تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

بعض النساء ظنّ بعض من يشافهها من الرجال أنها تتحبّب إليه ، فربما اجترأت نفسه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة ، بله أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم اللاتي هنّ أمهات المؤمنين.

والخضوع : حقيقته التذلّل ، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل.

والباء في قوله : (بِالْقَوْلِ) يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية ، أي لا تخضعن القول ، أي تجعلنه خاضعا ذليلا ، أي رقيقا متفكّكا. وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بيّنه المحققون من النحاة أن أصل قولك : ذهبت بزيد ، أنك ذهبت مصاحبا له فأنت أذهبته معك ، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] ، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة ، وأفيدت التعدية بالباء. ويجوز أن تكون الباء بمعنى (في) ، أي لا يكن منكن لين في القول.

والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت ، أي ليكن كلامكن جزلا.

والمرض : حقيقته اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة ، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان في أول الإيمان من الأعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام ، وكذلك من تخلّقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي‌الله‌عنها شاهد لذلك. وتقدم في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في سورة البقرة [١٠].

وانتصب (فَيَطْمَعَ) في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع.

وحذف متعلق (فَيَطْمَعَ) تنزها وتعظيما لشأن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قيام القرينة.

وعطف (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) على (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار.

والقول : الكلام.

والمعروف : هو الذي يألفه الناس بحسب العرف العام ، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام ، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهرن من يكلمهن أو

٢٤١

يسمعنه قولا بذيئا من باب : فليقل خيرا أو ليصمت. وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣))

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ).

هذا أمر خصّصن به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيرا لهن ، وتقوية في حرمتهن ، فقرارهن في بيوتهن عبادة ، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خلالها يكسبها حرمة. وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلّون الجمعة في بيوت أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في حديث «الموطأ». وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء.

وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف. ووجهها أبو عبيدة عن الكسائي والفراء والزجاج بأنها لغة أهل الحجاز في قرّ بمعنى : أقام واستقرّ ، يقولون : قررت في المكان بكسر الراء من باب علم فيجيء مضارعه بفتح الراء فأصل قرن اقررن فحذفت الراء الأولى للتخفيف من التضعيف وألقيت حركتها على القاف نظير قولهم : أحسن بمعنى أحسن في قول أبي زبيد :

سوى أن الجياد من المطايا

أحسن به فهن إليه شوس

وأنكر المازني وأبو حاتم أن تكون هذه لغة ، وزعم أن قررت بكسر الراء في الماضي لا يرد إلا في معنى قرّة العين ، والقراءة حجة عليهما. والتزم النحاس قولهما وزعم أن تفسير الآية على هذه القراءة أنها من قرّة العين وأن المعنى : واقررن عيونا في بيوتكن ، أي لكنّ في بيوتكن قرّة عين فلا تتطلعن إلى ما جاوز ذلك ، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن.

وقرأ بقية العشرة (وَقَرْنَ) بكسر القاف. قال المبرد : هو من القرار ، أصله : اقررن بكسر الراء الأولى فحذفت تخفيفا ، وألقيت حركتها على القاف كما قالوا : ظلت ومست. وقال ابن عطية : يصح أن يكون قرن ، أي بكسر القاف أمرا من الوقار ، يقال : وقر فلان يقر ، والأمر منه قر للواحد ، وللنساء قرن مثل عدن ، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن

٢٤٢

مع الإيماء إلى علة ذلك بأنه وقار لهن.

وقرأ الجمهور (بُيُوتِكُنَ) بكسر الباء. وقرأه ورش عن نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء.

وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكنهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يميّز بعضها عن بعض بالإضافة إلى ساكنة البيت ، يقولون : حجرة عائشة ، وبيت حفصة ، فهذه الإضافة كالإضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) [الطلاق : ١]. وذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته ، والعرب تدعو الزوجة البيت ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهنّ لأن البيوت بناها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تباعا تبعا لبناء المسجد ، ولذلك لما توفّيت الأزواج كلهن أدخلت ساحة بيوتهن إلى المسجد في التوسعة التي وسعها الخليفة الوليد بن عبد الملك في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة ولم يعط عوضا لورثتهن.

وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجن إلا لضرورة ، وجاء في الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله أذن لكنّ أن تخرجن لحوائجكن» يريد حاجات الإنسان. ومحمل هذا الأمر على ملازمة بيوتهن فيما عدا ما يضطر فيه الخروج مثل موت الأبوين. وقد خرجت عائشة إلى بيت أبيها أبي بكر في مرضه الذي مات فيه كما دل عليه حديثه معها في عطيته التي كان أعطاها من ثمرة نخلة وقوله لها : «وإنما هو اليوم مال وارث» رواه في «الموطأ». وكنّ يخرجن للحج وفي بعض الغزوات مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن مقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسفاره قائم مقام بيوته في الحضر ، وأبت سودة أن تخرج إلى الحجّ والعمرة بعد ذلك. وكل ذلك مما يفيد إطلاق الأمر في قوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ).

ولذلك لما مات سعد بن أبي وقاص أمرت عائشة أن يمرّ عليها بجنازته في المسجد لتدعو له ، أي لتصلي عليه. رواه في «الموطأ».

