تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

وأطلقت الإثارة هنا على قلب تراب الأرض بجعل ما كان باطنا ظاهرا وهو الحرث ، قال تعالى : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) [البقرة : ٧١] ، وقال النابغة يصف بقر الوحش إذا حفرت التراب :

يثرن الحصى حتى يباشرن برده

إذا الشمس مجّت ريقها بالكلاكل

ويجوز أن يكون (أَثارُوا) هنا تمثيلا لحال شدة تصرفهم في الأرض وتغلبهم على من سواهم بحال من يثير ساكنا ويهيجه ، ومنه أطلقت الثورة على الخروج عن الجماعة. وهذا الاحتمال أنسب بالمقصود الذي هو وصف الأمم بالقوة والمقدرة من احتمال أن تكون الإثارة بمعنى حرث الأرض لأنه يدخل في العمارة. وضمير (أَثارُوا) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (كانُوا أَشَدَّ).

ومعنى عمارة الأرض : جعلها عامرة غير خلاء وذلك بالبناء والغرس والزرع. يقال : ضيعة عامرة ، أي : معمورة بما تعمر به الضياع ، ويقال في ضده : ضيعة غامرة. ولكون قريش لم تكن لهم إثارة في الأرض بكلا المعنيين إذ كانوا بواد غير ذي زرع لم يقل في هذا الجانب : أكثر مما أثاروها.

وضميرا جمع المذكر في قوله : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) راجع أولهما إلى ما رجع إليه ضمير (أَثارُوا) وثانيهما إلى ما رجع إليه ضمير (يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ). ويعرف توزيع الضميرين بالقرينة مثل توزيع الإشارة في قوله تعالى : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) في سورة [القصص : ١٥] كالضميرين في قول عباس بن مرداس يذكر قتال هوازن يوم حنين :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

وتقدم تفصيله عند قوله تعالى : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) في سورة يونس [٥٨] ، أي عمر الذين من قبلهم الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء ، فإن لقريش عمارة في الأرض من غرس قليل وبناء وتفجير ولكنه يتضاءل أمام عمارة الأمم السالفة من عاد وثمود.

وتفريع (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) على قوله (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) إيجاز حذف بديع ، لأن مجيء الرسل بالبينات يقتضي تصديقا وتكذيبا فلما فرع عليه أنهم ظلموا أنفسهم علم أنهم كذّبوا الرسل وأن الله جازاهم على تكذيبهم رسله بأن عاقبهم عقابا لو كان لغير

٢١

جرم لشابه الظلم ، فجعل من مجموع نفي ظلم الله إياهم ومن إثبات ظلمهم أنفسهم معرفة أنهم كذّبوا الرسل وعاندوهم وحلّ بهم ما هو معلوم من مشاهدة ديارهم وتناقل أخبارهم.

والاستدراك ناشئ على ما يقتضيه نفي ظلم الله إياهم من أنهم عوملوا معاملة سيئة لو لم يستحقوها لكانت معاملة ظلم. وعبر عن ظلمهم أنفسهم بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ظلمهم وتكرره وأن الله أمهلهم فلم يقلعوا حتى أخذهم بما دلت عليه تلك العاقبة ، والقرينة قوله (كانُوا).

وتقديم (أَنْفُسَهُمْ) وهو مفعول (يَظْلِمُونَ) على فعله للاهتمام بأنفسهم في تسليط ظلمهم عليها لأنه ظلم يتعجب منه ، مع ما فيه من الرعاية على الفاصلة. وليس تقديم المفعول هنا للحصر لأن الحصر حاصل من جملتي النفي والإثبات.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

(ثُمَ) للتراخي الرتبي لأن هذه العاقبة أعظم رتبة في السوء من عذاب الدنيا ، فيجوز أن يكون هذا الكلام تذييلا لحكاية ما حلّ بالأمم السالفة من قوله (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الروم : ٩].

والمعنى : ثم عاقبة كل من أساءوا السوأى مثلهم ، فيكون تعريضا بالتهديد لمشركي العرب كقوله تعالى (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] ، فالمراد ب (الَّذِينَ أَساؤُا) كل مسيء من جنس تلك الإساءة وهي الشرك. ويجوز أن يكون إنذارا لمشركي العرب المتحدث عنهم من قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم : ٦] فيكونوا المراد ب (الَّذِينَ أَساؤُا) ، ويكون إظهارا في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لقصد الإيماء بالصلة ، أي أن سبب عاقبتهم السوأى هو إساءتهم ، وأصل الكلام : ثم كان عاقبتهم السوأى. وهذا إنذار بعد الموعظة ونص بعد القياس ، فإن الله وعظ المكذبين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعواقب الأمم التي كذبت رسلها ليكونوا على حذر من مثل تلك العاقبة بحكم قياس التمثيل ، ثم أعقب تلك الموعظة بالنذارة بأنهم ستكون لهم مثل تلك العاقبة بحكم قياس التمثيل ، ثم أعقب تلك الموعظة بالنذارة بأنهم ستكون لهم مثل تلك العاقبة ، وأوقع فعل (كانَ) الماضي في موقع المضارع للتنبيه على تحقيق وقوعه مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] إتماما للنذارة.

والعاقبة : الحالة الأخيرة التي تعقب حالة قبلها. وتقدمت في قوله : (ثُمَّ انْظُرُوا

٢٢

كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) في سورة الأنعام [١١] ، وقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) في سورة طه [١٣٢]. و (الَّذِينَ أَساؤُا) هم كفار قريش ، والمراد (بِآياتِ اللهِ) القرآن ومعجزات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (السُّواى) : تأنيث الأسوإ ، أي الحالة الزائدة في الاتصاف بالسوء وهو أشد الشر ، كما أن الحسنى مؤنث الأحسن في قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) [يونس : ٢٦]. وتعريف (السُّواى) تعريف الجنس إذ ليس ثمة عاقبة معهودة.

ويحتمل أن يراد ب (الَّذِينَ أَساؤُا) الأمم الذين أثاروا الأرض وعمروها فتكون من وضع الظاهر موضع المضمر توسلا إلى الحكم عليهم بأنهم أساءوا واستحقوا السوأى وهي جهنم. وفعل (كانَ) على ما هو عليه من التنبيه على تحقق الوقوع.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب (عاقِبَةَ) بالرفع على أصل الترتيب بين اسم (كانَ) وخبرها. وقرأه البقية بالنصب على أنه خبر (كانَ) مقدم على اسمها وهو استعمال كثير. والفصل بين (كانَ) ومرفوعها بالخبر سوغ حذف تاء التأنيث من فعل (كانَ).

