الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٨
وينتقض بما لو نصّ على الوجوب ، فإنّه يجب التأسّي علينا ، لا التكرار عليه.
السادس : لو دلّ فعله على وجوب مثله علينا ، لدلّ على أنّه كان واجبا عليه ، والتالي باطل إجماعا ، فكذا المقدّم.
بيان الشرطية : أنّا إنّما نفعله تبعا له ، فإذا لم يدلّ على أنّه كان واجبا عليه ، فأولى أن لا يدلّ على أنّه يجب علينا مثله.
اعترضه بأنّه إنّما يجب أن تكون دلالته على وجوب مثله علينا موقوفة على دلالته على أنّه كان واجبا عليه ، لو ثبت أنّه لا يجوز أن يجب علينا مثل فعله إلّا إذا كان قد أوقعه على وجه الوجوب ، وهو نفس المتنازع ، فلا يجوز هنا (١) الدلالة عليه.
فإن قلت : إنّما كان وجوبه علينا موقوفا على وجوبه عليه ، لأنّ قوله (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) يدلّ عليه.
قلنا : هذا عدول إلى دلالة أخرى (٢).
وفيه نظر ، للعلم القطعيّ بأن الفعل لا يجب علينا إلّا إذا كان واجبا عليه.
إذا عرفت هذا فنقول : جهة العلم بالتأسّي إنّما هو السّمع لا مطلقا ، بل فيما علم الوجه فيه ، على ما سبق.
__________________
(١) في بعض النسخ : فلا يجوز بنا.
(٢) المعتمد : ١ / ٣٥٣.
المبحث السّادس :
في طريق معرفة أفعاله صلىاللهعليهوآلهوسلم
اعلم انّ ما يسند إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ممّا يتعلّق به التكليف ، ممّا ليس بقول ، ضربان : فعل وترك.
والفعل ، إمّا أن يختصّ به ، كالصلاة والصّوم ، أو يتعلّق بغيره ، كعقوبة الغير.
والترك ، إمّا مختصّ به ، كتركه الجلسة في الركعة الثانية ، أو متعلّق بغيره ، كتركه عقوبة الغير ، وتركه القضاء عليه.
وكلّ من هذه إمّا واجب ، أو ندب ، أو مباح ، لامتناع صدور المعصية عنه.
وكلّ واحد من ذلك ، إمّا أن يكون قد امتثل فيه طريقة معروفة لنا ، أو غير معروفة ، فإن كانت معروفة لنا ، فإمّا أن تكون عقليّة أو سمعيّة.
وما امتثل فيه طريقة غير معروفة لنا ، فإمّا أن تكون مبتدأة لا تتعلّق بشيء من الأدلّة ، أو تتعلق بشيء منها ، وهذا الأخير إمّا أن يتعلّق به على طريق الموافقة ، وهو بيان صفة المجمل ، أو يتعلّق به لا على طريق الموافقة ، وهو ضربان : [أحدهما] بيان التخصيص ، و [الآخر :] بيان النسخ.
وبيان التخصيص ، إمّا بيان تخصيص قول أو فعل ، وبيان النسخ [أيضا] إمّا بيان نسخ قول أو فعل.
ولمّا وجب علينا التأسّي بفعله ، وجب علينا معرفة الوجه الّذي يقع عليه فعل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فطريق معرفة الإباحة أربعة :
الأوّل : نصّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّه مباح.
الثاني : وقوعه امتثالا لآية تدلّ على الإباحة.
الثالث : وقوعه بيانا لها.
الرابع : عدم دليل على الوجه ، مع العلم بأنّه لا يذنب ، وأصالة عدم الزائد على الحسن.
ويعرف الندب بسبعة : الثلاثة الأول ، وأربعة أخرى.
الأوّل : علم قصد القربة منه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مع أصالة عدم الوجوب.
