبب الوجوب حاصل كالنائم ، لأنّه قد اختصّ بسبب وجوب القضاء ، بخلاف المجنون ، ولهذا قالوا : الحائض مخاطبة بالصّوم ، دون الصّلاة.
الثالث : تقدّم لزوم حكم الخطاب ، كما في السكران.
لا يقال : فصّل الفقهاء بين صلاة الصّبيّ بطهارة وبغيرها.
لأنّا نقول : مرادهم أنّها على الصفة الّتي يسقط فرض البالغ ، وليس كذلك إذا خلت عن الطّهارة ، أو أنّها إذا وقعت بطهارة فقد وقعت على الوجه الّذي أمرنا أن نأخذه بها. (١)
واعلم أنّ العقل ، كما دلّ على التخصيص ، فكذلك الحسّ ، لقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)(٢) [وقوله تعالى](تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)(٣) مع خروج السّماوات والأرض حسّا [وقوله تعالى](ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)(٤) وقد أتت على الجبال ، والأرض ، ولم تجعلهما رميما بالحسّ.
__________________
(١) نقلها أبو الحسين البصري عن قاضي القضاة عبد الجبّار في المعتمد : ١ / ٢٥٤.
(٢) النّمل : ٢٣.
(٣) الأحقاف : ٢٥.
(٤) الذاريات : ٤٢.
المبحث الثاني : في تخصيص الكتاب بمثله
اتّفق المحقّقون عليه ، ومنع أهل الظاهر من جوازه.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّ قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ)(١) ورد مخصّصا لقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(٢) وكذا قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ)(٣) مخصوص بقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٤) والوقوع دليل الجواز.
الثاني : الخاصّ والعامّ دليلان متعارضان ، ولا يمكن إجراء كلّ واحد منهما على ظاهره ، وإلّا لزم التناقض ، ولا إهمالهما بالكليّة ، وإلّا لزم إبطال دليل خال عن المعارض ، والتالي باطل قطعا ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية : أنّ ما عدا الخاصّ من جزئيّات العامّ ، لا يعارض لدليل ثبوت الحكم فيه ، ولو أبطلنا العامّ فيه ، لزم المحال ، ولا إهمال العامّ بالكليّة ، لما
__________________
(١) الطلاق : ٤.
(٢) البقرة : ٢٢٨.
(٣) البقرة : ٢٢١.
(٤) المائدة : ٥.
تقدّم ، ولا الخاصّ بالكليّة ، لأنّ دلالته على محلّه (١) أقوى من دلالة العامّ عليه.
وإذا تعارض دليلان ، وأحدهما أرجح ، وجب العمل بالرّاجح ، فلم يبق إلّا العمل بالدليلين ، والجمع بينهما ، وذلك بأن يعمل بالعامّ في غير صورة التخصيص ، وبالخاصّ في محلّه.
الثالث : قد بينّا امتناع الجمع بين دلالة العامّ على عمومه والخاصّ على خصوصه ، فلا بدّ من الترجيح لأحدهما ، فنقول : زوال الزائل (٢) إن كان على سبيل التخصيص ، ثبت المطلوب ، وإن كان على سبيل النسخ فكذلك ، فإنّ كلّ من جوّز نسخ الكتاب بمثله ، جوّز التخصيص بمثله.
على أنّا نقول : التخصيص أولى من النّسخ ، لاستدعاء النسخ ثبوت أصل الحكم في الصورة الخاصّة ، ورفعه بعد ثبوته ، والتخصيص عدم إرادة المتكلّم باللفظ العامّ للصّورة المخصوصة ، فما يتوقّف عليه النسخ أكثر ، فهو مرجوح.
ولأنّ النسخ رفع بعد الإثبات ، والتخصيص منع من الإثبات ، والمنع أسهل من الرفع.
ولأنّ وقوع التخصيص في الشرع أغلب من النسخ ، فكان الحمل على التخصيص أولى.
احتجّ المانعون بقوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(٣) فوّض
__________________
(١) في «ج» : على حكمه.
(٢) في «أ» : الزائد.
(٣) النحل : ٤٤.
البيان إليه فلا يحصل إلّا بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم والمخصّص مبيّن.
والجواب : المعارضة بقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(١).
