نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

٦

الدليل العقلي وحجيّة المصلحة

قد تعرفت على أنّ العقل أحد مصادر التشريع أو ـ بالأحرى ـ أحد المصادر لكشف الحكم الشرعي.

ومجال الحكم العقلي ـ غالبا ـ أحد الأمور التالية :

١. التحسين والتقبيح العقليان.

٢. أبواب الملازمات من قبيل الملازمة بين وجوب الشيء ومقدمته وحرمة ضدّه ، والملازمة بين النهي عن العبادة أو المعاملة وفسادها ، إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى باب الملازمة.

٣. أبواب التزاحم أي تزاحم المصالح الّتي لا بدّ من أخذها كإنقاذ الغريقين مع العجز عن إنقاذ كليهما ، أو تزاحم المصالح والمفاسد كتترس العدو بالمسلمين فإنّ للعقل دورا فيها ، وله ضوابط لتقديم إحدى المصلحتين على الأخرى ، أو تقديم المصلحة على المفسدة أو بالعكس (وهي مذكورة في مظانّها).

ولا غبار على حجّية العقل في هذه الموارد ، إنّما الكلام في حجّية

٦١

المصلحة وعدّها من مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه. فقد ذهب عدة من فقهاء السنّة إلى حجّية المصلحة وسمّاها المالكية بالمصالح المرسلة والغزّالي بالاستصلاح ، وحاصل دليلهم على حجّية المصلحة وكونها من مصادر التشريع كالتالي :

إنّ مصالح الناس تتجدّد ولا تتناهى ، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدّد من صالح الناس ، ولما يقتضيه تطورهم واقتصر التشريع على المصالح الّتي اعتبرها الشارع فقط ، لعطّلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة ، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم ، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس. (١)

وحاصل هذا الوجه ادّعاء وجود النقص في التشريع الإسلامي لو اقتصر في مقام الاستنباط على الكتاب والسنّة ، لأنّ حاجات المجتمع إلى قوانين جديدة لا زالت تتزايد كلّ يوم ، فإذا لم تكن هناك تشريعات تتلاءم مع هذه الحاجات لم تتحقّق مقاصد الشريعة.

ثم إنّ السبب لجعلهم المصالح مصادر للتشريع هو الأمور التالية :

١. إهمال العقل وعدم عدّه من مصادر التشريع في مجال التحسين والتقبيح العقليين.

٢. إقفال باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع إقفالا سياسيا ، فقد صار ذلك سببا لوقف الدراسات الفقهية منذ قرون ، وفي ظل ذلك توهّم المتأخّرون وجود النقص في التشريع الإسلامي وعدم كفايته لتحقيق

__________________

(١) علم أصول الفقه ، لعبد الوهاب الخلّاف : ٩٤.

٦٢

مقاصد الشريعة فلجئوا إلى عدّ المصالح المرسلة من مصادره. وبذلك وجّهوا قول من يعتقد بحجية المصالح المرسلة من أئمة المذاهب.

٣. عدم دراسة عناوين الأحكام الأوّلية والثانوية ، كأدلّة الضرر والحرج والاضطرار والنسيان ، فإنّ هذه العناوين وما يشابهها تحل أكثر المشاكل الّتي كان علماء السنّة يواجهونها. من دون حاجة لعدّ الاستصلاح من مصادر التشريع.

٤. عدم الاعتراف بصلاحيات الفقيه الجامع للشرائط بوضع أحكام ولائية كافية في جلب المصلحة ودفع المفسدة أحكاما مؤقتة ما دام الملاك موجودا.

والفرق بين الأحكام الواقعية والولائية هي أنّ الطائفة الأولى أحكام شرعية جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتبقى خالدة إلى يوم القيامة ، وأمّا الطائفة الثانية فإنّما هي أحكام مؤقتة. أو مقررات يضعها الحاكم الإسلامي (على ضوء سائر القوانين) لرفع المشاكل المتعلّقة بحياة المجتمع الإسلامي.

هذه هي حقيقة المصالح المرسلة.

ثم إنّهم مثّلوا للمقام بأمثلة ، نذكر منها ما يلي :

١. جمع القرآن الكريم في مصحف بعد رحيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢. قتال مانعي الزكاة.

