تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

الحياة الدنيا. والمعنى : أن ذلك خلق تخلقوا به وصار لهم كالسجية في حياتهم الدنيا حتى إذا أعاد الله إليهم أرواحهم صدر عنهم ما كانوا تخلقوا به وقال تعالى : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى * وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) الآية [طه : ١٢٥ ـ ١٢٧] وفي هذا الخبر أدب عظيم للمسلمين أن يتحاموا الرذائل والكبائر في الحياة الدنيا خشية أن تصير لهم خلقا فيحشروا عليها.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦))

جعل الله منكري البعث هدفا لسهام التغليظ والافتضاح في وقت النشور ، فلما سمع المؤمنون الذين أوتوا علم القرآن وأشرقت عقولهم في الحياة الدنيا بالعقائد الصحيحة وآثار الحكمة لم يتمالكوا أن لا يردوا عليهم غلطهم ردا يكون عليهم حسرات أن لا يكونوا قبلوا دعوة الحق كما قبلها المؤمنون. وهذه الجملة معترضة. وعطف الإيمان على العلم للاهتمام به لأن العلم بدون إيمان لا يرشد إلى العقائد الحق التي بها الفوز في الحياة الآخرة. والمعنى : وقال لهم المؤمنون إنكارا عليهم وتحسيرا لهم.

والظاهر أن المؤمنين يسمعون تحاجّ المشركين بعضهم مع بعض فيبادرون بالإنكار عليهم لأن تغيير المنكر سجيتهم التي كانوا عليها. وفي هذا أدب إسلامي وهو أن الذي يسمع الخطأ في الدين والإيمان لا يقره ولو لم يكن هو المخاطب به.

وقولهم : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) صرف لهم عن تلك المعذرة كأنهم يقولون : دعوا عنكم هذا فلا جدوى فيه واشتغلوا بالمقصود وما وعدتم به من العذاب يوم البعث. وفعل (لَبِثْتُمْ) مستعمل في حقيقته ، أي مكثتم ، أي استقررتم في القبور ، والخبر مستعمل في التحزين والترويع باعتبار ما يرد بعده من الإفصاح عن حضور وقت عذابهم. و (فِي) من قوله (فِي كِتابِ اللهِ) للتعليل ، أي لبثتم إلى هذا اليوم ولم يعذبوا من قبل لأجل ما جاء في كتاب الله من تهديدهم بهذا اليوم مثل قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٠٠] ، أي : لقد بلغكم ذلك وسمعتموه فكان الشأن أن تؤمنوا به ولا تعتذروا بقولكم ما لبثنا غير ساعة.

والفاء في (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) فاء الفصيحة أفصحت عن شرط مقدر ، وتفيد معنى المفاجأة كما تقدم عند قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) في سورة الفرقان [١٩] ،

٨١

أي إذا كان كذلك فهذا يوم البعث كالفاء في قول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

وهذا توبيخ لهم وتهديد وتعجيل لإساءتهم بما يترقبهم من العذاب. والاقتصار على (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) ليتوقعوا كل سوء وعذاب.

والاستدراك في (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) استدراك على ما تضمنته جملة (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) أي لقد بلغكم ذلك وكان الشأن أن تستعدوا له ولكنكم كنتم لا تعلمون ، أي : لا تتصدون للعلم بما فيه النفع بل كان دأبكم الإعراض عن تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي التعبير بنفي العلم وقصد نفي الاهتمام به والعناية بتلقيه إشارة إلى أن التصدي للتعلّم وسيلة لحصوله.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧))

تفريع على جملة (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) [الروم : ٥٥]. والذين ظلموا هم المشركون الذين أقسموا ما لبثوا غير ساعة ، فالتعبير عنهم بالذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار لغرض التسجيل عليهم بوصف الظلم وهو الإشراك بالله لأنه جامع لفنون الظلم ، ففيه الاعتداء على حق الله ، وظلم المشرك نفسه بتعريضها للعذاب ، وظلمهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب ، وظلمهم المؤمنين بالاعتداء على أموالهم وأبشارهم.

والمعذرة : اسم مصدر اعتذر ، إذا أبدى علة أو حجة ليدفع عن نفسه مؤاخذة على ذنب أو تقصير. وهو مشتق من فعل عذره ، إذا لم يؤاخذه على ذنب أو تقصير لأجل ظهور سبب يدفع عنه المؤاخذة بما فعله. وإضافة (معذرة) إلى ضمير (الَّذِينَ ظَلَمُوا) تقتضي أن المعذرة واقعة منهم. ثم يجوز أن تكون الإضافة للتعريف بمعذرة معهودة فتكون هي قولهم (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم : ٥٥] كما تقدم ، ويجوز أن يكون التعريف للعموم كما هو شأن المصدر المضاف ، أي : لا تنفعهم معذرة يعتذرون بها مثل قولهم (غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) [المؤمنون : ١٠٦] وقولهم (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨].

واعلم أن هذا لا ينافي قوله تعالى (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦] المقتضي نفي وقوع الاعتذار منهم لأن الاعتذار المنفي هو الاعتذار المأذون فيه ، أي :

٨٢

المقبول ، لأن الله لو أذن لهم في الاعتذار لكان ذلك توطئة لقبوله اعتذارهم نظير قوله (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥]. والمثبت هنا معذرة من تلقاء أنفسهم لم يؤذن لهم بها فهي غير نافعة لهم كما قال تعالى (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ* رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ* قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٦ ـ ١٠٨] وقوله (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) [المؤمنون : ٦٥].

وقرأ الجمهور تنفع بالمثناة الفوقية. وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وخلف بالتحتية وهو وجه جائز لأن (معذرة) مجازيّ التأنيث ، ولوقوع الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول.

