نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٣٨

أُفٍ)(١) دلّ على تحريم الضّرب لا بلفظه المنطوق [به] حتّى يتمسّك بعمومه ، والعموم من عوارض الألفاظ لا المعاني والأفعال». (٢)

قيل عليه : إن كنت لا تسمّيه عموما ، لأنّك لا تطلق لفظ العامّ إلّا على الألفاظ ، فالنّزاع لفظيّ ، وإن كنت لا تسمّيه عموما ، لأنّه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه ، فباطل ، لأنّ البحث عن المفهوم هل له عموم ، فرع كونه حجّة ، فإذا ثبت كونه حجّة ، لزم الحكم بنفي الحكم عمّا عداه ، إذ لو ثبت في غير المذكور ، انتفت فائدة التخصيص بالذّكر.

والتّحقيق : أنّ النزاع هنا لفظيّ ، لأنّ مفهومي المخالفة والموافقة عامّ فيما سوى المنطوق بلا خلاف.

والغزالي أراد أنّ العموم لم يثبت بالمنطوق ، ولا خلاف فيه فإذن النّزاع هنا غير متحقّق.

المبحث الثالث عشر : في الجمع المضاف إلى الجمع

قال الأكثر : إنّ قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)(٣) يقتضي أخذ الصّدقة من كلّ نوع من أنواع المال.

والأقرب ، المنع.

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

(٢) المستصفى : ٢ / ١٤٠ ـ ١٤١.

(٣) التوبة : ١٠٣.

٢٠١

لنا : أنّه بصدقة واحدة يصدق أنّه أخذ منها صدقة ، فيحصل الامتثال.

ولأنّه لو كان كذلك ، لوجب أن يأخذ من كلّ دينار ، وهو باطل اتّفاقا.

احتجّوا بأنّ المعنى : خذ من كلّ مال» (١) فيجب العموم.

والجواب ، المنع ، فإنّ كلّا ، للتفصيل ، ولهذا فرق بين قولهم : «للرّجال عندي درهم» وبين «لكلّ رجل عندي درهم».

والأصل في ذلك أنّ هذه الإضافة تقتضي توزيع الجميع على الجميع ، فلا يجب التّعميم في كلّ فرد من أفراد المضاف ، بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد المضاف إليه.

__________________

(١) أي من كلّ نوع من أنواع المال.

٢٠٢

الباب الثاني :

في الخصوص

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل :

في تعريفه

قيل (١) : الخاصّ هو كلّ ما ليس بعامّ ويدخل فيه الألفاظ المهملة.

ولأنّ العامّ والخاصّ متباينان ، فتعريف أحدهما بالآخر دوريّ ، وإن جعلا ضدّين ، لم يكن تعريف أحدهما بالآخر ، أولى من العكس.

ولأنّ الخاصّ من الأمور الإضافيّة ، فالإنسان خاصّ بالنسبة إلى الحيوان ، ومع ذلك فهو عامّ ، إلّا ان يعنى بالخاصّ الجزئيّ الحقيقيّ.

وإن قيل : إنّه ليس بعامّ من جهة ما هو خاصّ دار.

والتحقيق أن نقول : الخاصّ قد يكون مطلقا لا بالقياس إلى غيره ، وهو

__________________

(١) كذا في الإحكام للآمدي ، ولم يعيّن قائله. لاحظ : ٢ / ٣٢٨.

٢٠٣

الجزئيّ الحقيقيّ ، وقد يكون إضافيّا بالقياس إلى ما هو عامّ ، ويقال بإزائه ، وهو اللّفظ الّذي يقال على مدلوله وعلى غير مدلوله لفظ آخر من جهة واحدة ، كالإنسان ، فإنّه خاصّ ، ويقال على مدلوله وعلى غيره كالفرس لفظ الحيوان من جهة واحدة.

وأمّا التخصيص ، فقال أبو الحسين : إنّه إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه (١).