و (أَنْ كَذَّبُوا) تعليل لكون عاقبتهم السوأى بحذف اللام مع (أَنْ) و (بِآياتِ اللهِ) : القرآن والمعجزات.

والباء في (بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) للتعدية ، وتقديم المجرور للاهتمام بشأن الآيات ، وللرعاية على الفاصلة.

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١))

استئناف ابتدائي ، وهو شروع فيما أقيمت عليه هذه السورة من بسط دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس بإيجادهم وإعدامهم وبإمدادهم وأطوار حياتهم ، لإبطال أن يكون لشركائهم شيء من التصرف في ذلك. فهي دلائل ساطعة على ثبوت الوحدانية التي عموا عنها.

وإذا كان نزول أول السورة على سبب ابتهاج المشركين لتغلب الفرس على الروم فقطع الله تطاولهم على المسلمين بأن أخبر أن عاقبة النصر للروم على الفرس نصرا باقيا ، وكان مثار التنازع بين المشركين والمؤمنين ميل كل فريق إلى مقاربه في الدين جعل ذلك الحدث مناسبة لإفاضة الاستدلال في هذه السورة على إبطال دين الشرك.

٢٣

وقد فصّلت هذه الدلائل على أربعة استئنافات متماثلة الأسلوب ، ابتدئ كل واحد منها باسم الجلالة مجرى عليه أخبار عن حقائق لا قبل لهم بدحضها لأنهم لا يسعهم إلا الإقرار ببعضها أو العجز عن نقض دليلها.

فالاستئناف الأول المبدوء بقوله (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، والثاني المبدوء بقوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) [الروم : ٤٠] ، والثالث المبدوء بقوله (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) [الروم : ٤٨] ، والرابع المبدوء بقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) [الروم : ٥٤].

فأما قوله : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فاستدلال بما لا يسعهم إلا الاعتراف به وهو بدء الخلق إذ لا ينازعون في أن الله وحده هو خالق الخلق ولذلك قال الله تعالى (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد : ١٦] الآية. وأما قوله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) فهو إدماج لأنه إذا سلم له بدء الخلق كان تسليم إعادته أولى وأجدر. وحسن موقع الاستئناف وروده بعد ذكر أمم غابرة وأمم حاضرة خلف بعضها بعضا ، وإذ كان ذلك مثالا لإعادة الأشخاص بعد فنائها وذكر عاقبة مصير المكذبين للرسل في العاجلة ، ناسب في مقام الاعتبار أن يقام لهم الاستدلال على إمكان البعث ليقع ذكر ما يعقبه من الجزاء موقع الإقناع لهم.

وتقديم اسم الجلالة على المسند الفعلي لمجرد التقوّي. و (ثُمَ) هنا للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، وذلك أن شأن الإرجاع إلى الله أعظم من إعادة الخلق إذ هو المقصد من الإعادة ومن بدء الخلق. فالخطاب في (تُرْجَعُونَ) للمشركين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

وقرأ الجمهور (تُرْجَعُونَ) بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بياء الغيبة على طريقة ما قبله.

[١٢ ـ ١٣] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣))

عطف على جملة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [الروم : ١١] تبيينا لحال المشركين في وقت ذلك الإرجاع كأنه قيل : ثم إليه ترجعون ويومئذ يبلس المجرمون. وله مزيد اتصال بجملة (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) [الروم : ١٠] ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال ويومئذ يبلس المجرمون أو يومئذ تبلسون ، أي ويوم ترجعون إليه يبلس المجرمون ، فعدل عن تقدير

٢٤

الجملة المضاف إليها (يَوْمَ) التي يدل عليها (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [الروم : ١١] بذكر جملة أخرى هي في معناها لتزيد الإرجاع بيانا أنه إرجاع الناس إليه يوم تقوم الساعة ، فهو إطناب لأجل البيان وزيادة التهويل لما يقتضيه إسناد القيام إلى الساعة من المباغتة والرعب. ويدل لهذا القصد تكرير هذا الظرف في الآية بعدها بهذا الإطناب. وشاع إطلاق (السَّاعَةُ) على وقت الحشر والحساب. وأصل الساعة : المقدار من الزمن ، ويتعين تحديده بالإضافة أو التعريف.

والإبلاس : سكون بحيرة. يقال : أبلس ، إذا لم يجد مخرجا من شدة هو فيها. وتقدم عند قوله تعالى (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) في سورة المؤمنين [٧٧].

و (الْمُجْرِمُونَ) : المشركون ، وهم الذين أجريت عليهم ضمائر الغيبة وضمائر الخطاب بقرينة قوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ).

والإظهار في مقام الإضمار لإجراء وصف الإجرام عليهم وكان مقتضى الظاهر أنه يقال : تبلسون ، بالخطاب أو بياء الغيبة. ووصفوا بالإجرام لتحقير دين الشرك وأنه مشتمل على إجرام كبير. وقد ذكر أحد أسباب الإبلاس وأعظمها حينئذ وهو أنهم لم يجدوا شفعاء من آلهتهم التي أشركوا بها وكانوا يحسبونها شفعاء عند الله ، فلما نظروا وقلبوا النظر فلم يجدوا شفعاء خابوا وخسئوا وأبلسوا ، ولهم أسباب خيبة أخرى لم يتعلق الغرض بذكرها. وأما ما ينالهم من العذاب فذلك حالة يأس لا حالة إبلاس. و (مِنْ) تبعيضية ، وليس الكلام من قبيل التجريد.

ونفي فعل (يَكُنْ) ب (لَمْ) التي تخلص المضارع للمضي للإشارة إلى تحقيق حصول هذا النفي مثل قوله (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

ومقابلة ضمير الجمع بصيغة جمع الشركاء من باب التوزيع ، أي لم يكن لأحد من المجرمين أحد شفيع فضلا عن عدة شفعاء.

وكذلك قوله (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) لأن المراد أنهم يكفرون بهم يوم تقوم الساعة كقوله تعالى (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥].

