الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٨
لأنّه بالكلّ أعرف من البعض ، لتعدّد الأبعاض ووحدة الكلّ.
سلّمنا ، لكنّه مجاز في العهد ، لافتقار الحمل عليه إلى قرينة ، وهو من علامات المجاز.
وعن الثاني : أنّه تأكيد وتخصيص ، لا تكرير ونقض.
وعن الثالث : أنّه تخصيص بالعرف ، مثل : من دخل داري أكرمه ، فإنّ العرف أخرج اللّصّ.
وعن الرابع : لا منافاة بين إفادة التعريف والاستغراق خصوصا ، وقد بيّنا أنّه متى حملت على بعض غير معيّن نقض ذلك التعريف بجهالته ، وإفادة الجنس حصلت قبل اللّام.
وعن الخامس : أنّ النّفي ورد على اللبس للكلّ (١) وهو سلب جزئيّ يمكن معه صدق السّلب الكليّ ، فيحمل عليه فيما عهد فيه (٢) السّلب الكليّ.
وما ذكرتموه من الأمثلة قد عهد فيه السلب الكليّ وكان محمولا عليه.
__________________
(١) في «ب» : على الكلّ.
(٢) في «أ» : عهد منه.
المطلب السادس : في بقايا صيغ العموم
فمنها : الجمع المضاف ، مثل : عبيدي أحرار ، أو عبيد زيد ، لما تقدّم من الاستثناء وغيره ، ولقوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)(١) تمسّكا منه بقوله تعالى : (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ)(٢) وأقرّه تعالى على ذلك ، وأجابه بما دلّ على أنّه ليس من أهله ، فلو لا أنّ إضافة الأهل إلى نوح للعموم ، لما صحّ ذلك.
ولقوله تعالى : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ)(٣) فهم إبراهيم من أهل القرية العموم ، حيث قال : (إِنَّ فِيها لُوطاً)(٤).
والملائكة أقرّوه على ذلك ، وأجابوه بتخصيص لوط وأهله بالاستثناء واستثناء امرأته من الناجين.
وأيضا ، احتجّت فاطمة عليهاالسلام على أبي بكر ، حيث منعها من فدك والعوالي في توريثها من أبيها فدك والعوالي بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ)(٥) ولم ينكر عليها أحد من الصحابة ، بل عدل أبو بكر إلى رواية رواها
__________________
(١) هود : ٤٥.
(٢) العنكبوت : ٣٣.
(٣) العنكبوت : ٣١.
(٤) العنكبوت : ٣٢.
(٥) النساء : ١١.
عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهي : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (١).
وأيضا ، لو قال : عبيدي أحرار عتق جميع عبيده ، وكذا : نسائي طوالق ، تطلق كلّ امرأة له بالإجماع ، ولو لم يكن للعموم لم يجب ذلك.
ومنها : الكناية ، كقوله : فعلوا ، فإنّها تقتضي مكنيّا عنه ، والمكنيّ عنه قد يكون للاستغراق ، وقد لا يكون ، والكناية تابعة.
ومنها : إذا أمر جمعا بصيغة جمع ، أفاد الاستغراق فيهم ، لأنّ السيّد إذا أمر غلمانه بقوله : قوموا ، استحقّ من يتخلّف عن القيام الذّمّ ، ولو لا العموم لما كان كذلك ، ولا يجوز استفادة ذلك من القرينة ، لأنّها إن كانت من لوازم الصيغة ، ثبت المطلوب ، وإن كانت من عوارضه ، فرضنا تجرّدها.
__________________
(١) الوارد عن طرقنا هو : «انّ الأنبياء ورثة الأنبياء ، انّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما ، ولكن ورثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظّ وافر» الكافي : ١ / ٣٤ ، باب ثواب العالم والمتعلم.
وأمّا قوله : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» فلم يرد عن طرقنا ، وإنّما رواه العامّة ، والحديث غير صحيح ، لكونه مخالفا للذكر الحكيم قال سبحانه : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) النمل : ١٦. (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) مريم : ٦. ولاحظ بحار الأنوار : ٢٨ / ١٠٤ وج ٢٩ / ٢٠٨ و ٣٥٨.