الثاني : أن يخيّر (١) بينه وبين فعل مندوب ، فيعلم أنّه ندب ، لامتناع التخيير بين الندب وغيره.
الثالث : أن يقع قضاء لعبادة مندوبة ، لاستحالة ترجيح الفرع على الأصل.
الرابع : أن يداوم على الفعل ، ثمّ يخلّ به احيانا من غير نسخ ، فالدوام دليل الطاعة ، والإخلال دليل نفي الوجوب.
ويعرف الواجب بالثلاثة الأول وبأمور خمسة أخرى.
الأوّل : التخيير بينه وبين واجب ، لامتناع التخيير بين الواجب وغيره.
الثاني : أن يكون قضاء لعبادة واجبة. (٢)
__________________
(١) في «ج» : أن يتخيّر.
(٢) ذكره الرازي في المحصول : ١ / ٥١٥ وتنظّر فيه المصنّف.
وفيه نظر ، إذ وجوب الأداء لا يستلزم وجوب القضاء.
الثالث : أن يقترن بالفعل أمارة الوجوب ، كما لو صلّى بأذان وإقامة.
الرابع : أن يكون جزاء لشرط موجب ، كفعل ما وجب بالنذر.
الخامس : أن يكون فعلا لو لم يجب لم يجز ، كالجمع بين ركوعين في [صلاة] الكسوف.
ويعرف أنّ فعله وتركه امتثال لدلالة نعرفها ، بأن يكون مطابقا لبعض الأدلّة العقليّة أو الشرعيّة الّتي نعرفها.
ويعرف أنّ فعله بيان بأمرين :
الأوّل : أن يقول : هذا بيان ذلك.
الثاني : أن يرد خطاب مجمل من الله تعالى أو من رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم فعل ما يحتمل أن يكون بيانا له ، ولا يوجد بيان غيره ، مع حضور الحاجة ، فيعلم أنّه بيان ، وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
وفي الترك (١) ، نحو أن يترك الجلسة في الركعة الثانية ، فينسخ به ، فلا يرجع ، فيعلم أنّها غير واجبة.
ويعرف كون فعله أو تركه نسخا للقول ، بأن يقول ما يدلّ على تكرار الفعل منه ومن غيره ، ويفعل موجبه ، ثمّ يفعل ضدّه أو يتركه ، فيعلم نسخه عنه.
ويعرف كون فعله أو تركه مخصّصا لقوله ، بأن يصدر منه قول يعطي
__________________
(١) عطف على قوله : «ويعرف ان فعله» أي يعرف البيان في الترك.
وجوب فعل عليه وعلينا ، ثمّ يفعل ضدّه في الحال ، أو يتركه ، فيعلم أنّه مخصوص من ذلك الدليل.
ويعرف كونهما مخصّصين لفعله ، بأن يفعل ما يدلّ دليل على إدامته عليه وعلينا ، ثمّ يفعل ضدّه في الحال أو يتركه ، فيعرف أنّه مخصوص.
والأشبه ، أنّ هذا الفعل مخصّص لما دلّ على وجوب فعله في المستقبل ، وفي التحقيق: أنّه ناسخ.
وأمّا أفعاله المتعلقة بغيره ، فهي الحدود ، والتعزير ، والقضاء على الغير ، فالحدّ والتعزير يدلّ على إقدام الغير على كبيرة ان كان على وجه النّكال ، وإن كان على سبيل الامتحان لم يدلّ على أنّه الآن مقيم على كبيرة.
وأمّا قضاؤه على غيره وإن كان من قبيل الأقوال ، فإنّه يقتضي لزوم ما قضى به ، لأنّ القضاء هو الإلزام.