و (يُسْتَعْتَبُونَ) مبني للمجهول والمبني منه للفاعل استعتب ، إذا سأل العتبى ـ بضم العين وبالقصر ـ وهي اسم للإعتاب ، أي إزالة العتب ، فهمزة الإعتاب للإزالة ، قال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت : ٢٤] ، فصار استعتب المبني للمجهول جاريا على استعتب المبني للمعلوم فلما قيل : استعتب بمعنى طلب العتبى صار استعتب المبني للمجهول بمعنى أعتب ، فمعنى (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) : ولا هم بمزال عنهم المؤاخذة نظير قوله (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ). وهذا استعمال عجيب جار على تصاريف متعددة في الفصيح من الكلام ، وبعض اشتقاقها غير قياسي ومن حاولوا إجراءه على القياس اضطروا إلى تكلفات في المعنى لا يرضى بها الذوق السليم ، والعجب وقوعها في «الكشاف». وقال في «القاموس» : واستعتبه : أعطاه العتبى كأعتبه ، وطلب إليه العتبى ضدّ. والمعنى : لا ينفعهم اعتذار بعذر ولا إقرار بالذنب وطلب العفو. وتقدم قوله (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) في سورة النحل [٨٤].

[٥٨ ـ ٥٩] (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩))

لما انتهى ما أقيمت عليه السورة من دلائل الوحدانية وإثبات البعث عقب ذلك بالتنويه بالقرآن وبلوغه الغاية القصوى في البيان والهدى.

والضرب حقيقته : الوضع والإلصاق ، واستعير في مثل هذه الآية للذكر والتبيين لأنه كوضع الدالّ بلصق المدلول ، وتقدم في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً

٨٣

ما) [البقرة : ٢٦] وتقدم أيضا آنفا عند قوله (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [الروم : ٢٨] ، وهذا كقوله تعالى (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) المتقدم في سورة الإسراء [٨٩] ، و (الناس) أريد به المشركون لأنهم المقصود من تكرير هذه الأمثال ، وعطف عليه قوله (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) إلخ فهو وصف لتلقي المشركين أمثال القرآن فإذا جاءهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآية من القرآن فيها إرشادهم تلقوها بالاعتباط والإنكار البحت فقالوا (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ).

وضمير جمع المخاطب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقصد تعظيمه من جانب الله تعالى ، وإنما يقول الذين كفروا : إن أنت إلا مبطل ، فحكي كلامهم بالمعنى للتنويه بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل : الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فهو حكاية باللفظ. وهذا تأنيس للرسول عليه الصلاة والسلام من إيمان معانديه ، أي أئمة الكفر منهم ، ولذلك اعترض بعده بجملة (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) بين الجملتين المتعاطفتين تمهيدا للأمر بالصبر على غلوائهم ، أي تلك سنة أمثالهم ، أي مثل ذلك الطبع الذي علمته يطبع الله على قلوبهم ، وقد تقدم في قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣] وفي مواضع كثيرة من القرآن.

والطبع على القلب : تصييره غير قابل لفهم الأمور الدينية وهو الختم ، وقد تقدم في قوله تعالى (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) في سورة البقرة [٧].

و (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) مراد بهم الذين كفروا أنفسهم ، فعدل عن الإضمار لزيادة وصفهم بانتفاء العلم عنهم بعد أن وصفوا : بالمجرمين ، والذين ظلموا ، والذين كفروا.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر تفرع على جملة (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) [الروم : ٥٨] لتضمنها تأييسه من إيمانهم. وحذف متعلق الأمر بالصبر لدلالة المقام عليه ، أي اصبر على تعنتهم. وجملة (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) تعليل للأمر بالصبر وهو تأنيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحقيق وعد الله من الانتقام من المكذبين ومن نصر الرسول عليه الصلاة والسلام.

والحق : مصدر حقّ يحقّ بمعنى ثبت ، فالحق : الثابت الذي لا ريب فيه ولا مبالغة.

والاستخفاف : مبالغة في جعله خفيفا فالسين والتاء للتقوية مثلها في نحو : استجاب واستمسك ، وهو ضد الصبر. والمعنى : لا يحملنّك على ترك الصبر. والخفة مستعارة

٨٤

لحالة الجزع وظهور آثار الغضب. وهي مثل القلق المستعار من اضطراب الشيء لأن آثار الجزع والغضب تشبه تقلقل الشيء الخفيف ، فالشيء الخفيف يتقلقل بأدنى تحريك ، وفي ضده يستعار الرسوخ والتثاقل. وشاعت هذه الاستعارات حتى ساوت الحقيقة في الاستعمال.

ونهي الرسول عن أن يستخفه الذين لا يوقنون نهي عن الخفة التي من شأنها أن تحدث للعاقل إذا رأى عناد من هو يرشده إلى الصلاح ، وذلك مما يستفز غضب الحليم ، فالاستخفاف هنا هو أن يؤثروا في نفسه ضد الصبر ، ويأتي قوله تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) في سورة الزخرف [٥٤] ، فانظره إكمالا لما هنا. وأسند الاستخفاف إليهم على طريقة المجاز العقلي لأنهم سببه بما يصدر من عنادهم.

و (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) : هم المشركون الذين أجريت عليهم الصفات المتقدمة من الإجرام ، والظلم ، والكفر ، وعدم العلم ؛ فهو إظهار في مقام الإضمار للتصريح بمساويهم.

قيل : كان منهم النضر بن الحارث. ومعنى (لا يُوقِنُونَ) أنهم لا يوقنون بالأمور اليقينية ، أي التي دلت عليها الدلائل القطعية فهم مكابرون.

٨٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣١ ـ سورة لقمان

سميت هذه السورة بإضافتها إلى لقمان لأن فيها ذكر لقمان وحكمته وجملا من حكمته التي أدب بها ابنه. وليس لها اسم غير هذا الاسم ، وبهذا الاسم عرفت بين القراء والمفسرين. ولم أقف على تصريح به فيما يروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسند مقبول.

وروى البيهقي في «دلائل النبوة» عن ابن عباس : أنزلت سورة لقمان بمكة. وهي مكية كلها عند ابن عباس في أشهر قوليه وعليه إطلاق جمهور المفسرين وعن ابن عباس من رواية النحاس استثناء ثلاث آيات من قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) إلى قوله (بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [لقمان : ٢٧ ـ ٢٩]. وعن قتادة إلا آيتين إلى قوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان : ٢٨]. وفي «تفسير الكواشي» حكاية قول إنها مكية عدا آية نزلت بالمدينة وهي (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [لقمان : ٤] قائلا لأن الصلاة والزكاة فرضت بالمدينة. ورده البيضاوي على تسليم ذلك بأن فرضها بالمدينة لا ينافي تشريعها بمكة على غير إيجاب. والمحققون يمنعون أن تكون الصلاة والزكاة ففرضتا بالمدينة ؛ فأما الصلاة فلا ريب في أنها فرضت على الجملة بمكة ، وأما الزكاة ففرضت بمكة دون تعيين أنصباء ومقادير ، ثم عينت الأنصباء والمقادير بالمدينة. ويتحصل من هذا بأن القائل بأن آية (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) إلى آخرها نزلت بالمدينة قاله من قبل رأيه وليس له سند يعتمد كما يؤذن به قوله لأن الصلاة والزكاة إلخ. ثم هو يقتضي أن يكون صدر السورة النازل بمكة (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) [لقمان: ٣] (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [لقمان : ٥] إلخ ثم ألحق به (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [لقمان : ٤].