٣. وقف تنفيذ حكم السرقة في عام المجاعة.

٤. إنشاء الدواوين.

٥. سك النقود.

٦. فرض الإمام العادل على الأغنياء من المال ما لا بدّ منه ، لتكثير الجند وإعداد السلاح وحماية البلاد وغير ذلك.

٦٣

٧. سجن المتهم كي لا يفر.

٨. حجر المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس.

ثمّ إنّ بعض المغالين ربّما يتجاوز فيمثّل بأمور لا تبرّرها أدلّة التشريع الواقعي كتنفيذ الطلاق ثلاثا ، مع أنّ الحكم الشرعي هو كونه طلاقا واحدا في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبرهة بعد رحيله ، وهذا من باب تقديم المصلحة على النص.

ثم إنّ للإمامية في العمل بالمصالح مذهبا وسطا أوضحناه في كتابنا. (١) وليست الإماميّة ممّن ترفضه بتاتا كما تصوّره الأستاذ أو تقبله في عامّة الصور.

هذا إجمال الكلام في المصالح المرسلة ـ والتفصيل مع ما لها وما فيها يطلب من محله ـ إذا عرفت ذلك فهلمّ معي نقرأ ما ذكره الدكتور الرسيوني حول هذا الموضوع ، قال :

«أمّا حجية المصلحة ، فإنّهم وإن كانوا ينكرونها بالاسم إلّا أنّهم يأخذون بها بأسماء وأشكال متعدّدة :

ـ فتارة تدخل تحت اسم «الدليل العقلي» حيث يدرجون ضمنه ـ مثلا ـ اعتبار «الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضار الحرمة» وهذا عين اعتبار المصلحة. كما أنّ من القواعد المعتبرة عندهم ضمن دليل العقل قاعدة «وجوب مقدّمة الواجب» وهي المعبر عنها ب «ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب» ذلك أنّ معظم المصالح المرسلة هي من قبيل «ما لا يتم الواجب إلّا به» فهي مقدّمات أو وسائل لواجبات أخرى ، ومثلها قاعدة «كلّ ما هو ضد الواجب فهو غير جائز» فهذا ما يعبر عنه بدرء المفاسد. وأخرى يدخلون العمل بالمصلحة من باب ما

__________________

(١) لاحظ أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه للكاتب.

٦٤

يسمّى عندهم السيرة العقلائية. وبناء العقلاء ، وهو في الوقت نفسه من المصالح المرسلة». (١)

وحاصل كلامه : انّه تدخل تحت حجّية المصلحة القواعد التالية :

١. وجوب مقدّمة الواجب.

٢. حرمة ضد الواجبة.

٣. حجّية بناء العقلاء وسيرتهم.

٤. الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضار الحرمة.

فهي نفس العمل بالمصلحة مع أنّهم يدخلونها تحت «الدليل العقلي».

يلاحظ عليه : أنّ اشتمال هذه القواعد على المصالح ودرء المفاسد ، غير كون المصلحة سببا لتشريعها ومبدأ لتقنينها ، فإنّ الدليل على وجوب مقدّمة الواجب أو حرمة ضد الواجب حكم العقل بالملازمة بين الإرادتين ، فمن حاول الوقوف على السطح ، لا محيص له من إرادة نصب السلّم ، أو ركوب المصعد.

فاشتمال المقدّمة على المصلحة أو اشتمال الضد على المفسدة أمر جانبي لا مدخلية له في الحكم بالوجوب والحرمة.

وأمّا حجّية بناء العقلاء ، فإنّ أساسها كونه بمرأى ومسمع من الشارع وهو إمضاؤه ، لهذا لو كان غير مرضيّ عنده لما سكت عن النهي عنه ، لقبح السكوت عمّا يوجب إغراء الأمّة ، ولو لا إمضاؤه لما صحّ الاعتماد عليه في الفقه ، كما هو

__________________

(١) الصفحة : ٩٧ من المجلة المشار اليها.

٦٥

الحال في السّير الّتي رفضها الشارع كبيع الخمر والكلب والخنزير والتملك بالمقارنة.