قيل (٢) : انّه لا يمكن حمله على ظاهره على كلّ مذهب :

أمّا [على] مذهب أرباب الخصوص ، فلأنّ الخطاب عندهم منزّل على أقلّ ما يحتمله اللّفظ ، فلا يتصوّر إخراج شيء منه.

وأمّا [على] مذهب أرباب الاشتراك ، فلأنّ العمل بالمشترك في بعض محامله لا يكون إخراجا لبعض ما تناوله الخطاب عنه ، بل غايته استعمال اللّفظ في بعض محامله دون البعض.

وأمّا [على] مذهب الوقف ، فلأنّ اللّفظ عندهم موقوف ، لا يعلم كونه للخصوص أو للعموم ، وهو صالح لاستعماله في كلّ واحد منهما ، فإن قام الدّليل على أنّه أريد به العموم ، وجب حمله عليه ، وامتنع إخراج شيء منه.

وإن قام الدليل على أنّه للخصوص ، فلم يكن دالّا على العموم ، ولا متناولا له ، فلا يتحقّق بالحمل على الخاصّ إخراج بعض ما تناوله اللفظ على بعض محامله الصّالح (٣) لها.

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٢٣٤.

(٢) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٨٥.

(٣) في «أ» : الصّالحة.

٢٠٤

وأمّا [على] مذهب العموم ، فغايته أنّ اللّفظ حقيقة في الاستغراق ، ومجاز في الخصوص ، فإن لم يقم دليل على مخالفة الحقيقة ، وجب إجراء اللّفظ على جميع محامله ، من غير إخراج شيء منها ، وإن قام [دليل] على مخالفتها ، وامتناع العمل بالاستغراق ، وجب صرفه إلى محمله المجازيّ ، وهو الخصوص.

وعند حمل اللفظ على المجاز ، لا يكون اللّفظ متناولا للحقيقة ، وهي الاستغراق ، فلا يتحقّق إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه ، لأنّ عند كونه مستعملا في معناه المجازيّ ، لا يكون مستعملا في الحقيقة ، فإطلاق القول بتخصيص العامّ ، أو أنّ هذا عامّ مخصوص ، لا يكون حقيقة ، ويناسب قول أرباب العموم : إنّ التخصيص [هو] تعريف أنّ المراد باللّفظ الموضوع للعموم حقيقة ، هو الخصوص ، وقول الاشتراك : تعريف أنّ المراد باللفظ الصالح للعموم والخصوص ، إنّما هو الخصوص ، والمعرّف لذلك أيّ شيء كان ، يسمّى مخصّصا ، واللّفظ المصروف عن جهة العموم إلى الخصوص ، مخصّصا (١).

وفيه نظر ، فإنّ الإخراج كما يكون عن الدّخول بالفعل ، كذا يكون عن الدخول بالصّلاحيّة.

والقائلون بالخصوص ، وإن كان اللّفظ إنّما يفيد قطعا أقلّ مراتبه ، إلّا أنّه صالح للعموم ، وكذا عند القائلين بالاشتراك وبالوقف ، فتحقّق الإخراج حقيقة ،

__________________

(١) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٨٦.

٢٠٥

لصلاحيّة دخول المخرج بالتّخصيص تحت اللّفظ.

وأمّا القائلون بالعموم ، فالإخراج عندهم ظاهر ، إذ اللّفظ موضوع للعموم ، ولو لا المخصّص لدخل المخصوص (١) في التناول قطعا أو ظاهرا ، لكن وجوده منع من الدّخول ، ولا نعني بالإخراج سوى ذلك.

فقولنا : العامّ مخصوص ، معناه : أنّ المتكلّم استعمل العامّ في بعض ما وضع له.

وعند الواقفية ، أنّه أراد به بعض ما يصلح له ذلك اللفظ دون البعض.