وأما القول باستثناء آيتين وثلاث فمستند إلى ما رواه ابن جرير عن قتادة وعن سعيد

٨٦

ابن جبير عن ابن عباس : أن قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [لقمان: ٢٧] إلى آخر الآيتين أو الثلاث نزلت بسبب مجادلة كانت من اليهود أن أحبارهم قالوا : يا محمد أرأيت قوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلا أردت. قالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنّا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنها في علم الله قليل ، فأنزل الله عليه : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآيات. وذلك مروي بأسانيد ضعيفة وعلى تسليمها فقد أجيب بأن اليهود جادلوا في ذلك ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة بأن لقّنوا ذلك وفدا من قريش وفد إليهم إلى المدينة ، وهذا أقرب للتوفيق بين الأقوال. وهذه الروايات وإن كانت غير ثابتة بسند صحيح إلا أن مثل هذا يكتفى فيه بالمقبول في الجملة. قال أبو حيان : سبب نزول هذه السورة أن قريشا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة لقمان مع ابنه ، أي سألوه سؤال تعنت واختبار. وهذا الذي ذكره أبو حيان يؤيده تصدير السورة بقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) [لقمان : ٦].

وهذه السورة هي السابعة والخمسون في تعداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الصافات وقبل سورة سبأ. وعدت آياتها ثلاثا وثلاثين في عدّ أهل المدينة ومكة ، وأربعا وثلاثين في عدّ أهل الشام والبصرة والكوفة.

أغراض هذه السورة

الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة تتصل بسبب نزولها الذي تقدم ذكره أن المشركين سألوا عن قصة لقمان وابنه ، وإذا جمعنا بين هذا وبين ما سيأتي عند قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) [لقمان : ٦] من أن المراد به النضر بن الحارث إذ كان يسافر إلى بلاد الفرس فيقتني كتب قصة إسفنديار ورستم وبهرام ، وكان يقرؤها على قريش ويقول : يخبركم محمد عن عاد وثمود وأحدّثكم أنا عن رستم وإسفنديار وبهرام ؛ فصدّرت هذه السورة بالتنويه بهدي القرآن ليعلم الناس أنه لا يشتمل إلا على ما فيه هدى وإرشاد للخير ومثل الكمال النفساني ، فلا التفات فيه إلى أخبار الجبابرة وأهل الضلال إلا في مقام التحذير مما هم فيه ومن عواقبه ، فكان صدر هذه السورة تمهيدا لقصة لقمان ، وقد تقدم الإلماع إلى هذا في قوله تعالى في أول سورة يوسف [٣] (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، ونبهت عليه في المقدمة السابعة لهذا التفسير. وانتقل من ذلك إلى تسفيه النضر بن الحارث وقصصه الباطلة.

٨٧

وابتدئ ذكر لقمان بالتنويه بأن آتاه الله الحكمة وأمره بشكر النعمة. وأطيل الكلام في وصايا لقمان وما اشتملت عليه : من التحذير من الإشراك ، ومن الأمر ببرّ الوالدين ، ومن مراقبة الله لأنه عليم بخفيات الأمور ، وإقامة الصلاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصبر ، والتحذير من الكبر والعجب ، والأمر بالاتسام بسمات المتواضعين في المشي والكلام.

وسلكت السورة أفانين ذات مناسبات لما تضمنته وصية لقمان لابنه ، وأدمج في ذلك تذكير المشركين بدلائل وحدانية الله تعالى وبنعمه عليهم وكيف أعرضوا عن هديه وتمسكوا بما ألفوا عليه آباءهم. وذكرت مزية دين الإسلام. وتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتمسك المسلمين بالعروة الوثقى ، وأنه لا يحزنه كفر من كفروا.

وانتظم في هذه السورة الرد على المعارضين للقرآن في قوله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [لقمان : ٢٧] وما بعدها. وختمت بالتحذير من دعوة الشيطان ، والتنبيه إلى بطلان ادعاء الكهان علم الغيب.

(الم (١))

تقدم الكلام على نظائرها في أول سورة البقرة.

[٢ ـ ٥] (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

إذا كانت هذه السورة نزلت بسبب سؤال قريش عن لقمان وابنه فهذه الآيات إلى قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان : ١٢] بمنزلة مقدمة لبيان أن مرمى القرآن من قصّ القصة ما فيها من علم وحكمة وهدى وأنها مسوقة للمؤمنين لا للذين سألوا عنها فكان سؤالهم نفعا للمؤمنين.

والإشارة ب (تِلْكَ) إلى ما سيذكر في هذه السورة ، فالمشار إليه مقدر في الذهن مترقب الذكر على ما تقدم في قوله (ذلِكَ الْكِتابُ) في أول البقرة [٢] وفي أول سورة الشعراء [٢] والنمل [١] والقصص [٢].

و (آياتُ الْكِتابِ) خبر عن اسم الإشارة. وفي الإشارة تنبيه على تعظيم قدر تلك الآيات بما دل عليه اسم الإشارة من البعد المستعمل في رفعة القدر ، وبما دلت عليه

٨٨

إضافة الآيات إلى الكتاب الموصوف بأنه الحكيم وأنه هدى ورحمة وسبب فلاح.

و (الْحَكِيمِ) : وصف للكتاب بمعنى ذي الحكمة ، أي لاشتماله على الحكمة. فوصف (الْكِتابِ) ب (الْحَكِيمِ) كوصف الرجل بالحكيم ، ولذلك قيل : إن الحكيم استعارة مكنية ، أو بعبارة أرشق تشبيه بليغ بالرجل الحكيم. ويجوز أن يكون الحكيم بمعنى المحكم بصيغة اسم المفعول وصفا على غير قياس كقولهم : عسل عقيد ، لأنه أحكم وأتقن فليس فيه فضول ولا ما لا يفيد كمالا نفسانيا. وفي وصف (الْكِتابِ) بهذا الوصف براعة استهلال للغرض من ذكر حكمة لقمان. وتقدم وصف الكتاب ب (الْحَكِيمِ) في أول سورة يونس [١].