وقد أشكل على الناس خروج عائشة إلى البصرة في الفتنة التي تدعى : وقعة الجمل ، فلم يغير عليها ذلك كثير من جلّة الصحابة منهم طلحة والزبير. وأنكر ذلك عليها بعضهم مثل : عمار بن ياسر ، وعلي بن أبي طالب ، ولكلّ نظر في الاجتهاد. والذي عليه المحققون مثل أبي بكر بن العربي أن ذلك كان منها عن اجتهاد فإنها رأت أن في خروجها

٢٤٣

إلى البصرة مصلحة للمسلمين لتسعى بين فريقي الفتنة بالصلح فإن الناس تعلّقوا بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة ورجوا بركتها أن تخرج فتصلح بين الفريقين ، وظنّوا أن الناس يستحيون منها فتأولت لخروجها مصلحة تفيد إطلاق القرار المأمور به في قوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) يكافئ الخروج للحج. وأخذت بقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) [الحجرات : ٩] ورأت أن الأمر بالإصلاح يشملها وأمثالها ممن يرجون سماع الكلمة ، فكان ذلك منها عن اجتهاد. وقد أشار عليها جمع من الصحابة بذلك وخرجوا معها مثل طلحة والزبير وناهيك بهما. وهذا من مواقع اجتهاد الصحابة التي يجب علينا حملها على أحسن المخارج ونظن بها أحسن المذاهب ، كقولنا في تقاتلهم في صفّين وكاد أن يصلح الأمر ولكن أفسده دعاة الفتنة ولم تشعر عائشة إلا والمقاتلة قد جرت بين فريقين من الصحابة يوم الجمل. ولا ينبغي تقلد كلام المؤرخين على علّاته فإن فيهم من أهل الأهواء ومن تلقّفوا الغثّ والسمين. وما يذكر عنها رضي‌الله‌عنها : أنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى يبتلّ خمارها ، فلا ثقة بصحة سنده ، ولو صحّ لكان محمله أنها أسفت لتلك الحوادث التي ألجأتها إلى الاجتهاد في تأويل الآية.

(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى).

التبرج : إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال. وتقدم في قوله تعالى : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) في سورة النور [٦٠].

وانتصب (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) على المفعول المطلق ، وهو في معنى الوصف الكاشف أريد به التنفير من التبرّج. والمقصود من النهي الدوام على الانكفاف عن التبرج وأنهن منهيات عنه. وفيه تعريض بنهي غيرهن من المسلمات عن التبرج ، فإن المدينة أيامئذ قد بقي فيها نساء المنافقين وربما كنّ على بقية من سيرتهن في الجاهلية فأريد النداء على إبطال ذلك في سيرة المسلمات ، ويظهر أن أمهات المؤمنين منهيات عن التبرج مطلقا حتى في الأحوال التي رخّص للنساء التبرّج فيها في سورة النور في بيوتهن لأن ترك التبرج كمال وتنزه عن الاشتغال بالسفاسف.

فنسب إلى أهل الجاهلية إذ كان قد تقرر بين المسلمين تحقير ما كان عليه أمر الجاهلية إلا ما أقرّه الإسلام.

و (الْجاهِلِيَّةِ) : المدة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام ، وتأنيثها لتأويلها بالمدة.

٢٤٤

والجاهلية نسبة إلى الجاهل لأن الناس الذين عاشوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) في سورة آل عمران [١٥٤].

ووصفها ب (الْأُولى) وصف كاشف لأنها أولى قبل الإسلام ، وجاء الإسلام بعدها فهو كقوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [النجم : ٥٠] ، وكقولهم : العشاء الآخرة ، وليس ثمة جاهليتان أولى وثانية. ومن المفسرين من جعلوه وصفا مقيّدا وجعلوا الجاهلية جاهليتين ، فمنهم من قال : الأولى هي ما قبل الإسلام وستكون الجاهلية أخرى بعد الإسلام يعني حين ترتفع أحكام الإسلام والعياذ بالله. ومنهم من قال : الجاهلية الأولى هي القديمة من عهد ما قبل إبراهيم ولم يكن للنساء وازع ولا للرجال ، ووضعوا حكايات في ذلك مختلفة أو مبالغا فيها أو في عمومها ، وكل ذلك تكلف دعاهم إليه حمل الوصف على قصد التقييد.

(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ).

أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل ، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم. وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية سقطت عنهم التكاليف الشرعية.

وخصّ الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء الأمر عاما بالطاعة لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات فمن اعتنى بهما حق العناية جرّتاه إلى ما وراءهما ، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وقد بيناه في سورة العنكبوت [٤٥].

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

متصل بما قبله إذ هو تعليل لما تضمنته الآيات السابقة من أمر ونهي ابتداء من قوله تعالى : يا نساء النبي (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَ) [الأحزاب : ٣٠] الآية. فإن موقع (إِنَّما) يفيد ربط ما بعدها بما قبلها لأن حرف (إنّ) جزء من (إِنَّما) وحرف (إن) من شأنه أن يغني غناء فاء التسبب كما بينه الشيخ عبد القاهر ، فالمعنى أمركن الله بما أمر ونهاكنّ عما نهى لأنه أراد لكنّ تخلية عن النقائص والتحلية بالكمالات. وهذا التعليل وقع معترضا بين الأوامر والنواهي المتعاطفة.

٢٤٥

والتعريف في (الْبَيْتِ) تعريف العهد وهو بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيوت النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة فالمراد بالبيت هنا بيت كل واحدة من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل بيت من تلك البيوت أهله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزوجه صاحبة ذلك ، ولذلك جاء بعده قوله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٤] ، وضميرا الخطاب موجهان إلى نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على سنن الضمائر التي تقدمت. وإنما جيء بالضميرين بصيغة جمع المذكر على طريقة التغليب لاعتبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الخطاب لأنه رب كل بيت من بيوتهن وهو حاضر هذا الخطاب إذ هو مبلغه. وفي هذا التغليب إيماء إلى أن هذا التطهير لهنّ لأجل مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لتكون قريناته مشابهات له في الزكاة والكمال ، كما قال الله تعالى : (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) [النور : ٢٦] يعني أزواج النبي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو نظير قوله في قصة إبراهيم : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) [هود : ٧٣] والمخاطب زوج إبراهيم وهو معها.