وأمّا المخصّص للعموم ، فيقال على سبيل الحقيقة على شيء واحد ، [و] هو إرادة المتكلّم لأنّها هي المؤثّرة في إيقاع ذلك الكلام لإفادة البعض ، فإنّ الخطاب إذا صلح للعموم والخصوص ، صرف إلى أحدهما بالإرادة.

وأمّا بالمجاز فيقال [على شيئين : أحدهما] على من أقام الدّلالة على كونه مخصوصا في ذاته ، و [ثانيهما] على من اعتقد ذلك ، وإن كان ذلك الاعتقاد باطلا ، ويقال : إنّ فلانا خصّ العموم بمعنى : أنّه علم من حاله ذلك بالدّليل ، ويقال : خصّه بمعنى : وصفه (٢).

__________________

(١) في «ب» : لدخل المخصّص.

(٢) في «أ» : وضعه.

٢٠٦

المبحث الثاني :

في الفرق بين التخصيص والنسخ

قالت المعتزلة : الفرق بينهما باعتبار تراخي الوقت وعدمه ، فإنّ النسخ يجب فيه التراخي ، دون التخصيص.

واعلم أنّ النسخ في الحقيقة راجع إلى نوع تخصيص ، لأنّه رفع الحكم بعد ثبوته في زمان آخر ، فكان تخصيصا للحكم بزمان معيّن بطريق خاصّ ، فيكون الفرق بينهما فرق ما بين العامّ والخاصّ.

وقد ذهب قوم إلى أنّ التخصيص ليس جنسا للنسخ ، واعتبروا في التخصيص أمورا لفظيّة أخرجوه بها عن كونه جنسا ، وهي سبعة :

الأوّل : التخصيص إنّما يكون فيما يتناوله اللفظ ، والنسخ قد يصحّ فيما علم بالدّليل أنّه مراد وإن لم يتناوله اللّفظ.

الثاني : يصحّ نسخ شريعة بأخرى ، ولا يمكن ذلك في التخصيص.

الثالث : النسخ رفع الحكم بعد ثبوته ، والتخصيص ليس كذلك.

الرابع : النسخ يجب فيه التراخي دون التخصيص ، فإنّه قد يجب فيه المقارنة.

٢٠٧

الخامس : التخصيص قد يقع بخبر الواحد ، بخلاف النسخ.

السادس : التخصيص إنّما يكون في جملة ، والنسخ يدخل على العين الواحدة.

السابع : النسخ قد يكون لفعل بفعل ، بخلاف التخصيص.

وأمّا الفرق بين التخصيص والاستثناء فرق ما بين العامّ والخاصّ أيضا.

وقيل : إنّ الاستثناء مع المستثنى منه ، كاللّفظ الواحد الدالّ على شيء واحد ، والتخصيص ليس كذلك.

ولأنّ التخصيص ، يثبت بقرائن الحال فقوله : رأيت الناس ، يفهم بالقرينة عدم رؤية الجميع ، والاستثناء لا يحصل بالقرينة.

ولأنّ التخصيص ، يجوز تأخيره لفظا ، ولا يجوز تأخير الاستثناء.

والوجه ما قلناه ، من أنّ التخصيص جنس للنسخ والاستثناء.

٢٠٨

المبحث الثالث :

فيما يجوز تخصيصه

قد عرفت فيما سلف أنّ التخصيص هو : إخراج بعض ما تناوله الخطاب ، فلا بدّ وأن يكون ذلك الخطاب فيه عموم ، وشموله إمّا مطلق أو بالاضافة ، فإنّ ما لا عموم فيه البتّة بوجه ما ، لا يصحّ فيه التخصيص ، إذ لا يعقل له بعض يخرج عنه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بردة : «يجزئ عنك ، ولا يجزئ أحدا بعدك» لا يعقل التخصيص في الحكم الأوّل ، لعدم تعدّده بالنّسبة إلى الشّخص المفعول ، لا بالنّسبة إلى متعلّقات الفعل من الطرف وغيره ، ويعقل في الثاني.