وكتب في المصحف شفعؤا بواو بعد العين وألف بعد الواو ، أرادوا بالجمع بين الواو والألف أن ينبهوا على أن الهمزة مضمومة ليعلم أن (شُفَعاءُ) اسم (كان) وأن ليس اسمها قوله (مِنْ شُرَكائِهِمْ) بتوهم أن (مِنْ) اسم بمعنى بعض ، أو أنها مزيدة في النفي ،

٢٥

فأثبتوا الواو تحقيقا لضم الهمزة وأثبتوا الألف لأن الألف صورة للهمزة.

[١٤ ـ ١٦] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

أعيد (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) لزيادة التهويل الذي تقدم بيانه آنفا. وكرر (يَوْمَئِذٍ) لتأكيد حقيقة الظرفية. ولما ذكر إبلاس المشركين المشعر بتوقعهم السوء والعذاب أعقب بتفصيل أحوال الناس يومئذ مع بيان مغبة إبلاس الفريق الكافرين.

والضمير في (يَتَفَرَّقُونَ) عائد إلى معلوم من المقام دل عليه ذكر المجرمين فعلم أن فريقا آخر ضدهم لأن ذكر إبلاس المجرمين يومئذ يفهم أن غيرهم ليسوا كذلك على وجه الإجمال.

والتفرق : انقسام الجمع وتشتت أجزاء الكل. وقد كني به هنا عن التباعد لأن التفرق يلازمه التباعد عرفا. وقد فصل التفرق هنا بقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلى آخره.

والروضة : كل أرض ذات أشجار وماء وأزهار في البادية أو في الجنان. ومن أمثال العرب «أحسن من بيضة في روضة» يريدون بيضة النعامة. وقد جمع محاسن الروضة قول الأعشى :

ما روضة من رياض الحزن معشبة

خضراء جاد عليها مسبل هطل

يضاحك الشمس منها كوكب (١) شرق

مؤزّر بعميم النبت مكتهل

و (يُحْبَرُونَ) : يسرّون من الحبور ، وهو السرور الشديد. يقال : حبره ، إذا سره سرورا تهلل له وجهه وظهر فيه أثره.

و (مُحْضَرُونَ) يجوز أن يكون من الإحضار ، أي : جعل الشيء حاضرا ، أي : لا يغيبون عنه ، أي : لا يخرجون منه ، وهو يفيد التأييد بطريق الكناية لأنه لما ذكر بعد قوله (فِي الْعَذابِ) ناسب أن لا يكون المقصود من وصفهم المحضرين أنهم كائنون في

__________________

(١) أراد بالكوكب النّور تشبيها له بكوكب نجوم السماء في البياض والاستدارة.

٢٦

العذاب لئلا يكون مجرد تأكيد بمدلول في الظرفية فإن التأسيس أوقع من التأكيد ، ويجوز أن يكون محضرون بمعنى مأتيّ بهم إلى العذاب فقد كثر في القرآن استعمال محضر ونحوه بمعنى معاقب ، قال تعالى (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات : ١٥٨] ، واسم الإشارة تنبيه على أنهم أحرياء بتلك العقوبة لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة كقوله (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

وكتب في رسم المصحف ولقائي بهمزة على ياء تحتية للتنبيه على أن الهمزة مكسورة وذلك من الرسم التوقيفي ، ومقتضى القياس أن تكتب الهمزة في السطر بعد الألف.

[١٧ ـ ١٨] (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨))

الفاء تقتضي اتصال ما بعدها بما قبلها وهي فاء فصيحة ، أو عطف تفريع على ما قبلها وقد كان أول الكلام قوله (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الروم : ٨] ، والضمير عائد إلى أكثر الناس في قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم : ٦] والمراد بهم الكفار فالتفريع أو الإفصاح ناشئ عن ذلك فيكون المقصود من (فَسُبْحانَ اللهِ) إنشاء تنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه من العجز عن إحياء الناس بعد موتهم وإنشاء ثناء عليه.

والخطاب في (تُمْسُونَ) و (تُصْبِحُونَ) تابع للخطاب الذي قبله في قوله (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [الروم : ١١] ، وهو موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات من ضمائر الغيبة المبتدئة من قوله (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) [الروم : ٨] إلى آخرها كما علمت آنفا. وهذا هو الأنسب باستعمال مصدر (سبحان) في مواقع استعماله في الكلام وفي القرآن مثل قوله تعالى (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر : ٦٧] وهو الغالب في استعمال مصدر سبحان في الكلام إن لم يكن هو المتعين كما تقتضيه أقوال أئمة اللغة. وهذا غير استعمال نحو قوله تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) [الطور : ٤٨] وقول الأعشى في داليته :

وسبّح على حين العشيات والضحى

وقوله (حِينَ تُمْسُونَ) ، و (حِينَ تُصْبِحُونَ) [النور : ٥٨] ، و (عَشِيًّا) ، و (حِينَ تُظْهِرُونَ) ظروف متعلقة بما في إنشاء التنزيه من معنى الفعل ، أي ينشأ تنزيه الله في هذه الأوقات

٢٧

وهي الأجزاء التي يتجزأ الزمان إليها ، والمقصود التأبيد كما تقول : سبحان الله دوما. وسلك به مسلك الإطناب لأنه مناسب لمقام الثناء. وجوّز بعض المفسرين أن يكون (فَسُبْحانَ) هنا مصدرا واقعا بدلا عن فعل أمر بالتسبيح كأنه قيل : فسبحوا الله سبحانا. وعليه يخرج ما روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال : نعم. وتلا قوله تعالى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) إلى قوله (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) فإذا صح ما روي عنه فتأويله : أن سبحان أمر بأن يقولوا : سبحان الله ، وهو كناية عن الصلاة لأن الصلاة تشتمل على قول : سبحان ربي الأعلى وبحمده.

وقوله (حِينَ تُمْسُونَ) إلى آخره إشارة إلى أوقات الصلوات وهو يقتضي أن يكون الخطاب موجها إلى المؤمنين. والمناسبة مع سابقه أنه لما وعدهم بحسن مصيرهم لقّنهم شكر نعمة الله بإقامة الصلاة في أجزاء اليوم والليلة. وهذا التفريع يؤذن بأن التسبيح والتحميد الواقعين إنشاء ثناء على الله كناية عن الشكر عن النعمة لأن التصدي لإنشاء الثناء عقب حصول الإنعام أو الوعد به يدل على أن المادح ما بعثه على المدح في ذلك المقام إلا قصد الجزاء على النعمة بما في طوقه ، كما ورد(فإن لم تقدروا على مكافأته فادعوا له).