و (الرِّجْسَ) في الأصل : القذر الذي يلوّث الأبدان ، واستعير هنا للذنوب والنقائص الدينية لأنها تجعل عرض الإنسان في الدنيا والآخرة مرذولا مكروها كالجسم الملوّث بالقذر. وقد تقدم في قوله تعالى : (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) في سورة العقود [٩٠]. واستعير التطهير لضد ذلك وهو تجنيب الذنوب والنقائص كما يكون الجسم أو الثوب طاهرا.

واستعير الإذهاب للإنجاء والإبعاد.

وفي التعبير بالفعل المضارع دلالة على تجدد الإرادة واستمرارها ، وإذا أراد الله أمرا قدّره إذ لا رادّ لإرادته.

والمعنى : ما يريد الله لكنّ مما أمركن ونهاكن إلا عصمتكنّ من النقائص وتحليتكن بالكمالات ودوام ذلك ، أي لا يريد من ذلك مقتا لكنّ ولا نكاية. فالقصر قصر قلب كما قال تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) [المائدة : ٦]. وهذا وجه مجيء صيغة القصر ب (إِنَّما). والآية تقتضي أن الله عصم أزواج نبيئهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ارتكاب الكبائر وزكى نفوسهن.

و (أَهْلَ الْبَيْتِ) : أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده لا يخالط أحدا شك في ذلك ، ولم يفهم منها أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتابعون إلا أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام هن المراد بذلك وأن النزول في شأنهنّ.

٢٤٦

وأما ما رواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن عمر بن أبي سملة قال : لما نزلت على النبي : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) في بيت أم سلمة دعا فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء وعليّ خلف ظهره ثم قال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا». وقال : هو حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة ولم يسمه الترمذي بصحة ولا حسن ، ووسمه بالغرابة. وفي «صحيح مسلم» عن عائشة : خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرحّل فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). وهذا أصرح من حديث الترمذي.

فمحمله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهل بيته كما ألحق المدينة بمكة في حكم الحرمية بقوله : «إن إبراهيم حرّم مكة وإني أحرّم ما بين لابتيها». وتأوّل البيت على معنييه الحقيقي والمجازي يصدق ببيت النسب كما يقولون : فيهم البيت والعدد ، ويكون هذا من حمل القرآن على جميع محامله غير المتعارضة كما أشرنا إليه في المقدمة التاسعة. وكأنّ حكمة تجليلهم معه بالكساء تقوية استعارة البيت بالنسبة إليهم تقريبا لصورة البيت بقدر الإمكان في ذلك الوقت ليكون الكساء بمنزلة البيت ووجود النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم في الكساء كما هو في حديث مسلم تحقيق لكون ذلك الكساء منسوبا إليه ، وبهذا يتضح أن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هن آل بيته بصريح الآية ، وأن فاطمة وابنيها وزوجها مجعولون أهل بيته بدعائه أو بتأويل الآية على محاملها. ولذلك هم أهل بيته بدليل السنة ، وكل أولئك قد أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، بعضه بالجعل الإلهي ، وبعضه بالجعل النبوي ، ومثله قوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلمان منّا أهل البيت». وقد استوعب ابن كثير روايات كثيرة من هذا الخبر مقتضية أن أهل البيت يشمل فاطمة وعليّا وحسنا وحسينا. وليس فيها أن هذه الآية نزلت فيهم إلا حديثا واحدا نسبه ابن كثير إلى الطبري ولم يوجد في تفسيره عن أم سلمة أنها ذكر عندها علي بن أبي طالب فقالت : فيه نزلت : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وذكرت خبر تجليله مع فاطمة وابنيه بكساء (وذكر مصحّح طبعة «تفسير ابن كثير» أن في متن ذلك الحديث اختلافا في جميع النسخ ولم يفصله المصحّح).

وقد تلقّف الشيعة حديث الكساء فغصبوا وصف أهل البيت وقصروه على فاطمة

٢٤٧

وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان ، وزعموا أن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسن من أهل البيت. وهذه مصادمة للقرآن بجعل هذه الآية حشوا بين ما خوطب به أزواج النبي. وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف على أهل الكساء إذ ليس في قوله : «هؤلاء أهل بيتي» صيغة قصر وهو كقوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي) [الحجر : ٦٨] ليس معناه ليس لي ضيف غيرهم ، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عما قبلها وما بعدها. ويظهر أن هذا التوهم من زمن عصر التابعين ، وأن منشأه قراءة هذه الآية على الألسن دون اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها. ويدل لذلك ما رواه المفسرون عن عكرمة أنه قال : من شاء بأهلية أنها نزلت في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه قال أيضا : ليس بالذي تذهبون إليه ، إنما هو نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه كان يصرخ بذلك في السوق. وحديث عمر بن أبي سلمة صريح في أن الآية نزلت قبل أن يدعو النبي الدعوة لأهل الكساء وأنها نزلت في بيت أم سلمة.

وأما ما وقع من قول عمر بن أبي سلمة : أن أم سلمة قالت : وأنا معهم يا رسول الله؟ ... فقال : «أنت على مكانك وأنت على خير». فقد وهم فيه الشيعة فظنوا أنه منعها من أن تكون من أهل بيته ، وهذه جهالة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد أن ما سألته من الحاصل ، لأن الآية نزلت فيها وفي ضرائرها ، فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم ، فالدعاء لها بأن يذهب الله عنها الرجس ويطهرها دعاء بتحصيل أمر حصل وهو مناف بآداب الدعاء كما حرره شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه ، فكان جواب النبي صلّى الله عليه وسلّم تعليما لها. وقد وقع في بعض الروايات أنه قال لأم سلمة : «إنك من أزواج النبي». وهذا أوضح في المراد بقوله : «إنك على خير».

