نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

الخامس : لو قال : «أعتقت كلّ عبدي ، وكلّ نسائي طوالق» حكم بعتق الجميع وطلاق النسوة ، بخلاف ما لو قال : غانم حرّ ، وله عبدان ، اسم كلّ منهما «غانم» فإنّه يجب أن يستفهم منه مراده ، ولو كان لفظ الكلّ مشتركا لما افترق البابان ، ولوجب الاستفسار فيه كما في غانم.

السادس : الفرق واقع بين : جاءني فقهاء ، وجاءني كلّ الفقهاء ، ولو لا دلالة الثاني على الاستغراق لما بقي فرق. (١)

وفيه نظر ، لأنّ الاشتراك في الثّاني دون الأوّل.

السابع : التجاء أهل اللّغة عند إرادة التعبير عن الاستغراق إلى استعمال لفظي «الكلّ» و «الجميع» دون الجمع المنكّر ، يدلّ على العموميّة ، وكلّ ما فرض من القرائن ، يمكن عدمه ، حتّى أنّه لو كتب كتابا ، وقال : اعملوا بكلّ ما فيه ، عمّ مع عدم القرينة.

والأعمى يفهم العموم ، مع عدم وقوفه على القرائن البصريّة ، لفقد آلته ، والسّمعيّة ، لفرض عدمها.

الثامن : سمع عثمان (٢) قول لبيد :

__________________

(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٣٦٨.

(٢) هو عثمان بن مظعون بن حبيب ، صحابيّ مشهور أسلم قديما وهاجر هجرتين وأوذي في الله إيذاء شديدا ، توفّي في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سنة ٢ ه‍ ، وهو أوّل من مات من المهاجرين بالمدينة ، وأوّل من دفن بالبقيع منهم. لاحظ اسد الغابة : ٣ / ٣٨٥ والأعلام للزركلي : ٤ / ٢١٤.

١٤١

 ..................  ...

وكلّ نعيم لا محالة زائل (١)

فقال له : كذبت فإنّ نعيم أهل الجنّة لا يزول ، ولو لا أنّه فهم العموم ، لما كان كاذبا. (٢)

وفيه نظر ، لمعارضة قول عثمان بقول الشاعر.

التاسع : لو قال : رأيت كلّ من في البلد ، عدّ كاذبا بتقدير عدم رؤية البعض.

وفيه نظر ، للمنع من تكذيبه.

العاشر : لو قال : كلّ الناس علماء ، كذبه [قول القائل :] كلّ الناس ليسوا علماء ، ولو لم يكن كلّ للعموم ، لما صحّ التكذيب ، لجواز تناول كلّ واحد منهما غير ما تناوله الآخر.

الحادي عشر : لو كان قول القائل «كلّ» لا يفيد العموم ، ولكنّه يعبّر تارة عن البعض ، وتارة عن العموم حقيقة ، لكان قول القائل «كلّهم» بيانا لأحد الأمرين فيما دخل عليه ، لا تأكيدا له ، كما لو قال رأيت عينا باصرة.

الثاني عشر : لو قال : اعط كلّ من دخل درهما ، حسن استثناء كلّ عدد

__________________

(١) صدره :

ألا كلّ شيء ما حلا الله باطل

 ...................

والبيت جزء من قصيدة لبيد بن ربيعة بن مالك المتوفّى سنة ٤١ ه‍ ، أنشدها في رثاء النعمان بن المنذر ملك الحيرة مستهلّها :

ألا تألان المرء ماذا يحاول

أنحب قيقضى أم ضلال وباطل

انظر ترجمة لبيد في الأعلام للزركلي : ٥ / ٢٤٠.

(٢) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٣٦٩.

١٤٢

شيئا سوى الجميع ، واستثناء أيّ واحد شيئا على الإطلاق ، والعلم بحسن الاستثناء معلوم من عادة أهل اللغة ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، لوجوه :

الأوّل : المستثنى من الجنس لا بدّ وأن يصحّ دخوله تحت المستثنى منه ، فإمّا أن يعبّر الوجوب مع هذه الصحّة أو لا.

والثاني باطل ، وإلّا لما بقي الفرق بين الاستثناء من الجمع المنكّر والمعرّف ، لاشتراكهما في الصحّة ، والتالي باطل ، للعلم من أهل اللغة بالفرق ، فالمقدّم مثله ، فوجب أن يكون الجمع المستغرق يفيد العموم.

