نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-238-2
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٥٦

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)

التوبة : (١٢٢)

٥
٦

(مقدّمة المشرف :

آية الله جعفر السبحاني

بسم الله الرّحمن الرّحيم

إجماع العترة الطاهرة

يعدّ كتاب «نهاية الوصول إلى علم الأصول» موسوعة أصولية تتكفّل ببيان القواعد الأصولية الّتي يبتني عليها استنباط الأحكام الشرعية ، وقد نهج مؤلفه رحمه‌الله في ترصيف هذا الكتاب المنهج المقارن ، فلذلك نجده يعرض آراء الأصوليّين من مختلف المذاهب الإسلامية ويذكر أدلّتهم في مسألة واحدة ثم يقضي ويبرم ويخرج بالنتيجة المطلوبة ، وقلّما تجد مثيلا لهذا الكتاب بين المؤلّفات الأصولية ، إذ يسلك أغلب الأصوليّين منهجا خاصّا يوافق مذهب إمامه ومتبنّياته.

ومن المسائل الأصولية الهامّة الّتي وردت في هذا الجزء : مسألة الإجماع محصّله ومنقوله وما تبتني عليه حجّية الاتفاق ، وقد أغرق المصنّف نزعا في التحقيق فلم يبق في القوس منزعا.

٧

ومن العناوين الطرّة في هذا الفصل الّتي ألفتت نظري هو إجماع العترة الّذي غفل عنه أكثر الأصوليين ، إلّا نجم الدين الطوفي ، فقد عدّه من مصادر التشريع الإسلامي في رسالته (١).

ويا للعجب أنّ بعض الأصوليّين يعدّون إجماع أهل المدينة ، بل إجماع أهل الكوفة وإجماع الخلفاء من مصادر التشريع ، بل ربّما يعدّون ما هو أنزل من ذلك كقول الصحابي ، ولكن لا يذكرون شيئا عن إجماع العترة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا!!

ومع ذلك كلّه فقد اختصر المؤلّف الكلام في هذا البحث ، على الرغم من ضرورة التفصيل فيه حتّى يتّضح الحق بأجلى صوره ، ولذلك رأينا أن نذكر في تقديمنا هذا شيئا ممّا يرجع إلى حجّية أقوال العترة الطاهرة فضلا عن إجماعهم ، وذلك بالبيان التالي :

إجماع العترة (٢)

كلّ من كتب في تاريخ الفقه الإسلامي وتعرض لمنابع الفقه والأحكام غفل عن ذكر أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وحجّية أقوالهم فضلا عن حجّية اتّفاقهم ، وذلك بعين الله بخس لحقوقهم ، وحيث إنّ المقام يقتضي الاختصار نستعرض المهم من الأدلّة الدالّة على حجّية أقوالهم فضلا عن اتّفاقهم على

__________________

(١) رسالة الطوفي كما في كتاب : «مصادر التشريع الإسلامي» لعبد الوهاب خلّاف : ١٠٩.

(٢) وهو نفس تعبير الطوفي في رسالته ، وإلّا فالحجّة عندنا قول أحد العترة فضلا عن إجماعهم.

٨

حكم من الأحكام ، كقوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(١).

والاستدلال بالآية على عصمة أهل البيت ، وبالتالي حجّية أقوالهم رهن أمور :

الأوّل : الإرادة في الآية إرادة تكوينية لا تشريعية ، والفرق بين الإرادتين واضحة ، فإنّ إرادة التطهير بصورة التقنين تعلّقت بعامّة المكلّفين من غير اختصاص بأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، كما قال سبحانه : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)(٢).

فلو كانت الإرادة المشار إليها في الآية إرادة تشريعية لما كان للتخصيص والحصر وجه مع أنّا نجد فيها تخصيصا بوجوه خمسة :

أ. بدأ قوله سبحانه بالأداة (إِنَّما) المفيدة للحصر.

ب. قدّم الظرف (عَنْكُمُ) وقال : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) ولم يقل ليذهب الرجس عنكم ، لأجل التخصيص.

ج. بيّن من تعلّقت إرادته بتطهيرهم بصيغة الاختصاص ، وقال : (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي أخصّكم.

