نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

صنف ، فجوّزوا الاقتصار على البعض نظرا إلى أن مقصود الآية إنّما هو رفع الحاجة في جهة من الجهات المذكورة ، لا رفع الحاجة عن الكلّ.

واستبعده الشافعي ، لأنّه تعالى أضاف الصدقة إليهم بلام التمليك وعطف بواو التشريك البعض على البعض ، وما استنبط من هذا الحكم من العلّة يكون رافعا لحكم المستنبط منه ، فيكون باطلا ، وكون الآية لبيان المصرف وشروط الاستحقاق لا ينافي ما قلناه ، لجواز كونه مقصودا ، وكون الاستحقاق بصفة التشريك مقصودا ، وهو الأولى ، موافقة لظاهر الإضافة والعطف ، والصرف إلى واحد إبطال. (١)

والجواب : أنّ سياق الآية يدلّ على ما قلناه ، لأنّ الله تعالى ذكر حال قوم يلمزون في الصّدقات بقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ)(٢) الآية ، ويقولون : إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطي الصدقات من أحبّ ، فإن أعطاهم كثيرا رضوا وإن منعهم سخطوا ، فإنّ الله تعالى ردّ عليهم بقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا)(٣) وذكر أنّ فعل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقّ ، لأنّه يعطيها المستحقّين ومن حصلت فيه الشرائط في قوله (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ)(٤) ثم عدّ شروط الاستحقاق ليبيّن مصرف الزكاة ، ومن يجوز صرفها إليه ، ليقطع طمعهم في الزكاة ، مع خلّوهم عن شرائط الاستحقاق.

ثمّ في قوله : «لا منافاة بين كون الآية لبيان المصرف وشرائط الاستحقاق

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ٤٠.

(٢) التوبة : ٥٨.

(٣) التوبة : ٥٩.

(٤) التوبة : ٦٠.

٥٠١

وبين ما قلناه» نظر ، للتنافي بينهما ، فإنّ الأوّل لا يقتضي التشريك بخلاف ما قالوه.

المسألة الرابعة

قوله تعالى : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً)(١) جاز على ظاهره ، من وجوب إطعام هذا العدد ، غير متأوّل عند علمائنا ، وهو مذهب الشافعي ، للأصل الدالّ على جريان الألفاظ الظاهرة على معانيها الّتي هي ظاهرة بالنسبة إليها.

وقالت الحنفيّة : إنّه متأوّل ، وتقديره فإطعام طعام ستّين مسكينا ، فلم يوجبوا العدد ، إذ المقصود هو دفع الحاجة ، ولا فرق بين دفع حاجة ستّين مسكينا يوما واحدا ، وبين دفع حاجة مسكين واحد ستّين يوما. (٢)

وهو غلط لوجهين :

أمّا أوّلا : فلأنّ قوله : (فَإِطْعامُ) يستدعي مفعولا ، وقوله (مِسْكِيناً) صالح له ، ويمكن الاستغناء به مع ظهوره.

والطّعام وإن كان صالحا للمفعوليّة (٣) إلّا انّه مسكوت عنه غير ظاهر ، فتقدير حذف المظهر ، وإظهار المفعول المسكوت عنه بعيد في اللّغة ، بل الواجب عكسه.

__________________

(١) المجادلة : ٤.

(٢) نقله الآمدي في الإحكام : ٣ / ٤٠ ؛ والغزّالي في المستصفى : ٢ / ٥٥ ـ ٥٦.

(٣) أي مفعول الإطعام.

٥٠٢

وإذا كان هذا ظاهرا في وجوب رعاية العدد ، فما (١) استنبط منه ، يكون موجبا لرفعه ، فكان ممتنعا.

وأمّا ثانيا : فلأنّا نمنع كون دفع الحاجة هي كلّ المقصود ، إذ لا استبعاد في أن يقصد الشارع رعاية العدد واجبا ستّين مهجة ، تبرّكا بدعائهم ، فإنّه قلّ أن يخلو مثل هذا الجمع من وليّ الله تعالى يغتنم دعاؤه ، ويعود نفعه إلى المكفّر ، وقلّ ما يحتمل (٢) مثل ذلك في الواحد.