وانتصب (هُدىً وَرَحْمَةً) على الحال من (الْكِتابِ) وهي قراءة الجمهور. وإذ كان (الْكِتابِ) مضافا إليه فمسوغ مجيء الحال من المضاف إليه أن (الْكِتابِ) أضيف إليه ما هو اسم جزئه ، أو على أنه حال من آيات. والعامل في الحال ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. وقرأه حمزة وحده برفع رحمة على جعل (هُدىً) خبرا ثانيا عن اسم الإشارة.

ومعنى المحسنين : الفاعلون للحسنات ، وأعلاها الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولذلك خصت هذه الثلاث بالذكر بعد إطلاق المحسنين لأنها أفضل الحسنات ، وإن كان المحسنون يأتون بها وبغيرها.

وزيادة وصف الكتاب ب (رَحْمَةً) بعد (هُدىً) لأنه لما كان المقصد من هذه السورة قصة لقمان نبّه على أن ذكر القصة رحمة لما تتضمنه من الآداب والحكمة لأن في ذلك زيادة على الهدى أنه تخلق بالحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، والخير الكثير : رحمة من الله تعالى.

و (الزَّكاةَ) هنا الصدقة وكانت موكولة إلى همم المسلمين غير مضبوطة بوقت ولا بمقدار. وتقدم الكلام على (بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) إلى (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) في أول سورة البقرة [٤ ـ ٥].

[٦ ـ ٧] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧))

٨٩

عطف على جملة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [لقمان : ٢]. والمعنى : أن حال الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين ، وأن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ليضلّوا عن سبيل الله الذي يهدي إليه الكتاب. وهذا من مقابلة الثناء على آيات الكتاب الحكيم بضد ذلك في ذم ما يأتي به بعض الناس ، وهذا تخلّص من المقدمة إلى مدخل للمقصود وهو تفظيع ما يدعو إليه النضر بن الحارث ومشايعوه من اللهو بأخبار الملوك التي لا تكسب صاحبها كمالا ولا حكمة.

وتقديم المسند في قوله (مِنَ النَّاسِ) للتشويق إلى تلقي خبره العجيب. والاشتراء كناية عن العناية بالشيء والاغتباط به وليس هنا استعارة بخلاف قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في سورة البقرة [١٦] ؛ فالاشتراء هنا مستعمل في صريحه وكنايته : فالصريح تشويه لاقتناء النضر بن الحارث قصص رستم وإسفنديار وبهرام ، والكناية تقبيح للذين التفّوا حوله وتلقّوا أخباره ، أي من الناس من يشغله لهو الحديث والولع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم.

واللهو : ما يقصد منه تشغيل البال وتقصير طول وقت البطالة دون نفع ، لأنه إذا كانت في ذلك منفعة لم يكن المقصود منه اللهو بل تلك المنفعة. و (لَهْوَ الْحَدِيثِ) ما كان من الحديث مرادا للهو فإضافة (لَهْوَ) إلى (الْحَدِيثِ) على معنى (مِنَ) التبعيضية على رأي بعض النحاة ، وبعضهم لا يثبت الإضافة على معنى (مِنَ) التبعيضية فيردها إلى معنى اللام.

وتقدم اللهو في قوله (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) في سورة الأنعام [٣٢]. والأصح في المراد بقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) أنه النضر بن الحارث فإنه كان يسافر في تجارة إلى بلاد فارس فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات فيقصّها على قريش في أسمارهم ويقول : إن كان محمد يحدثكم بأحاديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وإسفنديار وبهرام. ومن المفسرين من قال : إن النضر كان يشتري من بلاد فارس كتب أخبار ملوكهم فيحدث بها قريشا ، أي بواسطة من يترجمها لهم. ويشمل لفظ (النَّاسِ) أهل سامره الذين ينصتون لما يقصه عليهم كما يقتضيه قوله تعالى إثره (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

وقيل المراد ب (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) من يقتني القينات المغنيات. روى الترمذي عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن رسول الله صلّى (١) الله عليه وسلّم

٩٠

قال : «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام» ، في مثل ذلك أنزلت هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إلى آخر الآية. قال أبو عيسى : هذا حديث غريب إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة وعلي بن يزيد يضعف في الحديث سمعت محمدا ـ يعني البخاري ـ يقول علي بن يزيد يضعف ا ه. وقال ابن العربي في «العارضة» : في سبب نزولها قولان : أحدهما أنها نزلت في النضر بن الحارث. الثاني أنها نزلت في رجل من قريش قيل هو ابن خطل اشترى جارية مغنية فشغل الناس بها عن استماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ا ه. وألفاظ الآية أنسب انطباقا على قصة النضر بن الحارث.

ومعنى (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أنه يفعل ذلك ليلهي قريشا عن سماع القرآن فإن القرآن سبيل موصل إلى الله تعالى ، أي إلى الدين الذي أراده ، فلم يكن قصده مجرد اللهو بل تجاوزه إلى الصد عن سبيل الله ، وهذا زيادة في تفظيع عمله. وقرأ الجمهور (لِيُضِلَ) بضم الياء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، أي ليزداد ضلالا على ضلاله إذ لم يكتف لنفسه بالكفر حتى أخذ يبث ضلاله للناس ، وبذلك يكون مآل القراءتين متحد المعنى.

ويتعلق (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بفعل (يَشْتَرِي) ويتعلق به أيضا قوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) لأن أصل تعلق المجرورات أن يرجع إلى المتعلّق المبني عليه الكلام ، فالمعنى : يشتري لهو الحديث بغير علم ، أي عن غير بصيرة في صالح نفسه حيث يستبدل الباطل بالحق. والضمير المنصوب في (يَتَّخِذَها) عائد إلى (سَبِيلِ اللهِ) ، فإن السبيل تؤنث. وقرأ الجمهور (وَيَتَّخِذَها) بالرفع عطفا على (يَشْتَرِي) ، أي يشغل الناس بلهو الحديث ليصرفهم عن القرآن ويتخذ سبيل الله هزؤا. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بالنصب عطفا على (لِيُضِلَ) ، أي يلهيهم بلهو الحديث ليضلهم وليتخذ دين الإسلام هزءا. ومآل المعنى متّحد في القراءتين لأن كلا الأمرين من فعله ومن غرضه. وأما الإضلال فقد رجح فيه جانب التعليل لأنه العلة الباعثة له على ما يفعل.