د. أكّد المطلوب بتكرير الفعل ، وقال : (وَيُطَهِّرَكُمْ) تأكيدا لقوله : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) المائدة : ٦.

٩

ه. أرفقه بالمفعول المطلق ، وقال : (تَطْهِيراً).

كلّ ذلك يؤكد أنّ الإرادة الّتي تعلّقت بتطهير أهل البيت غير الإرادة الّتي تعلّقت بعامّة المكلّفين.

ونرى مثل هذا التخصيص في خطابه لمريم البتول قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ)(١).

الثاني : المراد من الرجس كلّ قذارة باطنية ونفسية ، كالشرك ، والنفاق ، وفقد الإيمان ، ومساوئ الأخلاق ، والصفات السيئة ، والأفعال القبيحة الّتي يجمعها الكفر والنفاق والعصيان ، فالرجس بهذا المعنى أذهبه الله عن أهل البيت ، ولا شكّ انّ المنزّه عن الرجس بهذا المعنى يكون معصوما من الذنب بإرادة منه سبحانه ، كيف وقد ربّاهم الله سبحانه وجعلهم هداة للأمّة كما بعث أنبياءه ورسله لتلك الغاية.

الثالث : المراد من أهل البيت هو : علي وفاطمة وأولادهما ، لأنّ أهل البيت وإن كان يطلق على النساء والزوجات بلا شك ، كقوله سبحانه : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)(٢) ، ولكن دلّ الدليل القاطع على أنّ المراد في الآية غير نساء النبي وأزواجه ، وذلك بوجهين :

أ. نجد أنّه سبحانه عند ما يتحدّث عن أزواج النبي يذكرهنّ بصيغة

__________________

(١) آل عمران : ٤٢.

(٢) هود : ٧٣.

١٠

جمع المؤنث ولا يذكرهنّ بصيغة الجمع المذكر ، فإنّه سبحانه أتى في تلك السورة (الأحزاب) من الآية ٢٨ ـ ٣٤ باثنين وعشرين ضميرا مؤنثا مخاطبا بها نساء النبي ، وهي كما يلي :

١. (كُنْتُنَّ ،) ٢. (تُرِدْنَ ،) ٣. (فَتَعالَيْنَ ،) ٤. (أُمَتِّعْكُنَّ ،) ٥. (أُسَرِّحْكُنَّ.)(١)

٦. (كُنْتُنَّ ،) ٧. (تُرِدْنَ ،) ٨. (مِنْكُنَّ).(٢)

٩. (مِنْكُنَّ).(٣)

١٠. (مِنْكُنَّ). (٤)

١١. (لَسْتُنَّ ،) ١٢. (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ،) ١٣. (فَلا تَخْضَعْنَ ،) ١٤. (قُلْنَ). (٥)

١٥. (قَرْنٍ ،) ١٦. (فِي بُيُوتِكُنَّ ،) ١٧. (تَبَرَّجْنَ ،) ١٨. (أَقِمْنَ ،) ١٩. (آتِينَ ،) ٢٠.

(أَطِعْنَ اللهَ). (٦)

٢١. (اذْكُرْنَ ،) ٢٢. (فِي بُيُوتِكُنَّ). (٧)

وفي الوقت نفسه عند ما يذكر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في آخر الآية ٣٣ يأتي بضمائر مذكّرة ويقول : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ ،) فإنّ هذا العدول دليل على أنّ الذكر الحكيم انتقل من موضوع إلى موضوع آخر ، أي من نساء النبي إلى أهل بيته ، فلا بدّ أن يكون المراد منه غير نسائه.

__________________

(١) الأحزاب : ٢٨.

(٢) الأحزاب : ٢٩.

(٣) الأحزاب : ٣٠.

(٤) الأحزاب : ٣١.

(٥) الأحزاب : ٣٢.

(٦) الأحزاب : ٣٣.

(٧) الأحزاب : ٣٤.

١١

ب. أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أماط الستر عن وجه الحقيقة ، فقد صرّح بأسماء من نزلت الآية بحقّهم حتّى يتعيّن المنظور منه باسمه ورسمه ولم يكتف بذلك ، بل أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء ومنع من دخول غيرهم.

