نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

والخلاف هنا في شيء واحد ، وهو أنّ استعمال المنفصل على سبيل الحقيقة أو على سبيل المجاز؟ مع وقوع الاتّفاق على أنّه حقيقة في المتّصل.

والحقّ هو الثاني ، خلافا للقاضي.

لنا وجوه :

الأوّل : الاستثناء مأخوذ من الثني ، وهو إخراج بعض ما تناوله اللّفظ ، ولا يتحقّق ذلك في غير الجنس ، فإنّ من قال : رأيت الناس [إلّا الحمر] ، لا يدخل فيه غيرهم من الأجناس ، فلا يتحقّق الاخراج حينئذ ، لعدم تحقّق الدّخول الّذي هو شرط الإخراج ، بل الجملة الأولى باقية بحالها لم يخرج عنها شيء. (١)

وفيه نظر ، لإمكان ثبوت المسبوقيّة (٢) هنا ، فإنّ الحاكم على جملة ، يحتمل حكم على أخرى به ، وبالمنفصل يخرج الاحتمال ، ويتحقّق الثني ، خصوصا والمنفصل إنّما يحسن مع احتمال المشاركة.

الثاني : الاستثناء من غير الجنس إمّا أن يكون من اللفظ ، أو من المعنى ، والقسمان باطلان ، فيبطل من غير الجنس حقيقة.

أمّا الأوّل ، فلأنّ اللّفظ الدّالّ على الشيء فقط ، لا يدلّ على ما يخالف مسمّاه ، وإذا لم يدلّ اللّفظ على ذلك المخالف ، لم يحتج إلى صارف يصرفه عنه.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لو جاز حمل اللّفظ على المشترك بين مسمّاه

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٩٣.

(٢) في «أ» و «ب» : المشتقّ منه.

٢٤١

وبين المستثنى ، حتّى يصحّ استثناء كلّ شيء من كلّ شيء ، لأنّ كلّ شيئين لا بدّ وأن يشتركا من بعض وجوه ، فإذا حمل المستثنى على ذلك المشترك ، صحّ الاستثناء.

ولمّا لم يصحّ في العرف استثناء كلّ شيء من كلّ شيء ، علمنا بطلان هذا القسم. (١)

وفيه نظر ، لأنّ أهل اللّغة إن منعوا من ذلك ، لم يلزم خروج اللّفظ عن كونه حقيقة في المطلق ، وإن لم يمنعوا منعنا من عدم الصّحّة.

الثالث : استعماله في المنفصل إمّا لكون اللّفظ حقيقة فيه بخصوصيّة ، أو لمعنى مشترك بينه وبين المتّصل ، والقسمان باطلان ، فاستعماله منه على سبيل الحقيقة باطل امّا الأوّل فلانّه ان كان حقيقة في المتصل لزم الاشتراك ، وهو خلاف الأصل ، وإن لم يكن حقيقة فيه ، كان مجازا فيه ، وحقيقة في المنفصل ، وذلك خلاف الإجماع.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لو كان كذلك ، لكان متواطئا ، والتالي باطل ، وإلّا لم يسبق الفهم إلى أحد جزئيّاته ، إذ هو شأن المتواطئ ، لكن السّبق موجود ، ولهذا حكم فقهاء الأمصار عليه ، دون المنقطع ، إلّا عند تعذّره وتأوّلوا : «له عندي مائة درهم إلّا ثوبا» وشبهه بقوله: إلّا قيمة ثوب. (٢)

وفيه نظر ، لجواز التشكيك ، وإضمار القيمة ليس باعتبار المجاز ، بل لضرورة الإخراج.

__________________

(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤٠٨.

(٢) الاستدلال للآمدي في إحكامه : ٢ / ٣٩٤.

٢٤٢

احتجّ المخالف بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً)(١).

الثاني : قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ)(٢) ولم يكن من الملائكة ، بل من الجنّ لقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ)(٣) وكان له ذريّة ولا ذريّة للملائكة.

ولأنّه مخلوق من نار ، والملائكة من نور.

الثالث : قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(٤) استثنى التجارة من الباطل ، وذلك من غير الجنس.

الرابع : قوله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ)(٥) والظّنّ ليس من جنس العلم.