ولأنّ تلاوته صلىاللهعليهوآلهوسلم لآية التخصيص بيان منه.
لا يقال : ما ذكرتموه وإن صحّ فيما إذا كان الخاصّ متأخّرا ، لكن لا يصحّ مع جهل التاريخ ، لاحتمال تقدّم الخاصّ ، فيكون العامّ ناسخا ، وتأخّره ، فيكون الخاصّ مخصّصا له ، ولا ترجيح ، فيتساقطان ، وحينئذ يرجع إلى دليل غيرهما ، كما اختاره أبو حنيفة ، والقاضي أبو بكر.
سلّمنا كون الخاصّ مخصّصا على تقدير الجهل بالتاريخ ، لكن لو علم تأخّر العامّ ، تعيّن أن يكون ناسخا ، لأنّ ذكر العامّ يجري مجرى ذكر جزئيّاته ، ولو نفي (٢) الحكم عن الجزئيّ المعيّن ، لكان ناسخا لثبوته السابق ، فكذا إذا أدرجه في النّفي تحت العامّ. (٣)
__________________
(١) النحل : ٨٩.
(٢) في «أ» : بقي.
(٣) يريد ان العام الاستغراقي بمنزلة التصريح بحكم كل واحد من افراد الموضوع فإذا قال : لا تقتل زيد المشرك ، ثم قال بعد ذلك : «اقتلوا المشركين» كافة ، كأنّه قال اقتلوا زيدا وعمرا وبكرا ، فيكون الثاني لأجل التصريح بحكم كلّ فرد ناسخا.
ولا يخفى ضعف الاستدلال ، لأنّ إيجاب القتل ، حكم على عنوان المشركين ، لا على كل فرد فرد ، والحكم على الافراد ، بتوسط عنوان ، غير الحكم عليها بالمباشرة والمدعي هو الثاني ، والواقع هو الأوّل ، نعم جعل الحكم على العنوان ، يصير حجة على المكلف في عامة الافراد ، لكن كونه ـ
ولأنّ الخاصّ المتقدّم يمكن نسخه ، والعامّ [الوارد بعده] يمكن أن يكون ناسخا ، فيكون ناسخا.
ولأنّ الخاصّ المتقدّم متردّد بين كونه منسوخا ، ومخصّصا لما بعده ، فلا يكون مخصّصا للتنافي بين البيان والتلبيس.
ولقول ابن عباس «كنّا نأخذ بالأحدث فالأحدث». (١)
لأنّا نقول : ما سبق من الأدلة يقتضي كون الخاصّ راجحا على العامّ فيما إذا جهل التاريخ ، ونمنع إجراء ذكر العامّ مجرى ذكر الجزئيّات ، إذ ذكر الجزئيّات ينافي التّخصيص ، بخلاف ذكر العامّ.
ولا يلزم من إمكان النسخ وقوعه.
والتردّد بين كون الخاصّ منسوخا ومخصّصا ، إن أريد به تساوي الاحتمالين ، فهو ممنوع ، وإن أريد به تطرّق الاحتمال في الجملة ، فلا يمنع من كونه مخصّصا ، ولو منع ذلك من كونه مخصّصا ، لمنع تطرّق احتمال كون العامّ مخصّصا بالخاصّ أكثر من كونه ناسخا.
وقول ابن عباس وحده ، ليس حجّة.
__________________
ـ حجة في جميع الافراد ، غير الحكم على كل فرد فرد بالمباشرة ، وإلّا يلزم تعدد الإرادات حسب تعدّد الأفراد.
(١) لاحظ الإحكام للآمدي : ٢ / ٤١٤ ؛ والمحصول للرازي : ١ / ٤٤٢ ؛ ونفائس الأصول : ٣ / ٣٨ و ٤٢ ؛ والكاشف عن المحصول : ٤ / ٥٤٩ ؛ والتحصيل من المحصول : ١ / ٣٩٨ ، ولم نعثر عليه في الجوامع الحديثيّة.
المبحث الثالث : في تخصيص السنّة المتواترة بمثلها
ذهب الأكثر إلى جوازه ، لأنّ العامّ والخاصّ إذا تعارضا ، لم يمكن العمل بهما من كلّ وجه ، ولا تركهما من كلّ وجه ، ولا العمل بالعامّ في كلّ الصّور ، وإهمال الخاصّ ، لما تقدّم ، فلم يبق إلّا العمل بالخاصّ في مورده ، وبالعامّ في غير صورة التخصيص ، جمعا بين الدليلين.