وليست الصلوات الخمس وأوقاتها هي المراد من الآية ولكن نسجت على نسج صالح لشموله الصلوات الخمس وأوقاتها وذلك من إعجاز القرآن ، لأن الصلاة وإن كان فيها تسبيح ويطلق عليها السبحة فلا يطلق عليها : سبحان الله. وأضيف الحين إلى جملتي (تُمْسُونَ) و (تُصْبِحُونَ). وقدم فعل الإمساء على فعل الإصباح : إما لأن الاستعمال العربي يعتبرون فيه الليالي مبدأ عدد الأيام كثيرا قال تعالى (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) [سبأ : ١٨] ، وإما لأن الكلام لما وقع عقب ذكر الحشر من قوله (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [الروم : ١١] وذكر قيام الساعة ناسب أن يكون الإمساء وهو آخر اليوم خاطرا في الذهن فقدم لهم ذكره.

و (عَشِيًّا) عطف على (حِينَ تُمْسُونَ). وقوله (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جملة معترضة بين الظروف تفيد أن تسبيح المؤمنين لله ليس لمنفعة الله تعالى بل لمنفعة المسبحين لأن الله محمود في السماوات والأرض فهو غني عن حمدنا.

وتقديم المجرور في (وَلَهُ الْحَمْدُ) لإفادة القصر الادعائي لجنس الحمد على الله تعالى لأن حمده هو الحمد الكامل على نحو قولهم : فلان الشجاع ، كما تقدم في طالعة

٢٨

سورة الفاتحة. ولك أن تجعل التقديم للاهتمام بضمير الجلالة.

والإمساء : حلول المساء. والإصباح : حلول الصباح. وتقدم في قوله (فالِقُ الْإِصْباحِ) في سورة الأنعام [٩٦]. والإمساء : اقتراب غروب الشمس إلى العشاء ، والصباح : أول النهار. والإظهار : حلول وقت الظهر وهو نصف النهار.

وقد استعمل الإفعال الذي همزته للدخول في المكان مثل : أنجد ، وأتهم ، وأيمن ، وأشأم في حلول الأوقات من المساء والصباح والظهر تشبيها لذلك الحلول بالكون في المكان ، فيكثر أن يقال : أصبح وأضحى وأمسى وأعتم وأشرق ، قال تعالى (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) [الشعراء : ٦٠].

والعشي : ما بعد العصر ، وقد تقدم عند قوله تعالى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) في سورة الأنعام [٥٢].

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩))

هذه الجملة بدل من جملة (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [الروم : ١١]. ويجوز أيضا أن تكون موقع العلة لجملة (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) [الروم : ١٧] وما عطف عليها ، أي هو مستحق للتسبيح والحمد لتصرفه في المخلوقات بالإيجاد العجيب وبالإحياء بعد الموت. واختير من تصرفاته العظيمة تصرف الإحياء والإماتة في الحيوان والنبات لأنه تخلص للغرض المقصود من إثبات البعث ردا للكلام على ما تقدم من قوله (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [الروم : ١١].

فتحصل من ذلك أن الأمر بتسبيحه وحمده معلول بأمرين : إيفاء حق شكره المفاد بفاء التفريع في قوله (فَسُبْحانَ اللهِ) [الروم : ١٧] ، وإيفاء حق التعظيم والإجلال ، والمقصود هو إخراج الحي من الميت. وأما عطف (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) فللاحتراس من اقتصار قدرته على بعض التصرفات ولإظهار عجيب قدرته أنها تفعل الضدين. وفي الآية الطباق. وهذا الخطاب للمؤمنين تعريض بالرد على المشركين.

والإخراج : فصل شيء محوي عن حاويه. يقال : أخرجه من الدار ، وأخرج يده من جيبه ، فهو هنا مستعمل لإنشاء شيء من شيء. والإتيان بصيغة المضارع في (يُخْرِجُ)

٢٩

و (يُحْيِ) لاستحضار الحالة العجيبة مثل قوله (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) [الروم : ٨]. فهذا الإخراج والإحياء آية عظيمة على استحقاقه التعظيم والإفراد بالعبادة إذ أودع هذا النظام العجيب في الموجودات فجعل في الشيء الذي لا حياة له قوة وخصائص تجعله ينتج الأشياء الحية الثابتة المتصرفة ويجعل في تراب الأرض قوى تخرج الزرع والنبات حيا ناميا.

وإخراج الحي من الميت يظهر في أحوال كثيرة منها : إنشاء الأجنة من النطف ، وإنشاء الفراخ من البيض ؛ وإخراج الميت من الحي يظهر في العكس وقد تقدم في سورة آل عمران. وفي الآية إيماء إلى أن الله يخرج من غلاة المشركين أفاضل من المؤمنين مثل إخراج خالد بن الوليد من أبيه الوليد بن المغيرة ، وإخراج هند بنت عتبة بن ربيعة من أبيها أحد أئمة الكفر وقد قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كان أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خبائك واليوم ما أهل خباء أحب إليّ أن يعزّوا من أهل خبائك ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأيضا» (أي ستزيدين حبا لنا بسبب نور الإسلام). وإخراج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من أبيها. ولما كلمت أم كلثوم بنت عقبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن إسلامها وهجرتها إلى المدينة حين جاء أخواها يرومان ردها إلى مكة حسب شروط الهدنة فقالت : يا رسول الله أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف فأخشى أن يفتنوني في ديني ولا صبر لي ، فقرأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ، ونزلت آية الامتحان فلم يردها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهما وكانت أول النساء المهاجرات إلى المدينة بعد صلح الحديبية.

والتشبيه في قوله (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) راجع إلى ما يصلح له من المذكور قبله وهو ما فيه إنشاء حياة شيء بعد موته بناء على ما قدمناه من أن قوله (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ليس مقصودا من الاستدلال ولكنه احتراس وتكملة. ويجوز أن يكون التشبيه راجعا إلى أقرب مذكور وهو إحياء الأرض بعد موتها ، أي وكإخراج النبات من الأرض بعد موته فيها يكون إخراجكم من الأرض بعد أن كنتم أمواتا فيها ، كما قال تعالى (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) [نوح : ١٧ ، ١٨]. ولا وجه لاقتصار التشبيه على الثاني دون الأول.