الفصل الثاني :
فيما لحق بالعام وليس منه
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل : في أنّ الواحد المعرّف بلام الجنس ليس للعموم
ذهب أبو علي الجبّائي والمبرّد وجماعة من الفقهاء إلى أنّ المعرّف باللّام للعموم ، سواء كان مشتقّا أو غير مشتقّ ، وذهب أبو هاشم وجماعة المحقّقين إلى أنّها للجنس لا للعموم.
لنا وجوه :
الأوّل : عدم تبادر العموم إلى الفهم لو قال : أكلت الخبز ، وشربت الماء ، (نظرا للقرينة) (١).
الثاني : لا يجوز تأكيده بما يؤكّد به الجمع ، فلا يقال : جاء الرجل كلّهم ، ولا أجمعون ، ولو كان للعموم لصحّ ، كما جاز : جاءني الرّجال كلّهم أجمعون. (٢)
__________________
(١) ما بين القوسين يوجد في «ب».
(٢) الاستدلال للرّازي في محصوله : ١ / ٣٨٢.
وفيه نظر ، لاحتماله اشتراط تتابع الصّيغة.
الثالث : لا ينعت بنعت الجمع ، فلا يقال : جاءني الرجل العاقلون ، وقولهم أهلك النّاس الدينار الصّفر ، والدّرهم البيض للمجاز ، لعدم الاطّراد.
ولأنّه لو كان حقيقة ، لكان الدّينار الأصفر مجازا ، كما أنّ الدنانير الصفر لما كان حقيقة ، كان الدينار الأصفر خطأ أو مجازا. (١)
وفيه ما تقدّم.
الرّابع : البيع من حيث هو جزء من مفهوم هذا البيع ، فحلّ هذا البيع يستلزم حلّ جزئه ، فلو كان للعموم لزمت إباحة كلّ بيع ، وهو معلوم البطلان.
لا يقال : اللّفظ المطلق إنّما يفيد العموم لو تعرّى عن لفظ التّعيين ، أو أنّه يقتضي العموم ، لكن لفظ التعيين يقتضي خصوصه.
لأنّا نقول : العدم لا مدخل له في التأثير (٢).
وفيه نظر ، لأنّه شرط لا مؤثّر ، والأجود أنّ عدم الشرط حينئذ ينافي العموم ، والأصل عدم التّعارض ، وهو الجواب عن الثاني.
الخامس : المطلق إنّما يدلّ على الماهيّة ، كما يوجد مع العموم ، كذا يوجد مع الخصوص ، فإنّ هذا الإنسان مشتمل على الإنسان مع قيد هذا ، فالآتي بهذا
__________________
(١) لاحظ المحصول للرازي : ١ / ٣٨٢.
(٢) لاحظ المحصول للرازي : ١ / ٣٨٣.
الفرد آت بالماهيّة ، فيخرج عن عهدة التكليف بالعمل بذلك النصّ ، فلا دلالة للفظ على العموم.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : يجوز الاستثناء ، فيكون للعموم.
أمّا الأولى ، فلقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).
وأمّا الثانية ، فلأنّ الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب ، كما تقدّم.
الثاني : الألف واللّام للتعريف ، وليس لتعريف الماهيّة لحصوله بأصل الاسم ولا لواحد بعينه ، لعدم دلالة اللّفظ عليه ، ولا لبعض مراتب الخصوص ، لعدم الأولويّة ، فيكون للجميع.
الثالث : ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعليّة ، لأنّ قوله [تعالى] : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)(١) مشعر بأنّ استحقاق القطع لمجرد السّرقة ، وكذا (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) مشعرا بأنّه إنّما كان حلالا لكونه بيعا ، وهو يقتضي العموم في الحكم ، لعموم علّة.
الرابع : اختلف النّاس بين قائل بالعموم في الواحد والجمع ، وبين قائل بعدمه فيهما ، فالقول بالفصل خارق للإجماع ، وقد ثبت أنّ الجمع للعموم ، فيكون المفرد كذلك.
__________________
(١) المائدة : ٣٨.
