نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

المبحث الرابع :

في مفهوم المخالفة

قد سبق الخلاف في أنّ ربط الحكم باسم عامّ مقيّد بصفة خاصّة ، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في الغنم السائمة زكاة ، هل يدلّ على نفيها عن غير السائمة أم لا؟ وذكرنا الحجج من الطّرفين ، وكذا البحث قد سبق في مفهوم الشرط ، والغاية ، وإنّما ، والأوصاف الطارئة ، ومفهوم اللقب ، والاسم المشتقّ ، لقربه من مفهوم اللّقب ، والعدد الخاصّ ، ومفهوم الاستثناء ، إذ حاصله راجع إلى أنّ الاستثناء من النّفي إثبات ، فإنّ بعضهم قال في قولنا : لا عالم إلّا زيد ، لا يقتضي ثبوت العلم له ، بل إخراجه عن نفي العلم ، وقد سلف تحقيقه.

وأمّا مفهوم حصر الخبر في المبتدأ ، كقولنا : العالم زيد ، وصديقي عمرو ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما الأعمال بالنّيات ، (١) فذهب جماعة من المتكلّمين والحنفيّة والقاضي أبو بكر (٢) إلى أنّه لا يدلّ على الحصر ، وقال الغزّالي (٣) وجماعة من الفقهاء : إنّه يدلّ.

__________________

(١) تقدم تخريج الحديث ص ٤١١.

(٢) التقريب والإرشاد : ٣ / ٣٦٠ ـ ٣٦٢.

(٣) المستصفى : ٢ / ٢١٢.

٥٢١

واختلف مثبتو الدلالة ، فقال بعضهم : إنّه منطوق ، وقال آخرون : إنّه مفهوم.

احتجّ الأولون : بأنّه لو أفاد الحصر لأفاده العكس ، لأنّه فيهما ليس للجنس ، ولا لمعهود معيّن ، لعدم القرينة.

ولأنّه لو كان ، لكان التقديم بغير مدلول الكلمة ، وليس كذلك ، إذ ليس فيه سوى تغيير الجزء الصوري.

احتجّ الآخرون : بأنّه لو لم يكن دالّا على حصر الأعمال في المنويّة ، والعالم في زيد ، والصداقة في عمرو ، لكان المبتدأ أعمّ من خبره ، فيكون كذبا ، كما لو قال : الحيوان إنسان ، لتعذّر الجنس والعهد ، فوجب جعله لمعهود ذهنيّ بمعنى الكامل والمنتهى.

واعترض : بأنّ الكذب إنّما يلزم لو كان الالف واللام للعموم ، حتّى يصير التقدير : كلّ عمل بنيّة ، وهو ممنوع ، بل هي ظاهرة في البعض ، والتقدير : بعض الأعمال بالنية ، وبعض العالم زيد ، وبعض صديقي عمرو ، فإذن هو لمعهود ذهنيّ ، مثل : أكلت الخبز.

وأيضا ، يلزمه (١) : زيد العالم بعين ما ذكر.

فإن زعم أنّه مخبر بالأعمّ عن الأخصّ ، فغلط ، لأنّ شرط جعل الأعمّ مخبرا به ، التنكير (٢) ، لما عرف من قواعدهم أنّ الألف واللام في المحمول يدلّ على المساواة.

__________________

(١) أي يلزم الكذب.

(٢) أي بأن يقال : زيد عالم.

٥٢٢

وإن جعل اللام في قولنا : «زيد العالم» لزيد (١) ، لقرينة تقدّمه ، كان خطأ أيضا (٢) :

[أ] لاستقلال اللّام بالتعريف وإن لم يذكر زيد ، لكونه خبر المبتدأ.

[ب] ووجوب استقلال الخبر بالتعريف عند كونه معرفة.

[ج] واستلزام ذلك وجوب استقلال اللام بالتعريف منقطعا عن زيد ، وهذا الاستقلال يمنع كون اللّام لزيد ، لتوقف تعريفه حينئذ على تقدّم قرينة زيد.