الخامس : قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً* إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً)(٦) والسّلام ليس من جنس اللغو.

__________________

(١) النساء : ٩٢.

(٢) الحجر : ٣٠ ـ ٣١.

(٣) الكهف : ٥٠.

(٤) النساء : ٢٩.

(٥) النساء : ١٥٧.

(٦) الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦.

٢٤٣

السادس : قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ)(١) استثنى الباري تعالى من جملة ما كانوا يعبدون من الأصنام وغيرها.

السابع : قوله تعالى : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ* إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا)(٢) استثنى الرّحمة من نفي الصريخ والإنقاذ ، وهو من غير الجنس.

الثامن : قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)(٣) ومن رحم ليس بعاصم ، بل معصوم ، وليس المعصوم من جنس العاصم. (٤)

وفيه نظر ، فإنّ العاصم هنا اسم فاعل ، والمراد به المعصوم مجازا ، ويكون الاستثناء حينئذ من الجنس.

التاسع : قال الشاعر (٥) :

وبلدة ليس لها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

وقال النابغة (٦) :

 ..................

 ... ما بالرّبع من أحد

__________________

(١) الشعراء : ٧٧.

(٢) يس : ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) هود : ٤٣.

(٤) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٩٥.

(٥) الشاعر هو عامر بن الحارث النميري المعروف ب «جران العود» أدرك الإسلام ، وسمع القرآن واقتبس منه كلمات وردت في شعره. لاحظ الأعلام للزركلي : ٣ / ٢٥٠.

(٦) النابغة هو زياد بن معاوية ، كنيته أبو أمامة ولقبه النابغة ، لقّب به لنبوغه في الشعر ، هو أحد شعراء الطبقة الأولى. مات نحو سنة ١٨ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٣ / ٥٤.

٢٤٤

إلّاأواريّ (١) ..................

...................

العاشر : قالوا : «ما زاد إلّا ما نقص» و «ما نفع إلّا ما ضرّ».

الحادي عشر : الاستثناء يقع تارة عمّا يدلّ عليه اللفظ دلالة المطابقة أو التضمّن ، وتارة عمّا يدلّ عليه بالالتزام ، فإذا قال : لفلان عليّ دينار ، إلّا ثوبا ، فمعناه : إلّا ثمن ثوب.

الثاني عشر : الاستثناء لا برفع جميع المستثنى منه ، فصحّ ، كاستثناء الدّراهم من الدّنانير ، وبالعكس.

الثالث عشر : إذا قال : قام القوم إلّا زيدا ، فإمّا أن يكون زيد داخلا في القوم ، وهو محال ، وإلّا لزم التناقض ، وإمّا أن يكون خارجا عنهم ، فيكون استثناء من غير الجنس ، فلو كان الاستثناء من غير الجنس باطلا ، بطل الاستثناء منه ، والتالي باطل بالإجماع.

والجواب عن الأوّل : أنّ إلّا بمعنى لكن وليس استثناء ، ويكون التقدير : «وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلّا إذا أخطأ ، فظنّ أنّه ليس مؤمنا إمّا باختلاطه بالكفّار ، فيظنّه منهم ، أو برؤيته من بعد فظنّه صيدا ، أو حجرا.

وذكر أبو هاشم على مذهبه وجها استحسنه المرتضى ، وهو : أنّ المراد

__________________

(١) هو جزء من عجز بيت وصدر آخر ، والبيتان هما :

وقفت فيها أصيلانا أسائلها

عيّت جوابا وما بالربع من أحد

ألا الا واري لا يأما أبينها

والنزى كالحوض بالمظلومة الجلد

لاحظ ديوانه : ٣٠.

٢٤٥

انّ مع كونه مؤمنا يقع منه الخطأ ولا يقع منه العمد» (١).

وعن الثاني : بالمنع من كونه ليس من جنس الملائكة ، ولا تنافي بين كونه من الملائكة ومن الجنّ ، فإنّه قد نقل عن ابن عبّاس وغيره من المفسّرين : أنّ إبليس كان من الملائكة من قبيل يقال لهم الجنّ ، لأنّهم كانوا إخوان الجانّ (٢) وكان إبليس رئيسهم ، ويسمّى جنيّا لاختفائه واجتنانه.