ولما استجاب الله دعاءه كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلق أهل البيت على فاطمة وعلي وابنيهما ، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : «الصلاة يا أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)» ، قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

واللام في قوله : (لِيُذْهِبَ) لام جرّ تزاد للتأكيد غالبا بعد مادتي الإرادة والأمر ، وينتصب الفعل المضارع بعدها ب (أن) مضمرة إضمارا واجبا ، ومنه قوله تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٧١] ، وقول كثير :

أريد لأنسى حبها فكأنما

تمثّل لي ليلى بكل مكان

٢٤٨

وعن النحاس أن بعض القراء سماها (لام أن) وتقدم قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) في سورة النساء [٢٦].

وقوله : (أَهْلَ الْبَيْتِ) نداء للمخاطبين من نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد شمل كلّ من ألحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهن بأنه من أهل البيت وهم : فاطمة وابناها وزوجها وسلمان لا يعدو هؤلاء.

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤))

لما ضمن الله لهن العظمة أمرهن بالتحلي بأسبابها والتملّي من آثارها والتزود من علم الشريعة بدراسة القرآن ليجمع ذلك اهتداءهن في أنفسهن ازديادا في الكمال والعلم ، وإرشادهن الأمة إلى ما فيه صلاح لها من علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفعل (اذْكُرْنَ) يجوز أن يكون من الذّكر بضم الذال وهو التذكّر ، وهذه كلمة جامعة تشمل المعنى الصريح منه ، وهو أن لا ينسين ما جاء في القرآن ولا يغفلن عن العمل به ، ويشمل المعنى الكنائي وهو أن يراد مراعاة العمل بما يتلى في بيوتهن مما ينزل فيها وما يقرؤه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ، وما يبيّن فيها من الدين ، ويشمل معنى كنائيا ثانيا وهو تذكر تلك النعمة العظيمة أن كانت بيوتهن موقع تلاوة القرآن.

ويجوز أن يكون من الذّكر بكسر الذال ، وهو إجراء الكلام على اللسان ، أي بلّغنه للناس بأن يقرأن القرآن ويبلغن أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيرته. وفيه كناية عن العمل به. والتلاوة : القراءة ، أي إعادة كلام مكتوب أو محفوظ ، أي ما يتلوه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و (مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) بيان لما يتلى فكل ذلك متلوّ ، وذلك القرآن ، وقد بين المتلو بشيئين : هما آيات الله ، والحكمة ، فآيات الله يعم القرآن كلّه ، لأنه معجز عن معارضته فكان آية على أنه من عند الله.

وعطف (وَالْحِكْمَةِ) عطف خاص على عام وهو ما كان من القرآن مواعظ وأحكاما شرعية ، قال تعالى بعد ذكر الأحكام التي في سورة الإسراء [٣٩] (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) ، أي ما يتلى في بيوتهن عند نزوله ، أو بقراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودراستهن القرآن ، ليتجدد ما علمنه ويلمع لهن من أنواره ما هو مكنون لا ينضب معينه ، وليكنّ مشاركات في تبليغ القرآن وتواتره ، ولم يزل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتابعون بعدهم

٢٤٩

يرجعون إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام النساء ومن أحكام الرجل مع أهله ، كما في قوله تعالى : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) [يوسف : ٤٢] ، أي بلغ خبر سجني وبقائي فيه.

وموقع مادة الذكر هنا موقع شريف لتحملها هذه المحامل ما لا يتحمله غيرها إلا بإطناب. قال ابن العربي : إن الله تعالى أمر نبيئه عليه الصلاة والسّلام بتبليغ ما أنزل إليه فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض ، وكان على من تبعه أن يبلغه إلى غيره ولا يلزمه أن يذكره لجميع الصحابة.

وقد تكرر ذكر الحكمة في القرآن في مواضع كثيرة ، وبيّنّاه في سورة البقرة.

وتقدم قريبا اختلاف القراء في كسر باء (بيوت) أو ضمها.

وجملة (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) تعليل للأمر وتذييل للجمل السابقة. والتعليل صالح لمحامل الأمر كلها لأن اللطف يقتضي إسداء النفع بكيفية لا تشقّ على المسدى إليه.

وفيما وجّه إلى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأمر والنهي ما هو صلاح لهن وإجراء للخير بواسطتهن ، وكذلك في تيسيره إياهن لمعاشرة الرسول عليه الصلاة والسلام وجعلهن أهل بيوته ، وفي إعدادهن لسماع القرآن وفهمه ، ومشاهدة الهدي النبوي ، كل ذلك لطف لهن هو الباعث على ما وجهه إليهن من الخطاب ليتلقّين الخبر ويبلغنه ، ولأن الخبير ، أي العليم إذا أراد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن حصل مراده تاما لا خلل ولا غفلة.

فمعنى الجملة أنه تعالى موصوف باللطف والعلم كما دلّ عليه فعل (كانَ) فيشمل عموم لطفه وعلمه لطفه بهن وعلمه بما فيه نفعهن.

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))

يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافا بيانيا لأن قوله : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) [الأحزاب : ٣١] بعد قوله : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ)

٢٥٠

[الأحزاب : ٣٢] يثير في نفوس المسلمات أن يسألن : أهنّ مأجورات على ما يعملن من الحسنات ، وأ هنّ مأمورات بمثل ما أمرت به أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أم تلك خصائص لنساء النبي عليه الصلاة والسلام ، فكان في هذه الآية ما هو جواب لهذا السؤال على عادة القرآن فيما إذا ذكر مأمورات يعقبها بالتذكير بحال أمثالها أو بحال أضدادها. ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روى ابن جرير والواحدي عن قتادة : أن نساء دخلن على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلن : قد ذكركنّ الله في القرآن ولم يذكرنا بشيء ، ولو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله هذه الآية.