وأيضا ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فيما سقت السماء العشر» (١) وهو عامّ في النّصاب وغيره.
وقال : «لا زكاة فيما دون خمسة أوسق» (٢) وهو مخصّص لذلك العموم.
احتجّوا بقوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(٣) جعله منصوبا لتبيين الأحكام ، فلا يجوز افتقار سنّته إلى بيان.
والجواب : هذا لا يمنع من كونه مبيّنا لما ورد على لسانه صلىاللهعليهوآلهوسلم من السنّة.
__________________
(١) أخرجه الترمذي في سننه : ٣ / ٣٢ برقم ٦٤٠ ؛ وابن ماجة في سننه : ١ / ٥٨١ برقم ١٨١٧ ؛ وأبو داود في سننه : ٢ / ١٠٨ برقم ١٥٩٦.
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الزكاة برقم ١٤٤٧ و ١٤٥٩ ؛ والترمذي في سننه : ٣ / ٢٢ برقم ٦٢٦ ـ ٦٢٧ ؛ وأبو داود في سننه : ٢ / ٩٤ برقم ١٥٥٨ ـ ١٥٥٩.
(٣) النحل : ٤٤.
المبحث الرابع : في تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة وبالعكس
لا خلاف في ذلك ، والأصل فيه ما تقدّم.
وأيضا ، فقد وقع ، أمّا بالقول فكما خصّصوا عموم [قوله تعالى :](يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ)(١) بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «القاتل : لا يرث» وبقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يتوارث أهل ملّتين» (٢).
وأمّا بالفعل ، فإنّهم خصّصوا قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(٣) بما تواتر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من رجم المحصن. (٤)
وفيه نظر ، للمنع من كون اسم الجنس المحلّى باللّام للعموم ، ويمكن الاحتجاج هنا بالإجماع على عموميّته.
وأمّا العكس ، وهو تخصيص السنّة المتواترة بالكتاب ، فإنّه جائز ، وعليه أكثر الناس ، لما مرّ من امتناع العمل بهما ، وإهمالهما ، والعمل بالعامّ خاصّة ، فتعيّن العمل بالخاصّ في صورته ، والعامّ فيما عدا تلك الصورة.
__________________
(١) النساء : ١١.
(٢) وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٧٥ ، الباب ١ من أبواب موانع الإرث ، الحديث ٦ و ١٧ ؛ ومسند أحمد بن حنبل : ٢ / ١٧٨ و ١٩٥.
(٣) النور : ٢.
(٤) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٣٠.
احتجّ المخالف بقوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(١) جعله مبيّنا للكتاب ، وهو إنّما يكون لسنّته ، فلو كان الكتاب مبيّنا للسنّة ، لزم الدّور.
ولأنّ المبيّن أصل ، والبيان تابع ، فلو كان الكتاب مبيّنا ، لكان تابعا للسنّة.
والجواب : لا نمنع ما ذكرتموه من كون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مبيّنا للسنّة بما يرد على لسانه من القرآن ، فإنّ السنّة منزلة أيضا ، لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٢) وإنّما لم يكن قرآنا ، لأنّه ليس متلوّا.
ثمّ ما ذكرتموه ، معارض بقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(٣) والسنّة شيء ، والتبعيّة باطلة للإجماع.
على أنّ القرآن مبيّن لقوله تعالى : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وأيّ شيء قدّرنا كون القرآن مبيّنا له ، لزم أن يكون تابعا على ما ذكرتموه.
ولأنّ القطعيّ قد يبيّن الظنيّ ولا ينحط عن درجته.
__________________
(١) النحل : ٤٤.
(٢) النجم : ٣ ـ ٤.
(٣) النحل : ٨٩.
المبحث الخامس : في تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بالإجماع
لا خلاف في ذلك ، لما تقدّم من أنّ الدّليلين إذا تعارضا ، وجب العمل بهما بقدر الإمكان.
ولأنّه واقع ، فإنّهم خصّصوا آية الإرث بالإجماع على أنّ العبد لا يرث ، وخصصوا آية الجلد بالإجماع على أنّ العبد كالأمة في تنصيف الجلد.