والهزؤ : مصدر هزأ به إذا سخر به كقوله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) [البقرة : ٢٣١] ولما كان (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) صادقا على النضر بن الحارث والذين يستمعون إلى قصصه من المشركين جيء في وعيدهم بصيغة الجمع (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

واختبر اسم الإشارة للتنبيه على أن ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر إنما استحقه

٩١

لأجل ما سبق اسم الإشارة من الوصف.

وجملة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) معترضة بين الجملتين جملة (مَنْ يَشْتَرِي) وجملة (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) فهذا عطف على جملة (يَشْتَرِي) إلخ. والتقدير : ومن الناس من يشتري إلخ و (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) ؛ فالموصول واحد وله صلتان : اشتراء لهو الحديث للضلال ، والاستكبار عند ما تتلى عليه آيات القرآن.

ودل قوله (تُتْلى عَلَيْهِ) أنه يواجه بتبليغ القرآن وإسماعه. وقوله (وَلَّى) تمثيل للإعراض عن آيات الله كقوله تعالى (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) [النازعات : ٢٢].

و (مُسْتَكْبِراً) حال ، أي هو إعراض استكبار لا إعراض تفريط في الخير فحسب.

وشبه في ذلك بالذي لا يسمع الآيات التي تتلى عليه ، ووجه الشبه هو عدم التأثر ولو تأثرا يعقبه إعراض كتأثر الوليد بن المغيرة. و (كَأَنْ) مخففة من (كأنّ) وهي في موضع الحال من ضمير (مُسْتَكْبِراً). وكرر التشبيه لتقويته مع اختلاف الكيفية في أن عدم السمع مرة مع تمكن آلة السمع ومرة مع انعدام قوة آلته فشبه ثانيا بمن في أذنيه وقر وهو أخص من معنى (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها). ومثل هذا التشبيه الثاني قول لبيد :

فتنازعا سبطا يطير ظلاله

كدخان مشعلة يشبّ ضرامها

مشموله غلثت بنابت عرفج

كدخان نار ساطع أسنامها

والوقر : أصله الثقل ، وشاع في الصمم مجازا مشهورا ساوى الحقيقة ، وقد تقدم في قوله (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) في سورة الأنعام [٢٥].

وقرأ نافع (فِي أُذُنَيْهِ) بسكون الذال للتخفيف لأجل ثقل المثنى ، وقرأه الباقون بضم الذال على الأصل. وقد ترتب على هذه الأعمال التي وصف بها أن أمر الله رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوعده بعذاب أليم. وإطلاق البشارة هنا استعارة تهكمية ، كقول عمرو بن كلثوم :

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

وقد عذب النضر بالسيف إذ قتل صبرا يوم بدر ، فذلك عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة أشد.

[٨ ـ ٩] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩))

٩٢

لما ذكر عذاب من يضل عن سبيل الله اتبع ببشارة المحسنين الذين وصفوا بأنهم يقيمون الصلاة إلى قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [لقمان : ٥].

وانتصب (وَعْدَ اللهِ) على المفعول المطلق النائب عن فعله ، وانتصب (حَقًّا) على الحال المؤكدة لمعنى عاملها كما تقدم في صدر سورة يونس. وإجراء الاسمين الجليلين على ضمير الجلالة لتحقيق وعده لأنه لعزته لا يعجزه الوفاء بما وعد ، ولحكمته لا يخطئ ولا يذهل عما وعد ، فموقع جملة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) موقع التذييل بالأعم.

[١٠ ـ ١١] (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

استئناف للاستدلال على الذين دأبهم الإعراض عن آيات الله بأن الله هو خالق المخلوقات فلا يستحق غيره أن تثبت له الإلهية فكان ادعاء الإلهية لغير الله هو العلة للإعراض عن آيات الكتاب الحكيم ، فهم لما أثبتوا الإلهية لما لا يخلق شيئا كانوا كمن يزعم أن الأصنام مماثلة الله تعالى في أوصافه فذلك يقتضي انتفاء وصف الحكمة عنه كما هو منتف عنها. ولذا فإن موقع هذه الآيات موقع دليل الدليل ، وهو المقام المعبر عنه في علم الاستدلال بالتدقيق ، وهو ذكر الشيء بدليله ودليل دليله ، فالخطاب في قوله (تَرَوْنَها) و (بِكُمْ) للمشركين ، وقد تقدم في سورة الرعد [٢] قوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) ، وتقدم في أول سورة النحل [١٥] قوله (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) والمعنى خوف أن تميد بكم أو لئلا تميدكم كما بين هنالك. وتقدم في سورة البقرة [١٦٤] قوله : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ).

وقوله (أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو نظير قوله في سورة البقرة [١٦٤] (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) وقوله في سورة الرعد [١٧] (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ).

والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله (وَأَنْزَلْنا) للاهتمام بهذه النعمة التي هي أكثر دورانا عند الناس. وضمير (فِيها) عائد إلى الأرض.

والزوج : الصنف ، وتقدم في قوله تعالى (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) في طه [٥٣] وقوله (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) في سورة الحج [٥].

٩٣

والكريم : النفيس في نوعه ، وتقدم عند قوله تعالى (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩].

وقد أدمج في أثناء دلائل صفة الحكمة الامتنان بما في ذلك من منافع للخلق بقوله (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) فإن من الدواب المبثوثة ما ينتفع به الناس من أكل لحوم أوانسها ووحوشها والانتفاع بألبانها وأصوافها وجلودها وقرونها وأسنانها والحمل عليها والتجمل بها في مرابطها وغدوّها ورواحها ، ثم من نعمة منافع النبات من الحب والثمر والكلأ والكمأة. وإذ كانت البحار من جملة الأرض فقد شمل الانتفاع بدواب البحر فالله كما أبدع الصنع أسبغ النعمة فأرانا آثار الحكمة والرحمة.