(٢) البقرة : ٢٧٥.
والجواب عن الأوّل : أنّه مجاز ، لعدم الاطّراد ، لقبح «رأيت الإنسان إلّا المؤمن».
ولأنّ الخسران لمّا لزم جميع أفراد النوع إلّا المؤمن ، جاز الاستثناء.
وعن الثاني : أنّ لام الجنس تفيد تعيين الماهيّة ، ونفس الماهيّة لا تقتضي الكليّة (١).
وفيه نظر ، لأنّ تعيين الماهيّة قد استفيد من المنكّر.
والأجود أن يقال : إنّ المنكّر يفيد واحدا من الجنس غير معيّن ، والألف واللام دلّتا على عدم إرادة الوحدة والكثرة.
وعن الثالث : بالمنع من إشعاره بالعليّة.
سلّمنا ، لكن ذلك يكون دليلا غير اللّام ، ولا نزاع فيه.
وعن الرابع : بالمنع من الإجماع ، وإنّما يعلم ما ذكره من قول الشيخين (٢) ، ومن تبعهما فقط.
على أنّا نمنع من الفرق بين المسألتين إذا جمعهما طريق واحد ، ولا طريق واحد هنا.
__________________
(١) الاستدلال للرّازي في محصوله : ١ / ٣٨٤.
(٢) المراد الجبائيّان : أبو علي وابنه أبو هاشم.
المبحث الثاني : في الجمع المنكّر
وفيه مطلبان :
[المطلب] الأوّل : في أنّ أقل الجمع ثلاثة
وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وإليه ذهب ابن عباس ، ومشايخ المعتزلة ، وجماعة من أصحاب الشافعي.
وقال الغزّالي (١) وجماعة من أصحاب الشافعي : إنّ أقلّه اثنان ، وهو مذهب زيد بن ثابت ، ومالك ، وداود ، والقاضي أبي بكر ، (٢) والأستاذ أبي إسحاق. (٣)
وقال الجويني : يمكن ردّ لفظ الجمع إلى الواحد. (٤)
والتحقيق أن نقول : هنا أمران :
أحدهما : أنّ قولنا : «جمع» ما الّذي يفيد.
والثاني : أن يقال : الألفاظ الموصوفة بأنّها «جمع» هل تفيد الاثنين حقيقة أو لا؟ نحو قولنا : جماعة ، ورجال.
__________________
(١) المستصفى : ٢ / ١٤٩ ـ ١٥٠.
(٢) التقريب والإرشاد : ٣ / ٣٢٤.
(٣) تقدمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٥١.
(٤) البرهان في أصول الفقه : ١ / ٢٤١.
أمّا قولنا : «جمع» فإنّه يفيد من حيث الاشتقاق ضمّ الشّيء إلى الشيء ، وفي عرف اللّغة ألفاظ مخصوصة ، نحو : هذا اللّفظ جمع ، وهذا تثنية.
وأمّا قولنا : جماعة ، ورجال ، فإنّه يفيد ثلاثة فصاعدا ، ولا يفيد الاثنين إلّا مجازا.
والثاني ، هو المتنازع فيه.
لنا وجوه :
الأوّل : فرّق أهل اللّغة بين التثنية والجمع ، كما فرّقوا بين الواحد والجمع ، والواحد والتثنية.
الثاني : فرّقوا بين الضّميرين ، فقالوا في التثنية : قاما ويقومان ، وفي الثلاثة : فعلوا ، ويفعلون ، وفي الأمر للاثنين (١) : افعلا ، وفي الثلاثة : افعلوا.
الثالث : ينعت الجمع بالثلاثة فما زاد ، دون التثنية ، وبالعكس فيقال : رجال ثلاثة ، وثلاثة رجال ، ولا يقال : رجال اثنان ، ولا اثنان رجال ولا رجال عاقلان ، ولا رجلان عاقلون. (٢)
وفيه نظر ، لإرادة التطابق لفظا.
الرابع : يصحّ : ما رأيت رجالا بل رجلين ، ولو كان حقيقة فيهما لم يصحّ نفيه.