__________________

(١) إنّ جعل اللّام في قولنا : «زيد العالم» لزيد يخرجه عن كونها لام التعريف ، وتكون موصولة ، ومع غضّ النظر عمّا ذكرنا ، فقد أورد عليه المصنّف بوجوه :

١. قد ثبت في محلّه استقلال اللّام في إفادة التعريف دون حاجة إلى قرينة متقدّمة.

٢. إذا كان الخبر معرفة فهو يكون مستقلّا في إفادة التعريف غير معتمد على ما قبله ، ولازم ذلك أن تكون اللام منقطعا عمّا قبله (زيد).

٣. انّ استقلاله يمنع عن تعلّق اللّام لما قبله (زيد).

(٢) بوجوه مذكورة في المتن وقد اوضحناها في الهامش.

٥٢٣
٥٢٤

المقصد السابع : في الأفعال

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل :

في عصمة الأنبياء عليهم‌السلام

أمّا قبل البعثة ، فذهب الإماميّة كافّة إلى وجوب عصمتهم من كلّ ذنب صغير أو كبير على سبيل العمد ، أو السهو ، أو التأويل ، لأنّه لو وقع منهم شيء من ذلك لسقط محلّهم من النّفوس وانحطّت درجتهم ، وأوجب ذلك هضمهم والاحتقار بهم ، والنفرة عن اتّباعهم ، وعدم الانقياد إلى أوامرهم ونواهيهم ، وذلك ينافي الغرض من البعثة ، ويخالف مقتضى الحكمة.

وخالفهم في ذلك جميع الفرق.

أمّا أكثر المعتزلة ، فقد جوّزوا وقوع الصغائر منهم ، أمّا الكبائر فقد وافقوا الشيعة على امتناعها منهم.

٥٢٥

وأمّا الاشاعرة ، فقال أكثرهم وجماعة من المعتزلة : إنّه لا يمتنع عليهم المعصية كبيرة كانت أو صغيرة ، بل ولا يمتنع عقلا إرسال من أسلم عن كفر (١) ، لانتفاء دليل سمعيّ على عصمتهم عن ذلك ، ودليل العقل مبنيّ على التحسين والتقبيح ، ووجوب رعاية الحكمة في أفعاله تعالى.

وأمّا بعد النبوّة ، فعند الإماميّة أنّهم معصومون عن كلّ ذنب صغير أو كبير ، وقع عن عمد ، أو سهو ، أو تأويل ، لوجوب ذلك قبلها ، فبعدها أولى.

وأمّا الجمهور فقد اختلفوا ، وحاصل الاختلاف يرجع إلى أقسام أربعة :

الأوّل : ما يقع في باب الاعتقاد ، وقد اتّفقوا على أنّه لا يجوز منهم الكفر إلّا الفضليّة (٢) من الخوارج ، فإنّهم قالوا : قد وقع منهم ذنوب ، وكلّ ذنب عندهم كفر وشرك ، وأمّا الاعتقاد الخطأ الّذي لا يبلغ الكفر كاعتقاد عدم بقاء الأعراض ، فمنهم من منعه ، لكونه منفّرا ومنهم من جوّزه.

الثاني : ما يرجع إلى التبليغ ، واتّفقوا على امتناع التغيير عليهم ، وإلّا لزال الوثوق بما يقولونه ، وجوّز بعضهم ذلك على جهة السّهو لا العمد.

الثالث : ما يتعلّق بالفتوى ، واتّفقوا على امتناع الخطأ فيه ، وجوّزه قوم على سبيل السهو.

__________________

(١) لاحظ الإحكام للآمدي : ١ / ١١٩.

(٢) هم فرقة من الخوارج ، أتباع فضل بن عبد الله ، ومن عقائدهم : انّ من قال : لا إله الّا الله محمد رسول الله بلسانه ولم يعتقد ذلك بقلبه بل اعتقد الدهرية أو اليهودية أو النصرانيّة ، فهو مسلم عند الله مؤمن ، ولا يضرّه إذا قال الحق بلسانه ما اعتقد بقلبه. لاحظ معجم الفرق الإسلامية : ١٨٦.