الثاني : الاستثناء إخراج ، وإنّما يتحقّق مع الدّخول.

الثالث : أكثر أهل اللغة عليه ، وقول الأكثر حجّة.

ولإجماعهم على أنّه (١) إخراج جزء من كلّ ، والجزء يجب كونه جزءا لكلّه.

الرابع : الاستثناء من العدد يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله ، فيكون في غيره كذلك.

أمّا الصغرى ، فبالإجماع ، فإنّه لو قال : له عندي عشرة إلّا درهما ، لزمه تسعة ، ولو قال : عشرة ، ولم يستثن لزمه عشرة.

وأمّا الثانية ، فلأنّه لولاه ، لزم إمّا الاشتراك أو المجاز ، وكلاهما خلاف الأصل.

__________________

(١) في «ج» : ولإجماعهم على الاستثناء أنّه.

١٤٣

الخامس : لو صحّ الاستثناء لإخراج ما يصحّ [دخوله] لا ما يجب [دخوله] لصحّ «ضربت رجلا إلّا زيدا» لصلاحيّة دخوله تحت لفظ رجل ، ويصحّ «رأيت رجلا إلّا زيدا».

(وفيه نظر ، لبطلان الاستثناء المستغرق ، وعدم دلالة رجل على التعدّد) (١).

فإن قيل : الاستثناء لا يوجب التعميم ، فإنّه يصحّ من جمع القلّة كالأفعل ، والأفعال ، والأفعلة ، والفعلة ، وجمع السلامة ، أيّ فرد شئنا.

مع أنّ شيئا من هذه لا يقتضي العموم بالإجماع.

ولأنّه يصحّ : «أصحبت جمعا من الفقهاء إلّا فلانا» ومعلوم أنّ المستثنى هنا لا يجب دخوله تحت المستثنى منه المنكّر.

ولأنّه يصحّ : «صلّ إلّا في اليوم الفلاني» ولنا أن نستثني ما شئنا من الأيام.

ولو كان الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله ، لكان الأمر يقتضي الدّوام والفور ، وقد تقدّم بطلانهما.

سلّمنا ، (٢) لكن نمنع استثناء كلّ أحد من قوله : «من دخل [داري] أكرمه» ، فإنّه لا يحسن منه استثناء الملائكة والجنّ واللّصوص ، ولا ملك الهند ، وملك الصين ، وهو كثير النظائر.

__________________

(١) ما بين القوسين يوجد في «ج».

(٢) أي سلّمنا سلامته عن النّقض.

١٤٤

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ الاستثناء يقتضي وجوب الدخول لولاه ، فإنّه يصحّ الاستثناء من غير الجنس إجماعا ، مع عدم الدّخول وجوبا وصلاحيّة.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّه لو لا الوجوب ، لم يبق فرق بين الاستثناء من الجمع المعرّف والمنكّر ، فجاز أن يكون الفرق غير ما ذكرتم.

سلّمنا ، لكنّ معنا ما يدلّ على الاكتفاء بالصّحّة ، وهو أنّ الصحّة أعمّ من الوجوب ، فحمل اللّفظ على الصحّة حمل على الأعمّ فائدة ، ويحسن : «أكرم جمعا من العلماء إلّا زيدا» ، واقتل فرقة من الكفّار إلّا فلانا ، مع عدم وجوب الدّخول ، وإلّا لكان المنكّر للاستغراق.

سلّمنا ، لكن ما ذكرتم إنّما يتمّ لو لم تجز المناقضة على الواضع حتّى يتمّ الاستدلال بالمقدّمتين النقليّتين على النتيجة.

نعم لو ثبت أنّ اللّغات توقيفيّة ، تمّ ذلك ، لكن ذلك غير معلوم.

سلّمنا دلالة الاستثناء على العموم ، لكنّه يدلّ على عدمه ، لأنّه لو كان للعموم لكان الاستثناء نقضا.

والجواب : نمنع حسن استثناء أيّ عدد شئنا من جمع القلّة ، فإنّه يصحّ «أكلت الأرغفة ، إلّا ألف رغيف» ولا يصحّ لو قال : «أكلت كلّ الأرغفة إلّا ألف رغيف». (١)

وفيه نظر ، لأنّ الاستثناء هنا لخصوص المادّة.

__________________

(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٣٦٤.