وبه يظهر حكم القاعدة الرابعة ، فإنّ الحكم بجلب المنفعة أو درء المفسدة هو العقل الحصيف ، لا قاعدة المصالح المرسلة ، وإن كان في الجلب والدرء مصلحة ، وبالجملة : الأمور الجانبية ، ليست أساسا لحكم العقل في مورد هذه القواعد.

نحن نفترض أن لهذه المسائل طابعا عقليا كما أن لها طابعا استصلاحيا ، فلو كان الوصول إليها من دليل العقل أمرا غير صحيح فليكن الوصول إليها عن طريق الاستصلاح مثله ، فلما ذا يوجّه اللوم إلى الفريق الأوّل دون الثاني أوليس هذا المورد من مصاديق المثل السائر : «رمتني بدائها وانسلت»؟

* * *

هذه بعض الملاحظات على كلام الأستاذ ، حفظه الله ونفعنا بعلومه. وبقيت في كلامه أمور أخرى يظهر النظر فيها من بعض ما ذكرنا.

وفي الختام ندعو له ولعامّة الاخوان في المملكة المغربية والأساتذة والطلاب في دار الحديث الحسنية بدوام التوفيق والسداد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جعفر السبحاني

قم المقدسة ـ إيران

غرّة ربيع الأوّل ١٤٢٦ ه

٦٦

الفصل الثامن

في النّهي

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في حقيقته

النّهي مقابل للأمر ، فحدّه مقتضب (١) عن حدّ الأمر.

وكنّا قلنا : إنّ الأمر هو طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء ، ولا يحسن المقابل هنا في الطلب ، لاشتمال النّهي عليه ، ولا في القول لذلك ، ولا في جهة الاستعلاء ، لتحقّقه كما قلنا في الأمر ، فلم يبق إلّا الفعل.

فالنّهي حينئذ طلب الترك بالقول على جهة الاستعلاء.

والخلاف في أنّ له صيغة تخصّه ، كما قلنا في الأمر.

__________________

(١) يقال : اقتضب الشيء : قطعه ، فيريد أنّ تعريفه مقطوع عن حدّ الأمر ومقابل له ويحتمل أن يكون الصحيح «مقتبس عن حدّ الأمر» ، وفي بعض النسخ «نقيض» مكان «مقتضب» وعند ذلك تكون «عن» زائدة.

٦٧

ومن حدّ الأمر بأنّه اقتضاء فعل ، غير كفّ على جهة الاستعلاء ، حدّ النّهي بأنّه اقتضاء كفّ عن فعل على جهة الاستعلاء.

وينتقض بقولنا «كفّ» (١).

والكلام في أنّها تقتضي التحريم ، أو الكراهة ، أو القدر المشترك ، أو الوقف ، كما تقدّم في الأمر.

ويشترك الأمر والنّهي في أمور :

الأوّل : جواز استعمال كلّ منهما في خلاف ما يقتضيه صيغته ، فصيغة كلّ منهما يجوز استعمالها في غير ما وضع له.

الثاني : أنّ كلّ واحد منهما إنّما يوصف بما يوصف به بحال فاعله.

الثالث : اعتبار الاستعلاء.

الرابع : كلّ منهما يتقيّد بما قيّد به من شرط أو صفة.

الخامس : اعتبار كثير من الشرائط في جنسهما ، نحو : أن يكون غرض المكلّف التعريض للثواب ، ويكون عالما بإثابة المطيع ، وغير ذلك.

ويفترقان بأمور :

الأوّل : الصيغة ، ففي الأمر «افعل» وفي النّهي «لا تفعل».

الثاني : ما يتميّز به كلّ منهما عن صاحبه.

الثالث : مطلق الأمر لا يقتضي التأبيد ، ومطلق النّهي يقتضيه عند جماعة ،

__________________

(١) أي ينطبق عليه حدّ النّهي مع أنّه أمر.

٦٨

ولهذا أمكن النظر في أنّ الأمر للفور أم لا بخلاف النّهي عندهم.

الرابع : شرط حسن النّهي قبح المنهيّ عنه ، وشرط حسن الأمر ، انتفاء قبح المأمور به.

واعلم أنّ الصّيغة قد ترد لسبعة أمور :

الأوّل : التحريم.

الثاني : الكراهة.