قال قاضي القضاة (١) : اختلف الناس في حكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّ زيدا فاضل ، أو أنّه أفضل من غيره ، هل هو على الظاهر أو على سبيل القطع؟ فقال بعضهم بالأوّل ، وآخرون بالثاني ، وكذا اختلفوا في نسبته صلىاللهعليهوآلهوسلم زيدا إلى عمرو ، على القولين ، ولم يختلفوا في أنّ حكمه على غيره بالدّين حكم بالظاهر لا يقطع به على الباطن ، قال : فأمّا إذا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لغيره : «هذا الحقّ عليك» فإنّ فيه الخلاف المتقدّم ، وإذا ملّك غيره شيئا ملّكه في الحقيقة ، لأنّ التمليك يقتضي إباحة تصرّف خاصّ ، وإذا أباح إنسان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أكل طعامه ، فاستباح
__________________
(١) نقله أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٥٨.
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أكله ، فإنّه لا يدلّ على أنّه ملكه (١) قطعا ، للاكتفاء في استباحة الأكل بظاهر اليد.
وأمّا ترك الإنكار فيقول : إذا فعل واحد بحضرته صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو عالم به ، قادر على إنكاره ، فسكت عنه ، فإن كان قد سبق منه الإنكار ، وعلم من الفاعل الإصرار عليه ، ومن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الإصرار على قبح ذلك وتحريمه ، فالسكوت عنه لا يدلّ على جوازه إجماعا ولا يتوهّم كونه منسوخا ، كاختلاف أهل الذمّة إلى كنائسهم.
وإن لم يكن قد علم الإصرار ، فالسكوت يدلّ على نسخه عن ذلك الشخص ، وإلّا لما ساغ السكوت ، حتّى لا يتوهّم أنّه منسوخ ، فيقع في محذور المخالفة.
ولا يجوز أن يقال : إنّه قبيح ، وإنّما لم ينكر لأنّه ظنّ أنّ إنكاره غير مؤثّر ، لأنّ إنكار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا بدّ وأن يؤثّر ، وليس كإنكار غيره. هكذا قاله قاضي القضاة.
وقال أبو الحسين : إنّه صحيح إذا كان فاعل القبيح يعتقد نبوّته ، فامّا من يكذّبه ويطرح أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا يمكن أن يقال : إنّ إنكاره عليه لا بدّ من أن يؤثّر على كلّ حال (٢).
وفيه نظر ، إذ قد يرجع عن تكذيبه وينقاد إلى قوله ، فترك الإنكار يوهم
__________________
(١) في «ب» و «ج» : مالكه.
(٢) المعتمد : ١ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩.
النسخ وإن لم يكن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد سبق منه النهي عن ذلك الفعل ، ولا عرف تحريمه بسكوته عن فاعله ، وتقريره عليه يدلّ على تسويغه خصوصا إن وجد منه استبشار وثناء على فاعله ، لاستحالة السكوت عن الإنكار مع القدرة ، والاستبشار مع تحريم الفعل.
لا يقال : يحتمل أنّه لم ينكر عليه ، لعلمه بأنّه لم يبلغه التحريم ، فلم يكن الفعل حينئذ حراما عليه.
أو لأنّه علم بلوغ التحريم إليه ، فلم يفد وأصرّ على فعله.
أو لأنّه منعه مانع من الإنكار.
لأنّا نقول : عدم بلوغ التحريم إليه غير مانع من الإنكار ، بل يجب عليه إعلامه بتحريم ذلك الفعل ، لئلّا يعود إليه.
وأمّا إذا علم الفاعل التحريم وأصرّ مع إسلامه ، فلا بدّ من تجديد الإنكار عليه ، لئلّا يتوهّم نسخه ، بخلاف عدم تجديد الإنكار على أهل الذمّة في اختلافهم إلى كنائسهم ، إذ هم غير متّبعين له.
والأصل عدم المانع ، خصوصا بعد ظهور دعوته وقوّة شوكته.