وجملة (هذا خَلْقُ اللهِ) إلى آخرها نتيجة الاستدلال بخلق السماء والأرض والجبال والدواب وإنزال المطر. واسم الإشارة إلى ما تضمنه قوله (خَلَقَ السَّماواتِ) إلى قوله (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ). والإتيان به مفردا بتأويل المذكور. والانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله (خَلْقُ اللهِ) التفاتا لزيادة التصريح بأن الخطاب وارد من جانب الله بقرينة قوله (هذا خَلْقُ اللهِ) وكذلك يكون الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) التفاتا لمراعاة العود إلى الغيبة في قوله (خَلْقُ اللهِ). ويجوز أن تكون الرؤية من قوله (فَأَرُونِي) علمية ، أي فأنبئوني ، والفعل معلقا عن العمل بالاستفهام ب (ما ذا). فيتعين أن يكون (فَأَرُونِي) تهكما لأنهم لا يمكن لهم أن يكافحوا الله زيادة على كون الأمر مستعملا في التعجيز ، لكن التهكم أسبق للقطع بأنهم لا يتمكنون من مكافحة الله قبل أن يقطعوا بعجزهم عن تعيين مخلوق خلقه من دون الله قطعا نظريا.

وصوغ أمر التعجيز من مادة الرؤية البصرية أشد في التعجيز لاقتضائها الاقتناع منهم بأن يحضروا شيئا يدّعون أن آلهتهم خلقته. وهذا كقول حطائط بن يعفر النهشلي (١) وقيل حاتم الطائي :

أريني جوادا مات هزلا (٢) لعلني

أرى ما تزين أو بخيلا مخلّدا

أي : أحضرني جوادا مات من الهزال وأرينيه لعلي أرى مثل ما رأيتيه.

والعرب يقصدون في مثل هذا الغرض الرؤية البصرية ، ولذلك يكثر أن يقول : ما

__________________

(١) حطائط بضم الحاء : القصير

(٢) هزلا بفتح الهاء : الهزال

٩٤

رأت عيني ، وانظر هل ترى. وقال امرؤ القيس :

فلله عينا من رأى من تفرق

أشتّ وأنأى من فراق المحصب

وإجراء اسم موصول العقلاء على الأصنام مجاراة للمشركين إذ يعدّونهم عقلاء. و (مِنْ دُونِهِ) صلة الموصول. و (دون) كناية عن الغير ، و (مِنْ) جارّة لاسم المكان على وجه الزيادة لتأكيد الاتصال بالظرف.

و (بَلِ) للإضراب الانتقالي من غرض المجادلة إلى غرض تسجيل ضلالهم ، أي في اعتقادهم إلهية الأصنام ، كما يقال في المناظرة : دع عنك هذا وانتقل إلى كذا.

و (الظَّالِمُونَ) : المشركون. والضلال المبين : الكفر الفظيع ، لأنهم أعرضوا عن دعوة الإسلام للحق ، وذلك ضلال ، وأشركوا مع الله غيره في الإلهية ، فذلك كفر فظيع. وجيء بحرف الظرفية لإفادة اكتناف الضلال بهم في سائر أحوالهم ، أي : شدة ملابسته إياهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢))

الواو عاطفة قصة لقمان على قصة النضر بن الحارث المتقدمة في قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [لقمان : ٦] باعتبار كونها تضمنت عجيب حاله في الضلالة من عنايته بلهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذ سبيل الله هزؤا ، وباعتبار كون قصة لقمان متضمنة عجيب حال لقمان في الاهتداء والحكمة ، فهما حالان متضادان ؛ فقطع النظر عن كون قصة النضر سيقت مساق المقدمة والمدخل إلى المقصود لأن الكلام لما طال في المقدمة خرجت عن سنن المقدمات إلى المقصودات بالذات فلذلك عطفت عطف القصص ولم تفصل فصل النتائج عقب مقدماتها. وقد تتعدد الاعتبارات للأسلوب الواحد فيتخير البليغ في رعيها كقوله تعالى (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) في سورة البقرة [٤٩] ، (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) في سورة إبراهيم [٦]. وافتتاح القصة بحرفي التوكيد : لام القسم و (قد) للإنباء بأنها خبر عن أمر مهم واقع.

و (لُقْمانَ) اسم رجل حكيم صالح ، وأكثر الروايات في شأنه التي يعضد بعضها وإن كانت أسانيدها ضعيفة تقتضي أنه كان من السود ، فقيل هو من بلاد النوبة ، وقيل من الحبشة.

٩٥

وليس هو لقمان به عاد الذي قال المثل المشهور : إحدى حظيات لقمان. والذي ذكره أبو المهوش الأسدي أو يزيد بن عمر يصعق في قوله :

تراه يطوف الآفاق حرصا

ليأكل رأس لقمان بن عاد

ويعرف ذلك بلقمان صاحب النسور ، وهو الذي له ابن اسمه لقيم (١) وبعضهم ذكر أن اسم أبيه باعوراء ، فسبق إلى أوهام بعض المؤلفين (٢) أنه المسمى في كتب اليهود بلعام بن باعوراء المذكور خبره في «الإصحاحين» (٢٢ و ٢٣) من «سفر العدد» ، ولعل ذلك وهم لأن بلعام ذلك رجل من أهل مدين كان نبيئا في زمن موسى عليه‌السلام ، فلعل التوهم جاء من اتحاد اسم الأب ، أو من ظن أن بلعام يرادف معنى لقمان لأن بلعام من البلع ولقمان من اللّقم فيكون العرب سموه بما يرادف اسمه في العبرانية. وقد اختلف السلف في أن لقمان المذكور في القرآن كان حكيما أو نبيئا. فالجمهور قالوا : كان حكيما صالحا. واعتمد مالك في «الموطأ» على الثاني ، فذكره في «جامع الموطأ» مرتين بوصف لقمان الحكيم ، وذلك يقتضي أنه اشتهر بذلك بين علماء المدينة. وذكر ابن عطية : أن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لم يكن لقمان نبيئا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحبّ الله تعالى فأحبه فمنّ عليه بالحكمة» ويظهر من الآيات المذكورة في قصته هذه أنه لم يكن نبيئا لأنه لم يمتن عليه بوحي ولا بكلام الملائكة. والاقتصار على أنه أوتي الحكمة يومئ إلى أنه ألهم الحكمة ونطق بها ، ولأنه لما ذكر تعليمه لابنه قال تعالى (وَهُوَ يَعِظُهُ) [لقمان : ١٣] وذلك مؤذن بأنه تعليم لا تبليغ تشريع.