الثالث : التحقير [كقوله تعالى :](لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.)(١)

الرابع : بيان للعاقبة [كقوله تعالى :](وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً)(٢).

الخامس : الدعاء : لا تكلني إلى نفسي.

السادس : (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ)(٣).

السابع : الإرشاد [كقوله تعالى :](لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ)(٤).

لكنّها حقيقة في التحريم في نظر الشّرع ، كما قلنا في الأمر ولقوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٥) وجب الانتهاء ، لما تقدّم من أنّ الأمر للوجوب : وهو المراد من قولنا : النّهي للتحريم ، ومن جعل الأمر للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، جعل النّهي للقدر المشترك بين التحريم والكراهة. (٦)

__________________

(١) الحجر : ٨٨.

(٢) إبراهيم : ٤٢.

(٣) التحريم : ٧.

(٤) المائدة : ١٠١.

(٥) الحشر : ٧.

(٦) في «أ» : جعل النّهي مشتركا بين التحريم والكراهة.

٦٩

المبحث الثاني : في أنّ المطلوب في النهي ما ذا؟

اختلف الناس هنا فقال أبو هاشم وجماعة كثيرة : المطلوب بالنّهي : نفس أن لا يفعل المنهيّ عنه.

وقالت الأشاعرة : المطلوب : فعل ضدّ المنهيّ عنه.

لنا : أنّ من لم يزن مع دعاء الداعي إليه يمدحه العقلاء على أنّه لم يزن ، وإن لم يخطر ببالهم فعل ضدّ الزّنا ، فوجب أن يكون العدم متعلّق التّكليف.

احتجّت الأشاعرة : بأنّ العدم نفي محض ، فلا يكون مقدورا ، لأنّ القدرة لا بدّ لها من أثر ، ولا أثر للمعدوم.

ولأنّ العدم وإن أمكن إسناده إلى القدرة ، لكنّ العدم الأصليّ لا يمكن إسناده إليها ، لامتناع تحصيل الحاصل.

وإذا بطل أن يكون العدم متعلّق القدرة ، وجب أن يكون ثبوتيّا ، وهو الضدّ.

والجواب : لو لم يكن العدم مقدورا لم يكن الوجود مقدورا ، لأنّه يلزم أن تكون صفة القدرة مؤثّرة في الوجود لا غير ، وذلك وجوب لا قدرة ، وعدم الفعل أمر عقليّ يمكن تعلّق القدرة به ، لتميّزه عن غيره ، وإن كان نفيا في الخارج.

والعدم الأزليّ وإن لم يكن مقدورا ، لكن المقارن للقدرة أمكن تعلّقها به ، فإنّ القادر على الفعل قادر على أن يتركه على العدم الأصليّ ، وأن لا يغيّره ، فعدم التغيّر مقدور له ، فجاز أن يتناوله التّكليف.

٧٠

المبحث الثالث : في أنّ النّهي قد يقتضي التكرار

اختلف الناس هنا ، فذهب الأكثر إليه ، وقال آخرون بعدمه.

والأقرب الأوّل ، لنا وجوه :

الأوّل : أنّ النّهي يقتضي منع المكلّف من إدخال الماهيّة المصدر في الوجود ، وهو إنّما يتحقّق إذا امتنع من إدخال كلّ فرد من أفرادها في الوجود ، إذ مع إدخال فرد من أفرادها يكون قد أدخل تلك الماهيّة في الوجود ، لاشتمال ذلك الفرد على تلك الماهيّة ، وهو ينافي قولنا : إنّه منع من إدخال تلك الماهيّة في الوجود.

قيل عليه (١) : الامتناع عن إدخال الماهية في الوجود ، قدر مشترك بين التّكرار وعدمه ، ولا دلالة للعامّ على ما به يمتاز كلّ واحد من القسمين عن صاحبه.

وفيه نظر ، لأنّ الامتناع عن الإدخال إنّما يتحقّق مع الدوام ، إذ مع عدمه يتحقّق الإدخال الممنوع منه.

الثاني : المفهوم في عرف اللّغة التناقض بين قولنا : اضرب ولا تضرب ، لاشتمال لا تضرب على كلّ مفهوم اضرب وزيادة حرف النّهي ، وقولنا : اضرب يفيد المرّة ، فلو كان لا تضرب كذلك ، لم يتناقضا ، فيجب العموم (٢).