ولم يقتصر على هذين الأمرين (ذكر الأسماء وجعل الجميع تحت كساء واحد) بل كان كلّما يمرّ ببيت فاطمة عليها‌السلام إلى ثمانية أشهر يقول : الصلاة ، أهل البيت : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد تضافرت الروايات على ذلك ، ولو لا خوف الإطناب لأتينا بكلّ ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن نذكر من كلّ طائفة أنموذجا :

أمّا الطائفة الأولى : أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزلت الآية في خمسة : فيّ وفي علي رضى الله عنه وحسن رضى الله عنه ، وحسين رضى الله عنه ، وفاطمة رضي الله عنها ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الحديث (١).

وأمّا الطائفة الثانية : فقد روى السيوطي وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما معه ، ثمّ جاء علي فأدخله معه ، ثمّ قال :

__________________

(١) ولمن أراد المزيد فليرجع إلى تفسير الطبري والدر المنثور للسيوطي في تفسير آية التطهير.

١٢

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.)

ولو لم تذكر فاطمة في هذا الحديث ، فقد جاء في حديث آخر ، حيث روى السيوطي ، قال : واخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن سعد ، قال : نزل على رسول الله الوحي ، فأدخل عليا وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ، قال : «اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي».

وفي حديث آخر جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فاطمة ومعه حسن وحسين ، وعلي حتّى دخل ، فأدنى عليا وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كلّ واحد منهما على فخذه ، ثمّ لفّ عليهم ثوبه ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وأمّا الطائفة الثالثة : فقد أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول : الصلاة أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

والروايات تربو على أربع وثلاثين رواية ، رواها من عيون الصحابة : أبو سعيد الخدري ، أنس بن مالك ، ابن عباس ، أبو هريرة الدوسي ، سعد بن أبي وقاص ، واثلة بن الأسقع ، أبو الحمراء ـ أعني : هلال بن حارث ـ وأمهات المؤمنين : عائشة وأمّ سلمة. (١)

__________________

(١) وللوقوف على مصادر هذه الروايات لاحظ : صحيح مسلم : ٧ / ١٢٢ ـ ١٢٣ ؛ تفسير الطبري : ٢٢ / ٥ ـ ٧ ؛ الدر المنثور : ٥ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ؛ جامع الأصول لابن الأثير : ١٠ / ١٠٣.

١٣

وبذلك تبيّنت حجية أقوال كلمات أهل البيت عليهم‌السلام في مجالي العقيدة والشريعة لاعتصامهم بحبل الله تعالى ، فإذا كان قول واحد منهم حجة فكيف هو حال إجماعهم؟

فما أصدق قول القائل :

فوال أناسا قولهم وكلامهم

روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

رزقنا الله زيارتهم في الدنيا ، وشفاعتهم في الآخرة.

عصمة أولي الأمر

دلت آية التطهير على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام كما عرفت آنفا وفي الوقت نفسه دلّت آية الطاعة ـ بالإضافة إلى وجوب طاعتهم ـ على عصمة الرسول وأولي الأمر ، أعني قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(١).

والاستدلال مبني على دعامتين :

١. إنّ الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر على وجه الإطلاق ؛ أي في جميع الأزمنة والأمكنة ، وفي جميع الحالات والخصوصيات ، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية.

٢. إنّ من الأمر البديهي كونه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر

__________________

(١) النساء : ٥٩.

١٤

والعصيان : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ)(١) من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداء من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناه ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من أولي الأمر.

فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين (وجوب إطاعة أولي الأمر على وجه الإطلاق ، وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان) أن يتّصف أولوا الأمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الإطلاق ، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية ، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلّا عبارة أخرى عن كونهم معصومين ، وإلّا فلو كانوا غير واقعين تحت تلك العناية ، لما صحّ الأمر بإطاعتهم على وجه الإطلاق بدون قيد أو شرط. فنستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة. وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره ، ويطيب لي أن أذكر نصّه حتّى يمعن فيه أبناء جلدته وأتباع طريقته ، قال :

إنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بدّ وأن يكون معصوما عن الخطأ ؛ إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار

__________________

(١) الزمر : ٧.