__________________
(١) في «ب» : وفي الأمر الاثنين.
(٢) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٣٨٥.
وفيه نظر ، لدلالة قرينة الإضراب على الجمع.
الخامس : لو قال : له عليّ دراهم ، لزمه ثلاثة فما زاد ، وكذا لو أوصى ، أو نذر. (١)
(وفيه نظر ، للمنع). (٢)
السّادس : روي عن ابن عبّاس أنّه قال لعثمان لمّا ردّ الأمّ من الثّلث إلى السّدس بأخوين : قال الله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)(٣) ، وليس الأخوان إخوة في لسان قومك ، فقال عثمان : لا أستطيع أن انقض أمرا كان قبلي ، ولو لا أنّ ذلك مقتضى اللّغة لما احتجّ به ابن عباس على عثمان وأنكر عليه ، مع أنّه كان من فصحاء العرب.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : قوله تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ)(٤) والمراد : داود وسليمان.
[وقوله تعالى :](إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ)(٥) وكانا اثنين ، لقوله تعالى : (خَصْمانِ)(٦).
__________________
(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٤٨.
(٢) ما بين القوسين يوجد في «ب».
(٣) النساء : ١١.
(٤) الأنبياء : ٧٨.
(٥) ص : ٢١.
(٦) ص : ٢٢.
[وقوله تعالى :](هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)(١).
[وقوله تعالى :](إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ)(٢).
[وقوله تعالى :](إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ)(٣) وأراد به موسى وهارون.
[وقوله تعالى :](عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً)(٤) والمراد : يوسف واخوه.
[وقوله تعالى :](وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)(٥).
[وقوله تعالى :](إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)(٦).
[وقوله تعالى :](فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)(٧) وأراد به الأخوين.
الثاني : ما روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من قوله : الاثنان فما فوقهما جماعة (٨).
الثالث : معنى الاجتماع حاصل في الاثنين.
الرابع : لو أخبر اثنان عن فعلهما لقالا : قمنا ، وقعدنا كما تقول : الثلاثة ، بلفظ الجمع.
__________________
(١) الحجّ : ١٩.
(٢) ص : ٢٢.
(٣) الشعراء : ١٥.
(٤) يوسف : ٨٣.
(٥) الحجرات : ٩.
(٦) التحريم : ٤.
(٧) النساء : ١١.
(٨) سنن ابن ماجة : ١ / ٣١٢ برقم ٩٧٢.
الخامس : لو أقبل عليه رجلان في مخافة قال : أقبل الرجال ، والأصل في الإطلاق ، الحقيقة.
والجواب عن الأوّل : أنّ الحكم مصدر ، فيضاف تارة إلى الفاعل ، وأخرى إلى المفعول ، وإذا اعتبرنا المتحاكمين مع الحاكم ، كانوا ثلاثة ، فالكناية وقعت عن الجميع. (١)
وفيه نظر ، فإنّا نمنع صحّة إضافته إلى الفاعل والمفعول دفعة ، وإن صحّ إضافته إلى كلّ واحد منها منفردا.
والجواب الأوّل للسيّد المرتضى ، ونقل عمّن تقدّمه جوابين : أحدهما : أنّه للتعظيم ، والثاني : أنّه أضاف الحكم إلى سائر الأنبياء المتقدّمين.
واعترضه بأنّ التعظيم باستعمال النون ، دون غيره ، ولم تجر العادة بأن نقول عن اثنين:
قاموا ، ونضيف إليهما ثالثا.
وفيه نظر ، فإنّ التعظيم باعتبار إقامة الواحد مقام الجميع ، وهو غير مختصّ بالنّون ، وقد ورد (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ)(٢)(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ)(٣) وغيرهما.
__________________
(١) الاستدلال للسيّد المرتضى في الذريعة : ١ / ٢٣١.
(٢) آل عمران : ١٧٣.
(٣) المائدة : ٥٥.