٥٢٦

الرابع : ما يتعلق بأفعالهم ، واختلفوا فيه على أربعة أقوال :

الأوّل : قول من جوّز عليهم الكبائر عمدا ، ومنهم من قال بوقوع هذا الجائز وهم الحشوية.

وقال القاضي أبو بكر : إنّه جائز عقلا غير واقع سمعا.

الثاني : قال الجبائيّ : لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ولا صغيرة عمدا ، لكن يجوز أن يأتوا به على سبيل التأويل.

الثالث : قال بعضهم لا يجوز ذلك ، لا عمدا ولا من جهة التأويل ، لكن على سبيل السهو ، وهم مؤاخذون بما يقع منهم على وجه السهو وإن كان موضوعا عن أمّتهم ، لقوّة معرفتهم ، وتمكّنهم من التحفظ بخلاف اتباعهم ...

الرابع : قول أكثر المعتزلة : لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ، وقد وقعت منهم صغائر عمدا وخطأ وسهوا وتأويلا ، إلّا ما ينفّر ، كالكذب والتطفيف ، وسرقة قدر بذر. (١)

وهنا قول (٢) آخر : أنّه لم يقع منهم ذنب صغير ولا كبير عمدا ، وأمّا سهوا فقد وقع ، لكن بشرط أن يتذكّروه في الحال ، ويعرّفوا غيرهم أنّه سهو.

والحقّ ما قلناه عن الإماميّة ، والاستقصاء مذكور في كتبنا الكلاميّة.

__________________

(١) أي سرقة حبّة تدلّ على خسّة فاعلها ودناءة همّته.

(٢) القائل هو الرازي في محصوله : ١ / ٥٠٢.

٥٢٧

المبحث الثاني :

في معنى التأسّي والموافقة والمخالفة

لمّا دل الإجماع والنصّ على وجوب التأسي بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجملة ، وجب معرفة التأسّي ، والموافقة ، والمخالفة.

فالتأسي بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد يكون في فعله وفي تركه ، أمّا في الفعل فبأن نفعل صورة ما فعل ، على الوجه الّذي فعل ، لأجل أنّه فعل.

وأمّا في الترك ، فبأن نترك مثل الّذي ترك ، على الوجه الّذي ترك ، لأجل أنّه ترك ، فاتّحاد الصّورة لا بدّ منه لتحقّق التأسّي معه ، فانّه لو صلّى ، وصمنا ، لم نكن متأسّين به.

وأمّا الوجه ، فهو الغرض ، والنيّة بذلك الفعل ، ولا بدّ من اتّحاده ، فكلّما هو غرض في الفعل وجب اعتباره ، ويدخل في ذلك نيّة الوجوب والندب ، فإنّه لو صام على وجه الوجوب ، وصمنا على وجه الندب ، لم يتحقّق التأسّي به ، وكذا بالعكس.

ولو انتفى الغرض المخصوص في الفعل ، لم يجب اعتباره ، فإنّه لو أزال النجاسة لا لأجل الصلاة ، لم يجب إذا تأسينا به من إزالتها أن ننوي ذلك.

وإذا عرف أنّ للمكان أو الزمان مدخلا في الغرض ، وجب اعتبارهما ،

٥٢٨

كالوقوف بعرفة ، وصوم شهر رمضان ، وصلاة الجمعة ، وإلّا فلا ، كما لو تصدّق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّفق (١) ذلك في زمان ما ، فإنّه يتحقّق التأسّي به وإن تصدّقنا في غير ذلك المكان أو الزمان ، إذا علمنا انتفاء تعلّق الغرض بهما.

وقولنا : «لأجل أنّه فعل» لانتفاء التأسّي بدونه ، فإنّه لو اتّفق شخصان في فعل واحد ، ولم يفعل أحدهما لأجل فعل الآخر ، لم يكن أحدهما متأسّيا بصاحبه.