المسألة الخامسة

قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)(٣) جار على ظاهره ، غير متأوّل عند علمائنا ، ومقتضاه عطف الأرجل على الرءوس ، فيشتركان في الحكم من المسح.

وتأوّله الجمهور بالغسل ، وهو في غاية البعد ، لما فيه من ترك العمل بما اقتضاه ظاهر العطف من التشريك بين الرءوس والأرجل في المسح من غير ضرورة.

احتجّوا : بأنّ العطف إنّما هو على «الوجوه» و «اليدين» لأنّ قوله : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قدر المأمور به إلى الكعبين كما قدر غسل اليدين إلى المرفقين ، ولو

__________________

(١) في «ب» و «ج» : ممّا.

(٢) في بعض النسخ : قلّ ما يحصل.

(٣) المائدة : ٦.

٥٠٣

كان الواجب هو المسح لما كان مقدّرا كالرأس.

وللقراءة بالنصب وقراءة الجرّ متأوّلة بالمجاورة.

سلّمنا العطف على الرءوس ، لكن لا يجب الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في تفاصيل حكم المعطوف عليه ، بل في أصله ، ولمّا كان الغسل والمسح قد اشتركا في أنّ كلّا منهما قد اشتمل على إمساس العضو بالماء ، كفى في صحّة العطف كما في قوله :

ولقد رأيتك في الوغا

متقلّدا سيفا ورمحا (١)

والرمح لا يتقلّد به ، بل لما شارك السّيف في أصل الحمل صحّ العطف وكذا قوله :

علّفتها تبنا وماء باردا

[حتّى شتت همّالة عيناها](٢)

مع أنّ الماء لا يعلف لكنّه شارك في التناول. (٣)

والجواب : العطف على البعيد إنّما يستعمل مع الضرورة ، ولا ضرورة هنا ، والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة لا تعلّق لهما بها من أقبح الأشياء ، فإنّ قولنا : «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم» جار على قانون اللّغة واستعمال الفصحاء ، بخلاف ما لو قدّم المسح على قوله «وأرجلكم» مع إرادة الغسل.

__________________

(١) لم نعثر على قائله.

(٢) لم يسمّ قائله.

(٣) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ٤٣ ـ ٤٤.

٥٠٤

والتقدير بالكعبين ، غير مانع من العطف على الرءوس غير المقدّرة ، كما في اليدين مع الوجوه ، وأيّ دلالة في ذلك؟

وحمل قراءة النّصب بالعطف على الموضع أولى من حمل قراءة الجرّ على المجاورة ، لوجوه :

الأوّل : اتّفاق أهل اللسان على التسوية بين العطف على اللّفظ وعلى الموضع ، بخلاف الجرّ بالمجاورة ، فإنّه شاذّ نادر منحصر في ألفاظ قليلة شاذّة.

الثاني : الجرّ بالمجاورة إنّما ورد لا مع الفاصل ، كما في قوله :

 ..................

كبير أناس في بجاد مزّمل (١)

فإنّه وصف لكبير ، فيكون مرفوعا ، لكن جرّ بالمجاورة ، وكذا [في النثر] «جحر ضبّ خرب» و «ماء شنّ بارد» ولم يرد مع الفاصل في الشعر والنثر ، فلا يجوز حمل الآية على ما لم يستعمل في اللّغة البتّة.

الثالث : منع الزجاج (٢) من الجرّ بالمجاورة في القرآن ، وقال : إنّه لم يرد به الكتاب العزيز ، وهو يدلّ على شذوذه في اللّغة.

وأجمع اللغويّون على التشريك في الحكم بين المعطوف بالواو والمعطوف عليه في الحكم الثابت للمعطوف إلّا ما خرج بدليل.

__________________

(١) البيت لامرئ القيس في ديوانه : ١١٩ ، وصدره :

كأن ثبيراً في عرانين وبله

كبير انُاس في بجاد مزمل

 (٢) هو إبراهيم بن السريّ بن سهل ، أبو اسحاق الزجاج عالم بالنحو واللّغة وله مناقشات مع ثعلب وغيره ، مات في بغداد سنة ٣١١ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ١ / ٤٠.

٥٠٥

على أنّا نمنع نصب «رمح» بالعطف على «سيف» وعطف «الماء» على «التّبن» بل انتصبا بعامل محذوف دلّ اللّفظ عليه ، وهو «وحاملا» رمحا «وسقيتها» ماء باردا.