والمعنى : أن الإبداء والإعادة متساويان فليس البعث بعد الموت بأعجب من ابتداء الخلق ولكن المشركين حكّموا الإلف في موضع تحكيم العقل. وقرأ نافع وحفص وحمزة (الْمَيِّتِ) بتشديد الياء. وقرأه الباقون بالتخفيف. وقرأ الجمهور (تُخْرَجُونَ) بضم التاء

٣٠

الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي بفتحها.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠))

لما كان الاستدلال على البعث متضمنا آيات على تفرده تعالى بالتصرف ودلالته على الوحدانية انتقل من ذلك الاستدلال إلى آيات على ذلك التصرف العظيم غير ما فيه إثبات البعث تثبيتا للمؤمنين وإعذارا لمن أشركوا في الإلهية. وقد سبقت ست آيات على الوحدانية ، وابتدئت بكلمة (وَمِنْ آياتِهِ) تنبيها على اتحاد غرضها ، فهذه هي الآية الأولى ولها شبه بالاستدلال على البعث لأن خلق الناس من تراب وبث الحياة والانتشار فيهم هو ضرب من ضروب إخراج الحي من الميت ، فلذلك كانت هي الأولى في الذكر لمناسبتها لما قبلها فجعلت تخلصا من دلائل البعث إلى دلائل عظيم القدرة. وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الإنسان وتقويم بشريته.

وتقدم كيف كان الخلق من تراب عند قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) في سورة المؤمنين [١٢ ، ١٣].

فضمير النصب في (خَلَقَكُمْ) عائد إلى جميع الناس وهذا في معنى قوله تعالى في سورة الحج [٥] (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) الآية.

وهذا استدلال للناس بأنفسهم لأنهم أشعر بها مما سواها ، والناس يعلمون أن النطف أصل الخلقة ، وهم إذا تأملوا علموا أن النطفة تتكون من الغذاء ، وأن الغذاء يتكون من نبات الأرض ، وأن نبات الأرض مشتمل على الأجزاء الترابية التي أنبتته فعلموا أنهم مخلوقون من تراب ، فبذلك استقام جعل التكوين من التراب آية للناس أي علامة على عظيم القدرة مع كونه أمرا خفيا. على أنه يمكن أن يكون الاستدلال مبنيا على ما هو شائع بين البشر أن أصل الإنسان تراب حسبما أنبأت به الأديان كلها. وبهذا التأويل يصح أيضا أن يكون معنى (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) خلق أصلكم وهو آدم ، وأول الوجوه أظهرها. فالتراب موات لا حياة فيه وطبعه مناف لطبع الحياة لأن التراب بارد يابس وذلك طبع الموت ، والحياة تقتضي حرارة ورطوبة فمن ذلك البارد اليابس ينشأ المخلوق الحي المدرك. وقد أشير إلى الحياة والإدراك بقوله (إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ) ، وإلى التصرف والحركة بقوله (تَنْتَشِرُونَ) ، ولما كان تمام البشرية ينشأ عن تطور التراب إلى نبات ثم إلى نطفة ثم إلى أطوار التخلق في أزمنة متتالية عطفت الجملة بحرف المهلة الدال على تراخي الزمن

٣١

مع تراخي الرتبة الذي هو الأصل في عطف الجمل بحرف (ثُمَ).

وصدرت الجملة بحرف المفاجأة لأن الكون بشرا يظهر للناس فجأة بوضع الأجنة أو خروج الفراخ من البيض ، وما بين ذلك من الأطوار التي اقتضاها حرف المهلة هي أطوار خفية غير مشاهدة ؛ فكان الجمع بين حرف المهلة وحرف المفاجأة تنبيها على ذلك التطور العجيب. وحصل من المقارنة بين حرف المهلة وحرف المفاجأة شبه الطباق وإن كان مرجع كل من الحرفين غير مرجع الآخر.

والانتشار : الظهور على الأرض والتباعد بين الناس في الأعمال قال تعالى (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠].

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

هذه آية ثانية فيها عظة وتذكير بنظام الناس العام وهو نظام الازدواج وكينونة العائلة وأساس التناسل ، وهو نظام عجيب جعله الله مرتكزا في الجبلة لا يشذ عنه إلا الشذاذ.

وهي آية تنطوي على عدة آيات منها : أن جعل للإنسان ناموس التناسل ، وأن جعل تناسله بالتزاوج ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه ، وأن جعل أزواج الإنسان من صنفه ولم يجعلها من صنف آخر لأن التأنس لا يحصل بصنف مخالف ، وأن جعل في ذلك التزاوج أنسا بين الزوجين ولم يجعله تزاوجا عنيفا أو مهلكا كتزاوج الضفادع ، وأن جعل بين كل زوجين مودة ومحبة فالزوجان يكونان من قبل التزاوج متجاهلين فيصبحان بعد التزاوج متحابين ، وأن جعل بينهما رحمة فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعد التزاوج متحابين ، وأن جعل بينهما رحمة فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة ، ولأجل ما ينطوي عليه هذا الدليل ويتبعه من النعم والدلائل جعلت هذه الآية آيات عدة في قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الصنفين من الإنسان : صنف الذكر ، وصنف الأنثى ، وإبداع نظام الإقبال بينهما في جبلتهما. وذلك من الذاتيات النسبية بين الصنفين. وقد أدمج في الاعتبار بهذه الآية امتنان بنعمة في هذه الآية أشار إليها قوله (لَكُمْ) أي لأجل نفعكم.

و (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) متعلق ب (لَآياتٍ) لما فيه من معنى الدلالة. وجعلت الآيات لقوم يتفكرون لأن التفكر والنظر في تلك الدلائل هو الذي يجلي كنهها ويزيد الناظر بصارة بمنافع أخرى في ضمنها.

٣٢

والذين يتفكرون : المؤمنون وأهل الرأي من المشركين الذين يؤمنون بعد نزول هذه الآية. والخطاب في قوله (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) لجميع نوع الإنسان الذكور والإناث.

والزوج : هو الذي به يصير للواحد ثان فيطلق على امرأة الرجل ورجل المرأة فجعل الله لكل فرد زوجه.

ومعنى (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من نوعكم ، فجميع الأزواج من نوع الناس ، وأما قول تأبط شرا :

وتزوجت في الشبيبة غولا

بغزال وصدقتي زقّ خمر

فمن تكاذيبهم ، وكذلك ما يزعمه المشعوذون من التزوج بالجنّيات وما يزعمه أهل الخرافات والروايات من وجود بنات في البحر وأنها قد يتزوج بعض الإنس ببعضها.