ولو صلّى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصلّى مثل صلاته رجلان من أمّته لأجل أنّه صلّى ، لوصف كلّ منهما أنّه متأسّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يوصف كلّ واحد منهما بأنّه متأسّ بالآخر.

ولا يشترط في التأسّي استفادة المتأسّي صورة الفعل ووجوبه ممن يتأسّى به ، فإنّا موصوفون بالتأسّي بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصّبر على الشدائد ، والشكر على النّعم ، إذا فعلنا ذلك لأجل فعله ، وإن لم نستفد صورة ذلك منه ، ولا وجوبه.

ولا يمتنع أن نفعل ذلك لأجل أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعله ، ولعلمنا بوجوبه أو حسنه عقلا.

وقال أبو علي بن خلّاد (٢) : إنّ الفعل الّذي وقع التأسّي فيه ، يجوز أن يكون حسنا من الثاني ، قبيحا من الأوّل ، كالنصراني لو مشى إلى بيعة للتعبّد

__________________

(١) في «أ» : وأنفق.

(٢) هو الحسن بن عبد الرحمن بن الخلاد الرامهرمزي الفارسي ، محدث في زمانه من أدباء القضاة ، توفي سنة ٣٦٠ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٢ / ١٩٤ وكنيته فيها «أبو محمد» لا «أبو علي».

٥٢٩

بدينه ، فتبعه مسلم ليردّ وديعة كانت عنده ، في البيعة ، كان متأسّيا به ، والمشي حسن من المسلم ، قبيح من النصرانيّ (١).

واعترضه أبو الحسين بانتفاء التأسّي مع اختلاف الأغراض. (٢)

وقال أبو عبد الله البصري (٣) : ينبغي اعتبار المكان الّذي وقع الفعل فيه ، إلّا أن يدلّ دليل على عدم اعتباره. (٤)

ولا بأس به عندي.

وقال قاضي القضاة : إنّ اعتبار الزّمان والمكان يمنع من التأسّي لفوات الزمان ، واستحالة اجتماع شخصين في مكان واحد في زمان واحد. (٥)

اعترضه أبو الحسين : بأنّ هذا إنّما يمنع من اعتبار زمان معيّن ، ولا يمنع من اعتبار مثل الزمان ، كما في وقت صلاة الجمعة ، ولا يمنع من اعتبار [ذلك] المكان في زمان آخر ، ولا من اعتباره إذا كان [المكان] متّسعا ، كعرفة ، والواجب اعتبار الزمان والمكان بحسب الإمكان ، إذا علم دخولهما في الأغراض. (٦)

وفيه نظر ، فإنّ الغرض إن تعلّق بالزمان ومماثله ، لم يكن للزمان المخصوص مدخل في الغرض ، وكذا المكان المتّسع.

__________________

(١) نقله أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٤٤.

(٢) المعتمد : ١ / ٣٤٤.

(٣) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.

(٤) نقله أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٤٤.

(٥) نقله أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٤٤.

(٦) المعتمد : ١ / ٣٤٤.

٥٣٠

وقال قاضي القضاة : لا اعتبار بطول الفعل وقصره ، لعدم إمكان ضبطه. (١)

اعترضه أبو الحسين : بوجوب اعتباره بحسب الإمكان ، إذا علم دخول ذلك في الأغراض (٢).

وأمّا اتّباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد يكون في القول ، بأن يصير إلى مقتضاه من وجوب ، أو ندب ، أو حظر ، لأجله.

وفي الفعل وفي الترك ، بأن يتأسّى به.

ويمكن أن يقال : اتّباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المصير إلى ما تعبّدنا به على الوجه الّذي تعبّدنا به ، لأنّه تعبّدنا به ، ويدخل فيه القول ، والفعل ، والترك.