المسألة السادسة

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها ، فنكاحها باطل باطل باطل» (١) لو ثبت عند علمائنا ، لكان متأوّلا ، وبه قال أبو حنيفة وتأوّلوه بأمور :

الأوّل : الصغيرة.

الثاني : الأمة والمكاتبة.

الثالث : أراد بالبطلان أنّه يئول إليه عند اعتراض الأولياء لها إذا زوّجت نفسها من غير كفو عند بعضهم.

ومنعه الشافعي وأجراه على عمومه ، أمّا أوّلا ، فلأنّه صدّر الكلام بأيّ ، وهي من كلمات الشرط العامة.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه أكّده فقال : «أيّما» وهي من المؤكّدات المستقلّة بإفادة العموم أيضا.

وأمّا ثالثا ، فلأنّه قال : «فنكاحها باطل» رتّب الحكم على الشرط في معرض الجزاء ، وذلك أيضا يؤكّد قصد العموم.

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٤٧ و ٦٦ و ١٦٦.

٥٠٦

وأمّا رابعا ، فلأنّه أكّد البطلان بذكره «ثلاثا» (١).

وفيه نظر ، إذ لا مدخل لهذا التأكيد في إرادة العموم.

قالوا : ولا يمكن حمله على الصغيرة ، لأنّه حكم بالبطلان ، وعقد الصغيرة من دون إذن الوليّ موقوف على إجازة الوليّ ، ولا على الأمة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإن مسّها فلها المهر بما استحلّ من فرجها» (٢) ولا مهر للأمة بل لسيّدها ، ولا على المكاتبة ، لأنّها بالنسبة إلى جنس النساء نادرة.

ولفظ «أيّما امرأة» من أقوى صيغ العموم ومن القبيح في لغة العرب إطلاق اللفظ العامّ على النّادر جدّا.

ونمنع صحّة الاستثناء بحيث لا يبقى إلّا الأقلّ النادر من المستثنى عنه.

وحمل البطلان على الضّرورة إليه بعيد أيضا ، لأنّ مصير العقد إلى البطلان نادر ، والتعبير باسم الشّيء عمّا يؤول إليه إنّما يصحّ ، إذا كان المآل إليه قطعا ، كما في تسمية العصير خمرا.

ولأنّ قوله : «فإن أصابها فلها المهر بما استحلّ من فرجها» يعطي فساد العقد ، فإنّه لو كان صحيحا لكان المهر بالعقد لا بالاستحلال. (٣)

وفيه نظر ، إذ يمكن الجواب بأنّ قوله : «بدون إذن وليّها» يعطي ثبوت الولاية عليها ، وهو ظاهر في الصغيرة والأمة والمكاتبة حينئذ ، والمهر وإن كان

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ٤٠ ؛ والغزالي في المستصفى : ٢ / ٥٧.

(٢) كنز العمّال : ١٦ / ٥٠٨ ، برقم ٤٥٦٦٥ ؛ وسنن البيهقي : ٧ / ٢١٥.

(٣) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ٤١.

٥٠٧

للسيّد ، فإنّه لمّا كان بواسطة الأمة صحّ إضافته إليها ، فقد يضاف الشيء إلى غيره بأدنى ملابسة ، كما يقال لأحد حاملي الخشبة : خذ طرفك.

ومعنى البطلان (١) : عدم ترتّب الحكم عليه ، ونكاح الصغيرة والمكاتبة والأمة لمّا كان موقوفا على إذن الوليّ ، لم يترتّب عليه بانفراده حكم ، فكان كالباطل.

المسألة السابعة

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صيام لمن لم يبيّت الصّيام من الليل» (٢) حمله أبو حنيفة على القضاء والنذر. (٣)

ومنعه الباقون ، لأنّه نفي دخل على نكرة ، فيكون للعموم ، ولا يسبق منه إلى الفهم إلّا الصوم الأصليّ الشرعيّ ، وهو الفرض أو التطوّع ، والتطوّع غير مراد ، فلم يبق إلّا الفرض الّذي هو ركن في الدّين ، وهو صوم رمضان.

فأمّا القضاء والنذر فإنّما يجبان بأسباب عارضة فكانا كالنّادر ، لا يفهم من إطلاق الصوم ، كما لا يفهم من قوله : «أكرم أقربائي» أقارب السبب دون النسب لندوره.