__________________

(١) القائل هو الرازي في محصوله : ١ / ٣٤٠.

(٢) أي يجب أن يتناول النّهي كلّ الأوقات حتّى تتحقّق المنافاة.

٧١

قيل عليه (١) : إن أردت بدلالة الأمر والنّهي على مفهومين متناقضين : دلالة الأمر على الإثبات ، والنّهي على النّفي ، فمسلّم ، لكن ذلك لا يوجب التناقض إلّا مع اتّحاد الوقت ، لأنّ صدق الإثبات في وقت يستلزم صدق الإثبات ، وصدق النفي في وقت يستلزم صدق النفي ، وكما لا تناقض بين الإثبات في وقت والنفي في آخر ، كذا لا تناقض بين المطلقين.

وفيه نظر ، لأنّا استدللنا بالعرف على التناقض على كون النّهي للدّوام ، لما قرّره (٢) من امتناع التّناقض بين المطلقين.

الثالث : قولنا : «لا تضرب» يمكن حمله على التكرار ، وقد دلّ الدليل عليه ، فيجب المصير إليه.

أمّا الأوّل فلإمكان امتناع الإنسان عن الفعل دائما من غير عسر.

وأمّا الثانية فلانتفاء دلالة الصيغة على وقت دون وقت ، فإمّا أن يحمل على الكلّ ، وهو المراد أو لا يحمل على شيء البتّة ، وهو محال ، أو يحمل على البعض دون الآخر ، ويلزم منه الترجيح من غير مرجّح.

قيل عليه (٣) : لا دلالة في النّهي إلّا على مسمّى الامتناع ، فحيث تحقّق هذا المسمّى ، وقع الخروج عن عهدة التكليف.

وفيه نظر ، لأنّ مسمّى الامتناع إنّما يتحقّق بدوامه.

__________________

(١) القائل هو الرازي في محصوله : ١ / ٣٤٠.

(٢) في «ج» : لما قدّره.

(٣) القائل هو الرازي في محصوله : ١ / ٣٤٠.

٧٢

الرابع : السيّد إذا نهى عبده عن فعل ، فمضت مدّة يمكنه ايقاع الفعل فيها ، ثمّ فعله صحّ ذمّه ، وحسن من السيّد عقابه والتّعليل أنّه فعل المنهيّ عنه.

وليس للعبد أن يقول : إنّك نهيتني عن الفعل وقد مضت مدّة يمكن إيقاعه فيها ولم أفعله فيها ، ولم يتناول نهيك ما بعد الوقت.

ولا يقبل العقلاء عذره بذلك.

الخامس : هاهنا مقدّمتان :

إحداهما : أنّ المنهيّ عنه ، منشأ المفسدة ، ولا يصحّ النهي عنه. (١)

والثانية : الحكم ببقاء ما كان ، على ما كان إلى أن يظهر دليل الإزالة ، ودليله ما يأتي ، من كون الاستصحاب حجّة.

ومع تسليمها فنقول : المنهيّ عنه قد ظهر أنّه منشأ مفسدة ، والأصل بقاء تلك المفسدة في جميع الأوقات ، فيتعلق النهي بالجميع.

السادس : لم يزل العلماء في جميع الأوقات يستدلّون على الدوام في النّهي.

السابع : لو لا الدّوام لما ثبت دوام تحريم الزّنا والرّبا ، وغير ذلك من المنهيّات.

والتالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.

الثامن : الاحتياط يقتضي الانتهاء دائما ، فيتعيّن العمل به ، إذ مع تركه لا يأمن ارتكاب المحظور.

__________________

(١) في «ج» : وإلّا لما صحّ النهي عنه.

٧٣

احتجّ المخالف : بأنّ النّهي قد يراد منه التكرار بالإجماع ، وقد يراد منه المرّة الواحدة ، كقول الطبيب للمريض : لا تشرب الماء ، ولا تأكل اللّحم ، والمراد في هذه الساعة.

ويقول المنجّم : لا تفصد (١) ، وليس مراده بذلك التعميم.