وإنّما شرطنا في الاتّباع ما شرطناه في التأسّي ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو صلّى فصمنا ، أو صام فرضا ، فصمنا ندبا ، أو صمنا لا لأنّه صام ، لم نكن متّبعين.

وأمّا الموافقة : فقد تكون في المذهب ، بأن يتشاركا فيما نسبت الموافقة إليه ، فإذا قيل: وافق فلان فلانا في الرؤية ، جاز أن يختلفا في السبب ، بأن يعتقد أحدهما أنّه يرى بهذه الحاسّة ، والآخر أنّه يرى بحاسّة سادسة ، بعد أن يتّفقا في مطلق الرؤية ، لأنّ النسبة وقعت فيها.

أمّا لو وافقه في أنّه يرى بهذه الحاسّة ، أفاد الاشتراك في الرؤية بهذا الحدّ.

ولا يشترط في الموافقة في المذهب أصالة أحدهما وتبعيّة الآخر.

وقد تكون في الفعل ، بأن يتشاركا في صورته ووجهه ، فإنّ المصلّي لا

__________________

(١) نقله في المعتمد : ١ / ٣٤٤.

(٢) المعتمد : ١ / ٣٤٤.

٥٣١

يوافق الصائم ، وكذا المصلّي نفلا لا يوافق المصلّي فرضا. (١)

وفيه نظر ، فإنّ الموافقة من الأمور الإضافيّة ، فتصدق وإن اختلفا في الوجه ، للتشارك في الصورة ، كما لو قيّدت الموافقة فقيل : قد وافقه في صورة الفعل ، فإنّه لا يقتضي التشارك في الوجه ، فكذا في المطلق ، إلّا أن يعني بالموافقة المطلقة الموافقة الكلّية بجميع الاعتبارات ، لكن تلك أحد أنواع مطلق الموافقة.

ولا يشترط في الموافقة هنا أيضا أصالة أحدهما وتبعيّة الآخر.

وأمّا المخالفة ، فقد يكون في القول ، وهي العدول عمّا اقتضاه القول من إقدام أو إحجام ، وفي الفعل ، وهي العدول عن امتثال مثله ، إذا وجب امتثال مثله ، وإذا لم يجب لم يقل للتارك : إنّه قد خالف ، ولهذا لا يصدق في حقّ الحائض بترك الصلاة : أنّها مخالفة.

لا يقال : فيجب أن يكون ترك ذلك الفعل مخالفة للدليل الدالّ على وجوب المشاركة له في الفعل ، ولا يكون مخالفة في الفعل.

لأنّا نقول : نمنع الوجوب ، لأنّ الدليل إذا دلّ على وجوب مشاركته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فعله ، فأيّ فعل فعله كان دليلا على وجوب مثله علينا ، فصحّ أن يوصف من لم يفعله بأنّه مخالف.

__________________

(١) الاستدلال لأبي الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٤٥.

٥٣٢

المبحث الثالث :

في أنّ فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل يدلّ على حكم في حقّنا أم لا؟

أمّا ما كان من أفعال الجبليّة ، كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، ونحوه ، فلا خلاف في أنّه على الإباحة بالنّسبة إليه وإلى أمّته.

وأمّا ما هو من خواصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يدلّ فعله على التشريك بيننا وبينه إجماعا ، كاختصاصه بوجوب الوتر ، والتهجد بالليل ، والمشاورة ، والتخيير لنسائه ، وإباحة الوصال ، والاصطفاء (١) ودخول مكة بغير إحرام ، والزيادة في النكاح على أربع ، إلى غير ذلك ممّا ثبت أنّه من خواصّه.

وأمّا ما وقع بيانا لنا ، فهو دليل إجماعا ، وذلك إمّا تصريح كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صلّوا كما رأيتموني اصلّي ، وخذوا عنّي مناسككم.