وروى النسائي وأحمد : أن أم سلمة قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروى الترمذي والطبراني : «أن أم عمارة الأنصارية أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : ما أرى النساء يذكرن بشيء» فنزلت هذه الآية.

وقال الواحدي : «قال مقاتل : بلغني أن أسماء بنت عميس لما رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء النبي فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قيل : لا ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار. قال : ومم ذلك؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بالخير كما يذكر الرجال فأنزل الله هذه الآية».

فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساء ، وأما ذكر الرجال فللإشارة إلى أن الصنفين في هذه الشرائع سواء ليعلموا أن الشريعة لا تختص بالرجال لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصا بالرجال إلا الأحكام التي لا تتصور في غير النساء ، فشريعة الإسلام بعكس ذلك الأصل في شرائعها أن تعم الرجال والنساء إلا ما نصّ على تخصيصه بأحد الصنفين ، ولعل بهذه الآية وأمثالها تقرر أصل التسوية فأغنى عن التنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسنة ، ولعل هذا هو وجه تعداد الصفات المذكورة في هذه الآية لئلا يتوهم التسوية في خصوص صفة واحدة.

وسلك مسلك الإطناب في تعداد الأوصاف لأن المقام لزيادة البيان لاختلاف أفهام الناس في ذلك ، على أن في هذا التعداد إيماء إلى أصول التشريع كما سنبينه في آخر تفسير هذه الآية.

وبهذه الآثار يظهر اتصال هذه الآيات بالتي قبلها. وبه يظهر وجه تأكيد هذا الخبر

٢٥١

بحرف (إِنَ) لدفع شك من شك في هذا الحكم من النساء.

والمراد ب (الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) من اتصف بهذا المعنى المعروف شرعا. والإسلام بالمعنى الشرعي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ، ولا يعتبر إسلاما إلا مع الإيمان. وذكر (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بعده للتنبيه على أن الإيمان هو الأصل ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في البقرة [١٣٢].

والمراد ب (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الذين آمنوا. والإيمان : أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقدر خيره وشره. وتقدم الكلام على الإيمان في أوائل سورة البقرة.

و (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) : أصحاب القنوت وهو الطاعة لله وعبادته ، وتقدم آنفا (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [الأحزاب : ٣١] و (الصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) من حصل منهم صدق القول وهو ضد الكذب ، والصدق كله حسن ، والكذب لا خير فيه إلا لضرورة. وشمل ذلك الوفاء بما يلتزم به من أمور الديانة كالوفاء بالعهد والوفاء بالنذر ، وتقدم عند قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في سورة البقرة [١٧٧].

وب (الصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) : أهل الصبر والصبر محمود في ذاته لدلالته على قوة العزيمة ، ولكن المقصود هنا هو تحمل المشاق في أمور الدين ، وتحمّل المكاره في الذبّ عن الحوزة الإسلامية ، وتقدم مستوفى عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا) آخر سورة آل عمران [٢٠٠].

وب (الْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) : أهل الخشوع ، وهو الخضوع لله والخوف منه ، وهو يرجع إلى معنى الإخلاص بالقلب فيما يعمله المكلف ، ومطابقة ذلك لما يظهر من آثاره على صاحبه. والمراد : الخشوع لله بالقلب والجوارح ، وتقدم في قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) في سورة البقرة [٤٥].

وب (الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) : من يبذل الصدقة من ماله للفقراء ، وتقدم في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) في سورة النساء [١١٤]. وفائدة ذلك للأمة عظيمة.

وأما (الصائمون والصائمات) فظاهر ما في الصيام من تخلق برياضة النفس لطاعة الله ، إذ يترك المرء ما هو جبلي من الشهوة تقربا إلى الله ، أي برهانا على أن رضى الله عنه

٢٥٢

ألذّ عنده من أشد اللذات ملازمة له.

وأما حفظ الفروج فلأن شهوة الفرج شهوة جبلية ، وهي في الرجل أشد ، وقد أثنى الله على الأنبياء بذلك فقال في يحيى (وَحَصُوراً) [آل عمران : ٣٩] وقال في مريم (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) [الأنبياء : ٩١] ، وهذا الحفظ له حدود سنتها الشريعة ، فالمراد : حفظ الفروج عن أن تستعمل فيما نهي عنه شرعا ، وليس المراد : حفظها عن الاستعمال أصلا وهو الرهبنة ، فإن الرهبنة مدحوضة في الإسلام بأدلة متواترة المعنى.

وأما (الذاكرون والذاكرات) فهو وصف صالح لأن يكون من الذّكر بكسر الذال وهو ذكر اللسان كالذي في قوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] وقوله في الحديث : «ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» ، ومن الذّكر بضمها كما تقدم آنفا في قوله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٤] ، والذي في قوله : (ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٣٥].

ومفعول و (الْحافِظاتِ) محذوف دل عليه ما قبله من قوله : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) ، وكذلك مفعول و (الذَّاكِراتِ).

وقد اشتملت هذه الخصال العشر على جوامع فصول الشريعة كلها.

فالإسلام : يجمع قواعد الدين الخمس المفروضة التي هي أعمال ، والإيمان يجمع الاعتقادات القلبية المفروضة وهو شرط أعمال الإسلام كلها ، قال تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧].

والقنوت : يجمع الطاعات كلّها مفروضها ومسنونها ، وترك المنهيات والإقلاع عنها ممن هو مرتكبها ، وهو معنى التوبة ، فالقنوت هو تمام الطاعة ، فهو مساو للتقوى. فهذه جوامع شرائع المكلفين في أنفسهم.