ويؤيّده ، أنّه استثني من الملائكة ، والأصل في الاستثناء الاتّصال ، للإجماع على صحّته ، والخلاف في المنفصل.

ولأنّ الأمر بالسجود لآدم ، إنّما هو للملائكة في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)(٣) ولو لم يكن إبليس منهم ، لم يكن عاصيا بتركه ، إذ الأصل عدم أمر وراء هذا الأمر.

ولا تنافي بين كونه من الملائكة وثبوت الذريّة.

وكون التّوالد إنّما يكون بين الذّكر والأنثى ولا إناث في الملائكة لإنكاره تعالى.

وقولهم : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)(٤) لا ينافي ما قلناه ، لاحتمال كون الأنثى من غير الملائكة ، لإمكان التوالد من جنسين.

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٤٧.

(٢) هكذا في النسخ : وفي الإحكام للآمدي : ٢ / ٣٩٦ : «خزّان الجنان».

(٣) البقرة : ٣٤.

(٤) الزخرف : ١٩.

٢٤٦

ويمكن تولّده من نار ، وتولّد الملائكة من نور ، ويشتركان في حقيقة الملائكة.

سلّمنا أنّه ليس من الملائكة ، لكن حسن الاستثناء ، لأنّه مشارك لهم في الأمر بالسجود ، فيصير التقدير : «فسجد الملائكة المأمورون بالسجود إلّا إبليس».

وعن الثالث والرابع : أنّ «إلّا» بمعنى «لكن» عند البصريّين وبمعنى «سوى» عند الكوفيّين وهو الجواب عن باقي الآيات.

على أنّ الظنّ قد يسمّى علما ، فقوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)(١) أشار إلى كلّ ما يسمّى علما ، والظنّ يسمّى علما ، لقوله (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ)(٢) وأراد ظننتموهنّ ، وذلك إن كان من الأسماء المواطئة ، فلا يكون الاستثناء من غير الجنس ، وإن كان من الأسماء المشتركة أو المجازيّة ، فهو من جملة الأسماء العامّة. (٣)

وفيه نظر ، فإنّ المنفيّ إن كان الأعمّ ، لزم نفي الأخصّ ، فلا يجوز استثناؤه ، وإن كان الأخصّ ، لزم الاستثناء من غير الجنس.

وعن التاسع : أنّ «الأنيس» سواء فسّرناه بالمؤنس ، أو المبصر ، أمكن استثناء اليعافير والعيس منه ، والأحد يصدق على كلّ واحد ، وإن لم يكن حيوانا ، كما يقال أحد الحجرين ، وأحد العمودين (٤) فيكون الاستثناء من الجنس.

__________________

(١) النساء : ١٥٧.

(٢) الممتحنة : ١٠.

(٣) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٩٦.

(٤) في «ب» : أحد العودين.

٢٤٧

وعن العاشر : أنّ التقدير «ما زاد شيء إلّا الّذي نقص» فيكون استثناء من الجنس.

وعن الحادي عشر : أنّه لو صحّ الاستثناء من المعنى ، صحّ استثناء كلّ شيء من كلّ شيء ، وقد بيّنا بطلانه.

وعن الثاني عشر : أنّه لا يلزم من عدم رفع الجميع صحّة الاستثناء من غير الجنس.

واستثناء الدينار من الدّراهم وبالعكس نفس النزاع.

وعن الثالث عشر : ما يأتي في تقدير الاستثناء إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة : في استثناء المستوعب والأكثر

اتّفق النّاس على فساد الاستثناء المستغرق ، فلو قال : له عندي عشرة إلّا عشرة ، لزمته العشرة ، لأنّه رفع للإقرار والإقرار لا يجوز رفعه ، وكذا كلّ منطوق به لا يرفع ، نعم يجوز أن يتمّم بما يجري مجرى الجزء من الكلام ، وكما أنّ الشرط جزء من الكلام ، فكذا الاستثناء ، وإنّما لا يكون رفعا بشرط أن يبقى للكلام معنى.