والحائض نهيت عن الصلاة والصوم ، وليس المراد من ذلك في كلّ الأوقات.

والاشتراك والمجاز على خلاف الأصل ، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك.

وأيضا ، يصحّ أن يقيّد بالدّوام ونقيضه ، من غير تكرار ولا تناقض في أحدهما ، فيكون موضوعا للقدر المشترك.

وأيضا ، لو كان للدّوام ، لكان عدم الدّوام في بعض الصّور على خلاف الدّليل ، وهو ممتنع.

والجوب عن الأوّل : أنّ عدم الدّوام ، إنّما يكون لقرينة حاليّة أو مقاليّة ، أمّا مع تجرّده عن القرائن ، فلا نسلّم أنّه يراد به المرّة.

والقرينة الحاليّة ثابتة فيما ذكرتم من صورة الطبيب والمنجّم ، اذ المتعارف أنّ نهيهما ليس للتكرار.

والمقاليّة ثابتة في الحائض ، لدخولها تحت الأوامر العامّة بالصّلاة والصوم.

والأصل فيه ، أنّ الطهارة لما كانت شرطا ، وقد انتفت ، انتفى التكليف ، ولهذا

__________________

(١) أي لا تعزم أمرا مثلا كالسفر وغيره.

٧٤

قلنا بالتكرار هنا أيضا ، فيجب ترك العبادة كلّما جاء الحيض ، ويدوم بدوامه ، ولو صلّت أو صامت وقت الحيض ، حسن ذمّها.

وعن الثاني : أنّ القرائن المنضمّة إلى الألفاظ ، قد تخرجها عن حقائقها ، والتأكيد مستعمل في العرف.

وعن الثالث : أنّه لو لم يكن للدّوام ، بل للمرّة ، لكان استعماله في الدّوام على خلاف الدّليل ، على أنّ الدليل قد يخالف عند قرائن تحتفّ به.

ونحن إنّما قلنا : إنّه لا يفيد التكرار ، لو وجدت قرينة صارفة له عن التكرار ، والخلاف إنّما هو في المجرّد.

تذنيب

لمّا ثبت أنّ النّهي للتكرار ، وجب أن يفيد الفور ، لاستلزام التكرار ذلك ، والقائلون بعدمه لم يوجبوا الفور فيه.

المبحث الرابع : في امتناع اجتماع الأمر والنهي

اعلم أنّ الواحد قد يكون واحدا بالنّوع ، وقد يكون واحدا بالشّخص.

أمّا الأوّل ، فيمكن توارد الأمر والنهي معا إليه ، بأن يكون أحد جزئيّاته مأمورا به ، والآخر منهيّا عنه ، لعدم التنافي بينهما.

وذلك كالسجود ، فإنّه نوع ينقسم إلى السجود لله تعالى ، وهو مأمور به ، وإلى السجود للصّنم ، فهو منهيّ عنه.

٧٥

وقد خالف في ذلك بعض المعتزلة ، وتوهّم المناقضة ، من حيث إنّ السجود نوع واحد وهو مأمور به فيستحيل أن ينهى عنه ، بل السّاجد للصّنم عاص بقصد تعظيم الصّنم ، لا بنفس السّجود. (١)

وليس بجيّد ، إذ لا تناقض مع تغاير المحلّ ، والسجود لله تعالى مغاير للسجود للصّنم ، فإنّ اختلاف الإضافات والصفات يوجب المغايرة ، والشيء لا يغاير نفسه ، وقد قال الله تعالى : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ)(٢) ثمّ أمر بالسّجود لله تعالى ، وليس المأمور به ، هو المنهيّ عنه ، ولا خلاف في عصيان الساجد للصّنم والشمس بنفس السجود والقصد معا.

وقولهم : السجود نوع واحد.

قلنا : نعم ، لكنّه منقسم بانقسام المقاصد ، فإنّ مقصود هذا السجود تعظيم الصنم ، دون الله تعالى ، واختلاف وجوه الفعل ، كاختلاف نفس الفعل في حصول الغيريّة ، المانعة من التّضاد ، فإنّ التّضاد إنّما يكون مع الإضافة إلى واحد ، ولا وحدة مع المغايرة.