والصدق : يجمع كلّ عمل هو من موافقة القول والفعل للواقع في القضاء والشهادة والعقود والالتزامات وفي المعاملات بالوفاء بها وترك الخيانة ، ومطابقة الظاهر للباطن في المراتب كلّها. ومن الصدق صدق الأفعال.

والصبر : جامع لما يختص بتحمل المشاقّ من الأعمال كالجهاد والحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة المسلمين وتحمل الأذى في الله ، وهو خلق عظيم هو مفتاح أبواب محامد الأخلاق والآداب والإنصاف من النفس.

٢٥٣

والخشوع : الإخلاص بالقلب والظاهر ، وهو الانقياد وتجنب المعاصي ، ويدخل فيه الإحسان وهو المفسر في حديث جبريل «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». ويدخل تحت ذلك جميع القرب النوافل فإنها من آثار الخشوع ، ويدخل فيه التوبة مما اقترفه المرء من الكبائر إذ لا يتحقق الخشوع بدونها.

والتصدق : يحتوي جميع أنواع الصدقات والعطيات وبذل المعروف والإرفاق.

والصوم : عبادة عظيمة ، فلذلك خصصت بالذكر مع أن الفرض منه مشمول للإسلام في قوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) ويفي صوم النافلة ، فالتصريح بذكر الصوم تنويه به. وفي الحديث «قال الله تعالى : الصوم لي وأنا أجزي به».

وحفظ الفروج : أريد به حفظها عما ورد الشرع بحفظها عنه ، وقد اندرج في هذا جميع أحكام النكاح وما يتفرع عنها وما هو وسيلة لها.

وذكر الله كما علمت له محملان :

أحدهما : ذكره اللساني فيدخل فيه قراءة القرآن وطلب العلم ودراسته.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده» ، ففي قوله : «وذكرهم الله» إيماء إلى أن الجزاء من جنس عملهم فدل على أنهم كانوا في شيء من ذكر الله وقد قال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] وقال فيما أخبر عنه رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم». وشمل ما يذكر عقب الصلوات ونحو ذلك من الأذكار.

والمحمل الثاني : الذكر القلبي وهو ذكر الله عند أمره ونهيه كما قال عمر بن الخطاب : أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه ، وهو الذي في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٣٥] فدخل فيه التوبة ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها من القتل وأخذ أموال الناس والحرابة والإضرار بالناس في المعاملات. ومما يوضح شموله لهذه الشرائع كلها تقييده ب (كَثِيراً) لأن المرء إذا ذكر الله كثيرا فقد استغرق ذكره على المحملين جميع ما يذكر الله عنده.

ويراعى في الاتصاف بهذه الصفات أن تكون جارية على ما حدده الشرع في

٢٥٤

تفاصيلها.

والمغفرة : عدم المؤاخذة بما فرط من الذنوب ، وقد تقدمت في قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) في سورة الأعراف [٢٣]. واعلم أن عطف الصفات بالواو المفيد مجرد التشريك في الحكم دون حرفي الترتيب : الفاء وثم ، شأنه أن يكون الحكم المذكور معه ثابتا لكل واحد اتصف بوصف من الأوصاف المشتق منها موصوفه لأن أصل العطف بالواو أن يدل على مغايرة المعطوفات في الذات ، فإذا قلت : وجدت فيهم الكريم والشجاع والشاعر كان المعنى : أنك وجدت فيهم ثلاثة أناس كل واحد منهم موصوف بصفة من المذكورات. وفي الحديث : «فإن منهم المريض والضعيف وذا الحاجة» أي أصحاب المرض والضعف والحاجة ، بخلاف العطف بالفاء كقوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) [الصافات : ١ ـ ٣] فإن الأوصاف المذكورة في تلك الآية ثابتة لموصوف واحد. ولهذا فحقّ جملة (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) أن تكون خبرا في المعنى عن كل واحد من المتعاطفات فكأنه قيل : إن المسلمين أعدّ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ، إن المسلمات أعدّ الله لهن مغفرة وأجرا عظيما ، وهكذا. والفعل الواقع في جملة الخبر وهو فعل (أَعَدَّ) قد تعدى إلى مفعول ومعطوف على المفعول فصحة الإخبار به عن كل واحد من الموصوفات المتعاطفات باعتبار المعطوف على مفعوله واضحة لأن الأجر العظيم يصلح لأن يعطى لكل واحد ويقبل التفاوت فيكون لكل من أصحاب تلك الأوصاف أجره على اتصافه به ويكون أجر بعضهم أوفر من أجر بعض آخر.

وأما صحة الإخبار بفعل (أَعَدَّ) عن كل واحد من المتعاطفات باعتبار المفعول وهو (مَغْفِرَةً) فيمنع منه ما جاء من دلائل الكتاب والسنة الدالة على أن الذنوب الكبيرة التي فرطت لا يضمن غفرانها للمذنبين إلا بشرط التوبة من المذنب وعدا من الله بقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ٥٤]. وألحقت السنة بموجبات المغفرة الحجّ المبرور والجهاد في سبيل الله وأشياء أخرى.

والوجه في تفسير ذلك عندي : أن تحمل كل صفة من هذه الصفات على عدم ما يعارضها مما يوجب التبعة ، أي سلامته من التلبس بالكبائر حملا أراعي فيه الجري على سنن القرآن في مثل مقام الثناء والتنويه بالمسلمين من اعتبار حال كمال الإسلام كقوله :

٢٥٥

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٤] فإنا لا نجد التفصيل بين أحوال المسلمين إلا في مقام التحذير من الذنوب.