وأمّا العكس ، وهو تخصيص الإجماع بالكتاب أو بالسنّة المتواترة ، فإنّه باطل بالإجماع ، لأنّ الإجماع على الحكم العامّ (١) مع سبق المخصّص خطأ ، والإجماع لا يقع خطأ.
واعلم انّ التحقيق هنا أن نقول : إنّ الإجماع نفسه لا يقع مخصّصا للقرآن ولا للسّنّة ، بل هو كاشف على أنّه قد حصل مخصّص لذلك العامّ ، لأنّا إذا رأينا أهل الإجماع قاضين بما يخالف العموم في بعض الصّور ، علمنا أنّهم إنّما قضوا بذلك ، لدليل وقفوا عليه ، وإلّا لكان الإجماع خطأ ، وهو باطل.
وكذا إذا قلنا : الإجماع ناسخ ، فإنّه كاشف عن وجود النّاسخ ، لا أنّه ناسخ بنفسه. (٢)
__________________
(١) في «أ» : لأنّ الإجماع على ما يحكم العامّ.
(٢) لأحد وجهين : إمّا لأنّ النّسخ لا يكون بغير خطاب الشارع ، والإجماع ليس خطابا للشرع ، وإمّا لأن الإجماع بما هو هو عندنا ليس بحجّة ، وإنّما يوصف بها بما أنّه كاشف عن قول المعصوم عليهالسلام والوجه الأوّل يناسب مسلك السّنة ، والثاني ، مسلك الشيعة الإمامية.
المبحث السادس : في تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بفعل الرّسولصلىاللهعليهوآلهوسلم
اختلف القائلون بكون فعل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حجّة على غيره ، هل يجوز أن يخصّص به العموم أو لا.
فأثبته الأكثرون ، كالشافعيّة ، والحنفيّة ، والحنابلة.
ومنعه أبو الحسين الكرخي. (١)
والتحقيق أن نقول :
اللّفظ العامّ إن كان متناولا للرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما قال : «الوصال حرام على كلّ مسلم» فإذا فعل ما ينافيه ، كان ذلك الفعل مخصّصا للعموم في حقّه إجماعا.
وأمّا في حقّ غيره ، فكذلك إن دلّ الدّليل على أنّ حكم غيره كحكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم في الكلّ مطلقا ، أو في الكلّ إلا ما خصّصه الدليل ، أو في تلك الواقعة ، لكن المخصّص للعموم لا يكون ذلك الفعل وحده ، بل الفعل مع ذلك الدّليل.
وفي الحقيقة ، لا يكون ذلك تخصيصا بل نسخا ، وإن لم يكن كذلك ، لم يجز تخصيص ذلك العامّ في حقّ غيره.
__________________
(١) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.
وإن كان اللّفظ العامّ غير متناول للرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل للأمّة فقط ، فإن دلّ الدّليل على أنّ حكم غيره مثل حكمه ، صار العامّ مخصوصا بالنسبة إلى الأمّة ، وفي الحقيقة يكون نسخا لمجموع فعل الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مع ذلك الدليل ، وإلّا فلا.
وأمّا في حقّ الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّه لا يكون تخصيصا ، لعدم تناول اللفظ له ، وعلى هذا التقدير فلا كثير اختلاف في ذلك ، أمّا إذا كان هو المخصّص عن العموم وحده ، فلعدم الخلاف فيه ، لأنّ اللفظ إن تناوله ، وقد فعل خلافه ، كان العامّ مخصوصا في حقّه.
وأمّا في باقي الأقسام فلعدم تحقّق التّخصيص ، بل إن وقع نزاع في ذلك ، فإنّما هو في كون فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ناسخا لحكم العموم.
احتجّ المانعون من التخصيص : بأنّ المخصّص للعامّ هو الدّليل الدّالّ على وجوب المتابعة ، وهو قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ)(١) وهو أعمّ من العامّ الدالّ على بعض الأشياء ، فالتخصيص بالفعل يكون تقديما للعامّ على الخاصّ ، وهو باطل.
والجواب : ليس المخصّص مجرّد قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ) بل هو مع الفعل ، ومجموعهما أخصّ من العامّ الّذي يدّعى تخصيصه بالفعل.