وهل يلغو الاستثناء ويمنع من استثناء البعض؟ فيه احتمال ، من حيث إنّ استثناء الأكثر يستلزم استثناء الأقل ، فجاز استثناء الأقلّ ، ومن حيث ، إنّه باطل.

وقد فصّل به بين المستثنى والمستثنى منه ، فكان الثاني باطلا أيضا.

وقد اختلف الناس في استثناء الأكثر وغيره على مذاهب ثلاثة :

٢٤٨

الأوّل : منع قوم من استثناء الأكثر وجوّز استثناء النّصف وأقلّ ، وهو اختيار ابن درستويه النّحوي (١).

الثاني : منع القاضي أبو بكر والحنابلة من استثناء الأكثر والمساوي ، وأوجبوا استثناء الأقلّ.

الثالث : جوّز قوم الجميع ، وهو اختيار علمائنا وأكثر الأشاعرة وأكثر الفقهاء والمتكلّمين ، فلو قال : له عليّ عشرة إلّا تسعة ، لزمه درهم واحد.

ونقل عن بعض أهل اللّغة استقباح استثناء عقد صحيح ، فلا نقول : له عليّ مائة إلّا عشرة ، بل نقول : إلّا خمسة.

لنا وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)(٢) ثمّ قال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(٣).

وجه الاستدلال : أنّه تعالى استثنى في الأولى «الغاوين» من عباده وفي الثانية استثنى «المخلصين من الغاوين» فإن تساويا لزم جواز استثناء المساوي ، وإن كان أحدهما أكثر ، لزم جواز استثناء الأكثر.

__________________

(١) هو عبد الله بن جعفر بن محمد بن درستويه ، من علماء اللغة ، فارسي الأصل ، من أهل «فسا» له تصانيف كثيرة ، مات سنة ٣٤٧ ه‍ ، لاحظ الأعلام للزركلي : ٤ / ٧٦.

(٢) الحجر : ٤٢.

(٣) ص : ٨٢ ـ ٨٣.

٢٤٩

وبالجملة فهذه الآيات تدلّ على إبطال قول من منع من المساوي والأكثر ، إذ لو كان المستثنى أقلّ من المستثنى منه ، لزم أن يكون اتّباع إبليس والمخلصين كلّ واحد منهما أقلّ من الآخر (١).

وفيه نظر ، لأنّ الغاوين لو كانوا أقلّ من مطلق عباده ، لم يلزم أن يكونوا أقلّ من مخلصي عباده.

واعترض (٢) أيضا : بأنّ «الّا» بمعنى «لكن» أو بأنّ المنع من استثناء الأكثر إنّما هو إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرّحا ، مثل : «خذ مائة إلا تسعين» ولا يمنع : «خذ ما في الكيس إلّا الزيوف» فإنّه يصحّ ، وإن كانت الزيوف أكثر.

وفيه نظر ، لأنّه غير المتنازع.

وقيل (٣) في الاستدلال : إنّه تعالى استثنى الغاوين ، وهم أكثر ، لقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(٤).

الثاني : لو قال : «له عليّ عشرة إلّا تسعة» لزمه واحد بإجماع الفقهاء ، ولو لا صحّة هذا الاستثناء لما كان كذلك.

الثالث : قال الشاعر :

__________________

(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ٤١٠.

(٢) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٩٨.

(٣) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٩٨.

(٤) الأعراف : ١٧.

٢٥٠

أدّوا الّتي نقصت تسعين من مائة

 ..................(١)

وفيه نظر ، إذ ليس هنا استثناء.

الرابع : الاستثناء لفظ يخرج من الجملة ما لولاه لدخل [فيها] ، فجاز إخراج الأكثر به ، كالتخصيص بالمنفصل وكاستثناء الأقلّ.

الخامس : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ)(٢) استثنى النصف من الليل ، وهو يخصّ من منع من المساوي والأكثر.

واعترض (٣) بأنّ النّصف غير مستثنى ، بل هو ظرف للقيام [فيه] ، وتقديره : «قم اللّيل نصفه إلّا قليلا».

السادس : المنع إمّا أن يكون لعدم فهم المراد منه ، وهو باطل ، لأنّ من قال : «لزيد عندي عشرة إلّا تسعة» فهم السّامع منه أنّه أقرّ بدرهم.