واعلم أنّ الشافعي تمسّك في باب إلحاق النسب بالقيافة بما نقله عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من ترك الإنكار والاستبشار في باب القيافة ، لما قال مجزّز المدلجي (١) حين نظر إلى أقدام زيد وأسامة تحت ملحفة وقد ظهرت
__________________
(١) في أسد الغابة : مجزّز المدلجي القائف ، وإنّما قيل له : مجزّز ، لأنّه كان كلّما أسر أسيرا جزّ ناصيته ، لاحظ أسد الغابة : ٤ / ٤٨ برقم ٤٦٨٠.
له أقدامهما : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض (١).
ولو لا تسويغ القيافة ، وثبوت الأنساب بها ، لأنكرها ولما استبشر بها.
وأورد القاضي أبو بكر عليه (٢) : أنّ ترك الإنكار إنّما كان لأنّ قول المدلجيّ كان موافقا للحقّ ، وكان المنافقون يغمزون في نسب زيد وأسامة ، طلبا لأذى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكان الشرع قد حكم بالتحاق أسامة بزيد ، وكان قول المدلجيّ موافقا لقول الشارع ، وكان ترك الإنكار لذلك ، من حيث إنّه إلزام المنافقين على أصلهم الّذي هو القيافة ، ومكذّب لهم ، لأنّ المنافقين تعرّضوا للغمز ، وكان أصلهم الّذي هو القيافة ، مكذّبا لهم ، فاستبشره لذلك ، ولا يدلّ ذلك على صحّة الطريق.
واعترض (٣) : بأنّ موافقة الحقّ لا يمنع من الإنكار إذا كان الطريق منكرا ، وإلّا كان ترك الإنكار موهما حقيّة الطريق.
وفيه نظر ، لأنّها حكاية حال ، فلعلّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنكر ذلك متكرّرا ، وعرف عدم قبول المنافقين منه.
__________________
(١) أخرجه البخاري في صحيحه ، في كتاب الفرائض ، باب القائف برقم ٦٧٧٠ ـ ٦٧٧١ ؛ وأبو داود في سننه : ٢ / ٢٨٠ برقم ٢٢٦٧ ؛ وأحمد بن حنبل في مسنده : ٦ / ٨٢ و ٢٢٦.
(٢) نقله عنه الجويني في البرهان : ١ / ٣٢٩.
(٣) لاحظ البرهان للجويني : ١ / ٣٣٠.
المبحث السابع :
في التعارض في أقواله وأفعاله
الفعلان لا يتعارضان ، لأنّ التعارض إنّما يتمّ مع التنافي ، وإنّما يتنافى الفعلان إذا تضادّا ، وكان محلّهما واحدا ، وكذا وقتهما ، ويستحيل وجود فعل وضدّه في وقت واحد في محلّ واحد.
فأمّا الفعلان الضدّان في وقتين ، فلا يتعارضان بأنفسهما ، لعدم تنافي وجودهما ، بل قد يتعارضان باعتبار غيرهما ، نحو أن يفعل صلىاللهعليهوآلهوسلم فعلا ، ويعلم بالدليل أنّ غيره متعبّد به ، ثمّ يراه عقيب ذلك ، قد أقرّ بعض النّاس على فعل ضدّه ، فيعلم أنّه خارج منه.
وكذا إذا علمنا أنّ ذلك الفعل يلزم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في مثل تلك الأوقات ما لم يرد دليل ناسخ ، ثمّ يفعل صلىاللهعليهوآلهوسلم ضدّه في مثل ذلك الوقت ، فيعلم أنّه قد نسخ عنه ، غير أنّ النسخ والتخصيص إنّما لحقا ما علمنا به لزوم ذلك الفعل له صلىاللهعليهوآلهوسلم في مستقبل الأوقات ، وأنّه يلزم غيره ، وإنّما يقال : إنّ ذلك الفعل قد لحقه النسخ ، على معنى أنّه قد زال التعبّد بمثله ، وأنّ التخصيص قد لحقه على معنى أنّ بعض المكلّفين لا يلزم مثله.