وأمّا الثاني فإمّا أن يكون ذا جهة واحدة ، أو ذا جهتين.

فالأوّل ، لا خلاف في استحالة توجّه الأمر والنهي معا إليه ، إلّا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق.

__________________

(١) نقله أحمد بن إدريس المصري القرّافي في نفائس الأصول في شرح المحصول : ٢ / ٣٩٩ عن سيف الدّين عن بعض المعتزلة ، دون أنّ يعيّن القائل.

(٢) فصّلت : ٣٧.

٧٦

وأمّا الثاني ، ففيه النزاع كالصلاة في الدّار المغصوبة ، فإنّها قد اشتملت على وجهتين : إحداهما : كونها صلاة ، وأخرى : كونها غصبا وفيه النزاع :

فمنع منه جماعة الإماميّة ، والزيديّة ، والظاهريّة ، والجبائيّان ، وهو مرويّ عن مالك ، وهو اختيار فخر الدين الرّازي ، (١) وذهبوا إلى أنّ الصلاة غير واجبة ولا صحيحة ، ولا يسقط بها الفرض ، ولا عندها ، ووافقهم على ذلك القاضي أبو بكر (٢) إلّا في موضع واحد ، فإنّه قال : يسقط الفرض معها لا بها.

وهذا الّذي اخترناه ، مذهب جمهور المتكلّمين.

وقال الغزّالي (٣) ، وجماعة الأشاعرة بالجواز.

لنا : أنّ المأمور به مطلوب التحصيل ، فلا حرج في فعله ، والمنهيّ عنه مطلوب العدم ، ويتعلّق بفعله الحرج ، والجمع بينهما ممتنع.

لا يقال : إنّما يمتنع الجمع لو اتّحد الوجه ، أمّا مع تعدّده ، كالصلاة في الدار المغصوبة ، حيث كان لها جهتا صلاة وغصب ، وكلّ واحد منهما يصحّ انفكاكه عن الأخرى ، فلا استبعاد في الأمر بها من حيث إنّها صلاة ، والنّهي من حيث إنّها غصب ، كما لو قال السيّد لعبده : «خط [هذا] الثوب ولا تدخل الدّار» فخاط الثوب في الدار فإنّه يكون ممتثلا لأمر الخياطة ، عاصيا لنهي الدخول ، واستحقّ العقوبة بأحد الاعتبارين ، والإحسان بالآخر ، كذا الصّلاة هنا اشتملت على أمرين :

أحدهما مطلوب الوجود ، والآخر مطلوب العدم.

__________________

(١) المحصول في علم الأصول : ١ / ٣٤٠ ـ ٣٤١.

(٢) لاحظ التقريب والإرشاد : ٢ / ٣٦٠.

(٣) المستصفى : ٢ / ١٠١.

٧٧

ويعارض : بأنّ الصّلاة في الدّار المغصوبة صلاة ، لأنّها صلاة خاصّة بكيفيّة مخصوصة ، وثبوت المقيّد يقتضي ثبوت المطلق.

والصّلاة مأمورا بها ، لقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ.)(١)

لأنّا نقول : متعلّق الأمر والنّهي إن اتّحد ، لزم تكليف ما لا يطاق ، والخصم يسلّم أنّه ليس من هذا الباب ، وإن تغايرا ، فإن تلازما ، كان كلّ منهما من ضروريّات (٢) الآخر ، والأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ ذلك الشيء إلّا به ، ويعود المحذور ، وهو كون متعلّق الأمر والنّهي واحدا.

وإن لم يتلازما ، صحّ تعلّقها بهما إجماعا ، وهو غير صورة النّزاع.

لا يقال : يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر في الحكم ، إلّا أنّهما في الصورة المعيّنة يتلازمان.

لأنّا نقول : فيكون المأمور به في [هذه] الصورة الخاصّة منهيّا عنه ، وهو محال.

وامّا الصلاة في الدار المغصوبة ، فإنّها باطلة ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، والتالي باطل إجماعا ، إلّا عند من جوّز التكليف بالمحال ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الصلاة مركّبة من أمور :

أحدها : الحركة ، والسّكون ، وهما مشتركان في حقيقة الكون ، أعني الحصول في الحيّز وشغله ، وهذا الشغل منهيّ عنه ، فأحد أجزاء هذه الصّلاة

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

(٢) في «ب» : من ضرورات.