أو لعدم استعماله في اللّغة ، وهو باطل لأنّ عدم الاستعمال دعوى ، نعم أنّه غير كثير في كلامهم ، لأنّ الحاجة لا تدعو إليه إلّا نادرا ، فلهذا لم ينقل في كلامهم ، أو نقل نادرا.

__________________

(١) هذا صدر البيت ، وعجزه :

 ...................

ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا

ولم نعثر على قائله ، وقد استدلّ به جمع من الأصوليين على جواز استثناء الأكثر منهم الباقلاني في التقريب : ٣ / ١٤٤ ؛ والغزالي في المستصفى : ٢ / ١٨٤ ؛ أبو يعلي في العدّة : ١ / ٤١١ ؛ والآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٩٨.

(٢) المزمل : ١ ـ ٣.

(٣) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٩٩.

٢٥١

أو لأنّ الحكمة تمنع من ذلك ، وهو باطل ، إذ قد يتّفق أن يكون على زيد ألف درهم ، وقد قضى منها تسعمائة وتسعين ، وينسى ذلك ، فيقرّ بالألف فيتذكّر في الحال القضاء ، فيستدرك بالاستثناء.

وقد يحتمل أن يكون لزيد على عمرو درهم ، ولخالد على عمرو ألف درهم فيروم عمرو أن يقرّ لخالد بالألف ، فسبق لسانه بالإقرار لزيد ، فلا يجد إلى دفع ذلك عنه سبيلا إلّا بالاستدراك.

وإذا كان كذلك ، لم تمنع الحكمة منه ، ولهذا لو صرّح المستثنى بأحد العددين ، لم يكن عليه لوم ولا مانع سوى هذه بالاستقراء ، وإذا انتفت صحّ حسن الاستثناء.

احتجّ المخالف بوجوه :

الأوّل : المقتضي لفساد الاستثناء قائم ، وما لأجله ترك العمل به في الأقلّ غير موجود في المساوي والأكثر ، فوجب أن يفسد فيهما.

وبيان المقتضي للفساد : أنّه إنكار بعد إقرار ، فلا يكون مقبولا.

وأمّا القارن ، فلأنّ القليل في معرض النّسيان ، لقلّة المبالاة به ، وعدم التفات النّفس إليه ، بخلاف الأكثر ، فإنّه يكون متذكّرا محفوظا ، لكثرة التفات النفس إليه ، فإنّ من يقرّ بعشرة ، ربّما كانت ناقصة شيئا يسيرا ، أو يكون قد أدّى منها شيئا قليلا ، ثمّ نسيه لقلّته ، فلا جرم أقرّ بعشرة كاملة ، ثمّ تذكّر بعد الإقرار ، فوجب تمكّنه من استدراكه ، دفعا للضّرر ، فلذلك سوّغنا استثناء الأقلّ من الأكثر ، ولم يوجد هذا المعنى في استثناء المثل والأكثر ، لأنّهما في مظنّة التذكّر ، ومع الفرق يبقى المقتضي سليما عن المعارض.

٢٥٢

الثاني : حكمة الاستثناء موجودة في الأقلّ دون المساوي والأكثر ، بيانه :

أنّ الاستثناء إنّما يفعل للاستدراك أو الاختصار ، فالأوّل أن يظنّ الإنسان أنّ لزيد عليه عشرة ، فيقرّ وتذكّر في الحال أنّ له عليه تسعة ، فيستثني درهما.

والاختصار نحو : أن يستطيل الإنسان أن يقرّ بتسعة دراهم وخمسة دوانيق ، فيقرّ بعشرة إلّا دانقا ، وليس من الاختصار أن يقول : لزيد عليّ ألف درهم إلّا تسعمائة وتسعة وتسعين.

وليس من العادة أن يكون على الإنسان درهم فيظنّ أنّ عليه ألف درهم ، ثمّ تذكّر في الحال أنّ عليه درهما فيستدرك ذلك بالاستثناء.

الثالث : يقبح أن يقال : له عليّ ألف إلّا تسعمائة وتسعة وتسعين ، ولا يصحّ : له ألف إلّا درهما ، والاستقباح يدلّ على أنّه ليس من اللّغة.