وإمّا بقرائن الأحوال ، كما إذا ورد لفظ مجمل ، أو عامّ أريد به الخصوص ، أو مطلق أريد منه المقيّد ، ولم يبيّنه ، قبل الحاجة إليه ، ثم فعل عند الحاجة فعلا صالحا للبيان ، فإنّه يكون بيانا لئلّا يكون مؤخّرا للبيان عن وقت الحاجة إليه ، كقطع يد السّارق بيانا لقوله تعالى : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)(٢) والبيان

__________________

(١) المراد : صفايا المغنم.

(٢) المائدة : ٣٨.

٥٣٣

تابع للمبيّن في وجوبه ، وندبه ، وإباحته.

وأمّا ما عدا ذلك من أفعاله ، فإمّا أن يظهر فيه قصد القربة أو لا.

والأوّل اختلفوا فيه ، فذهب قوم إلى أنّه محمول على الوجوب في حقّه وفي حقّنا ، وبه قال ابن سريج (١) وابو سعيد الاصطخري (٢) وابن أبي هريرة (٣) وأبو علي بن خيران (٤) ، والحنابلة ، وجماعة ، من المعتزلة ، ونقله المرتضى (٥) عن مالك.

وقال إمام الحرمين : إنّها للندب (٦) وهو محكيّ عن الشافعي.

وقال آخرون : إنّه للإباحة ، وهو منقول عن مالك.

وقال الصيرفي (٧) وأكثر المعتزلة والسيد المرتضى (٨) بالوقف.

وأمّا ما لم يظهر فيه قصد القربة ، فقد اختلفوا فيه على نحو اختلافهم فيما

__________________

(١) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٥٩.

(٢) الحسن بن أحمد بن يزيد ، أحد شيوخ فقهاء الشافعية ، ولي قضاة قم ثم حسبة بغداد ، واصطخر من بلاد فارس ، توفّي سنة ٣٢٨ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٢ / ١٧٩ ؛ وطبقات الفقهاء : ٤ / ١٣٣ برقم ١٣٥١.

(٣) الحسن بن الحسين بن أبي هريرة ، القاضي أبو علي البغدادي ، وكان من أكابر الشافعيّة ، توفّي سنة ٣٤٥ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٢ / ١٨٨ ؛ وطبقات الفقهاء : ٤ / ١٣٦ برقم ١٣٥٤.

(٤) الحسين بن صالح بن خيران ، الفقيه الشافعي البغدادي ، توفّي سنة ٣٢٠ ه‍. لاحظ طبقات الفقهاء : ٤ / ١٦٩ برقم ١٣٨٢.

(٥) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٧٨.

(٦) البرهان في أصول الفقه : ١ / ٣٢٤.

(٧) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٤٠.

(٨) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٧٨.

٥٣٤

ظهر فيه قصد القربة ، إلّا أنّ القول بالوجوب والندب فيه أبعد ، والوقف والإباحة أقرب ، وبعض من جوّز المعاصي على الأنبياء قال : إنّها على الخطر.

فالحقّ عندي : أنّ ما ظهر فيه قصد القربة فهو للقدر المشترك بين الواجب والندب ، وهو مطلق الترجيح في حقّه وحقّنا ، وما لم يظهر فيه قصد القربة فهو للقدر المشترك بينهما وبين الإباحة ، وهو رفع الحرج عن الفعل.

أمّا مع ظهور القربة ، فلأنّها لا ينفكّ عن أحد قيدي الوجوب أو الندب ، و [القدر] المشترك بينهما هو مطلق الترجيح ، ولا دلالة للأعمّ على الأخصّ ، وكلّ واحد من القيدين مشكوك فيه ، وليس أحدهما أولى من الآخر.

وأمّا إذا لم يظهر قصد القربة ، فلأنّه لا ينفكّ عن أحد القيود الثلاثة : الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والمشترك هو مجرد رفع الحرج ، ولا دلالة على الخصوصيّات ، فالمتيقّن هو المشترك ، وكلّ واحد من الخصوصيّات مشكوك فيه.

هذا في حقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا في حقّنا ، فلأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان قد اختصّ بأمور ، لكنّها بالنسبة إلى الأحكام نادرة ، وحمل المجهول على الأغلب أولى من حمله على النادر ، فكانت المشاركة أظهر.