١٤٥

وكون الاستثناء في «أصحبت جمعا من الفقهاء إلّا زيدا» يخرج ما لولاه لصحّ ، فلم قلت إنّه في سائر الصّور كذلك؟

على أنّا نمنع حسن ذلك في اللّغة ، ولهذا يتداولونه ويقولون في «أصحبت رجالا إلّا زيدا» : إنّ إلّا بمنزلة ليس ، كأنّه قال : ليس زيدا منهم.

والأمر وإن كان لذاته لا يقتضي التكرار ولا الفور ، لكن لا يمنع منهما ، فيجوز أن يكون اقتران «إلّا» به يوجب دلالته عليهما.

ولم يحسن استثناء الملائكة ، والجنّ وملك الهند و [ملك] الصّين ، للعلم بخروجهم عن الحكم ، والمقصود من الاستثناء الإخراج ، ولهذا يحسن استثناؤهم في المشتبه دخولهم فيه ، ولهذا يحسن من الله تعالى استثناء مثل : «أطعمت من خلقت إلّا الملائكة أو نظرت بعين الرّحمة إلى جميع الخلق إلّا الملوك المتكبّرين».

على أنّه مشترك الإلزام ، فإنّ الاستثناء لو كان يخرج من الكلام ما لولاه لصحّ فحسن (١) استثناء الملائكة والجنّ ، لصحة تناول الخطاب لهم.

وأيضا ، فنحن قلنا : الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب ، ولم نقل : إنّ كلّ ما لولاه لوجب يصحّ استثناؤه ، والاستثناء من غير الجنس ممنوع فانّ جماعة من الفضلاء منعوه سلّمناه لكنّه مجاز لانّ الاستثناء مشتق من الثّني ، و [هو] الصّرف ، وإنّما يحتاج إلى الصّرف لو كان بحيث لو لا الصّارف لدخل.

__________________

(١) في «ب» : لحسن.

١٤٦

ثمّ إنّه مشترك الإلزام ، فإنّه لو لا الاستثناء لم يصحّ الدّخول ، وإنّما قلنا بنفي الفارق بين الجمع المنكّر والمعرّف ، لأنّ الجمع المنكّر هو الّذي يدلّ على جمع يصلح أن يتناول كلّ واحد من الأشخاص ، فلو كان الجمع المعرّف كذلك ، انتفى الفرق.

وحمل الاستثناء على الصحّة وإن كان أولى ، من حيث العموم ، لكنّه معارض بأنّ الصّحّة جزء من الوجوب ، فلو حملناه على الوجوب ، لكنّا قد أفدنا به الصّحّة والوجوب معا.

ولو حملناه على الصّحّة ، لم نفد به الوجوب ، والجمع بين الدّليلين أولى.

سلّمنا أنّ الاستثناء من الجمع المنكّر لدفع الصّحّة ، فلم يكون في كلّ كذلك.

والأصل عدم التناقض ، خصوصا وقد قرّر الله تعالى ذلك الوضع.

والاستثناء ليس بنقض على ما يأتي.

واعلم أنّ في الوجوه الخمسة الّتي ذكرناها نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّا لو سلّمنا الفرق ، فلم قلتم بالعموم وعدمه؟ ولم لا يجوز أن يكون بكثرة الأفراد وقلّتها؟ كما فرّقوا بين جمع الكثرة وجمع القلّة وإن لم يفد العموم إجماعا ، وحينئذ جاز أن يكون الجمع المعرّف يفيد ما يفيده جمع الكثرة لا العموم.

١٤٧

وأمّا الثاني : أنّ الإخراج متحقّق مع الصّحّة ، كما يتحقّق مع الوجوب ، فإنّك إذا قلت : رأيت رجالا ، صحّ دخول زيد وإذا قلت : إلّا زيدا ، خرج من الصّلاحيّة كما (١) يخرج عندكم في العرف من الوجوب.

وأمّا الثالث : إن ادّعيتم أنّ أهل اللّغة قالوا : إنّه إخراج ما لولاه لدخل قطعا ، منعنا دعواكم ولا برهان عليها ، وإن ادّعيتم ما لولاه لدخل مطلقا ، بحيث يدخل فعلا وصلاحيّة ، سلّمناه والشيء قد يكون جزءا على طريق الصّحّة وعلى طريق الوجوب ، فالأوّل نحو : اضرب رجالا ، فإنّه يجوز أن يكون زيد جزءا منهم ، والثاني فالأعداد ، وحينئذ فليس في نصّ أهل اللّغة أنّ الاستثناء يخرج ما يجب أن يكون جزءا من كلّ.