__________________

(١) في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فنكاحها باطل».

(٢) تقدّم تخريج الحديث ص ٤١٠.

(٣) نقله الآمدي في الإحكام : ٣ / ٤١ ؛ والغزّالي في المستصفى : ٢ / ٥٩.

٥٠٨

المسألة الثامنة

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ملك ذا رحم محرم عتق عليه» (١) قال بعض الشافعية : إنّه محمول على الأب ، وأنكره الباقون ، لأنّ ظهور وروده لتأسيس قاعدة ، وتمهيد أصل في سياق الشرط والجزاء ، والتنبيه على حرمة الرحم ، قويّ الظهور في قصد التعميم لكلّ ذي رحم محرم ، وذلك يمنع من التأويل بالحمل على الأب دون غيره ، لامتيازه بكونه على عمود النسب عمن هو على حاشيته من الأرحام ، وهو يوجب اختصاصه بالتنصيص عليه ، إظهارا لشرف قربه ، فلو كان القصد الأب دون غيره ، لما عدل عن التنصيص عليه الى ما يعمّه وغيره ، لما فيه من إسقاط حرمته ، فإنّه لو قال لعبده : «أكرم النّاس» وقصد أبويه خاصّة ، كان مستهجنا.

ولأنّه يلزم منه الالتباس.

المسألة التاسعة

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى)(٢) تأوّل علماؤنا ذي القربى بالإمام خاصّة القائم مقام الرسول بعده ، لنقل وارد عن الأئمّةعليهم‌السلام.

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٤٣ برقم ٢٥٢٤ ـ ٢٥٢٥ ؛ وسنن الترمذي : ٣ / ٦٤٦ برقم ١٣٦٥ ؛ وسنن أبي داود : ٤ / ٢٦ برقم ٣٩٤٩.

(٢) الأنفال : ٤١.

٥٠٩

وقال أبو حنيفة : المراد به من كان محتاجا من ذي القربى ، فاعتبر الحاجة مع القرابة ، ثمّ جوّز حرمان ذوي القربى مع انتفاء الحاجة. (١)

وقال أصحاب الشافعي : هذا التخصيص باطل لا يحتمله اللفظ ، لأنّه أضاف المال إليهم بلام التمليك ، وعرّف كلّ جهة بصفة ، وعرّف هذه الجهة في الاستحقاق بالقرابة.

وأبو حنيفة ألغى القرابة المذكورة ، واعتبر الحاجة المتروكة ، وهو مناقضة للفظ ، لا تأويل له. (٢)

ويمنع التناقض ، لأنّه نوع تخصيص بالقرينة ، فإنّ ذكره في إعطاء المال مقارنا للمساكين ، يدلّ على اعتبار الحاجة.

المسألة العاشرة

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر» (٣) ذهب بعض الفقهاء (٤) إلى أنّه لا يحتجّ به في إيجاب العشر من الخضراوات ، لأنّ المقصود منه الفرق بين العشر ونصفه ، لا بيان ما يجب فيه العشر حتّى يتعلّق بعمومه.

__________________

(١) نقله الآمدي في الإحكام : ٣ / ٤٢ ؛ والغزّالي في المستصفى : ٢ / ٥٩.

(٢) لاحظ المستصفى : ٢ / ٥٩.

(٣) تقدم تخريج الحديث ص ٢٩٠.

(٤) نقله الآمدي في الإحكام عن قوم ، لاحظ الإحكام : ٣ / ٤٣ ؛ والمستصفى : ٢ / ٥٨.

٥١٠

وليس بصحيح ، لأنّ الصيغة للعموم ، فإن أخرج منه فلدليل آخر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس في الخضراوات صدقة» (١) لا تفصيل ما يجب ، لاحتمال أن يكون كلّ منهما مقصودا ، لإمكان الجمع بينهما.

* * *

__________________

(١) لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٤٨٣ ، قسم المتن.

٥١١

الباب الثالث :

في المنطوق والمفهوم

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل :

في الماهيّة

قال بعضهم : «المنطوق ما فهم من اللفظ في محلّ النطق» (١) وهو مع أنّه دائر منقوض بدلالة الاقتضاء ، فإنّ الأحكام المضمرة فيها مفهومة من اللفظ في محل النطق ، مع أنّه لا يقال فيها : إنّها دلالة المنطوق.