احتج القائلون بالوجوب بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(١) وقد تقدّم

__________________

(١) النور : ٦٣.

٥٣٥

أنّ الأمر حقيقة في الفعل ، والتحذير عن مخالفة فعله يقتضي وجوب موافقة فعله.

الثاني : قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)(١) ويلزمه بعكس النقيض من لم يتأس به لم يكن راجيا لله واليوم الآخر ، وهذا توعّد وزجر.

الثالث : قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ)(٢) أمر بالمتابعة ، والأمر للوجوب ، والمتابعة هي الإتيان بمثل فعله.

الرابع : قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي)(٣) دلّت [الآية] على أنّ الاتّباع لازم للمحبّة ، والمحبّة واجبة بالإجماع ، ولازم الواجب واجب.

الخامس : قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)(٤) فإذا فعل فقد آتانا بالفعل ، فيجب أخذه إلى العمل بمثله.

السادس : قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(٥) أوجب طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والإتيان بمثل فعله ، لأجل أنّه فعله ، طاعة له ، فكان واجبا.

السابع : قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ) إلى قوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى

__________________

(١) الأحزاب : ٢١.

(٢) الأعراف : ١٥٨.

(٣) آل عمران : ٣١.

(٤) الحشر : ٧.

(٥) المائدة : ٩٢.

٥٣٦

الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ)(١) بيّن إنّما زوّجه بها ليكون حكم أمّته مساويا له وهو المطلوب.

الثامن : روي عن الصحابة أنّهم خلعوا نعالهم لما خلع نعله ، فهموا وجوب المتابعة له في فعله ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرّهم على ذلك ، ثمّ بيّن لهم علّة انفراده بذلك.

التاسع : روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم بفسخ الحجّ إلى العمرة ، ولم يفسخ ، فقالوا له : ما بالك أمرتنا بفسخ الحجّ إلى العمرة ولم تفسخ؟ (٢) ففهموا أنّ حكمهم حكمه ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينكر عليهم ، ولم يقل : «إنّ حكمي مخالف لحكمهم» بل بيّن عذرا يختصّ به.

العاشر : روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى الصحابة عن الوصال في الصوم وواصل ، فقالوا : نهيتنا عن الوصال ، وواصلت ، فقال : «لست كأحدكم إنّي أظلّ عند ربّي يطعمني ويسقيني» (٣) فأقرّهم على ما فهموه من مشاركته في الحكم ، واعتذر بعذر ، يختصّ به.

الحادي عشر : روي عن أمّ سلمة أنّها سألته عن قبلة الصائم ، فقال لها : «لم لم تقولي لهم : إنّي أقبّل وأنا صائم» (٤) ولو لم يجب اتّباعه في أفعاله ، لم يكن لذلك معنى.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) تقدّم تخريج الحديث ص ٣٥٠.

(٣) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الصوم ، باب بركة السحور من غير ايجاب برقم ١٩٢٢.

(٤) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الصوم ، باب القبلة للصائم برقم ١٩٢٩.

٥٣٧

الثاني عشر : سألته أمّ سلمة عن بلّ الشعر في الاغتسال ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا أنا فيكفيني أن أحثو على رأسي ثلاث حثيات من ماء» (١) ولو لا وجوب متابعته ، لما حسن هذا الجواب.

الثالث عشر : روي أنّه أمر الصحابة بالتحلّل بالحلق والذبح ، فتوقّفوا ، فشكا ذلك إلى أمّ سلمة فأشارت إليه بأن يخرج وينحر ويحلق ، ففعل ذلك ، فذبحوا وحلقوا ، (٢) ولو لا أنّ فعله متّبع ، لما كان كذلك.

الرابع عشر : الإجماع على وجوب متابعته ، فإنّ الصحابة اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين ، فقالت عائشة : «فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا» (٣) فرجعوا إلى ذلك ، فإجماعهم إنّما كان لفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد اجمعوا هنا على أنّ مجرّد الفعل للوجوب ، وخلع خاتمه فخلعوا.