وذهب عكرمة والشعبي : أن لقمان نبيء ولفظ الحكمة يسمح بهذا القول لأن الحكمة أطلقت على النبوءة في كثير من القرآن كقوله في داود (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) [ص : ٢٠]. وقد فسرت الحكمة في قوله تعالى (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] بما يشمل النبوءة. وأن الحكمة «معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه» وأعلاها النبوءة لأنها علم بالحقائق مأمون من أن يكون مخالفا لما هي عليه في نفس الأمر إذ النبوءة متلقاة من الله الذي لا يعزب عن عمله شيء. وسيأتي أن إيراد قوله تعالى

__________________

(١) وهو المعني في البيت الذي أنشده ابن بري :

لقيم بن لقمان من أخته

فكان ابن أخت له وابنه

(٢) هو لاروس صاحب دوائر المعارف الفرنسية

٩٦

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) [لقمان : ١٤] في أثناء كلام لقمان يساعد هذا القول.

وذكر أهل التفسير والتاريخ أنه كان في زمن داود. وبعضهم يقول : إنه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته ، فتعين أنه عاش في بلاد إسرائيل. وذكر بعضهم أنه كان عبدا فأعتقه سيده ، وذكر ابن كثير عن مجاهد : أن لقمان كان قاضيا في بني إسرائيل في زمان داود عليه‌السلام ، ولا يوجد ذكر ذلك في كتب الإسرائيليين. قيل كان راعيا لغنم وقيل كان نجارا وقيل خياطا. وفي «تفسير ابن كثير» عن ابن وهب أن لقمان كان عبدا لبني الحسحاس وبنو الحسحاس من العرب وكان من عبيدهم سحيم العبد الشاعر المخضرم الذي قتل في مدة عثمان.

وحكمة لقمان مأثورة في أقواله الناطقة عن حقائق الأحوال والمقرّبة للخفيات بأحسن الأمثال. وقد عني بها أهل التربية وأهل الخير ، وذكر القرآن منها ما في هذه السورة ، وذكر منها مالك في «الموطأ» بلاغين في كتاب «الجامع» وذكر حكمة له في كتاب «جامع العتبية» وذكر منها أحمد بن حنبل في «مسنده» ولا نعرف كتابا جمع حكمة لقمان. وفي «تفسير القرطبي» قال وهب بن منبه : قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب. ولعل هذا إن صح عن وهب بن منبه كان مبالغة في الكثرة.

وكان لقمان معروفا عند خاصة العرب. قال ابن إسحاق في «السيرة» : قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجّا أو معتمرا فتصدى له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاه إلى الإسلام فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما الذي معك؟ قال : مجلة لقمان. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اعرضها عليّ ، فعرضها عليه ، فقال : إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله. قال ابن إسحاق : فقدم المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج وكان قتله قبل يوم بعاث. وكان رجال من قومه يقولون : إنّا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قومه يدعونه الكامل ا ه. وفي «الاستيعاب» لابن عبد البر : أنا شاكّ في إسلامه كما شك غيري. وقد تقدم في صدر الكلام على هذه السورة أن قريشا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لقمان وابنه وذلك يقتضي أنه كان معروفا للعرب. وقد انتهى إليّ حين كتابة هذا التفسير من حكم لقمان المأثورة ثمان وثلاثون حكمة غير ما ذكر في هذه الآية وسنذكرها عند الفراغ من تفسير هذه الآيات.

والإيتاء : الإعطاء ، وهو مستعار هنا للإلهام أو الوحي.

و (لُقْمانَ) : اسم علم مادته مادة عربية مشتق من اللّقم ، والأظهر أن العرب عربوه

٩٧

بلفظ قريب من ألفاظ لغتهم على عادتهم كما عربوا شاول باسم طالوت وهو ممنوع من الصرف لزيادة الألف والنون لا للعجمة.

وتقدم تعريف (الْحِكْمَةَ) عند قوله تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) في سورة البقرة [٢٦٩] ، وقوله (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) في سورة النحل [١٢٥].

و (أَنِ) في قوله (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) تفسيرية وليست تفسيرا لفعل (آتَيْنا) لأنه نصب مفعوله وهو الحكمة ، فتكون (أَنِ) مفسرة للحكمة باعتبار أن الحكمة هنا أقوال أوحيت إليه أو ألهمها فيكون في الحكمة معنى القول دون حروفه فيصلح أن تفسر ب (أَنِ) التفسيرية ، كما فسرت حاجة في قول الشاعر الذي لم يعرف وهو من شواهد العربية:

إن تحملا حاجة لي خفّ محملها

تستوجبا منة عندي بها ويدا

أن تقرءان علي أسماء ويحكما

مني السلام وأن لا تخبرا أحدا

والصوفية وحكماء الإشراق يرون خواطر الأصفياء حجة ويسمونها إلهاما. ومال إليه جمّ من علمائنا. وقد قال قطب الدين الشيرازي في «ديباجة شرحه على المفتاح» : أما بعد إني قد ألقي إليّ على سبيل الإنذار ، من حضرة الملك الجبار ، بلسان الإلهام ، إلّا كوهم من الأوهام ، ما أورثني التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار السرور ، إلخ.

وكان أول ما لقنه لقمان من الحكمة هو الحكمة في نفسه بأن أمره الله بشكره على ما هو محفوف به من نعم الله التي منها نعمة الاصطفاء لإعطائه الحكمة وإعداده لذلك بقابليته لها. وهذا رأس الحكمة لتضمنه النظر في دلائل نفسه وحقيقته قبل النظر في حقائق الأشياء وقبل التصدي لإرشاد غيره ، وأن أهم النظر في حقيقته هو الشعور بوجوده على حالة كاملة والشعور بموجده ومفيض الكمال عليه ، وذلك كله مقتض لشكر موجده على ذلك. وأيضا فإن شكر الله من الحكمة ، إذ الحكمة تدعو إلى معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه لقصد العمل بمقتضى العلم ، فالحكيم يبث في الناس تلك الحقائق على حسب قابلياتهم بطريقة التشريع تارة والموعظة أخرى ، والتعليم لقابليه مع حملهم على العمل بما علموه من ذلك ، وذلك العمل من الشكر إذ الشكر قد عرف بأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من مواهب ونعم فيما خلق لأجله ؛ فكان شكر الله هو الأهم في الأعمال المستقيمة فلذلك كان رأس الحكمة لأن من الحكمة تقديم العلم بالأنفع على العلم بما هو دونه ؛ فالشكر هو مبدأ الكمالات علما ، وغايتها عملا.