واحترز بعضهم عن الثاني بأن قال (٢) : «المنطوق ما فهم من دلالة اللّفظ قطعا في محل النطق» كما في وجوب الزكاة المفهوم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في

__________________

(١) نقله الآمدي في الإحكام عن بعض ولم يسمّ قائله. لاحظ الإحكام : ٣ / ٤٦.

(٢) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٤٦.

٥١٢

الغنم السائمة زكاة (١) ، وكتحريم التأفيف في قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(٢).

والوجه أن يقال : المنطوق هو ما دلّ اللّفظ عليه بصريحه دلالة أوّليّة.

والمفهوم قيل (٣) : «هو ما فهم من اللفظ في غير محل النطق ، وهو دائر ، ويمكن الجواب : بأنّ المفهوم المحدود غير المأخوذ في الحدّ ، فانّ المأخوذ في الحدّ هو الفهم بالمعنى المتعارف عند الناس.

المبحث الثاني :

في الأقسام

دلالة غير المنظوم ـ وهو ما دلالته لا بصريح صيغته ووضعه ـ إمّا أن يكون مدلوله مقصودا للمتكلّم أو لا.

والأوّل : إمّا أن يتوقّف صدق المتكلّم أو صحّة الملفوظ به ، عليه ، أو لا ، ويسمّى الأوّل دلالة الاقتضاء.

والثاني ، إمّا أن يكون مفهوما في محلّ تناوله اللّفظ نطقا ، ويسمّى دلالة

__________________

(١) تقدّم تخريج الحديث ص ٣٣٧.

(٢) الإسراء : ٢٣.

(٣) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٤٦.

٥١٣

التنبيه والإيماء ، أو لا يكون فيه ، ويسمّى دلالة المفهوم.

وإن كان مدلوله غير مقصود للمتكلّم ، فدلالة اللّفظ عليه تسمّى دلالة الإشارة.

فالاقسام أربعة :

الأوّل : دلالة الاقتضاء ، وهي ما كان المدلول فيه مضمرا ، إمّا لضرورة صدق المتكلّم ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (١) وقوله : «لا صيام لمن لم يبيّت الصّيام من الليل» (٢) وقوله : «لا عمل إلّا بنية» (٣) فإنّه لا بدّ من إضمار حكم يرد النفي عليه ، كنفي المؤاخذة في الأوّل ، والصحّة في الثاني ، والفائدة في الثالث.

وإمّا لصحّة وقوع الملفوظ به ، إمّا عقلا ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٤) أو شرعا ، مثل «اعتق عبدك عنّي» (٥).

الثاني : دلالة التنبيه والايماء ، وسيأتي في باب القياس.

الثالث : دلالة الإشارة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «النساء ناقصات عقل ودين» فقيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما نقصان دينهنّ؟ قال : «تمكث إحداهنّ في قعر بيتها شطر

__________________

(١) تقدّم تخريج الحديث ص ١٨٥.

(٢) تقدّم تخريج الحديث ص ٤١٠.

(٣) تقدّم تخريج الحديث ص ٤١٠.

(٤) يوسف : ٨٢.

(٥) فإن العتق فرع سبق الملك ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا عتق إلّا في ملك».

٥١٤

دهرها لا تصلّي ولا تصوم» (١) فهذا الخبر سيق لبيان نقص دينهنّ ، لا لبيان أكثر الحيض وأقلّ الطهر ، ومع ذلك لزم منه تساوي أيّامها ، فإنّه لو كان زمان الحيض يزيد على أقلّ الطهر لذكره ، لأنّه ذكر شطر الدهر ، مبالغة في بيان نقص دينهنّ.

وكذا قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(٢) وقال : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ)(٣). (٤)

الرابع : المفهوم ، وهو قسمان :

مفهوم الموافقة ، وهو أن يكون الحكم في محل السكوت موافقا له في محل النطق ، ويسمّى أيضا فحوى الخطاب ، ولحن الخطاب ، أي معناه ، كقوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)(٥) أي [في] معناه ، كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب ، وكقوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ

__________________

(١) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الحيض ، باب ترك الحائض الصوم برقم ٣٠٤ ؛ وصحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات برقم ١٤٥ ؛ ونقله الآمدي في الإحكام : ٣ / ٤٥ ؛ والغزالي في المستصفى : ٢ / ١٩٤.