الجواب عن الأوّل : المنع من كونه إنكارا بعد إقرار ، لأنّ الاستثناء مع المستثنى كاللفظ الواحد الدالّ على ذلك القدر.

وعن الثاني : ما بيّناه ، من وجود الحكم.

وعن الثالث : أنّ الاستقباح لا يمنع الصحّة ، كما لو قال : له عليّ عشرة إلّا درهما ، لم يكن قبيحا ، ولو قال : له عليّ عشرة إلّا دانقا ودانقا إلى عشرين ، كان قبيحا.

٢٥٣

المبحث الثالث : في أحكامه

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تقدير دلالته

وقد اختلف في تقدير الدّلالة في الاستثناء فقال الأكثر في قوله : عشرة إلّا ثلاثة ، أنّ المراد بعشرة هنا سبعة والأقربيّة دالّة عليه كالتخصيص بغيره.

وقال القاضي : عشرة إلّا ثلاثة بإزاء سبعة فللسبعة اسمان : مفرد وهو سبعة ، ومركّب هو عشرة إلّا ثلاثة.

والحقّ : أنّ المراد بعشرة عشرة باعتبار الأفراد ، ثمّ أخرجت ثلاثة ، والاسناد (١) بعد الاخراج ، فلم يسند إلّا الى سبعة.

لنا على بطلان الأوّل وجوه :

الأوّل : نعلم أنّ من قال : اشتريت الجارية إلّا نصفها ، لم يرد استثناء النّصف من النصف.

الثاني : يلزم التسلسل.

الثالث : نعلم أنّ الضّمير للجارية ، لا للنّصف.

__________________

(١) في «أ» : والاستناد.

٢٥٤

الرابع : إجماع أهل العربيّة على أنّ الاستثناء إخراج بعض من كلّ.

الخامس : دلالة العشرة على معناها نصّ ، فيلزم إبطاله.

السادس : نعلم أنّا نسقط الخارج بالاستثناء ، فنعلم أنّ المسند إليه ما بقي.

وعلى بطلان الثاني وجوه :

الأوّل : يلزم الخروج عن قانون اللّغة ، إذ لم يعهد فيها تركيب من ثلاثة ، ولا يعرف الأوّل وهو غير مضاف.

الثاني : يمتنع إعادة الضمير على جزء الاسم في قوله : إلّا نصفها.

الثالث : إجماع أهل العربيّة على أنّ الاستثناء إخراج بعض من كلّ.

احتجّ الأوّلون بأنّه لا يستقيم أن يراد عشرة بكمالها ، لأنّا نعلم قطعا أنّه إنّما أقرّ بسبعة ، فتتعيّن إرادتها من لفظ العشرة.

ولأنّه لو كان المراد عشرة ، امتنع من الصّادق مثل : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)(١).

واحتجّ القاضي : بأنّه لمّا بطل أن يكون المراد بعشرة عشرة ، وبطل أن يكون سبعة ، تعيّن أن يكون الجميع السّبعة.

والجواب عن الأوّل : أنّ الحكم بالإقرار باعتبار الإسناد ، ولم يسند إلّا بعد الإخراج.

وهو الجواب عن البواقي.

__________________

(١) العنكبوت : ١٤.

٢٥٥

إذا عرفت هذا ، فالاستثناء على قول القاضي ليس بتخصيص إن لم يرد بعشرة عشرة ، وعلى المذهب المشهور هو تخصيص وعلى ما قلناه محتمل.

المسألة الثانية : في المخالفة (١) بين المستثنى والمستثنى منه

اعلم أنّ حكم الذهن بشيء على آخر ، إمّا أن يكون بالإيجاب أو بالسّلب ، وكذا الطّلب إمّا أن يكون للوجود فيكون أمرا ، أو للعدم فيكون نهيا ، إذا عرفت هذا ، وقد عرفت أنّ الاستثناء إخراج بعض ما تناوله الخطاب عن الإرادة ، فيجب قطعا المخالفة بين المستثنى والمستثنى منه ، فإن كان الاستثناء من الإثبات افاد النفي إجماعا ، وإن كان من النّفي ، فالأكثر على أنّه يفيد الإثبات.

وخالف أبو حنيفة في ذلك.