والسكون : هنا مستعار للتأنس وفرح النفس لأن في ذلك زوال اضطراب الوحشة والكمد بالسكون الذي هو زوال اضطراب الجسم كما قالوا : اطمأن إلى كذا وانقطع إلى كذا.

وضمن (لِتَسْكُنُوا) معنى لتميلوا فعدي بحرف (إلى) وإن كان حقه أن يعلق ب (عند) ونحوها من الظروف.

والمودة : المحبة ، والرحمة : صفة تبعث على حسن المعاملة.

وإنما جعل في ذلك آيات كثيرة باعتبار اشتمال ذلك الخلق على دقائق كثيرة متولد بعضها عن بعض يظهرها التأمل والتدبر بحيث يتجمع منها آيات كثيرة.

واللام في قوله (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) معناه شبه التمليك وهو معنى أثبته صاحب «مغني اللبيب» ويظهر أنه واسطة بين معنى التمليك ومعنى التعليل. ومثّله في «المغني» بقوله تعالى (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [النحل : ٧٢] وذكر في المعنى العشرين من معاني اللام أن ابن مالك في «كافيته» سماه لام التعدية ولعله يريد تعدية خاصة ، ومثله بقوله تعالى (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥].

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢))

هذه الآية الثالثة وهي آية النظام الأرضي في خلق الأرض بمجموعها وسكانها ؛

٣٣

فخلق السماوات والأرض آية عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية ، وما هو محل العبرة من أحوالهما المتقاربة المتلازمة كالليل والنهار والفصول ، والمتضادة كالعلوّ والانخفاض.

وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات ، وخص من أحواله المتخالفة لأنها أشد عبرة إذ كان فيها اختلاف بين أشياء متحدة في الماهية ، ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد نجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض ، فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة ، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض ، واختلاف مسامته أشعة الشمس لها ؛ فهي من آثار خلق السماوات والأرض. ولذلك فالظاهر أن المقصود هو آية اختلاف اللغات والألوان وأن ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيد له وإيماء إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض. وقد كانت هذه الآية متعلقة بأحوال عرضية في الإنسان ملازمة له فبتلك الملازمة أشبهت الأحوال الذاتية المطلقة ثم النسبية ، فلذلك ذكرت هذه الآية عقب الآيتين السابقتين حسب الترتيب السابق. وقد ظهر وجه المقارنة بين خلق السماوات والأرض وبين اختلاف ألسن البشر وألوانهم ، وتقدم في سورة آل عمران [١٩٠] قوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ).

والألسنة : جمع لسان ، وهو يطلق على اللغة كما في قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : ٤] وقوله (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) [النحل : ١٠٣].

واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كوّنه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير وتنويع التصرف في وضع اللغات ، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة. فلا شك أن اللغة كانت واحدة للبشر حين كانوا في مكان واحد ، وما اختلفت اللغات إلا بانتشار قبائل البشر في المواطن المتباعدة ، وتطرّق التغير إلى لغاتهم تطرقا تدريجيا ؛ على أن توسّع اللغات بتوسع الحاجة إلى التعبير عن أشياء لم يكن للتعبير عنها حاجة قد أوجب اختلافا في وضع الأسماء لها فاختلفت اللغات بذلك في جوهرها كما اختلفت فيما كان متفقا عليه بينها باختلاف لهجات النطق ، واختلاف التصرف ، فكان لاختلاف الألسنة موجبان. فمحل العبرة هو اختلاف اللغات مع اتحاد

٣٤

أصل النوع كقوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد: ٤] ولما في ذلك الاختلاف من الأسرار المقتضية إياه. ووقع في الإصحاح الحادي عشر من «سفر التكوين» ما يوهم ظاهره أن اختلاف الألسن حصل دفعة واحدة بعد الطوفان في أرض بابل وأن البشر تفرقوا بعد ذلك. والظاهر أنه وقع في العبارة تقديم وتأخير وأن التفرق وقع قبل تبلبل الألسن. وقد علل في ذلك «الإصحاح» بما ينزه الله عن مدلوله.

وقيل : أراد باختلاف الألسنة اختلاف الأصوات بحيث تتمايز أصوات الناس المتكلمين بلغة واحدة فنعرف صاحب الصوت وإن كان غير مرئي. وأما اختلاف ألوان البشر فهو آية أيضا لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم ، وله لون واحد لا محالة ، ولعله البياض المشوب بحمرة ، فلما تعدد نسله جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدة علل أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة ، ومنها التوالد من أبوين مختلفي اللون مثل المتولد من أم سوداء وأب أبيض ، ومنها العلل والأمراض التي تؤثر تلوينا في الجلد ، ومنها اختلاف الأغذية ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلا على اختلاف النوع بل هو نوع واحد ، فللبشر ألوان كثيرة أصلاها البياض والسواد ، وقد أشار إلى هذا أبو علي ابن سينا في «أرجوزته» في الطب بقوله :

بالزنج حرّ غيّر الأجساد

حتى كسا بياضها سوادا

والصقلب اكتسبت البياضا

حتى غدت جلودها بضاضا

وكان أصل اللون البياض لأنه غير محتاج إلى علة ولأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون. ومن البياض والسواد انشقت ألوان قبائل البشر فجاء منها اللون الأصفر واللون الأسمر واللون الأحمر. ومن العلماء وهو كوقيي (١) جعل أصول ألوان البشر ثلاثة : الأبيض والأسود والأصفر ، وهو لون أهل الصين. ومنهم من زاد الأحمر وهو لون سكان قارة أمريكا الأصليين المدعوين هنود أمريكا. واعلم أن من مجموع اختلاف اللغات واختلاف الألوان تمايزت الأجذام البشرية واتحدت مختلطات أنسابها. وقد قسموا أجذام البشر الآن إلى ثلاثة أجذام أصلية وهي الجذم القوقاسي الأبيض ، والجذم المغولي الأصفر ، والجذم الحبشي الأسود ، وفرعوها إلى ثمانية وهي الأبيض والأسود والحبشي والأحمر والأصفر والسّامي والهندي والملايي

__________________

(١) كوقيي : عالم طبيعي فرنسي ولد سنة ١٧٦٩ وتوفى سنة ١٨٣٢.

٣٥

نسبة إلى بلاد الملايو.

وجعل ذلك آيات في قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) لما علمت من تفاصيل دلائله وعلله ، أي آيات لجميع الناس ، وهو نظير قوله آنفا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم : ٢١].