وأمّا الرّابع : فإنّ الاستثناء من العشرة إنّما حسن لأنّه لولاه لصحّ دخوله في الخطاب ، لا لوجوب دخوله ، فإنّ وجوب الدّخول لا يمنع صحّته.

لا يقال : كيف يجتمع فيه صحّة دخوله ووجوبه؟

لأنّا نقول : إنّ صحّة دخوله تحت العشرة يعنى به أنّ اسم العشرة يتناوله مع غيره على سبيل الحقيقة ، ووجوب دخوله تحته يعنى به أنّه لا يكون الخطاب حقيقة إلّا إذا دخل تحته ، ومعلوم أنّ الأوّل داخل تحت الثاني.

وأمّا الخامس : فلأنّ قوله : اضرب رجالا إلّا زيدا ، فحسنه لازم لكم ، لأنّه يتناول كلّ رجل على البدل على سبيل الوجوب ، لا على سبيل الصّحّة ، فكان

__________________

(١) في «ب» : ما.

١٤٨

ينبغي أن يحسن استثناء زيد منه ، ليخرج من وجوب تناول الخطاب له على البدل.

لا يقال : إنّما يحسن ذلك ، لأنّ قوله : «اضرب رجالا» لا يتناول كلّ رجل على جهة الشمول ، والاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته على الشمول والجمع.

لأنّا نقول : جاز أن يكون الاستثناء يخرج ما لولاه لصحّ دخوله تحته على جهة الشّمول.

وأمّا رأيت رجلا إلّا زيدا ، فإنّه لا يستعمل ، لأنّه وإن لم يفد رجلا بعينه ، فإنّا نعلم أنّ رؤيته ما يتناول إلّا شخصا معيّنا ، وإن لم يكن معينا عندنا.

والشيء المعيّن الواحد لا يجوز أن يستثنى منه ، لأنّه لم يدخل معه غيره على جهة الشمول ولا على جهة البدل.

المطلب الثاني : في أنّ «من» و «ما» و «أين» و «متى» في الاستفهام للعموم

هذه الصّيغ ، إمّا أن تكون للعموم فقط ، أو للخصوص فقط ، أو لهما على سبيل الاشتراك ، أو لا لواحد منهما ، والجميع باطل إلّا الأوّل.

أمّا الثاني ، فلأنّه لو كان كذلك ، لما حسن الجواب بذكر الجميع ، لوجوب المطابقة بين السؤال والجواب.

١٤٩

والتالي باطل بالإجماع ، وكذا (١) المقدّم.

وأمّا الثالث ، فلأنّه لو كان للاشتراك ، لما حسن الجواب إلّا بعد الاستفهام عن [جميع] الأقسام الممكنة ، كما لو سأله من عندك؟ فكان يجب أن يقول : تسألني عن الرجال أو النساء؟ فإذا أجاب بالرّجال ، قال : عن العرب أو العجم؟ فإذا قال : العرب ، قال عن ربيعة ، أو مضر؟ وهلم جرّا إلى أن يستوفي الممكن ، إذ ليس مشتركا بين الاستغراق وبين مرتبة معيّنة من مراتب الخصوص ، لعدم القائل به ، لكن لا يحسن السؤال عن جميع المراتب ، لعدم تناهيها ، فيستحيل السؤال عنها مفصّلا.

ولأنّا نعلم استقباح أهل اللّسان مثل هذا السؤال.

ولأنّ الأصل عدم الاشتراك.

وأمّا الرابع ، فباطل بالإجماع ، وأيضا يحسن في المجازات الاستثناء مثل : من دخل داري أكرمه إلّا فلانا وفلانا.

وأيضا لو قال : «أكرم من دخل داري» وأخلّ (٢) العبد بإكرام بعض ، استحقّ اللّوم.

فإن قيل : لا نسلّم أنّها ليست موضوعة للخصوص ، ويحسن الجواب بذكر الجميع إذا وجد مع اللّفظ قرينة تجعلها للعموم ، وحكم المركّب مخالف لحكم المفرد.

__________________

(١) في «ب» : فكذا.

(٢) في «ب» : فأخلّ.