٩٨

وللتنبيه على هذا المعنى أعقب الله الشكر المأمور به ببيان أن فائدته لنفس الشاكر لا للمشكور بقوله (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن آثار شكر الله كمالات حاصلة للشاكر ولا تنفع المشكور شيئا لغناه سبحانه عن شكر الشاكرين ، ولذلك جيء به في صورة الشرط لتحقيق التعلق بين مضمون الشرط ومضمون الجزاء ، فإن الشرط أدل على ذلك من الإخبار. وجيء بصيغة حصر نفع الشكر في الثبوت للشاكر بقوله (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي ما يشكر إلا لفائدة نفسه ، ولام التعليل مؤذنة بالفائدة. وزيد ذلك تبينا بعطف ضده بقوله (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) لإفادة أن الإعراض عن الشكر بعد استشعاره كفر للنعمة وأن الله غنيّ عن شكره بخلاف شأن المخلوقات إذ يكسبهم الشكر فوائد بين بني جنسهم تجر إليهم منافع الطاعة أو الإعانة أو الإغناء أو غير ذلك من فوائد الشكر للمشكورين على تفاوت مقاماتهم ، والله غني عن جميع ذلك ، وهو (حَمِيدٌ) ، أي : كثير المحمودية بلسان حال الكائنات كلها حتى حال الكافر به كما قال تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) سورة الرعد [١٥].

ومن بلاغة القرآن وبديع إيجازه أن كان قوله (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) جامعا لمبدأ الحكمة التي أوتيها لقمان ، ولأمره بالشكر على ذلك ، فقد جمع قوله (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) الإرشاد إلى الشكر ، مع الشروع في الأمر المشكور عليه تنبيها على المبادرة بالشكر عند حصول النعمة. وإنما قوبل الإعراض عن الشكر بوصف الله بأنه حميد لأن الحمد والشكر متقاربان ، وفي الحديث : «الحمد رأس الشكر» ، فلما لم يكن في أسماء الله تعالى اسم من مادة الشكر إلا اسمه الشكور وهو بمعنى شاكر ، أي : شاكر لعباده عبادتهم إياه عبر هنا باسمه (حَمِيدٌ). وجيء في فعل (يَشْكُرْ) بصيغة المضارع للإيماء إلى جدارة الشكر بالتجديد.

واللام في قوله (أَنِ اشْكُرْ لِي) [لقمان : ١٤] داخلة على مفعول الشكر وهي لام ملتزم زيادتها مع مادة الشكر للتأكيد والتقوية ، وتقدم في قوله (وَاشْكُرُوا لِي) في سورة البقرة [١٥٢].

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣))

عطف على جملة (آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان : ١٢] لأن الواو نائبة مناب الفعل فمضمون هذه الجملة يفسر بعض الحكمة التي أوتيها لقمان. والتقدير : وآتيناه الحكمة إذ

٩٩

قال لابنه فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي حكمة فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة ، وكل حالة تصدر عنه فيها حكمة هو فيها قد أوتي حكمة.

و (إِذْ) ظرف متعلق بالفعل المقدّر الذي دلت عليه واو العطف ، أي والتقدير : وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه. وهذا انتقال من وصفه بحكمة الاهتداء إلى وصفه بحكمة الهدى والإرشاد. ويجوز أن يكون (إِذْ قالَ) ظرفا متعلقا بفعل (اذكر) محذوفا.

وفائدة ذكر الحال بقوله (وَهُوَ يَعِظُهُ) الإشارة إلى أن قوله هذا كان لتلبس ابنه بالإشراك ، وقد قال جمهور المفسرين : إن ابن لقمان كان مشركا فلم يزل لقمان يعظه حتى آمن بالله وحده ، فإن الوعظ زجر مقترن بتخويف قال تعالى (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء : ٦٣] ويعرف المزجور عنه بمتعلق فعل الموعظة فتعين أن الزجر هنا عن الإشراك بالله. ولعل ابن لقمان كان يدين بدين قومه من السودان فلما فتح الله على لقمان بالحكمة والتوحيد أبى ابنه متابعته فأخذ يعظه حتى دان بالتوحيد ، وليس استيطان لقمان بمدينة داود مقتضيا أن تكون عائلته تدين بدين اليهودية.

وأصل النهي عن الشيء أن يكون حين التلبس بالشيء المنهي عنه أو عند مقاربة التلبس به ، والأصل أن لا ينهى عن شيء منتف عن المنهي. وقد ذكر المفسرون اختلافا في اسم ابن لقمان فلا داعي إليه. وقد جمع لقمان في هذه الموعظة أصول الشريعة وهي : الاعتقادات ، والأعمال ، وأدب المعاملة ، وأدب النفس.

وافتتاح الموعظة بنداء المخاطب الموعوظ مع أن توجيه الخطاب مغن عن ندائه لحضوره بالخطاب ، فالنداء مستعمل مجازا في طلب حضور الذهن لوعي الكلام وذلك من الاهتمام بالغرض المسوق له الكلام كما تقدم عند قوله تعالى (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [يوسف : ٤] وقوله (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ) في سورة يوسف [٥] وقوله (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) في سورة العقود [١١٢] وقوله تعالى (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) في سورة مريم [٤٢].

و (بُنَيَ) تصغير (ابن) مضافا إلى ياء المتكلم فلذلك كسرت الياء. وقرأه الجمهور بكسر ياء (بُنَيَ) مشدّدة. وأصله : يا بنييي بثلاث ياءات إذ أصله الأصيل يا بنيوي لأن كلمة ابن واوية اللام الملتزمة حذفها فلما صغر ردّ إلى أصله ، ثم لما التقت ياء التصغير ساكنة قبل واو الكلمة المتحركة بحركة الإعراب قلبت الواو ياء لتقاربهما وأدغمتا ، ولما

١٠٠