والخصم ، مصدر يقع على الواحد والكثير ، يقولون : هذا خصم ، وهذان خصم ، وهؤلاء خصمي ، بلفظ واحد. (١)
وفيه نظر ، فإنّا نسلّم صدق المصدر على الواحد والكثير ، لكنّ القصّة تقتضي أنّهما اثنان للتثنية ، ولحكاية حالهما ، فصدق ضمير الجمع في (تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) يعطي صدق الجمع على الاثنين.
وكذا [قوله :](فَفَزِعَ مِنْهُمْ)(٢).
نعم يصلح ما ذكرتموه جوابا عن قوله (هذانِ خَصْمانِ)(٣).
و [موسى وهارون و] فرعون مراد من قوله (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ)(٤).
[ويوسف وأخوه] والأخ الثالث شمعون الّذي قال : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي)(٥) مراد من قوله : (أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً)(٦) ، والمطابقة تصدق على الجميع.
والقلب يطلق على الجارحة بالحقيقة ، وعلى الميل الموجود فيه بالمجاز ، فيقال للمنافق : ذو قلبين ، كما يقال : ذو جهتين و [ذو] لسانين ، ولمن لا يميل قلبه إلّا إلى واحد : له قلب واحد ، ولسان واحد.
__________________
(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٣٨٦.
(٢) ص : ٢٢.
(٣) الحجّ : ١٩.
(٤) الشعراء : ١٥.
(٥) يوسف : ٨٠.
(٦) يوسف : ٨٣.
ولمّا خالفتا أمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بما يأمر وقع في قلبهما دواع مختلفة ، وأفكار متباينة ، فأطلق عليها اسم القلوب ، لأنّ القلب لا يوصف بالصّغو ، بل يوصف به الميل.
والحجب مع الأخوين للإجماع ، لا للآية.
والحديث يراد به إدراك فضل الجماعة أو أنّه نهى عن السفر إلّا في جماعة ، ثمّ قال : «الاثنان فما فوقهما جماعة» لجواز السّفر.
والبحث لم يقع فيما تفيده لفظة الجمع بل عمّا يتناوله لفظ الرّجال ، وأحدهما غير الآخر.
وأيضا ، فإنّ ماهيّة اشتقاق لفظ الجماعة في الثلاثة وإن وجد في الاثنين ، إلّا أنّه لا يلزم الإطلاق ، لأنّه قياس في اللّغة ، ولهذا لم يجب في القارورة.
ولفظ «قمنا» لا يدلّ على الجمع ، فإنّ الواحد يصحّ أن يقول ذلك ، وليس بجمع (١).
وفيه نظر ، فإنّ الواحد إنّما يصحّ فيه ذلك إن قصد التعظيم لنفسه ، بأن يقاوم الجماعة ويساويهم في الكثرة ، وإن كان واحدا في الحقيقة ، بخلاف المثنّى في هذه الصّيغة.
والإطلاق الثاني صادق في الواحد ، فنقول : جاء الرّجال (٢) مجازا ، كما في الاثنين.
__________________
(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٤٧.
(٢) في «ب» : جاءني الرّجال.
المطلب الثاني : في أنّ الجمع المنكّر ليس للعموم
بل يحمل على أقلّه ، الخلاف هنا مع أبي علي ، فإنّه قال : إنّه للعموم.
لنا : أنّ لفظ رجال يمكن نعته بأيّ جمع شئنا ، فيقال : رجال ثلاثة ، وأربعة وهكذا ، ويمكن تقسيمه إليها.
ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام ، مغاير لكلّ واحد منها ، وغير مستلزم لها ، فاللّفظ الدّال على ذلك المورد لا إشعار له البتّة بشيء منها ، أمّا الثلاثة ، فإنّها واجبة الدخول قطعا ، لأنّه إذا قصد الأكثر دخلت قطعا.
احتجّ بوجوه :
الأوّل : حمله على الاستغراق حمل له على جميع حقائقه ، فيكون أولى من حمله على البعض ، لعدم الأولويّة.
الثاني : لو أراد المتكلّم البعض لعيّنه ، وإلّا كان مراده مبهما ، ولمّا بطل التعيين ، ثبت أنّه للعموم.
الثالث : يصحّ استثناء كلّ عدد منه سوى الاستغراق ، والاستثناء إخراج جزء من كلّ.