١٥٠

سلّمنا ، لكنّه مشترك ، ولا يحسن جميع الاستفهامات لوجود قرينة تعيّن المراد.

سلّمنا عدم القرائن ، لكن إنّما يصحّ ذكر الكلّ لو لم يكن مفيدا للمطلوب ، ولا شكّ في افادته المطلوب وغيره إن كان السؤال عن البعض ، وللمطلوب قطعا إن كان السؤال عن الجميع ، بخلاف ذكر البعض ، فكان ذكر الجميع أولى.

سلّمنا ، لكن نمنع صحّة الاستفهام ، ولهذا يحسن الجواب عن قوله : من عندك؟ أعن الرجال تسألني أم عن النّساء؟ وأ عن الأحرار أو العبيد؟ غاية ما يقال : إنّ الاستفهام عن كلّ الأقسام قبيح ، لكن ليس الاستدلال بقبح بعض تلك الاستفهامات على عدم الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن بعضها على الاشتراك ، وعليكم التّرجيح.

سلّمنا ، لكن يعارض بأنّها لو كانت للعموم فقط ، لما حسن الجواب إلّا بقوله : لا أو نعم ، فإنّ من عندك؟ ، في تقدير : أكلّ الناس عندك؟ ، والجواب أنّ على تقدير عدم تلك القرينة لا يحسن الجواب بذكر الجميع ، ونحن نعلم حسنه من عادة أهل اللّغة ، وإن لم توجد قرينة أصلا.

ولأنّ القرينة يجب علمها للسّامع والمجيب ، لاستحالة جعلها طريقا إلى العلم بعموميّة هذه الصّيغة ، مع عدم علمنا بتلك القرينة.

وليست القرينة لفظا ، لفرض عدمه ، ولا غيره ، لعدم تعقّله في غير اللّفظ ، والإشارة المنتفية في حقّ الأعمى مع حسن جوابه بالجميع.

١٥١

ولأنّا لو كتبنا : من عندك؟ حسن الجواب بالجميع ، مع عدم جميع القرائن.

وهو الجواب عن قرينة الاشتراك ، ولأنّ الإجماع وقع على جواز خلوّ المشترك عن جميع القرائن المعيّنة.

وذكر ما هو أعمّ من المطلوب ، يقتضي حسن الجواب بالنساء والرّجال عن مثل : من عندك من الرجال لأنّ تخصيص السؤال عن الرّجال يدلّ على عدم الحاجة عن السؤال عن النساء ، مع أنّه كما احتمل كون غرضه بالسؤال ذكر الجميع ، احتمل أن يكون غرضه السؤال عن البعض ، والسّكوت عن الباقي.

وقوله : ليس الاستدلال بقبح البعض على نفي الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن البعض على [ثبوت] الاشتراك.

قلنا : الإجماع على أنّ هذه الصّيغة ليست مخصوصة ببعض المراتب دون البعض ، فلو كانت حقيقة في الخصوص ، لكانت حقيقة في جميع مراتبه ، فكان يجب الاستفهام عن جميعها ، ولمّا لم يكن كذلك علمنا بطلان الاشتراك.

وحسن بعض الاستفهامات ، لا يدلّ على وقوع الاشتراك ، لما في الاستفهام من الفوائد غير الاشتراك.

والسّؤال لم يقع عن التصديق حتّى يجب الجواب بلا أو بنعم ، بل عن التصوّر وقوله : من عندك؟ معناه : اذكر لي الجميع ولا تخلّ أحدا عندك إلّا واذكره ، وهذا لا يحسن الجواب بلا أو نعم.

١٥٢

المطلب الثالث : في أنّ صيغتي «ما» و «من» في المجازاة للعموم

ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : لو كان مشتركا ، لما حسن الفعل إلّا عند الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة ، لكنّه حسن ، فدلّ على عدم الاشتراك.

الثاني : يحسن استثناء كلّ واحد من العقلاء عن قوله : من دخل [داري] فأكرمه.

الثالث : لمّا نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)(١) قال ابن الزّبعرى (٢) : لأخصمنّ محمّدا ، ثمّ جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا محمّد أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى»؟ فتمسّك بالعموم ، ولم ينكره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى نزل [قوله تعالى] : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى)(٣).

لا يقال : السؤال خطأ لأنّ ما لما لا يعقل.