وإذا عرفت هذا ، فالّذي يتناول أكثر من واحد ، إمّا أن يكون عمومه من جهة اللّفظ ، ويصحّ تطرّق التخصيص إليه ، أو من جهة المعنى ، وهو ثلاثة :

الأوّل : العلّة الشرعية ، وفي تخصيصها خلاف يأتي.

الثاني : مفهوم الموافقة ، كدلالة تحريم التأفيف ، على تحريم الضّرب ، ويقبل التخصيص إذا لم يعد بالنقض على الملفوظ ، كتقييد الأمّ إذا فجرت ، وقتل الوالد إذا ارتدّ ، أمّا لو عاد بالنقض إليه ، فإنّه لا يجوز.

الثالث : مفهوم المخالفة ، ويقبل التخصيص مطلقا ، فإنّه يفيد انتفاء الحكم

٢٠٩

في المسكوت عنه ، ويجوز قيام دلالته على ثبوته في بعض أفراده.

إذا ثبت هذا ، فلا فرق بين الأمر والخبر إذا اشتملا على شمول وعموم في جواز تخصيصهما ، وإطلاق لفظ العامّ فيهما لإرادة الخاصّ.

وقد حكي أنّ قوما منعوا من ذلك في الأمر والخبر ، والمحقّقون على جوازه فيهما.

أمّا الخبر ، فلأنّ المقتضي لقبول التخصيص موجود فيه ، والمانع لا يصلح للمانعيّة ، فوجب القول بجوازه.

أمّا الأوّل ، فنقول : التخصيص إنّما هو من حيث العموم والشمول ، وجواز إرادة الخاصّ من العامّ على سبيل المجاز.

وأمّا الثاني ، فلأنّ التّجوز غير ممتنع في ذاته ، وإلّا لزم من فرضه محال ، ولا من حيث الوضع ، فإنّه يصحّ أن يقول اللّغوي : «جاءني كلّ الناس» وإن تخلّف بعضهم ، ولا بالنظر إلى الداعي ، والأصل عدم كلّ مانع سوى ذلك.

وأيضا ، الوقوع دلّ على جوازه ، وقد ثبت لقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(١).

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢) وليس خالقا لذاته ، ولا قادرا عليها.

__________________

(١) الرعد : ١٦.

(٢) المائدة : ١٢٠.

٢١٠

وقوله : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)(١) وقد أتت على الأرض والجبال ، ولم تجعلها رميما.

وقوله : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)(٢)(وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)(٣).

إلى غير ذلك من الآيات.

احتجّوا بأنّه يوهم الكذب ، فإنّه إذا أراد بالعامّ بعضه في الخبر ، لزم ذلك ، لما فيه من مخالفة المخبر للخبر ، ولو كان جواز حمله على التخصيص مانعا من كونه كذبا ، لم يوجد كذب البتّة.

والجواب : لا كذب مع قيام دليل التّخصيص.

وأمّا الأمر ، فلما تقدّم.

ولقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(٤) مع خروج أهل الذمّة عنه.

وكذا قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٥) و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(٦) مع عدم قطع كلّ سارق ، وعدم جلد كلّ زان ، وغيرها من الآيات.

احتج المخالف بأنّه يوهم البداء.

__________________

(١) الذاريات : ٤٢.

(٢) الأحقاف : ٢٥.

(٣) النّمل : ٢٣.

(٤) التوبة : ٥.

(٥) المائدة : ٣٨.

(٦) النور : ٢.

٢١١

والجواب لا بدّ له مع قيام المخصّص (١) ، وقد بيّنا أنّه تعالى يجوز أن يخاطب بالمجاز كما يخاطب بالحقيقة ، وفي القرآن ضروب كثيرة من المجاز ، وأكثر عمومات القرآن قد أريد بها الخصوص حتّى قيل : إنّه لم يرد عامّ إلّا وهو مخصّص إلّا في قوله تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢).