وأمّا إذا عارضه قوله ، فإمّا أن يعلم تقدّم القول أو الفعل ، أو لا يعلم تقدّم أحدهما؟ فالأقسام ثلاثة :
الأوّل : أن يعلم تقدّم القول. والفعل المعارض إمّا أن يتعقّبه ، أو يتراخى عنه.
وعلى التقديرين ، فالقول إمّا أن يتناوله (١) خاصّة ، أو يتناول أمّته خاصّة ، أو يعمّهما.
وعلى كلّ تقدير ، فإمّا أن يدلّ دليل على تكرار الفعل وعلى وجوب التأسّي به ، أو يدلّ على التكرار خاصّة ، أو على التأسّي خاصّة ، أو لا يدلّ دليل على أحدهما.
فالأقسام كذا :
الأوّل : أن يكون القول متقدّما على الفعل ومختصّا به ، مثل أن يقول : «يتلبّس الفعل الفلاني واجب عليّ في وقت الفلاني» ثمّ يتلبّس بضدّه في ذلك الوقت ، ولا دليل على تكرّر ، ولا تأسّ ، وهو محال عند من منع النسخ قبل الفعل ، لأنّه ليس تخصيصا ، لاتّحاد المحلّ فيهما ، فيكون نسخا.
ومن جوّزه قال : الفعل ناسخ لحكم القول ، ولا تعلّق للأمّة بهما ، أمّا القول فلأنّه منسوخ ومختصّ به صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأمّا الفعل فلعدم دليل التأسّي والتكرار.
الثاني : أن يكون الحال كذلك ويدلّ دليل على تكرّر الفعل.
الثالث : أو على التأسّي.
الرابع : أو عليهما ، وحكمه ما تقدّم إلّا في حقّ الأمّة في الأخيرين ، فإنّ حكم الفعل يتناولهم.
__________________
(١) الضمير يرجع إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الخامس : أن يكون القول خاصّا بنا ، ولا دليل على تكرّر ولا تأسّ ، فيجب المصير إلى القول ، دون الفعل ، لاختصاص الفعل به ، ولا يلغو ، لثبوت حكمه في حقّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا القول ، ولو صرنا إلى الفعل لزم إلغاء القول بالكليّة.
السادس : أن يدلّ دليل على تكرّر الفعل دون التأسّي ، وحكمه ما تقدّم.
السابع : أن يدلّ على التأسّي دليل.
الثامن : أن يدلّ عليه وعلى التكرار ، وحكمهما في حقّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ما تقدّم.
وأمّا في حقّنا فكما في الأوّل ، يمنع عندنا ، ويجوز عند من جوّز النسخ قبل الفعل.
التاسع : أن يكون الفعل متراخيا ، والقول مختصّ به ، ولا دليل على تكرّر ولا تأسّ ، فيكون (١) مقتضى القول منسوخا عنه دوننا.
العاشر : أن يدلّ دليل على تكرّره فكذلك.
الحادي عشر : أن يدلّ دليل على التأسّي.
الثاني عشر : أو عليه وعلى التكرار ، وحكمها في حقّه أن يكون الفعل ناسخا.
وأمّا في حقّنا فالتعبّد بالفعل ، ولا يتحقّق النسخ في حقّنا ، لعدم تناول القول لنا.
الثالث عشر : أن يكون القول عامّا لنا وله ، ولا دليل على تكرّر ولا تأسّ ،
__________________
(١) في «أ» : كان.
ولا تراخ ، فإنّ فعله مخصوص به ، وهو دالّ على أنّه مخصوص من القول ، وأمّته داخلة فيه قطعا.
الرابع عشر : أن يدلّ على التكرّر فكذلك.
الخامس عشر : أن يدل على التأسّي.
السادس عشر : أو عليه وعلى التكرار ، فإنّهما جائزان عند من يجوّز النسخ قبل الفعل ، لتضمّن الفعل مع دليل التأسي النسخ في حقّنا قبل حضور الوقت.