لأنّا نمنع ذلك ، لقوله [تعالى] : (وَالسَّماءِ وَما بَناها)(٤).

__________________

(١) الأنبياء : ٩٨.

(٢) هو عبد الله بن الزّبعرى ـ بكسر الزاء وفتح الباء وسكون العين وفتح الراء ـ شاعر قريش في الجاهلية ، كان من أشدّ الناس على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، ثمّ أسلم عام الفتح ، واعتذر ، ومدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفّي حدود سنة ١٥ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٤ / ٨٧.

(٣) الأنبياء : ١٠١. نقل الطبرسي قصة ابن الزبعرى في مجمع البيان : ٧ / ١٠٢.

(٤) الشمس : ٥.

١٥٣

المطلب الرابع : في النّكرة المنفيّة (١)

النّكرة في معرض النفي للعموم ، لوجوه :

الأوّل : صحّة الاستثناء.

الثاني : العقلاء إذا أرادوا تكذيب ما أكلت شيئا ، قالوا : قد أكلت كذا ، وإذا كذّبوا أكلت شيئا ، قالوا : ما أكلت شيئا ، والإثبات للجزئيّ قطعا ، فلو كان السلب له لم يتناقضا ، لما عرف من عدم التناقض بين الجزئيّتين ، ولهذا لما أراد الله تعالى تكذيب الكفّار في السلب الكلّي حيث قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)(٢) بموجبة جزئيّة ، فقال: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى)(٣).

الثالث : لو لم يكن للعموم ، لم يكن قولنا : لا إله إلّا الله نفيا لجميع الآلهة ما عدا الله تعالى.

الرابع : الإجماع من العلماء على التمسك بتحريم نكاح كلّ عمّة وكلّ خالة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تنكح المرأة على عمّتها وعلى خالتها» (٤) وتحريم قتل كلّ صيد بقوله [تعالى] : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)(٥) «ولا يرث القاتل» (٦)

__________________

(١) في «أ» : المنتفية.

(٢ و ٣) الأنعام : ٩١.

(٢ و ٣) الأنعام : ٩١.

(٤) الوسائل : ١٤ / ٣٠٤ ، الباب ١٣ من أبواب ما يحرم بالرضاع ، الحديث ١.

(٥) المائدة : ٩٥.

(٦) وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٨٨ ، الباب ٧ من أبواب موانع الإرث ، أحاديث الباب.

١٥٤

ولا يقتل والد بولده ، «ولا يقتل مؤمن بكافر» (١) إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

ولمّا نزل قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢) الآية ، قال ابن أمّ مكتوم وكان ضريرا ما قال ، فنزل قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)(٣) فعقل الضرير وغيره عموم لفظ المؤمنين.

ولمّا نزل (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ)(٤) قالت الصحابة : فأيّنا لم يظلم نفسه ، فبيّن (٥) أنّه أراد ظلم النّفاق والكفر.

الخامس : النكرة ، إمّا أن يقال : إنّها للعموم على سبيل الجميع ، أو للخصوص ، أو مطلقا.

والأوّل باطل بالإجماع ، فإنّ أحدا لم يقل : إنّ «رأيت رجلا» مستغرق لكلّ رجل جمعا.

وأمّا الثاني والثالث فنقول : إن كان موضوعا لشخص بعينه كان علما لا نكرة ، وإن كان موضوعا لواحد غير معيّن فنفيه إنّما يحصل باستغراق

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٨٧ ، كتاب الديات ، باب لا يقتل مسلم بكافر برقم ٢٦٦٠ ؛ سنن أبي داود : ٤ / ١٨١ ، كتاب الديات ، باب أيقاد المسلم بالكافر برقم ٤٥٣٠ ؛ وعوالي اللآلي : ١ / ٢٣٥ ، وج ٣ / ٥٨٨.

(٢) النساء : ٩٥.

(٣) النساء : ٩٥.

(٤) الأنعام : ٨٢.

(٥) في «ب» : فثبت.

١٥٥

النفي وعمومه ، لعدم التّعاند بين اثبات حكم لشخص ما ، ونفيه عن شخص ما.

وفي هذا الموضع بحث لطيف ، ذكرناه في كتبنا المنطقيّة.

تذنيب

النكرة المثبتة في معرض الخبر ليست عامّة لا على الجمع ولا على البدل ، مثل : جاءني رجل.