لنا وجوه :

الأوّل : النقل عن أئمّة اللّغة.

الثاني : لو لم يكن الاستثناء من النفي إثباتا ، لم يكن قولنا : «لا إله إلّا الله» توحيدا ، إذ يقتضي نفي الإلهيّة عن غيره ، دون ثبوت الإلهيّة له تعالى ، ولو لم يكن كذلك لم يتمّ به الإسلام ، وهو بالإجماع باطل ، فإنّ الإسلام يتمّ بمجرّد ذلك.

الثالث : إذا قال : «لا عالم في البلد إلّا زيد» يبادر إلى الذهن ثبوت العلم له ،

__________________

(١) في «ج» : في التخالف.

٢٥٦

بل هو أدلّ الألفاظ على علم زيد ، والتبادر دليل الحقيقة ، وكذا في كلّ ما ساواه.

احتجّ المخالف بوجوه :

الأوّل : لو كان الاستثناء من النفي يفيد الإثبات ، لوجب ثبوت النّكاح بمجرّد الوليّ ، والصّلاة بمجرّد الطّهارة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا نكاح إلّا بوليّ» (١) و «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) ولا شكّ في أنّه لا يجب تحقّق النكاح عند حضور الوليّ ، ولا تحقق الصلاة عند حصول الوضوء ، بل إنّما يدلّ على عدم صحّتهما عند عدم هذين الشرطين.

الثاني : بين الحكم بالنفي ، والحكم بالإثبات ، واسطة ، وهي عدم الحكم ، فمقتضى الاستثناء ، بقاء المستثنى غير محكوم عليه ، لا بالنّفي ولا بالإثبات.

الثالث : الألفاظ تدلّ على الصّور المرتسمة في الأذهان ، والأكثر أنّ الصّور الذهنيّة مطابقة للأمور الخارجيّة ، فالاستثناء المذكور في اللّفظ ، إن صرفناه إلى الحكم ، أفاد زوال الحكم ، وإن صرفناه إلى ذلك العدم ، أفاد زوال ذلك العدم ، وحينئذ يجب الثبوت ، إلّا أنّ الأوّل أولى ، لأنّ تعلّق اللّفظ بالحكم الذّهني ، تعلّق بغير واسطة ، وتعلقه بالأحوال الخارجيّة إنّما هو بواسطة الأحكام الذهنيّة ، فكان الأوّل أولى.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه : ٣ / ٤٠٧ برقم ١١٠١ ، وأبو داود في سننه : ٢ / ٢٢٩ برقم ٢٠٨٥ ، وابن ماجة في سننه : ١ / ٦٠٥ برقم ١٨٨٠ و ١٨٨١ ، وأحمد بن حنبل في مسنده : ٤ / ٣٩٤ و ٤١٣ ، ولاحظ عوالي اللآلي : ٣ / ٣١٣ برقم ١٤٨.

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ٢٢٢ ، الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ١ ؛ وعوالي اللآلي : ٢ / ١٨٤ و ٢٠٩ ، وج ٣ / ٨.

٢٥٧

والجواب عن الأوّل : أنّ الطهور والوليّ لا يصدق عليه اسم ما استثني منه ، فكان استثناء من غير جنس وإنّما سبق هذا الكلام لبيان اشتراط الطهور في الصّلاة ، والوليّ في النكاح ، والشرط وإن لزم من فواته فوات المشروط ، فلا يلزم من وجوده وجود المشروط ، وإذا لم يكن مخرجا من الصلاة والنكاح ، لم يكن استثناء متّصلا.

فإن قال : انّ تقديره : «لا صلاة إلّا صلاة بطهور» ، اطّرد وأفاد الإثبات.

وإن قال : إنّ تقديره : «لا صلاة تثبت بوجه إلّا بذلك» فلا يلزم من الشرط المشروط ، على ما تقدّم.

والإشكال في المنفيّ (١) الأعمّ في مثله ومثل قولنا : ما زيد إلّا قائم ، إذ لا يستقيم نفي جميع الصّفات المعتبرة.

وأجيب : بأنّ الغرض المبالغة بذلك.