والجواب عن الأوّل : أنّ حقيقة هذا الجمع الثلاثة من غير بيان عدم الزائد ووجوده ، وهو أمر مشترك بين الثلاثة لا غير ، وبين الثلاثة مع غيرها ، واللفظ الدّال على القدر المشترك ، لا دلالة له البتّة على شيء من جزئيّاته ، فضلا عن أن يكون حقيقة فيها.
وعن الثاني : المراد في الجمع المنكّر ، كالمراد في النكرة ، وكما لا يجب التعيين هناك إلّا مع إرادة المعيّن ، كذا هنا.
وعن الثالث : المنع من صحّة الاستثناء لكلّ عدد.
سلّمنا لكنّ الفائدة هنا عدم الصلاحيّة.
المبحث الثالث : في نفي الاستواء
ذهب أكثر فقهاء الشافعية إلى أنّه للعموم ، كما في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ)(١) فإنّه يقتضي نفي المساواة في جميع الأمور.
ومنعه أبو حنيفة فقال : إذا وقع التفاوت ولو من وجه واحد ، صدق نفي المساواة.
ويتفرّع على الخلاف القصاص للذّمي من المسلم ، فعند الشافعي لا يثبت ، وإلّا لزم تساويهما ، وأثبته أبو حنيفة.
والقائل الأوّل احتجّ بوجهين :
الأوّل : الجملة نكرة وقد دخل عليها النّفي ، فتكون عامّة كغيرها.
الثاني : إذا قلنا : لا مساواة بين زيد وعمرو ، فقد دخل النفي على مسمّى
__________________
(١) الحشر : ٢٠.
المساواة ، فلو وجدت المساواة من وجه ، لما كان مسمّى المساواة منتفيا ، وهو خلاف مقتضى اللّفظ.
احتجّ الآخرون بوجوه :
الأوّل : نفي المساواة أعمّ من نفي المساواة من كلّ الوجوه أو بعضها ، والدّال على القدر المشترك ، لا إشعار له بأحد الجزئيّات.
الثاني : إطلاق لفظ المساواة إنّما يصحّ على تقدير الاستواء من كلّ الوجوه ، وإلّا لوجب صدقها على أيّ شيئين فرضا حتّى المتناقضين ، إذ ما من شيئين إلّا ويصدق مساواتهما في بعض الأشياء ، كالشيئيّة ، والمعلوميّة ، وسلب ما عداهما عنهما.
وإذا صدقت المساواة بين كلّ شيئين ، لم يصدق نقيضهما بينهما ، وحينئذ يكفي في نفي المساواة نفي الاستواء من بعض الوجوه ، لأنّ النقيض الكلّيّ جزئيّ ، فقولنا : لا يستويان ، لا يفيد نفي الاستواء من كلّ الوجوه.
الثالث : لو كان نفي المساواة يقتضي نفي المساواة من كلّ وجه ، لما صدق نفي المساواة حقيقة على شيئين أصلا ، لأنّ كلّ شيئين لا بدّ وأن يستويا في شيء ما حتّى النقيضين ، لكنّ الأصل في الإطلاق الحقيقة.
الرابع : المساواة في الإثبات للعموم ، وإلّا لم يستقم إخبار بمساواة ، لعدم الاختصاص ، ونقيض الكلّيّ الموجب جزئيّ سالب.
والتحقيق أن نقول : المساواة من الأمور الإضافيّة ، لا تعقل إلّا مضافة إلى غيرها ، وكما يمكن إضافتها إلى بعض الصّفات ، يمكن إضافتها إلى الجميع ، فإن
كان العرف يقتضي بأنّ الإطلاق عائد إلى الجميع ، فنفيه لا يوجب العموم وإلّا وجب.
والوجوه التي قيلت من الطّرفين لا تخلو من دخل.
أمّا الأوّل : فلأنّ (١) الاستواء وإن كان نكرة إلّا أنّ متعلّقه إذا كان جزئيّا لم يعمّ النفي ، بل عموم نفي الاستواء من ذلك الوجه ، فإنّ قولنا : لم يضرب زيد عمرا ، يقتضي عموم نفي ضرب زيد لعمرو لا مطلق ضرب زيد.