١٥

الواحد ، وأنّه محال ، فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ ، فثبت قطعا أنّ أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوما (١).

بيد أنّ الرازي ، وبعد أن قادته استدلالاته المنطقية إلى هذه الفكرة الثابتة المؤكّدة لوجوب العصمة بدأ يتهرّب من تبعة هذا الأمر ، ولم يستثمر نتائج أفكاره ، لا لسبب إلّا لأنّها لا توافق مذهبه في تحديد الإمامة ، فأخذ يؤوّل الآية ويحملها على غير ما ابتدأه وعمد إلى إثباته ، حيث استدرك قائلا بأنّا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم ، عاجزون عن الوصول إليه ، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منه ، فإذا كان الأمر كذلك ، فالمراد ليس بعضا من أبعاض الأمّة ، بل المراد هو أهل الحلّ والعقد من الأمّة.

إلّا أنّ ادّعاءه هذا لا يصمد أمام الحقيقة القويّة التي لا خفاء عليها ، وفي دفعه ذلك الأمر مغالطة لا يمكن أن يرتضيها هو نفسه ، فإنّه إذا دلّت الآية على عصمة أولي الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم ، وادّعاء العجز هروب من الحقيقة ، فهل العجز يختص بزمانه أو كان يشمل زمان نزول الآية؟ لا أظنّ أن يقول الرازي بالثاني. فعليه أن يتعرّف على المعصوم في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصر نزول الآية ، وبالتعرّف عليه يعرف معصوم زمانه ،

__________________

(١) مفاتيح الغيب (للرازي) : ١٠ / ١٤٤.

١٦

حلقة بعد أخرى ، ولا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي بإطاعة المعصوم ثمّ لا يقوم بتعريفه حين النزول ، فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة أولي الأمر فإنّه من المنطقي والمعقول له أن يؤمن بقيام الوحي الإلهي بتعريفهم بواسطة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ لا معنى أن يأمر الله سبحانه بإطاعة المعصوم ، ولا يقوم بتعريفه.

إكمال : أهل السنّة ووجه حجّية الإجماع

قد حقّق المصنّف في ثنايا بحثه عن حجّية الإجماع ، أنّ الإجماع بما هو هو ليس بحجّية شرعية وليس من أدلّة التشريع ، وإنّما هو حجّة لأجل كشفه عن دليل شرعي يعدّ حجّة في المسألة.

وأمّا الإجماع عند أهل السنّة فهو من أدلّة التشريع ويعدّ حجّة في عرض الكتاب والسنّة ، وهذا لا يعني تقابله معهما ، بل بمعنى أنّ كلّ واحد حجّة في مضمونه ومحتواه ، وذلك بالبيان التالي :

إذا اتّفق المجتهدون من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصر من العصور على حكم شرعي ، يكون المجمع عليه حكما شرعيا واقعيا عند أهل السنّة ولا تجوز مخالفته ، وليس معنى ذلك أنّ إجماعهم على حكم من تلقاء أنفسهم يجعله حكما شرعيا ، بل يجب أن يكون إجماعهم مستندا إلى دليل شرعي قطعي أو ظنّي ، كالخبر الواحد والمصالح المرسلة والقياس والاستحسان.

١٧

فلو كان المستند دليلا قطعيا من قرآن أو سنّة متواترة يكون الإجماع مؤيدا ومعاضدا له؛ ولو كان دليلا ظنّيا كما مثلناه ، فيرتقي الحكم حينئذ بالإجماع من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين.

ومثله ما إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة ، فالاتّفاق على حكم شرعي استنادا إلى ذلك الدليل يجعله حكما شرعيا قطعيا ، كزيادة أذان لصلاة الجمعة في عهد عثمان لإعلام الناس بالصلاة كي لا تفوتهم ، حتّى صار الأذان الآخر عملا شرعيا إلهيا وإن لم ينزل به الوحي (١).