السابع عشر : أن يكون الفعل متراخيا ، والقول خاصّا فينا ، ولا دليل على تكرّر ولا تأسّ ، فإنّ حكم القول ثابت في حقّنا ، لاختصاصه بنا من غير تجدّد مزيل (١) وحكم العقل ثابت في حقّه ، ولا نسخ.
الثامن عشر : أن يدلّ دليل على تكرّر ، وحكمه كذلك.
التاسع عشر : أن يدلّ دليل على التأسّي.
العشرون : أو عليه وعلى التكرار ، فيجب المصير فيهما إلى الفعل ، عملا بدليل التأسّي ، ويكون حكم القول منسوخا في حقّنا ، ولا نسخ في حقّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لاختصاص القول بنا.
الحادي والعشرون : أن يكون القول عامّا لنا وله ، والفعل متراخ ، ولا دليل على تكرّر.
__________________
(١) في «ب» و «ج» : مزيد.
الثاني والعشرون : أو كان عليه دليل ، وحكمهما (١) أن يكون الفعل ناسخا لمقتضى القول في حقّه وحقّنا.
القسم الثاني : أن يعلم تقدّم الفعل
فالقول إمّا أن يتعقّبه أو يتراخى عنه.
فإن كان الأوّل ، فإن كان القول خاصّا به ، ودلّ دليل على تكرّر الفعل والتأسّي به ، كان القول مخصّصا له عن عموم إيجاب الفعل لكلّ مكلّف في المستقبل ، وناسخا للفعل عنه في المستقبل دون أمّته ، لعدم تناول القول لهم.
وإن لم يدلّ دليل على تكرّره ولا على التأسّي ، فلا تعارض بين القول والفعل ، فإنّ القول لم يرفع حكم ما تقدّم من الفعل في الماضي ولا في المستقبل ، وقد أمكن الجمع بين حكم القول والفعل.
وإن دلّ دليل على تكرّره في حقّه ، كان القول ناسخا في حقّه.
وإن دلّ دليل على التأسّي ، كان نسخا في حقّنا أيضا.
وإن كان القول متناولا لنا خاصّة ، دلّ على أنّ حكم الفعل ، مختصّ به ، دون أمّته إن لم يدلّ دليل على التأسّي ، وإلّا كان ناسخا في حقّنا.
وإن كان عامّا لنا وله ، دلّ على سقوط حكم الفعل عنّا وعنه.
__________________
(١) في «ب» و «ج» : حكمها.
وإن كان القول متراخيا ، ودلّ دليل على التأسّي والتكرار ، كان ناسخا لحكم الفعل عنه وعنّا.
ولو دلّ على التكرار خاصّة ، كان ناسخا في حقّه دوننا ، وكنّا متعبّدين بالقول.
وإن دلّ على التأسّي خاصّة ، لم يكن رافعا لحكم الفعل في الماضي ولا المستقبل ، على ما تقدّم.
وإن كان متناولا لأمّته خاصّة ، فيكون الفعل منسوخا عنهم دونه ، إن دلّ دليل على التأسّي والتكرار.
وإن تناوله خاصّة ، كان منسوخا عنه دون أمّته.
القسم الثالث : أن يجهل التاريخ ولا يعلم تقدّم أحدهما
فإن دلّ دليل على التكرار والتأسّي ، فإن كان القول خاصّا به ، فلا معارضة بين قوله وفعله بالنّسبة إلى الأمّة ، لعدم تناول قوله لهم وامّا بالنسبة إليه ، فقد اختلف فيه :
فقال بعضهم : يجب العمل بالقول ، لأنّه يدلّ بنفسه من غير واسطة ، والفعل إنّما يدلّ على الجواز بواسطة أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يفعل المحرّم.
ولأنّ القول ممّا يمكن التعبير به عمّا ليس بمحسوس ، وعن المحسوس ، والفعل لا ينبئ عن غير محسوس (١) فكانت دلالة القول أتمّ.