__________________
(١) الأنعام : ١٥٣.
المبحث السّابع : في التخصيص بالتقرير
إذا فعل الواحد من أمّته فعلا بحضرته صلىاللهعليهوآلهوسلم بخلاف مقتضى العموم ، ولم ينكر عليه ، مع علمه صلىاللهعليهوآلهوسلم به ، فهو مخصّص لذلك العامّ في حقّ ذلك الفاعل عند الأكثر ، خلافا لشذوذ.
لنا : أنّ تقريره صلىاللهعليهوآلهوسلم وعدم إنكاره منه على الفاعل دليل قاطع في تخصيص ذلك العموم في حقّ ذلك الفاعل ، وإلّا لكان فعله منكرا ، ولو كان منكرا لاستحال من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم السكوت عنه ، وعدم الإنكار عليه ، فترك الإنكار دليل على الجواز.
واحتمال نسخ ذلك الحكم مطلقا ، أو غير ذلك الواحد بعينه بعيد ، واحتمال تخصيصه من العموم أولى وأقرب.
إذا ثبت هذا ، فإن عقل معنى ، أوجب تخصيص ذلك الواحد عن ذلك العموم ، كان كلّ مشارك في ذلك المعنى ، مخصوصا أيضا ، مطلقا عند القائلين بالقياس.
وعندي إذا كانت العلّة منصوصة أو ان ثبت أنّ حكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم في الواحد حكمه في الكلّ ، كان غيره مخصوصا ، وإلّا فلا.
وعلى تقدير مشاركة الغير ، لا يكون تخصيصا في الحقيقة ، بل يكون نسخا.
لا يقال : التقرير لا صيغة له ، فلا يقع في مقابلة ما له صيغة ، فلا يكون
مخصّصا للعموم ، ولو كان مخصّصا فيجب أن يكون غير ذلك الواحد مشاركا له في حكمه ، وإلّا لوجب تصريحه صلىاللهعليهوآلهوسلم بتخصيصه بذلك الحكم ، دون غيره ، دفعا لمحذور التلبيس [على الأمّة] باعتقاد المشاركة لذلك الواحد في حكمه.
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
«حكمي على الواحد حكمي على الجماعة». (١)
لأنّا نقول : التقرير وإن لم يكن له صيغة ، إلّا أنّه حجّة قاطعة في جواز الفعل دفعا لمحذور تطرّق الخطأ على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بخلاف العامّ ، فإنّه ظنّيّ يقبل التخصيص.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «حكمي على الواحد» يمنع عمومه.
والتّلبيس ، مندفع ، فإنّ الأصل عدم المشاركة.
ولو شاركه الأمّة ، لم يكن تخصيصا ، بل نسخا ، على ما تقدّم. (٢)
__________________
(١) تقدّم تخريج الحديث ص ١٩٤.
(٢) ذكر قدسسره في المقام أمورا :
١. أنّ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» ليس عامّا ، إذ يحتمل أن يكون المراد «حكمي» في مورد خاصّ على الواحد ، «حكمي على الجماعة» لا في كلّ مورد ، وإلى هذا أشار بقوله «يمنع عمومه».
٢. إذا كان هذا مفاد الجملة ، فلا تدليس ولا تلبيس ، لأنّه مبنيّ على اعتقادهم المشاركة في عامّة المواضع ، والمفروض عدم ثبوتها ، وإلى هذا أشار بقوله «والتلبيس مندفع».
(٣) على تسليم كلّ ذلك يكون التقرير نسخا للعامّ لا تخصيصا لوروده بعد العمل بالعامّ.
المبحث الثامن : في تخصيص الكتاب بخبر الواحد
اختلف الناس في ذلك ، فجوّزه الفقهاء الأربعة ، وقال قوم : لا يجوز أصلا ، وهو اختيار السيّد المرتضى (١) إلّا أنّه قال : قد كان يجوز أن يتعبّدنا الله تعالى بذلك ، فيكون واجبا ، غير أنّه ما تعبّدنا به.
وقال عيسى بن أبان : (٢) إن كان خصّ قبل ذلك بدليل مقطوع ، جاز ، لأنّه يصير مجازا ، فصارت دلالته ظنيّة ، وخبر الواحد دلالته قطعيّة وإن كان متنه ظنيّا وإلّا فلا.