فلو صحّ ذلك فقد أعطى سبحانه للإجماع واتّفاق الأمّة منزلة كبيرة على وجه إذا اتّفقوا على أمر ، يصبح المجمع عليه حكما شرعيا قطعيا كالحكم الوارد في القرآن والسنّة النبويّة ، ويكون من مصادر التشريع.

يلاحظ عليه : أنّه لو كان الإجماع بما هو هو من أدلّة التشريع وأنّ الدليل الظني ببركة الإجماع يرتقي إلى مرتبة القطع واليقين ويكون حجّة في عرض سائر الحجج ، فمعنى ذلك أنّ التشريع الإسلامي لم يختتم بعد رحيل الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ هناك نبوة بعد نبوّته ، وهو على خلاف ما اتّفق المسلمون عليه من إغلاق باب الوحي والتشريع واختتام النبوة ، فلا محيص عن القول إلّا بالرجوع إلى ما عليه الشيعة الإمامية من أنّ الإجماع كاشف عن الدليل الصادر عن الصادع بالحق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنّ حجّية العقل في

__________________

(١) الوجيز في أصول الفقه لابن وهبة : ٤٩.

١٨

مجالات التشريع من هذه المقولة فليس العقل مشرعا وإنّما هو كاشف عن الحكم الإلهي في موارد خاصة.

هذه خلاصة القول في المقام والتفصيل يطلب من موسوعاتنا الأصولية.

خبر مؤسف

يعزّ علينا أن نكتب هذا التقديم ونحن نفتقد علما من أعلام التحقيق في مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام ألا وهو العلّامة الشيخ إبراهيم البهادري تغمده الله برحمته الواسعة الّذي لبّى دعوة ربّه في خامس شهر شعبان المعظم من شهور عام ١٤٢٦ ه‍ ، وقد شيّع جثمانه الطاهر في موكب مهيب ودفن في مدينة قم المقدسة.

والشيخ البهادري رحمه‌الله بكلمة قصيرة كان رجلا زاهدا دءوبا في العمل لا يبتغي إلّا مرضاة الله تعالى ، فهو من أبرز مصاديق ما قاله العلّامة الكبير السيد هبة الدين الشهرستاني : إن الناشر (والمحقّق) لصحائف العلماء الأمناء ، يؤمّن لقومه الحياة الطيبة أكثر ممّن ينوّرون الطرق في الظلماء ، و [يمهدون السبيل] إلى الماء. (١)

كرّس المغفور له عمره في تحقيق تراث أهل البيت عليهم‌السلام ونشر علومهم ، مدة من عمره تناهز ربع قرن.

__________________

(١) مجلة المرشد : ١ / ٧٨ ، ط. بغداد.

١٩

وقد قام بتحقيق كتب قيّمة نذكر منها : «تحرير الأحكام» للعلّامة الحلّي في ستة أجزاء ، و «الاحتجاج» للطبرسي في جزءين ، و «معالم الدين في فقه آل ياسين» لابن قطّان الحلّي في جزءين ، و «غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع» لابن زهرة الحلبي في جزءين ، و «إصباح الشيعة» للكيدري ، وغيرها.

ومن أبرز ما حقّقه في أواخر عمره الجزء الأوّل والثاني وبداية الجزء الثالث من هذه الموسوعة الأصولية.

فسلام الله عليه يوم ولد ، ويوم مات ويوم يبعث حيّا.

شكر وتقدير

وقد أنيطت مهمة إتمام هذا المشروع إلى لجنة التحقيق في المؤسسة المتمثّلة بالمحقّقين الأفاضل :

١. السيد عبد الكريم الموسوي.

٢. الشيخ خضر ذو الفقاري.

٣. الحاج محمد عبد الكريم بيت الشيخ.

فقام الأفاضل ـ وفّقهم الله ـ بتحقيق الكتاب على أكمل وجه وبجميع مراحله من مقابلة النسخ الخطية ، وتقويم نص الكتاب وضبطه ، ومراجعة النصوص مع مصادرها الأصلية ، وتخريج الأحاديث من كتب الفريقين ،

٢٠