والمرجع في هذا المحمل إلى بيان الإجمال بالجمع بين أدلة الشريعة. وقد سكت جمهور المفسرين عن التصدّي لبيان مفاد هذا الوعد ولم يعرّج عليه فيما رأيت سوى صاحب «الكشاف» فجعل معنى قوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) : أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعدّ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ، وجعل واو العطف بمعنى المعية ، وجعل العطف على اعتبار المغايرة بين المتعاطفات في الأوصاف لا المغايرة بالذوات ، وهذا تكلّف وصنع باليد ، وتبعه البيضاوي وكثير. ويعكّر عليه أن جمع تلك الصفات لا يوجب المغفرة لأن الكبائر لا تسقطها عن صاحبها إلا التوبة ، إلا أن يضم إلى كلامه ضميمة وهي حمل (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ) و (الذَّاكِراتِ) على معنى المتصفين بالذكر اللساني والقلبي ، فيكون الذكر القلبي شاملا للتوبة كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٣٥] فيكون الذين جمعوا هذه الخصال العشر قد حصلت لهم التوبة ، غير أن هذا الاعتذار عن الزمخشري لا يتجاوز هذه الآية ، فإن في القرآن آيات كثيرة مثلها يضيق عنها نطاق هذا الاعتذار ، منها قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) إلى قوله : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) الآية في سورة الفرقان [٦٣ ـ ٧٥].

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦))

معظم الروايات على أن هذه الآية نزلت في شأن خطبة زينب بنت جحش على زيد بن حارثة. قال ابن عباس : انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب على فتاه زيد بن حارثة زينب بنت جحش فاستنكفت وأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) الآية ، فتابعته ورضيت لأن تزويج زينب بزيد بن حارثة كان قبل الهجرة فتكون هذه الآية نزلت بمكة ويكون موقعها في هذه السورة التي هي مدنية إلحاقا لها بها لمناسبة أن تكون مقدمة لذكر تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب الذي يظهر أنه وقع بعد وقعة الأحزاب وقد علم الله ذلك من قبل فقدر له الأحوال التي حصلت من بعد.

ووجود واو العطف في أول الجملة يقتضي أنها معطوفة على كلام نزل قبلها من

٢٥٦

سورة أخرى لم نقف على تعيينه ولا تعيين السورة التي كانت الآية فيها ، وهو عطف جملة على جملة لمناسبة بينهما.

وروي عن جابر بن زيد أن سبب نزول هذه الآية : أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول من هاجرن من النساء وأنها وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزوجها من زيد بن حارثة ، بعد أن طلق زيد زينب بنت جحش كما سيأتي قريبا ، فكرهت هي وأخوها ذلك وقالت : إنما أردت رسول الله فزوجني عبده ثم رضيت هي وأخوها بعد نزول الآية.

والمناسبة تعقيب الثناء على أهل خصال هي من طاعة الله ، بإيجاب طاعة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أعقب ذلك بما في الاتصاف بما هو من أمر الله مما يكسب موعوده من المغفرة والأجر ، وسوّى في ذلك بين الرجال والنساء ، أعقبه ببيان أن طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يأمر به ويعتزم الأمر هي طاعة واجبة وأنها ملحقة بطاعة الله وأن صنفي الناس الذكور والنساء في ذلك سواء كما كانا سواء في الأحكام الماضية.

وإقحام (كانَ) في النفي أقوى دلالة على انتفاء الحكم لأن فعل (كانَ) لدلالته على الكون ، أي الوجود يقتضي نفيه انتفاء الكون الخاص برمته كما تقدم غير مرة.

والمصدر المستفاد من أن تكون (لَهُمُ الْخِيَرَةُ) في محل رفع اسم (كانَ) المنفية وهي (كانَ) التامة.

وقضاء الأمر تبيينه والإعلام به ، قال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر : ٦٦].

ومعنى (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ) إذا عزم أمره ولم يجعل للمأمور خيارا في الامتثال ، فهذا الأمر هو الذي يجب على المؤمنين امتثاله احترازا من نحو قوله للذين وجدهم يأبرون نخلهم : «لو تركتموها لصلحت ثم قالوا تركناها فلم تصلح فقال : أنتم أعلم بأمور دنياكم». ومن نحو ما تقدم في أول هذه السورة من همه بمصالحة الأحزاب على نصف ثمر المدينة ثم رجوعه عن ذلك لما استشار السعدين ، ومن نحو أمره يوم بدر ، بالنزول بأدنى ماء من بدر فقال له الحباب بن المنذر : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال : «بل هو الرأي والحرب والمكيدة». قال : فإنّ هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربوا. فقال

٢٥٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أشرت بالرأي» ، فنهض بالناس. وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في سفر وكان صائما ، فلما غربت الشمس قال لبلال : «انزل فاجدح لنا» ، فقال : يا رسول الله لو أمسيت. ثم قال : «انزل فاجدح لنا» ، فقال : يا رسول الله لو أمسيت إن عليك نهارا ثم قال : «انزل فاجدح» ، فنزل فجدح له في الثالثة فشرب. فمراجعة بلال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل أنه علم أن الأمر غير عزم.

وذكر اسم الجلالة هنا للإيماء إلى أن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة لله ، قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠]. فالمقصود إذا قضى رسول الله أمرا كما تقدم في قوله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) في سورة الأنفال [٤١] إذ المقصود : فإن للرسول خمسه.

و (الْخِيَرَةُ) : اسم مصدر تخير ، كالطيرة اسم مصدر تطيّر. قيل ولم يسمع في هذا الوزن غيرهما ، وتقدم في قوله تعالى : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) في سورة القصص [٦٨].

و (مِنْ) تبعيضية و (أَمْرِهِمْ) بمعنى شأنهم وهو جنس ، أي أمورهم. والمعنى : ما كان اختيار بعض شئونهم ملكا يملكونه بل يتعين عليهم اتباع ما قضى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا خيرة لهم.