وقال أبو الحسين الكرخي (٣) : إن كان قد خصّ بدليل منفصل ، صار مجازا ، وجاز تخصيصه ، وإن خصّ بدليل متّصل ، أو لم يخصّ أصلا ، لم يجز.
وتوقّف القاضي أبو بكر (٤) :
والوجه الأوّل ، لنا وجوه :
الأوّل : العموم وخبر الواحد دليلان تعارضا ، وخبر الواحد أخصّ من العموم ، فيجب العمل به في صورته ، وبالعامّ في غير صورة التخصيص ، جمعا بين الدّليلين.
__________________
(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.
(٢) تقدّمت ترجمته ص ٢١٦.
(٣) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.
(٤) التقريب والإرشاد : ٣ / ١٨٥ ـ ١٨٦.
الثاني : العمل بالعامّ إبطال للخاصّ ، والعمل بالخاصّ بيان للعامّ لا إبطال له ، والبيان أولى من الإبطال.
الثالث : إجماع الصحابة ومن بعدهم على تخصيص الكتاب بخبر الواحد في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١) بخبر عبد الرّحمن بن عوف (٢) في المجوس : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب». (٣)
وخصّوا قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)(٤) بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تنكح المرأة على عمّتها ولا خالتها». (٥)
وخصّوا قوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ)(٦) لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يرث القاتل» (٧) ولا يرث الكافر من المسلم (٨).
وخصّوا قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)(٩) لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا قطع إلّا في ربع دينار». (١٠)
__________________
(١) التوبة : ٥.
(٢) تقدّمت ترجمته ص ١٩٥.
(٣) تقدم تخريج الحديث في الجزء الأوّل : ٤١٧.
(٤) النساء : ٢٤.
(٥) تقدّم تخريج الحديث ص ١٥٤.
(٦) النساء : ١١.
(٧) تقدّم تخريج الحديث ص ١٥٤.
(٨) وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٧٤ ، الباب ١ من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١.
(٩) المائدة : ٣٨.
(١٠) مستدرك الوسائل : ١٨ / ١٢٢ ، الباب ٢ من أبواب حد السرقة ، الحديث ٧.
اعترض (١) : بأنّ إجماعهم على التخصيص إن ثبت ، فالمخصّص الإجماع ، وإلّا سقط الدليل.
لا يقال : لا بدّ لهذا الإجماع من مستند.
لأنّا نقول : نمنع الاستناد إلى هذه الأخبار ، ويؤيّده ما روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا روي عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى ، فما وافقه فاقبلوه ، وما خالفه فردّوه». (٢)
وأيضا ، فإنّ أكثر الإجماعات خفي مستندها ، ولا يلزم من موافقة الخبر المخصّص (٣) الاستناد إليه.
وأيضا ، جاز أن تكون هذه الأخبار متواترة أوّلا ، ثمّ صارت آحادا. (٤)
وأيضا ، جاز أن يكون المخصّص عندهم ليس الخبر مطلقا ، بل مع انضمام قرائن إليه [مفيدة للعلم].
وفيه نظر (٥) ، لأنّه لا يلزم من إجماعهم على التخصيص استناده إليه ، (٦)
__________________
(١) المعترض هو الرازي في محصوله : ١ / ٤٣٤. والآمدي في الإحكام : ٢ / ٤١٧.
(٢) وسائل الشيعة : ١٤ / ٣٥٦ ، الباب ٢٠ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ٤.
(٣) المراد من المخصّص هو الإجماع ، وقد تقدّم في قوله : «فالمخصّص الإجماع».
(٤) وحينئذ يكون المستند للمجمعين هو الأخبار حال تواترها قبل صيرورتها آحادا.
(٥) إشكال على الاعتراض السّابق أعني «اعترض بأنّ إجماعهم على التخصيص ...» وحاصل النظر : أنّ إجماع العلماء على جواز التخصيص بخبر الواحد غير كون الإجماع مخصّصا ، بل المخصّص هو خبر الواحد ، والإجماع دليل على جوازه ، فالإجماع دليل الدليل.
(٦) قوله : «استناده إليه» الضمير في «استناده» يرجع إلى التخصيص ، وفي قوله «إليه» يرجع إلى الإجماع.