٧٨

منهيّ عنه ، فيستحيل أن تكون هذه الصّلاة مأمورا بها ، لاستلزام الأمر بالمركّب ، الأمر بأجزائه ، فيكون هذا الجزء ، مأمورا به ، منهيّا عنه.

والصلاة ، والغصب وإن تغايرا ، لكنّ مطلق الشّغل الحيّز ، جزء ماهيّة مطلق الصّلاة ، والشغل المعيّن جزء ماهيّة الصّلاة المعيّنة ، وهذا الشغل المعيّن ، منهيّ عنه ، فجزء ماهيّة هذه الصّلاة منهيّ عنه ، فهذه الصلاة لا تكون مأمورا بها.

نعم الصّلاة مطلقا مأمورا بها ، ولا نزاع فيه ، بل في هذه الصّلاة.

قيل عليه (١) : «لا نزاع في انّ الفعل المعيّن إذا أمر به بعينه لا ينهى عنه ، إنّما النزاع في الفعل المعيّن إذا كان فردا من أفراد الفعل المأمور به هل ينهى عنه ، وما نفيتموه جوازه ظاهر إذ عندكم الأمر بالماهيّة ليس أمرا بشيء من أفرادها ، ولأنّه لو امتنع ذلك ، لامتنع النهي عن فعل ما ، لأنّ نفس الفعل مأمور به ، لكونه جزءا من الفعل المأمور به ، وكلّ منهيّ عنه فرد من أفراد نفس الفعل».

وبين الصّلاة في الدار المغصوبة ، والمثال الّذي ذكروه فرق ، فإنّ الخياطة غير الدخول ، ولا تلازم بينهما ، فلهذا صحّ اجتماع الأمر والنّهي ، والصلاة المأمور بها ليس المطلق ، بل الواقعة على الوجه المطلوب شرعا ، بأن تستجمع شرائطه ، ولهذا لا يصحّ أن نقول : الصلاة بغير طهارة صلاة ، والصلاة مأمور بها.

__________________

(١) القائل هو سراج الدّين محمود بن أبي بكر الارموي المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍. في التحصيل من المحصول : ١ / ٣٣٥.

٧٩

احتج المخالف بوجوه :

الأوّل : قد كرهت الصلاة في الأماكن المخصوصة ، والأوقات المخصوصة ، وكما يتضادّ الوجوب والتحريم ، كذا يتضادّ الوجوب والكراهة.

الثاني : لو لم تصحّ الصّلاة في الدار المغصوبة ، لما سقط التكليف ، والتالي باطل بالإجماع فإنّ أحدا من العلماء لم يأمر الظلمة بقضاء صلواتهم في الأماكن المغصوبة ، فالمقدّم مثله.

والشرطيّة ظاهرة ، فإنّ الباطل غير مسقط للفرض.

الثالث : لو لم تصحّ الصّلاة ، لكان البطلان لاتّحاد متعلّق الأمر والنهي ، إذ لا مانع سواه إجماعا ، ولا اتّحاد ، فإنّ الأمر بالصّلاة ، والنّهي عن الغصب ، واختيار المكلّف جمعهما لا يخرجهما عن حقيقتهما ، وهو التّغاير وعدم التلازم.

والجواب عن الأوّل : أنّ متعلّق الأحكام إن اتّحد ، منعنا التكليف بمثل هذه الصورة ، وإن تغاير لم يفد ، لرجوع النهي إلى وصف منفكّ ، مثل التعرّض لنفار الإبل في الصّلاة في المعاطن ، (١) ولسيل الوادي في الصلاة في الوادي ، وللتعرّض للرّشاش في الحمام ، وغير ذلك من النظائر.

وعن الثاني : بمنع الإجماع على سقوط القضاء ، فإنّ الإماميّة أجمع ، أوجبوا قضاءها ، وهو مذهب أحمد بن حنبل ، وجماعة من الفقهاء ، ولو كان ذلك إجماعا ، لما خفي عنهم.

__________________

(١) العطن : مبرك الإبل ومربض الغنم عند الماء. المعجم الوسيط.

٨٠