ولمّا ثبت أنّه تعالى حكيم ، وجب أن يكون في الخطاب بالمجاز وجه مصلحة زائدة على وجهها في الخطاب بالحقيقة ويمكن أن يكون الوجه في ذلك التعريض لزيادة الثواب ، لاشتمال النظر في ذلك والفكر ، على زيادة مشقّة ، يستحقّ به زيادة الثواب ، كما نقوله في حسن الخطاب بالمتشابه ، ويجوز أن يعلم أنّه يؤمن عند ذلك ويطيع من لولاه لم يطع.

وقد ظنّ بعض الناس جواز التّساوي في الحقيقة والمجاز عند الحكيم في جميع الوجوه ، ويكون مخيّرا في الخطاب بأيّهما شاء. (٣)

وليس بصحيح ، لأنّ العدول عن الحقيقة ، الّتي هي الأصل ، إلى المجاز ، لا بدّ له من غرض زائد ، ولو كونه أفصح وأبلغ وأوجز.

__________________

(١) في «أ» و «ج» : لا يدافع قيام المخصص.

(٢) الأنعام : ١٠١.

(٣) نقله السيد المرتضى عن بعض الأصوليين ولم يعيّن قائله. لاحظ الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٣٨.

٢١٢

المبحث الرّابع :

في غاية التخصيص

اتّفق الناس كافّة على جواز انتهاء التخصيص في ألفاظ الاستفهام والمجازاة إلى الواحد ، واختلفوا فيما عداهما ، فحكي عن أبي بكر القفّال (١) أنّه لا يجوز تخصيص الجمع المعرّف ، بحيث لا يبقى أقلّ من الثلاثة.

ومنهم من جوّز انتهاء التخصيص في جميع ألفاظ العموم إلى الواحد وقال أبو الحسين البصري : انّ نهاية التخصيص في جميع الفاظ العموم أجمع يقرب من مدلول اللفظ ، وإن لم يكن محدودا ، إلّا أن يستعمل في حقّ الواحد على سبيل التعظيم. (٢)

وهو الأقرب.

لنا : أنّ أهل اللّغة يستقبحون قول الرّجل : أكلت كلّ الرّمان من البيت ، ويكون فيه ألف رمانة ، وقد أكل واحدة أو ثلاثة ، ولا كذا لو حمل على الكثرة القريبة من مدلول اللفظ.

اعترض : بأنّه إنّما يكون مستهجنا إذا لم يكن مريدا للواحد من جنس

__________________

(١) تقدّمت ترجمته ص ٨٥.

(٢) المعتمد : ١ / ٢٣٦.

٢١٣

ذلك العدد ، الّذي هو مدلول اللفظ ، ولم يقترن به قرينة.

أمّا إذا أراد الواحد مع قرينة فلا ، للنصّ والإطلاق أمّا النصّ فقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)(١) وأراد بالنّاس القائلين ، نعيم بن مسعود الأشجعي. (٢)

وأمّا الإطلاق ، فلصحّة قول القائل : «أكلت اللحم» والمراد به واحد من جنس مدلولات العامّ.

وفيه نظر ، فإنّ الأوّل أريد به التعظيم ، واللحم ليس للعموم ، فيصحّ إرادة الواحد منه ، لكون المراد الجنس.

احتجّ الآخرون بوجوه :

الأوّل : استعمال العامّ في غير الاستغراق على سبيل المجاز ، وليس بعض الأفراد أولى من البعض ، فوجب جواز استعماله في جميع الأقسام إلى أن ينتهي إلى الواحد.

الثاني : قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣) والمراد به نفسه وحده.

الثالث : قال عمر لسعد بن أبي وقاص ، وقد أنفذ إليه القعقاع مع ألف

__________________

(١) آل عمران : ١٧٣.