__________________
(١) في «ج» : والفعل لا ينبئ إلّا عن المحسوس.
ولأنّ القول قابل للتأكيد بقول آخر ، بخلاف الفعل ، فكان القول أولى.
ولأنّ العمل بالقول ممّا يفضي إلى نسخ مقتضى الفعل في حقّه صلىاللهعليهوآلهوسلم دون الأمّة ، والعمل بالفعل يفضي إلى إبطال مقتضى القول بالكليّة ، والجمع بينهما ولو من وجه أولى (١).
وفيه نظر ، لأنّ الواسطة المذكورة ثابتة في القول أيضا ، كثبوتها في الفعل ، فإنّ القول إنّما يدلّ بواسطة أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يقول إلّا الحقّ ، وعموم دلالة القول لا يدلّ على زيادة قوّته في الدلالة على دلالة الفعل الخاصّة ، وكذا قبوله التأكيد.
ولأنّ جهلنا بالتاريخ لا يوجب تقدّم أحدهما وتأخّر غيره ، فلا يعلم الناسخ ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما يتعبّد بالناسخ وهو يعلمه دوننا ، فلا يجوز لنا أن نعتقد تقديم احدهما بالنسبة اليه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقال آخرون : يجب العمل بالفعل ، لأنّه آكد في الدلالة ، لأنّه يبيّن به القول ، والمبيّن لغيره آكد في الدلالة من ذلك الغير بيانه :
أنّ جبرئيل عليهالسلام بيّن كيفيّة الصلاة للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالفعل ، وكذا بيّنها صلىاللهعليهوآلهوسلم لأمّته حيث قال : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» وبيّن الحجّ بفعله حيث قال : «خذوا عنّي مناسككم» وبيّن الشهر بأصابعه حيث قال : «الشهر هكذا وهكذا».
ولأنّ كلّ من أراد الأسهل في التعليم استعان بالإشارة بيده ، والتخطيط ، ووضع الأشكال ، ولو لا قوّة دلالة الفعل لما كان كذلك ويرد ما تقدم.
__________________
(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ١ / ١٣٥.
وقيل (١) بالوقف.
(وهو حقّ بالنسبة إلى اعتقادنا ، لا بالنسبة إلى ما يعتقده عليهالسلام) (٢) وكذا إذا كان القول خاصّا بنا أو عامّا لنا وله ، وهنا العمل بالقول عندي أقوى من الأوّل ، لأنّا نعلم أنّ القول قد تناولنا ، وأمّا الفعل فبتقدير أن يتأخّر ، كان متناولا لنا ، وبتقدير أن يتقدّم لا يتناولنا ، فتناوله لنا مشكوك فيه ، والمعلوم مقدّم على المشكوك فيه.
واعلم أنّ كلّ واحد من الثاني والثالث ، يشمل على أقسام الأوّل ، ويعرف أحكامها ممّا تقدّم.
هذا حكم قوله وفعله ، إذا تعارضا من كلّ وجه ، فإن تعارضا من وجه دون وجه كنهيه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول ، وجلوسه لقضاء الحاجة في البيوت مستقبل بيت المقدس ، وذلك يحتمل أن يكون مباحا في البيوت لكلّ أحد أو له خاصّة.
ويحتمل أن يكون نهيه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن استقبال القبلة واستدبارها عامّا لأمّته في البيوت والصحارى ، وأن يكون خاصّا في الصحارى ، وقد اختلف في ذلك من غير تفصيل ، فقال الشافعي : إنّ نهيه مخصوص بفعله.
وقال الكرخي (٣) نهيه جار على إطلاقه ، ويخصّ (٤) فعله به صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتوقّف قاضي القضاة. (٥)
__________________
(١) نقله الآمدي عن بعض ولم يسمّ قائله ، لاحظ الإحكام : ١ / ١٣٥.