وأمّا الثاني : فكذلك ، فإنّ نفي مطلق المساواة ، يقتضي عمومه ، لا عموم المضاف إليه.
وأمّا الثالث : فلأنّ المساواة أعمّ من المساواة من كلّ وجه ، ومن المساواة من بعضها ، والدالّ على المشترك ، لا إشعار له بأحد الجزئيّات ، فنفيه للعموم.
وأمّا الرابع : فلأنّه معارض بمثله ، فإنّ نفي المساواة إنّما يصحّ على تقدير نفيها من كلّ الوجوه ، فإنّه ما من شيئين إلّا وهما غير متساويين من وجه ما ، وإذا صدق النفي كليّا ، كان نقيضه جزئيّا.
وأمّا الخامس : فإنّ الحقيقة إذا تعذّرت ، وجب الحمل على المجاز ، وهنا نقول : إن أمكن نفي المساواة من كلّ وجه بطل منعكم ، وإلّا وجب الحمل على المجاز ، وكون الحقيقيّ ممتنع الوجود ، لا يخرج اللّفظ عن وضعه.
__________________
(١) في «ب» و «ج» : فإنّ.
وأمّا السادس : فالمعارضة كما مرّ ، من أنّ نفي المساواة للعموم ، وإلّا لم يستقم إخبار نفي المساواة ، لعدم الاختصاص.
قيل : (١) إنّه يمكن أن يكون المراد لا يستويان في صفة من الصّفات.
وأجيب : بأنّ نفي المساواة علق بأصحاب الجنّة وأصحاب النار ، ولم يعلّق بصفاتهم ، وإذا علق بالفريقين ، كفى في افتراقهما أن يتنافيا في بعض الصفات.
وقد أجاب قاضي القضاة عن تمسّك الشافعيّة بالآية ، بأنّا قد علمنا استواءهم في صفات الذّات ، فعلمنا أنّه أراد : لا يستويان في بعض الصفات ، فإذا لم يذكر ذلك البعض ، صارت الآية مجملة ، وقد ذكرنا في الآية الافتراق في الفوز ، فيجب حمل الآية عليه.
اعترضه ابو الحسين بأنّا لو سلّمنا لهم أنّ الآية تفيد نفي اشتراكهم في كلّ الصفات أجمع ، لم يضرّهم اشتراكهم في كثير من الصّفات ، لأنّ العموم إذا خرج بعضه ، لم يمنع من التعلّق بباقيه (٢).
__________________
(١) يلاحظ المعتمد : ١ / ٢٣٢.
(٢) المعتمد : ١ / ٢٣٣.
المبحث الرّابع : في الخطاب المصدّر بالنّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا ورد خطاب صدّر بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل (يا أَيُّهَا النَّبِيُ)(١) ، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ)(٢) ، (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)(٣) ، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ)(٤) لا يعمّ الأمّة إلّا بدليل منفصل ، وهو قول الشافعيّة.
وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل وأصحابهما : إنّه يكون خطابا للأمّة ، إلّا ما دلّ الدّليل فيه على الفرق.
لنا : أنّ الخطاب المخصوص بواحد ، لا يدلّ على حكم غيره في عرف اللّغة ، فإنّ من خاطب بعض عبيده بخطاب موجّه إليه (٥) لا يكون ثابتا في حقّ الباقي ، وليس للسيّد ذمّهم على ترك ما أمر به ذلك البعض.
وأيضا ، لو تناول غيره ، لكان إخراج ذلك الغير تخصيصا ، وليس كذلك اتّفاقا.
وأيضا ، يحتمل أن يكون الأمر للواحد المعيّن مصلحة له ، وهو مفسدة في حقّ غيره ، كما خصّ النبيّ بأحكام لم يشاركه فيها أحد من أمّته ومع امتناع
__________________
(١) التحريم : ١١.
(٢) المائدة : ٤١ و ٦٧.
(٣) المزّمّل : ١.
(٤) الزّمر : ٦٥.
(٥) في «أ» : يتوجّه إليه.