و (مؤمن ومؤمنة) لمّا وقعا في حيز النفي يعمّان جميع المؤمنين والمؤمنات فلذلك جاء ضميرها ضميرها جمع لأن المعنى : ما كان لجمعهم ولا لكل واحد منهم الخيرة كما هو شأن العموم.

وقرأ الجمهور أن تكون بمثناة فوقية لأن فاعله مؤنث لفظا. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف وهشام وابن عامر بتحتية لأن الفاعل المؤنث غير الحقيقي يجوز في فعله التذكير ولا سيما إذا وقع الفصل بين الفعل وفاعله.

وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) تذييل تعميم للتحذير من مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام سواء فيما هو فيه الخيرة أم كان عن عمد للهوى في المخالفة.

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً

٢٥٨

زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧))

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ).

و (إِذْ) اسم زمان مفعول لفعل محذوف تقديره : اذكر ، وله نظائر كثيرة. وهو من الذكر بضم الذال الذي هو بمعنى التذكّر فلم يأمره الله بأن يذكر ذلك للناس إذ لا جدوى في ذلك ولكنه ذكّر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليرتب عليه قوله : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ). والمقصود بهذا الاعتبار بتقدير الله تعالى الأسباب لمسبباتها لتحقيق مراده سبحانه ، ولذلك قال عقبه : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) إلى قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) وقوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٨].

وهذا مبدأ المقصود من الانتقال إلى حكم إبطال التبنّي ودحض ما بناه المنافقون على أساسه الباطل بناء على كفر المنافقين الذين غمزوا مغامز في قضية تزوّج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش بعد أن طلّقها زيد بن حارثة فقالوا : تزوج حليلة ابنه وقد نهى عن تزوج حلائل الأبناء. ولذلك ختمت هذه القصة وتوابعها بالثناء على المؤمنين بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) [الأحزاب : ٤٣] الآية. وبالإعراض عن المشركين والمنافقين وعن أذاهم.

وزيد هو المعنيّ من قوله تعالى : (لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) ، فالله أنعم عليه بالإيمان والخلاص من أيدي المشركين بأن يسّر دخوله في ملك رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والرسول عليه الصلاة والسلام أنعم عليه بالعتق والتبنّي والمحبة ، ويأتي التصريح باسمه العلم إثر هذه الآية في قوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) وهو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من كلب بن وبرة وبنو كلب من تغلب. كانت خيل من بني القين بن جسر أغاروا على أبيات من بني معن من طيئ ، وكانت أم زيد وهي سعدى بنت ثعلبة من بني معن خرجت به إلى قومها تزورهم فسبقته الخيل المغيرة وباعوه في سوق حباشة (بضم الحاء المهملة) بناحية مكة فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يتزوّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهبته خديجة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وزيد يومئذ ابن ثمان سنين) وذلك قبل البعثة ، فحج ناس من كلب فرأوا زيدا بمكة فعرفوه وعرفهم فأعلموا أباه ووصفوا موضعه وعند من هو ، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب لفدائه فدخلا مكة وكلّما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في فدائه ، فأتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهما فعرفهما ، فقال له النبي

٢٥٩

عليه الصلاة والسلام : «اخترني أو اخترهما». قال زيد : ما أنا بالذي أختار عليك أحدا ، فانصرف أبوه وعمّه وطابت أنفسهما ببقائه ، فلما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه ذلك أخرجه إلى الحجر وقال : «يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه» ، فصار ابنا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على حكم التبني في الجاهلية وكان يدعى : زيد بن محمد.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوّجه أمّ أيمن مولاته فولدت له أسامة بن زيد وطلقها. ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوّجه زينب بنت جحش الأسدي حليف آل عبد شمس وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب ، وهو يومئذ بمكة. ثم بعد الهجرة آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ولما بطل حكم التبنّي بقوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الأحزاب: ٤] صار يدعى : حبّ رسول الله. وفي سنة خمس قبل الهجرة بعد غزوة الخندق طلق زيد بن حارثة زينب بنت جحش فزوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها البيضاء بنت عبد المطلب وولدت له زيد بن زيد ورقية ثم طلّقها ، وتزوج درّة بنت أبي لهب ، ثم طلّقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير.

وشهد زيد بدرا والمغازي كلّها. وقتل في غزوة مؤتة سنة ثمان وهو أمير على الجيش وهو ابن خمس وخمسين سنة.

وزوج زيد المذكورة في الآية هي زينب بنت جحش الأسدية وكان اسمها برّة فلما تزوجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمّاها زينب ، وأبوها جحش من بني أسد بن خزيمة وكان أبوها حليفا لآل عبد شمس بمكة وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوّجها زيد بن حارثة في الجاهلية ثم طلّقها بالمدينة ، وتزوجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة خمس ، وتوفيت سنة عشرين من الهجرة وعمرها ثلاث وخمسون سنة ، فتكون مولودة سنة ثلاث وثلاثين قبل الهجرة ، أي سنة عشرين قبل البعثة.

والإتيان بفعل القول بصيغة المضارع لاستحضار صورة القول وتكريره مثل قوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] وقوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨] ، وفي ذلك تصوير لحثّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيدا على إمساك زوجه وأن لا يطلقها ، ومعاودته عليه.

والتعبير عن زيد بن حارثة هنا بالموصول دون اسمه العلم الذي يأتي في قوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ) لما تشعر به الصلة المعطوفة وهي (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) من تنزه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن استعمال ولائه لحمله على تطليق زوجه ، فالمقصود هو الصلة الثانية وهي (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) لأن المقصود منها أن زيدا أخص الناس به ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام

٢٦٠