(٢) نعيم بن مسعود صحابيّ ، قيل : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرّا أيّام الخندق واجتماع الأحزاب ، فأسلم وكتم إسلامه ، وعاد إلى الأحزاب المجتمعة لقتال المسلمين ، فألقى الفتنة بين قبائل قريضة وغطفان وقريش في حديث طويل فتفرقوا ، مات نحو سنة ٣٠ ه‍ وقيل : قتل يوم الجمل قبل قدوم عليّ عليه‌السلام إلى البصرة. لاحظ الأعلام للزركلي : ٨ / ٤١.

(٣) الحجر : ٩.

٢١٤

فارس : «قد انفذت إليك ألفي فارس» أطلق اسم الألف الأخرى ، وأراد به القعقاع.

الرابع : لو امتنع الانتهاء في التخصيص إلى الواحد ، لكان إمّا لأنّ الخطاب صار مجازا ، أو لعدم استعماله في حقيقته ، ولو كان أحدهما مانعا ، لزم امتناع تخصيص العامّ مطلقا ، لأنّه يكون مجازا في الباقي ، وغير حقيقة فيه ، وهو باطل بالإجماع.

الخامس : قد عرفت الخلاف في أنّ أقلّ الجمع اثنان أو ثلاثة ، فيحمل العامّ بعد التخصيص عليه.

السادس : لو قال : أكرم الناس إلّا الجهّال ، جاز ، ولو لم يبق إلّا الواحد.

والجواب عن الأوّل : المنع من عدم الأولويّة ، فإنّ الأكثر أقرب إلى الجمع من الأقلّ.

وعن الثاني : أنّه غير محلّ النزاع ، لأنّ الآية خرجت مخرج التعظيم ، وليس هناك تخصيص.

وعن الثالث : أنّ عمر قصد قيام الواحد مقام الألف ، وليس بتخصيص.

وعن الرابع : بالمنع من الحصر ، بل المانع عدم استعماله لغة.

وعن الخامس : أنّ الجمع ليس بعامّ.

وعن السادس : بمنع حسنه ، على أنّ بعضهم جوّز الانتهاء إلى الواحد في الاستثناء ، والبدل ، وإلى اثنين في الصفة ، وفي المحصور (١) القليل.

__________________

(١) في «ب» : وفي المخصوص.

٢١٥

المبحث الخامس :

العامّ المخصوص هل هو مجاز أم لا؟

اختلف الناس في ذلك ، فقال قوم من الفقهاء : إنّه لا يصير مجازا ، كيف كان المخصّص ، وهو مذهب جماعة من الأشاعرة ، وإليه مال الغزّالي (١) وكثير من المعتزلة ، وجماعة من الحنفيّة كعيسى بن أبان (٢) وغيره.

وقال آخرون : إنّه يكون مجازا في حال دون حال ، واختلفوا في تفصيل تلك الحال ، فقال بعضهم : إن خصّ بدليل لفظيّ لم يصر مجازا ، متّصلا كان الدليل ، أو منفصلا ، وإن خصّ بدليل عقليّ ، كان مجازا.

وقال آخرون : إنّه يكون مجازا ، إلّا أن يخصّ بلفظ متّصل.

وقال القاضي أبو بكر : إنّه يكون مجازا ، إلّا أن يكون المخصّص شرطا أو استثناء (٣).

__________________

(١) لاحظ المنخول : ٢٢٦.

(٢) هو عيسى بن ابان بن صدقة بن مران شاه قاض من كبراء فقهاء الحنفيّة ، كان من أصحاب الحديث ثمّ غلب عليه الرأي ، تولّى القضاء بالبصرة عشر سنين ، كان سريع الإنفاذ للحكم ، مات سنة ٢٢١ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٥ / ١٠٠.

(٣) التقريب والإرشاد : ٣ / ٦٧.

٢١٦

وقال قاضي القضاة : إنّه يكون مجازا ، إلّا أن يكون المخصّص شرطا أو صفة.