(٢) الأحقاف : ١٥.

(٣) لقمان : ١٤.

(٤) فإذا كانت مدّة الحمل والرضاع ثلاثين شهرا ، وكانت مدّة الرضاع حولين كاملين ، يكون أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر.

(٥) محمّد : ٣٠.

٥١٥

لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ)(١) فإنّ كلّا منهما (٢) يدلّ على أولويّة حكمه في الآخر.

والحكم هنا في محلّ السكوت أولى منه في محلّ النّطق ، وإنّما يكون كذلك إن لو عرف المقصود من الحكم في محلّ النطق من سياق الكلام ، وعرف أنّه أشدّ مناسبة واقتضاء للحكم في محلّ السّكوت من اقتضائه في محلّ النطق ، كما في آية تحريم التأفيف (٣) حيث عرف أنّ القصد كفّ الأذى عن الأبوين ، وأنّ أذى الضّرب أشدّ ، فكان بالتحريم أولى.

ولو قطع النظر عن ذلك لم يجب التّعدية فانّ الملك قد يأمر بقتل والده إذا عرف أنّه ينازعه في الملك ، وينهى عن التأفيف ، حيث لم يندفع محذور المنازعة بالثاني بل بالأوّل ، فلا يجب حينئذ من إباحة أشدّ المحذورين إباحة أضعفهما ، ولا من تحريم الأضعف تحريم الأشدّ.

الثاني : مفهوم المخالفة ، وهو ما يكون الحكم في محلّ السكوت مخالفا له في محلّ النطق ، ويسمّى دليل الخطاب ، وأصنافه عشرة :

الأوّل : تقييد المطلق بالوصف ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في الغنم السائمة زكاة. (٤)

الثاني : مفهوم الشرط ، مثل : إن دخل أكرمه.

__________________

(١) آل عمران : ٧٥.

(٢) في «أ» : منها.

(٣) قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) الإسراء : ٢٣.

(٤) تقدّم تخريج الحديث ص ٣٣٧.

٥١٦

الثالث : مفهوم الغاية [كقوله تعالى] : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١).

الرابع : مفهوم «إنّما» ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما الأعمال بالنيات. (٢)

الخامس : التخصيص بالأوصاف التي تطرأ وتزول بالذكر ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في السائمة زكاة.

السادس : مفهوم اللّقب ، كتخصيص الأشياء الستّة في الذكر بتحريم الربا.

السابع : مفهوم الاسم المشتق الدالّ على الجنس ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تبيعوا الطعام بالطعام» (٣) ، وهو قريب من مفهوم اللّقب.

الثامن : مفهوم الاستثناء : لا عالم في البلد إلّا زيد.

التاسع : تعليق الحكم بعدد خاصّ ، كتخصيص حدّ الزاني بمائة.

العاشر : مفهوم حصر المبتدأ في الخبر : العالم زيد وصديقي وعمرو.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

(٢) تقدّم تخريج الحديث ص ٤١١.

(٣) لاحظ مستدرك الوسائل : ١٣ / ٢٤٤ ، الباب ١٦ من أبواب عقد البيع ، الحديث ١.

٥١٧

المبحث الثالث :

في أنّ مفهوم الموافقة حجّة

اتّفق العلماء عليه ، خلافا لداود الظاهري (١) لأنّ اللّفظ يدلّ عليه دلالة ظاهرة بل قطعيّة ، فإنّ السّيد لو قال لعبده : لا تظلم أحدا ب [مثقال] حبّة ، فهم كلّ عاقل منعه عن الظلم بأزيد منها ، وكذا لو قال : لا تقل له أفّ ، فهم منه تحريم ضربه ، وكما أنّ ذلك حجّة في تحريم الظلم بحبّة والتأفيف ، لدلالة اللفظ عليه ، فكونه حجّة في تحريم الظلم بأزيد والضرب أولى ، لقوّة الدلالة فيهما ، والمنكر لذلك مكابر.