واللام في قوله (لِلْعالِمِينَ) نظير ما تقدم في الآية قبلها. وجعل ذلك آيات للعالمين لأنه مقرر معلوم لديهم يمكنهم الشعور بآياته بمجرد التفات الذهن دون إمعان نظر. وقرأ الجمهور (لِلْعالِمِينَ) بفتح اللام. وقرأه حفص بكسر اللام أي لأولي العلم.

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣))

هذه آية رابعة وهي كائنة في أعراض من أعراض الناس لا يخلو عنها أحد من أفرادهم ، إلا أنها أعراض مفارقة غير ملازمة فكانت دون الأعراض التي أقيمت عليها الآية الثالثة ولذلك ذكرت هذه الآية بعدها.

وحالة النوم حالة عجيبة من أحوال الإنسان والحيوان إذ جعل الله له في نظام أعصاب دماغه قانونا يستردّ به قوة مجموعه العصبي بعد أن يعتريه فشل الإعياء من إعمال عقله وجسده فيعتريه شبه موت يخدر إدراكه ولا يعطل حركات أعضائه الرئيسية ولكنه يثبطها حتى يبلغ من الزمن مقدارا كافيا لاسترجاع قوته فيفيق من نومته وتعود إليه حياته كاملة ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) في سورة البقرة [٢٥٥]. والمنام مصدر ميمي للنوم أو هو اسم مصدر.

وقوله (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) متعلق ب (مَنامُكُمْ). والباء للظرفية بمعنى (في) فالناس ينامون بالليل ومنهم من ينام بالنهار في القائلة وبخاصة أهل الأعمال المضنية إذا استراحوا منها في منتصف النهار خصوصا في البلاد الحارة أو في فصل الحر.

والابتغاء من فضل الله : طلب الرزق بالعمل لأن فضل الله الرزق ، وجعل هذا كناية عن الهبوب إلى العمل لأن الابتغاء يستلزم الهبوب من النوم ، وذلك آية أخرى لأنه نشاط القوة بعد أن خارت وفشلت. ولكون ابتغاء الرزق من خصائص النهار أطلق هنا فلم يقيد بالليل والنهار. ولك أن تجعل عدم تقييده بمثل ما قيد به (مَنامُكُمْ) للاستغناء بدلالة القيد

٣٦

الذي قبله بتقدير : وابتغاؤكم من فضله فيهما ، وقد تكلف صاحب «الكشاف» فجعل الكلام من قبيل اللف والنشر ؛ على أن اللف وقع فيه تفريق ، ووجّهه محشّيه القزويني بأن التقديم للاهتمام بآية الليل والنهار.

وقد جعلت دلالات المنام والابتغاء من فضل الله (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لوجهين : أحدهما : أن هذين حالتان متعاورتان على الناس قد اعتادوهما فقلّ من يتدبر في دلالتهما على دقيق صنع الله تعالى ؛ فمعظم الناس في حاجة إلى من يوقفهم على هذه الدلالة ويرشدهم إليها. وثانيهما : أن في ما يسمعه الناس من أحوال النوم ما هو أشد دلالة على عظيم صنع الله تعالى مما يشعر به صاحب النوم من أحوال نومه ، لأن النائم لا يعرف من نومه إلا الاستعداد له وإلا أنه حين يهبّ من نومه يعلم أنه كان نائما ؛ فأما حالة النائم في حين نومه ومقدار تنبهه لمن يوقظه ، وشعوره بالأصوات التي تقع بقربه ، والأضواء التي تنتشر على بصره فتنبهه أو لا تنبهه ، كل ذلك لا يتلقاه النائم إلا بطريق الخبر من الذين يكونون أيقاظا في وقت نومه. فطريق العلم بتفاصيل أحوال النائمين واختلافها السمع ، وقد يشاهد المرء حال نوم غيره إلا أن عبرته بنومه الخاص به أشد ، فطريق السمع هو أعم الطرق لمعرفة تفاصيل أحوال النوم ، فلذلك قيل (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ). وأيضا لأن النوم يحول دون الشعور بالمسموعات بادئ ذي بدء قبل أن يحول دون الشعور بالمبصرات.

وأجريت صفة (يَسْمَعُونَ) على قوم للإيماء إلى أن السمع متمكّن منهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤]. ووجه جعل ذلك آيات لما ينطوي عليه من تعدد الدلالات بتعدد المستدلين وتولد دقائق تلك الآية بعضها عن بعض كما تقدم آنفا.

ومعنى اللام في قوله (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) كما تقدم في معناه عند قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم : ٢١].

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤))

تلك آية خامسة وهي متعلقة بالإنسان وليست متصلة به ، فإن البرق آية من آيات صنع الله وهو من خلق القوى الكهربائية النورانية في الأسحبة وجعلها آثارا مشاهدة ، وكم من قوى أمثالها منبثة في العوالم العلوية لا تشاهد آثارها. ومن الحكم الإلهية في كون البرق

٣٧

مرئيا أن ذلك يثير في النفوس خوفا من أن يكون الله سلطه عقابا وطمعا في أن يكون أراد به خيرا للناس فيطمعون في نزول المطر ، ولذلك أعقبه بقوله (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) فإن نزول المطر مما يخطر بالبال عند ذكر البرق.

وقوله (مِنْ آياتِهِ) جار ومجرور يحتاج إلى تقدير كون إن كان ظرفا مستقرا ، أو إلى متعلّق إن كان ظرفا لغوا. وموقع هذا الجار والمجرور في هذه الآية وارد على مثل مواقع أمثاله في الآيات السابقة واللاحقة الشبيهة بها ، وذلك مما يدعو إلى اعتبار ما يذكر بعد الجار والمجرور في معنى مبتدأ مخبر عنه بالجار والمجرور المقدم عليه حملا على نظائره ، فيكون المعنى : ومن آياته إراءته إياكم البرق إلخ. فلذلك قال أئمة النحو : يجوز هنا جعل الفعل المضارع بمعنى المصدر من غير وجود (أن) ولا تقديرها ، أي من غير نصب المضارع بتقدير (أن) محذوفة ، وجعلوا منه قول عروة بن الورد :

وقالوا ما تشاء فقلت ألهو

إلى الإصباح آثر ذي آثار

وقول طرفة :

ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى

وجعلوا منه قوله تعالى (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤] برفع (أَعْبُدُ) في مشهور القراءات ، وقولهم في المثل : تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة ، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل عليها متاعه صدقة» وقوله فيه : «وتميط الأذى عن الطريق صدقة» رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

ومن بديع الاستعمال تفنن هذه الآيات في التعبير عن معاني المصدر بأنواع صيغه الواردة في الاستعمال ، من تعبير بصيغة صريح المصدر تارة كقوله (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الروم : ٢٢] وقوله (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الروم : ٢٣] ، وبالمصدر الذي ينسبك من اقتران (أَنْ) المصدرية بالفعل الماضي (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [الروم : ٢١] واقترانها بالفعل المضارع (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم : ٢٥] ، وباسم المصدر تارة (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الروم : ٢٣] ومرة بالفعل المجرد المؤوّل بالمصدر (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ).