(٢) ما بين القوسين يوجد في «ب» و «ج».
(٣) تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل : ٢١٩.
(٤) في «أ» و «ب» : ويختصّ.
(٥) نقله عنه أبو الحسين البصريّ في المعتمد : ١ / ٣٦١.
احتجّ الشافعي : بأنّ النّهي عامّ ، ومجموع الدليل الدالّ على التأسّي مع كونه مستقبل القبلة في البنيان عند قضاء الحاجة ، أخصّ من ذلك النهي ، والخاصّ مقدّم.
واعترضه أبو الحسين : بأنّ فعله وإن كان أخصّ ، لأنّ نهيه عامّ في البيوت والصحارى ، وفعله خاصّ بالبيوت ، إلّا أنّه لا يتعدّى إلينا ، ونهيه يتعدّى إلينا.
وأيضا ، إذا جعلنا النّهي هو المخصّص ، كنّا قد خصّصنا به وحده قوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(١).
وإذا كان المخصوص ، هو هذه الآية ، وهي أعمّ من النّهي ، كان تخصيصها أولى.
ولهم أن يقولوا : نحن إذا خصّصنا هذا النّهي ، فإنّا نخصّه بفعل النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مع ما ثبت من التأسّي ، ومجموعهما أخصّ من النّهي. (٢)
__________________
(١) الأحزاب : ٢١.
(٢) المعتمد : ١ / ٣٦١ ـ ٣٦٢.
المقصد الثامن : في النسخ
وفيه فصول :
[الفصل] الأوّل :
في حقيقته
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل : في ماهيّته
لمّا كان أصول الفقه باحثا عن طرق الفقه الّتي يرجع (١) كلّها أو أكثرها إلى الكتاب والسنّة ، وكان النسخ متطرّقا إليهما ، وباعتباره يخرج المنسوخ عن كونه طريقا صالحا للاستدلال ، ويتعين الناسخ ، وجب على الأصوليّ معرفة النسخ ، وشرائطه ، وحسنه ، والناسخ ، والمنسوخ ، والفرق بينه وبين البداء وما يلحق به ،
__________________
(١) في «ج» : مرجع.
وهو ما أخرج منه ، وما أدخل فيه وليس منه ، والطريق الى معرفة كون الشيء ناسخا ومنسوخا ولنبدأ بفائدة اسمه ، ثمّ نعقّبه بحدّه ثمّ نذكر باقي أحكامه بتوفيق الله تعالى.
واعلم أنّ اسم النسخ في اللّغة موضوع للإزالة ، وللنقل والتحويل.
فأمّا الإزالة ، ففي قولهم : نسخت الشّمس الظلّ ، أي أزالته ، لأنّه قد لا يحصل [الظلّ] في مكان آخر فيظنّ أنّه انتقل إليه ، ويقال : نسخت الرّيح آثار القوم.
وأمّا النقل والتحويل ، فقولهم : نسخت الكتاب ، أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر ، ومنه تناسخ الأرواح (١) ، وتناسخ القرون قرنا بعد قرن ، وتناسخ المواريث ، ويراد تحويلها ونقلها من وارث إلى آخر ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢) أي ننقله إلى الصحف.
وقد اختلف هنا فقال القاضي أبو بكر ، (٣) والغزّالي (٤) وغيرهما : إنّه مشترك بين هذين.
__________________
(١) التناسخ : عبارة عن انتقال النّفس أو الروح من البدن الدنيويّ إلى بدن مثله في هذه النشأة وهو مذهب البراهمة والهندوس وله صور وأقسام ثلاثة ، والقول بالتناسخ يضادّ القول بالمعاد الّذي أطبق عليه أصحاب الشرائع ، والتفصيل في محلّه.
(٢) الجاثية : ٢٩.
(٣) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٣ / ٧١.
(٤) المستصفى : ١ / ٢٠٧.