أمّا الجمع فظاهر ، وأمّا البدل ، فلأنّ الإخبار وقع عن مجيء شخص بعينه فلا يعمّ ، وأمّا في معرض الأمر فللعموم على البدل ، لقوله : أعتق رقبة ، للإجماع على الخروج عن العهدة بأيّ رقبة كانت ، ولو لا العموم لما كان كذلك.

المطلب الخامس : في أنّ الجمع المعرّف بلام الجنس للعموم

الجمع إذا دخل عليه لام العهد ، انصرف إلى المعهود إجماعا ، وإن دخل عليه لام الجنس ، أفاد العموم ، خلافا للواقفيّة وأبي هاشم.

لنا وجوه :

الأوّل : لما طلب الأنصار «الإمامة» لنفسهم احتجّ عليهم أبو بكر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأئمّة من قريش» (١) وسلّم الأنصار تلك الحجة ، ولو لا العموم لما

__________________

(١) أخرجه البيهقي في سننه : ٨ / ١٤٣ ـ ١٤٤ ، كتاب قتال أهل البغي ، باب الأئمّة من قريش ، وأحمد بن حنبل في مسنده : ٣ / ١٨٣.

١٥٦

تمّت (١) إذ يبقى التقدير بعض الأئمّة من قريش ، فلا ينافي كلّهم ، بخلاف كلّ الأئمّة من قريش. (٢)

الثاني : لمّا قاتل أبو بكر مانعي الزّكاة أنكر عمر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله» احتجّ عليه بعموم اللفظ ، ولم ينكر عليه أبو بكر ولا غيره من الصحابة ذلك ، بل عدل أبو بكر إلى الاستثناء وقال : أليس قد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إلّا بحقّها» ، والزكاة من حقّها. (٣)

الثالث : هذا الجمع يؤكّد بما يقتضي العموم ، فوجب أن يفيده.

أمّا الأولى ، فظاهرة ، كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(٤).

وأمّا الثانية ، فلأنّه بعد التأكيد للاستغراق بالإجماع ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون كذلك قبل التأكيد ، لانّ (٥) التأكيد يفيد تقوية المعنى الّذي كان ثابتا في الأصل ، فلو لم يكن الاستغراق حاصلا ، وإنّما حصل بالتأكيد ، لكان تأثير هذا اللفظ في إثبات حكم جديد ، وابتداء وضع مستأنف ، لا في تقوية الأوّل ، فلا يكون مؤكّدا.

__________________

(١) في «أ» : لما ثبت.

(٢) والمراد أنّ قوله «الأئمّة من قريش» لو كان معناه «بعض الأئمة من قريش» لوجب أن لا ينافي وجود إمام من غير قريش ، أمّا كون كلّ الأئمّة من قريش فينافي كون بعض الأئمّة من غيرهم.

(٣) أخرجه البخاري : ٣ / ٢٦٢ ، كتاب الزكاة ، باب وجوب الزكاة ، برقم ١٣٩٩ ، ومسلم : ١ / ٥١ ، كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتّى يقولوا لا إله الّا الله ، وأبو داود في سننه : ٣ / ٤٤ ، كتاب الجهاد ، برقم ٢٦٤٠ ، والترمذي في سننه : ٥ / ٣ برقم ٢٦٠٦ ـ ٢٦٠٧.

(٤) الحجر : ٣٠.

(٥) في «أ» : ولأنّ.

١٥٧

لا يقال : ينتقض بتأكيد جمع القلّة بهذه المؤكّدات ، بل وتأكيده عند الكوفيّين ، فإنّهم نقلوا :

قد صرّت البكرة يوما أجمعا (١)

 ..................

وذلك كلّه لا يفيد الاستغراق ، فلو كان التأكيد يدلّ عليه ، لخرجت اللفظة عن مدلولها بالتأكيد ، فيكون نقضا لا تأكيدا.

ولأنّ سيبويه (٢) نصّ على أنّ جمع السّلامة للقلّة.

لأنّا نقول : يمنع تأكيد جمع القلّة والنّكرة على قول البصريّين ، ونصّ سيبويه محمول على الجمع الخالي من اللام الجنسيّة.

الرابع : لو لم يكن للعموم لم يفد اللّام تعريفا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّه على تقدير الخصوص ، لا تحصل المعرفة ، فإنّه ليس بعض الجموع أولى من البعض ، فكان مجهولا ، فيجب صرفه إلى الكلّ ، لتحصل المعرفة ، لأنّه معلوم المخاطب.