ولأنّه آكدها ، والقول بأنّه منقطع بعيد ، لأنّه مفرّغ ، وكلّ مفرّغ متّصل ، لأنّه من تمامه. (٢)

وعن الثاني والثالث : أنّهما واردان في طرف الإثبات أيضا.

وفيه نظر ، فإنّ نفي الحكم بالإثبات ، يستلزم البقاء على الأصل ، وهو العدم.

__________________

(١) في «أ» : النفيّ.

(٢) لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٢٩١ ، قسم المتن.

٢٥٨

المسألة الثالثة : في الاستثناء المتعدّد

الاستثناء إذا تعدّد ، فإمّا أن يقترن بحرف العطف ، أو يتجرّد عنه.

فالأوّل ، يرجع الكلّ فيه إلى المستثنى منه ، مثل : «له عندي عشرة ، إلّا أربعة وإلّا ثلاثة» لامتناع عوده إلى الأوّل فإنّ المستثنى لا يعطف على المستثنى منه ، ولا إلى المجموع ، وإلّا لزم التناقض.

وأمّا الثاني ، فالاستثناء الثاني فيه إمّا أن يزيد على الأوّل ، أو يساويه ، أو ينقص عنه.

فإن كان الأوّل ، رجعا معا إلى المستثنى منه أيضا ، مثل : «له عشرة إلّا أربعة إلّا خمسة» لامتناع عوده إلى الأوّل ، لزيادته عليه ، وقد بيّنا امتناع المستوعب ، فكيف الأزيد ، ولا إليهما للتناقض.

وإن ساواه فكذلك ، مع احتمال التأكيد هنا.

وإن قصر عنه ، رجع إلى الأوّل ، لامتناع عوده إلى المستثنى منه لبعده ، والقريب إذا لم يكن أولى من البعيد ، فلا أقلّ من المساواة.

ولا إليهما ، فإنّ المستثنى منه مع الاستثناء الأوّل ، لا بدّ وأن يكون أحدهما نفيا ، والآخر إثباتا ، فالاستثناء الثاني لو عاد إليهما معا ، وقد عرفت أنّ الاستثناء من الإثبات نفي ، ومن النّفي إثبات ، فيكون الاستثناء الثاني قد نفى عن أحد الأمرين السابقين عليه [عين] ما أثبته الآخر ، فينجبر النقصان بالزّيادة ، فيبقى ما كان حاصلا قبل الاستثناء ، فيصير الاستثناء الثاني لغوا.

٢٥٩

ولأنّه يلزم التناقض ، لأنّ الاستثناء الثاني لو رجع إلى استثناء الأوّل والمستثنى منه معا ، كان نفيا باعتبار المستثنى منه ، وإثباتا باعتبار الاستثناء.

لا يقال : إنّما بيّنا في النفي والإثبات لو اتّحد المتعلق والوجه ، أمّا مع التعدّد فلا.

لأنّا نقول : المتعلّق هنا واحد ، لأنّه إذا قال : له عليّ عشرة إلّا ثلاثة إلّا واحدا ، فالثاني لمّا رجع إلى المستثنى منه ، أخرج رابعا ولمّا رجع إلى الاستثناء الأوّل ، أثبت ذلك الدّرهم ، فيكون ذلك الاستثناء نفيا وإثباتا من المستثنى منه.

وإذا امتنع عود الاستثناء الثاني إليهما ، وقد بيّنا عدم عوده إلى المستثنى منه ، وجب عوده إلى الأوّل ، لامتناع عدم عوده إلى شيء.

المسألة الرابعة : في الاستثناء عقيب الجمل المتعدّدة

اعلم أنّ الاستثناء إذا تعقّب جملا متعدّدة ، وصحّ عوده إلى كلّ واحدة منها ، هل يرجع إلى الجميع أو الى ما يليه؟

قال الشافعي وأصحابه بالأوّل. (١)

وقال أبو حنيفة وأصحابه بالثاني. (٢)

وجوّز السيّد المرتضى كلّ واحد من القولين للاشتراك. (٣)

__________________

(١) نقله عنه أبو الحسين المعتزلي في المعتمد : ١ / ٢٤٥.

(٢) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٢ / ٤٠٠ ، والرازي في محصوله : ١ / ٤١٣.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

٢٦٠