نعم اختلف القائلون بكونه حجّة ، في أنّه حجّة من باب القياس ، أو من فحوى اللفظ؟

والحقّ الثاني ، لوجوه :

__________________

(١) هو داود بن علي بن خلف الأصبهاني البغداديّ المعروف بالظاهري (٢٠٢ ـ ٢٧٠ ه‍) أوّل من أظهر انتحال الظاهر ، سمّي بالظاهري لأخذه بظاهر الكتاب والسنّة ، فالمصدر الفقهي عندهم هو النّصوص ، وإذا لم يكن النّصّ موجودا أخذوا بالإباحة الأصلية ، وقد انقرض المذهب الظاهري بابن حزم الاندلسي (٣٨٤ ـ ٤٥٦ ه‍) فهو آخر فقيه انتحل هذا المذهب. ومن أراد التفصيل فعليه أن يرجع إلى بحوث في الملل والنحل : ٣ / ١٥٧.

٥١٨

الأوّل : العرب وضعت هذه الألفاظ للمبالغة في تأكيد ثبوت الحكم في محلّ السكوت ، وهو أفصح من التصريح ، وكما أنّ دلالة اللّفظ في محلّ التصريح لفظيّة باعتبار فهمه منه ، فهنا أولى ، فإنّ دلالة قولنا : فلان يؤمن على ألف قنطار على أنّه يؤمن على دينار أقوى من قولنا : إنّه يؤمن على دينار.

الثاني : لا يشترط في القياس كون المعنى المناسب للحكم في الفرع ، أشدّ مناسبة من حكم الأصل إجماعا ، وشرط هذا النوع ، الأشديّة ، فلا يكون قياسا.

الثالث : الأصل في القياس يمتنع اندراجه في الفرع ، وكونه جزءا منه إجماعا وهذا النوع من الاستدلال قد يكون ممّا يتوهم أنّه أصل فيه جزء مما يتوهم أنّه فرع ، كما لو نهاه عن إعطاء حبّة ، فإنّه يدلّ على امتناع إعطاء دينار فما زاد ، والحبّة داخلة فيه.

الرابع : كلّ من خالف في القياس أثبت هذا النوع حجّة عدا داود الظاهري ، ولو كان قياسا ، لوقع فيه الخلاف.

الخامس : أنّا نقطع بالتّعدية قبل شرع القياس ، فلا يكون منه.

احتجّ الآخرون : بأنّا لو قطعنا النظر عن المعنى الّذي سيق له الكلام من كفّ الأذى عن الأبوين ، وعن كونه في الشتم والضرب ، أشدّ منه في التأفيف ، لما حكم بتحريم الشتم والضرب إجماعا ، فالتأفيف أصل ، والضرب فرع ، ورفع الأذى علّة ، والتحريم حكم ، ولا معنى للقياس إلّا الجامع لهذه الأربعة ، وسمّوه

٥١٩

قياسا جليّا ، لأنّ الوصف الجامع بين الأصل والفرع ثابت بالتأثير (١).

والجواب : كون المعنى ثابتا ، وكونه أولى في محل السكوت ، شرط تحقّق الفحوى ، فلا يجب أن يكون قياسا ، ولا مناقضة بين تحقّق المعنى والفحوى.

واعلم أنّ هذا النوع من المفهوم ، ينقسم إلى قطعيّ وإلى ظنيّ.

فالأوّل : ما علم فيه المعنى المقصود ، وأولويّته في محلّ السكوت ، كآية التأفيف.

والثاني : ما كان أحد هذين ظنيّا كقوله تعالى في كفّارة قتل الخطأ : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)(٢) فإنّه وإن دلّ على وجوب الكفّارة في قتل العمد ، لأنّه أولى بالمؤاخذة ، إلّا أنّه ليس قطعيّا ، لإمكان أن لا تكون علّة التكفير في الخطأ المؤاخذة ، وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان (٣) والمراد به رفع المؤاخذة ، بل نظرا للخاطئ بإيجاب ما يكفّر ذنبه في تقصيره ، ولهذا سمّيت كفّارة ، وجناية العمد فوق جناية الخطأ ، ولا يلزم من كون الكفّارة مسقطة لإثم أضعف الذّنبين أن تكون مسقطة لإثم أقواهما.

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٣ / ٤٨.

(٢) النساء : ٩٢.

(٣) تقدّم تخريج الحديث ص ١٨٥.

٥٢٠