وقال جماعة من الحنفية : إن كان الباقي جمعا ، فهو حقيقة ، وإلّا فمجاز ، وإليه ذهب أبو بكر الرّازي (١).

وقال الجويني : إنّه حقيقة في تناوله ، مجاز في الاقتصار عليه. (٢)

وقال أبو الحسين البصري : القرينة المخصّصة ، إن استقلّت بنفسها ، صار مجازا ، سواء كانت عقليّة ، كالدلالة على أنّ غير القادر ليس مرادا من الخطاب بالعبادات ، أو لفظيّة نحو أن يقول المتكلّم : «أردت بالعام البعض الفلاني» وإن كانت غير مستقلّة ، فهو حقيقة ، سواء كان صفة أو شرطا. (٣)

والأقرب أنّه يصير مجازا مطلقا.

لنا : أنّ اللّفظ وضع للعموم ولم يرد ، فيكون إطلاقه على أزيد منه مجازا.

أمّا المقدّمة الأولى ، فالخلاف فيها مع المانعين من العموم ، وقد سبق برهانه.

ولأنّا نبحث على تقديره.

وأمّا الثانية ، فلأنّ التقدير أنّه مخصوص ، وقد بيّنا أنّ التخصيص هو إخراج بعض ما تناوله اللفظ عن الإرادة.

__________________

(١) لاحظ أصول الجصّاص : ٢ / ١٣١.

(٢) البرهان في أصول الفقه : ١ / ٢٧٦.

(٣) المعتمد : ١ / ٢٦٢ ـ ٢٦٤ ، نقله المصنّف ملخّصا.

٢١٧

وأمّا الثالثة ، فظاهرة أيضا ، لما عرفت من أنّ المجاز ، هو استعمال اللفظ فيما لم يوضع له.

ولأنّ اللفظ ، إذا كان حقيقة في الاستغراق ، فصرفه إلى البعض بالقرينة ـ كيف ما كانت القرينة ـ إمّا أن يكون لدلالة اللفظ عليه حقيقة أو مجازا ، ويلزم من الأوّل الاشتراك بينه وبين الاستغراق ، ضرورة اختلاف معنييهما بالجزئيّة والكليّة ، وعدم اشتراكهما في معنى جامع يكون مدلولا للفظ ، والمشترك لا يكون ظاهرا بلفظه في بعض مدلولاته دون البعض ، وهو خلاف مذهب القائلين بالعموم.

لا يقال : جاز أن يكون حقيقة فيهما باعتبار أمر مشترك ، هو الجنسيّة فينتفي الاشتراك والمجاز ، ويدلّ على كونه حقيقة في الباقي ، أنّ اللفظ كان متناولا له حقيقة قبل التخصيص ، فخروج غيره عن عموم اللفظ لا يؤثّر فيه.

سلّمنا ، لكن يجوز كون اللّفظ المجرّد حقيقة في الاستغراق ، ومع القرينة حقيقة في البعض.

لأنّا نقول : الكلّ والبعض وان اتّحدا في الجنسيّة ، إلّا أنّ اللّفظ العامّ حقيقة في الكلّ ، من حيث هو كلّ ، لا في مطلق الجنس ، ولهذا تعذّر حمله على البعض إلّا لقرينة بإجماع القائلين بالعموم ، والاستغراق ليس ثابتا في الباقي.

ونمنع كون اللفظ حقيقة في الباقي قبل التخصيص ، نعم قد كان حقيقة في الجمع (١) الّذي هو أحد أفراده ، فلا يلزم كونه حقيقة فيه لا مع الاجتماع ولا

__________________

(١) في «ب» : في الجميع.

٢١٨

حالة الانفراد ، فإنّ العشرة حقيقة في مجموع آحادها لا في الخمسة ، سواء ضمّت إلى مثلها أو انفردت.