وكان عمر يقبّل الحجر الأسود ، ويقول : إنّي أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، ولو لا أنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبّلك لما قبّلتك. (٤)

الخامس عشر : الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه ، لأنّه يتضمّن رفع ضرر الخوف عن النفس بالكليّة ، ودفع الخوف واجب ،

__________________

(١) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الغسل ، باب من أفاض على رأسه ثلاثا برقم ٢٥٤.

(٢) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب برقم ٢٧٣٢.

(٣) لاحظ صحيح مسلم ، كتاب الحيض ، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين برقم ٣٧٣.

(٤) لاحظ صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب ما ذكر في الحجر الأسود برقم ١٥٩٧.

٥٣٨

واعظم مراتب فعل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون واجبا عليه وعلى أمّته ، فوجب حمله عليه.

السادس عشر : يجب تعظيم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجملة ، وإيجاب الإتيان بمثل فعله تعظيم له ، بدليل العرف ، والتعظيمان يشتركان في قدر من المناسبة ، فيجمع بينهما بالقدر المشترك ، فيكون ورود الشرع بإيجاب ذلك التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمّة الاتيان بمثل فعله.

السابع عشر : أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقوم مقام أقواله في بيان المجمل ، وتخصيص العموم ، وتقييد المطلق من الكتاب والسنّة ، فكان أفعاله محمولا على الوجوب كالقول.

الثامن عشر : ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقّ وصواب ، وترك الحقّ والصواب يكون خطأ وباطلا ، وهو ممتنع.

التاسع عشر : فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتمل أن يكون واجبا ، وأن لا يكون واجبا ، واحتمال وجوبه أظهر من احتمال عدمه ، لأنّ الظاهر من حاله أنّه لا يختار إلّا الأكمل ، والواجب أكمل ، وإذا كان واجبا وجب اعتقاد مشاركة الأمّة له.

العشرون : كونه نبيّا يقتضي وجوب الاتّباع ، والّا نفّر عنه. (١)

الحادي والعشرون : الفعل آكد من القول في الدلالة عن صفة

__________________

(١) يقول السيّد المرتضى في تقرير الدّليل : إنّ كونه نبيّا ومتّبعا يقتضي نفي ما ينفّر عنه ، ومخالفته في أفعاله تنفّر عن القبول عنه. الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٥٨١.

٥٣٩

الفعل ، ولهذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحقّق أمره بفعله ، كما فعله في الحج والصّلاة ، فاذا أفاد الأمر الوجوب ، كان في الفعل أولى بذلك.

والاعتراض على الأوّل : بالمنع من كون الأمر حقيقة في الفعل ، وقد تقدّم.

سلّمنا ، لكنّه حقيقة في القول إجماعا ، فليس حمله على الفعل أولى من حمله على القول.

سلّمنا ، لكن لا يمكن حمله على الفعل ، لتقدّم ذكر الدعاء والمخالفة يمنع من حمله عليه ، فإنّ القائل لو قال لغيره : «لا تجعل دعائي كدعاء غيري ، واحذر مخالفة أمري» فهم القول دون الفعل.

ولأنّه قد يراد به القول إجماعا ، فلا يجوز حمله على الفعل ، لامتناع حمل المشترك على معانيه جميعا.

سلّمنا ، لكن الضمير في أمره عائد إلى الله تعالى ، لأنّه أقرب.

اعترضه (١) أبو الحسين : بأنّ القصد الحثّ على اتّباع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)(٢).

حثّ على الرجوع إلى أقواله وأفعاله ، ثمّ عقب بقوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(٣) ، فعلم أنّ المراد أمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) الاستدلال والاعتراض مذكوران في المعتمد : ١ / ٣٤٩.

(٢) النور : ٦٣.

(٣) النور : ٦٣.

٥٤٠