وأمّا بطلان التالي ، فلأنّ أهل اللغة قالوا : إنّ الألف واللام إذا دخلا على الاسم ، صار معرفة.

__________________

(١) البيت نقله ابن عقيل في شرحه في مبحث التوكيد واستشهد به من دون أن يعيّن قائله. وفي هامشه : هذا الشاهد مجهول النّسبة إلى قائله ، ويذكر بعض النحاة من البصريّين أنّه مصنوع ، ويروي بعض من يستشهد به قبله :

إنّا إذا خطافنا تقعقعا

قد صرت البكرة يوماً اجمعا

واستشهد به السيوطي في همع الهوامع : ٢ / ١٢٤.

(٢) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ١٦٩.

١٥٨

لا يقال : إذا أفاد المنكّر جمعا من [هذا] الجنس ، أفاد اللّام تعريف ذلك الجنس.

لأنّا نقول : هذه الفائدة كانت حاصلة قبل اللّام ، فإنّ قولك : رأيت رجالا ، أفاد جنس الرّجال ، فلم يبق للألف واللام فائدة سوى الاستغراق.

الخامس : يصحّ استثناء أي عدد شئنا ، فهو يفيد العموم على ما تقدّم.

السادس : كثرة المعرّف أكثر من كثرة المنكّر ، فيكون للعموم.

أمّا الصّغرى ، فلصحّة : جاء رجال من الرّجال ، دون العكس ، والمنتزع منه أكثر من المنتزع.

وأمّا الثانية ، فلأنّ المفهوم من [الجمع] المعرّف إمّا الجمع ، وهو المطلوب ، أو ما دونه ، وهو باطل ، فإنّه لا عدد أقلّ من الكلّ إلّا ويصحّ انتزاعه من الكلّ ، فثبت أنّه للكلّ.

السّابع : اللّام العهديّة تعمّ ، فكذا الجنسيّة.

أمّا الأولى ، فلانّ من فاخر غيره في ذكر رجال معيّنين ، ثمّ قال : أحدّثك عن الرّجال ، عقل منه جميعهم ، لأنّ الّذي جرى ذكره ، هو الجميع ، فليس انصرافه إلى البعض أولى من انصرافه إلى الآخر.

وأمّا الثانية ، فلأنّ الجنس هو المتعارف إذا لم يكن عهد ، وكان للجميع ، لعدم أولويّة البعض.

١٥٩

احتجّ المانعون بوجوه :

الأوّل : لو كانت [هذه الصيغة] للعموم ، لكان استعمالها في العهد مجازا أو اشتراكا ، وهما خلاف الأصل.

الثاني : يلزم التكرير في جاء كلّ الناس ، والنّقض في بعضهم.

الثالث : يقال : جمع الأمير الكتّاب ، مع أنّه ما جمع الكلّ ، والأصل [في الكلام] الحقيقة ، فهذه الصيغة حقيقة فيما دون الاستغراق ، فلا تكون حقيقية فيه ، دفعا للاشتراك.

الرابع : إذا قال : جاءني رجال ، اقتضى جمعا من الرّجال غير مستغرق ، واللّام أفادت التعريف ، فمن أين جاء الاستغراق؟

الخامس : لو أفاد الاستغراق ، لكان قولنا : فلان يلبس الثياب بمنزلة : يلبس كل الثياب ، ونفيه وهو : فلان لا يلبس الثّياب صادق ، ويحسن إطلاقه على كلّ واحد ، إذ كلّ أحد لا يلبس كلّ الثياب ومعلوم أنّ أهل اللغة لا يستحسنون إطلاق ذلك إلّا على من لا يلبس شيئا من الثّياب ، فعلمنا أنّ قولنا : فلان يلبس الثياب ، يفيد الجنس ، فنفيه يفيد نفي الجنس أصلا ، فلذلك عمّ.

وكذلك ينبغي أن يوصف كلّ أحد بأنّه لا يباشر النّساء ولا يأكل الطعام ، لعدم مباشرته لجميع النساء.

والجواب عن الأوّل : أنّ اللّام للتعريف ، فينصرف إلى ما السامع به أعرف ، فإن كان هناك معهود ، حمل عليه ، لأنّ السامع به أعرف ، وإلّا حمله على الجميع ،

١٦٠