ثمّ ينتقض بالواحد ، فإنّ اللفظ قد كان متناولا له حقيقة قبل التخصيص ، وبعد التخصيص ، وهو مجاز فيه إجماعا.

وتجويز كون اللّفظ حقيقة في البعض مع القرينة ، يرفع المجاز أجمع ، فإنّ كلّ مجاز يمكن أن يقال : إنّه مع القرينة حقيقة في مدلوله.

ولأنّه ، لو كان كما ذكروه ، لكان استعمال ذلك اللفظ في الاستغراق مع اقترانه بالقرينة المخصّصة له بالبعض ، استعمالا له في غير الحقيقة وصارفا له عن الحقيقة ، وهو خلاف إجماع القائلين بالعموم.

احتجّ أبو الحسين على كونه مجازا لو خصّص بقرينة مستقلّة ، بأنّ اللفظ وضع لغة في الاستغراق فاستعماله في البعض استعمال في جزء المسمّى بقرينة مخصّصة ، وهو عين المجاز.

وعلى كونه حقيقة مع المتّصل ، بأنّه إذا قال : جاء بنو تميم الطوال ، وأكرم بني تميم إن قاموا إلّا فلانا ، فلفظ العموم حال انضمام الشرط ، والصفة ، والاستثناء ، لا يفيد البعض ، وإلّا لم يبق شيء يفيد الشرط أو الصفة أو الاستثناء ، وإذا لم يفد البعض ، استحال أن يقال : إنّه مجاز في إفادة البعض ، بل المجموع الحاصل من لفظ العموم ، ولفظ الشرط أو الصفة ، أو الاستثناء دليل على ذلك البعض ، وإفادة ذلك المجموع لذلك البعض حقيقة. (١)

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، نقله المصنّف بتلخيص. ولاحظ المحصول للرازي : ١ / ٤٠١.

٢١٩

والجواب : اقتران اللفظ بالمنفصل ، لا يخرجه عن حقيقته وصورته ، وإلّا لكان كلّ مقترن بشيء خارجا عن حقيقته ، ويلزم نفي الاقتران أيضا ، وإذا كان باقيا على حقيقته ، فمعناه لا يكون مختلفا ، بل يصير مصروفا عن معناه باعتبار ذلك المقترن ، وهو التجوّز بعينه.

قوله : اللفظ مع الاقتران لا يفيد البعض ، وإلّا لم تفد القرينة شيئا.

قلنا : ممنوع ، فانّ القرينة هي الّتي صرفت اللفظ عن افادته للمجموع إلى إفادته للبعض ، كما في كلّ مجاز ، فإنّ ذلك لو كان معتبرا ، لكان لقائل أن يقول : إنّ اللّفظ الحقيقيّ لا يراد به معناه المجازيّ حالة انضمامه إلى القرينة ، وإلّا لم تفد القرينة شيئا ، بل معناه الحقيقي ، وانّما تفيد المجازيّ باعتبار القرينة ، وذلك يخرجه عن كونه مجازا.

لا يقال : الشرط ، والصفة ، والاستثناء ، غير مستقلّ ، فلا يخرج اللّفظ عن حقيقته ، كقولنا : «مسلم» فإنّه يدلّ على معنى ، فإذا قال : «المسلم» أو «مسلمون» أفاد بانضمام الألف واللّام والواو والنون معنى غير الأوّل ، ولم يصر باعتبار هذه الزيادة مجازا ، وكذا الشرط ، والصفة ، والاستثناء ، لجامع (١) عدم الاستقلال.

لأنّا نقول : الألف واللّام والنون زيادات أفادت زيادات في المعاني من غير تغيّر الوضع الأوّل ، فلا يقال : إنّه صار مجازا ، بخلاف صورة النّزاع.

احتجّت الحنابلة ، بأنّ التناول باق ، فكان حقيقة.

__________________

(١) في «أ» : يجامع.

٢٢٠