ولك أن تجعل المجرور متعلقا ب (يُرِيكُمُ) وتكون (مِنْ) ابتدائية في موضع الحال من البرق ، وتكون جملة (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) معطوفة على جملة (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ

٣٨

وَالنَّهارِ) [الروم : ٢٣] إلخ. فيكون تغيير الأسلوب لأن مناط هذه الآية هو تقرير الناس بها إذ هي غير متصلة بذواتهم فليس حظهم منها سوى مشاهدتها والإقرار بأنها آية بينة. فهذا التقرير كالذي في قوله تعالى (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢] ، وليتأتى عطف (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) عليه لأنه تكملة لهذه الآية.

وقوله (خَوْفاً وَطَمَعاً) مفعول لأجله معطوف عليه. والمراد : خوفا تخافونه وطمعا تطمعونه. فالمصدران مؤولان بمعنى الإرادة ، أي إرادة أن تخافوا خوفا وتطمعوا. وقد تقدم الكلام على البرق في قوله (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) في سورة الرعد [١٢]. وتقدم هنالك أن (خَوْفاً) مفعول له و (طَمَعاً) كذلك وتوجيه ذلك.

وجعلت هذه الآية آيات لانطوائها على دقائق عظيمة في خلق القوى التي هي أسباب البرق ونزول المطر وخروج النبات من الأرض بعد جفافها وموتها. ونيط الانتفاع بهذه الآيات بأصحاب صفة العقل لأن العقل المستقيم غير المشوب بعاهة العناد والمكابرة كاف في فهم ما في تلك المذكورات من الدلائل والحكم على نحو ما قرر في نظائره آنفا.

وإجراء (يَعْقِلُونَ) على لفظ قوم للإيماء إلى ما تقدم ذكره آنفا في مثله. ومعنى اللام في قوله (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) مثل معنى أختها في قوله (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم : ٢١].

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))

ختمت الآيات بهذه الآية السادسة وهي التي دلت على عظيم القدرة على حفظ نظام المخلوقات العظيمة بعد خلقها ؛ فخلق السماوات والأرض آية مستقلة تقدمت ، وبقاء نظامهما على ممر القرون آية أخرى. وموقع العبرة من هاته الآية هو أولها وهو أن تقوم السماء والأرض هذا القيام المتقن بأمر الله دون غيره.

فمعنى القيام هنا : البقاء الكامل الذي يشبه بقاء القائم غير المضطجع وغير القاعد من قولهم : قامت السوق ، إذا عظم فيها البيع والشراء. وهذا هو المعبر عنه في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] وقوله (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج : ٦٥].

والأمر المضاف إلى الله هو أمره التكويني وهو مجموع ما وضعه الله من نظام العالم

٣٩

العلوي والسفلي ، ذلك النظام الحارس لهما من تطرق الاختلال بإيجاد ذلك النظام. و (بِأَمْرِهِ) متعلق بفعل (تَقُومَ) ، والباء للسببية.

و (ثُمَ) عاطفة الجملة على الجملة. والمقصود من الجملة المعطوفة الاحتراس عما قد يتوهم من قوله (أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) من أبدية وجود السماوات والأرض ، فأفادت الجملة أن هذا النظام الأرضي يعتوره الاختلال إذا أراد الله انقضاء العالم الأرضي وإحضار الخلق إلى الحشر تسجيلا على المشركين بإثبات البعث. فمضمون جملة (إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) ليس من تمام هذه الآية السادسة ولكنه تكملة وإدماج موجه إلى منكري البعث.

وفي متعلق المجرور في قوله (مِنَ الْأَرْضِ) اضطراب ؛ فالذي ذهب إليه صاحب «الكشاف» أنه متعلق ب (دَعاكُمْ) لأن (دَعاكُمْ) لما اشتمل على فاعل ومفعول فالمتعلق بالفعل يجوز أن يكون من شئون الفاعل ويجوز أن يكون من شئون المفعول على حسب القرينة ، كما تقول : دعوت فلانا من أعلى الجبل فنزل إليّ ، أي دعوته وهو في أعلى الجبل. وهذا الاستعمال خلاف الغالب ولكن دلت عليه القرينة مع التفصي من أن يكون المجرور متعلقا ب (تَخْرُجُونَ) لأن ما بعد حرف المفاجأة لا يعمل فيما قبلها ، على أن في هذا المنع نظرا. ولا يجوز تعليقه ب (دَعْوَةً) لعدم اشتمال المصدر على فاعل ومفعول ، وهو وجيه وكفاك بذوق قائله. وأقول : قريب منه قوله تعالى (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤]. و (مِنْ) لابتداء المكان ، والمجرور ظرف لغو. ويجوز أن يكون المجرور حالا من ضمير النصب في (دَعاكُمْ) فهو ظرف مستقر. ويجوز أن يكون (مِنَ الْأَرْضِ) متعلقا ب (تَخْرُجُونَ) قدم عليه. وهذا ذكر في «مغني اللبيب» أنه حكاه عنهم أبو حاتم في كتاب «الوقف» ، وهذا أحسن وأبعد عن التكلف ، وعليه فتقديم المجرور للاهتمام تعريضا بخطئهم إذ أحالوا أن يكون لهم خروج من الأرض عن بعد صيرورتهم فيها في قولهم المحكي عنهم بقوله تعالى (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠] وقولهم (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) [النمل: ٦٧].

وأما قضية تقديم المعمول على (إِذا) الفجائية فإذا سلم عدم جوازه فإن التوسع في المجرور والمظروف من حديث البحر ، فمن العجب كيف سدّ باب التوسع فيه صاحب «مغني اللبيب» في الجهة الثانية من الباب الخامس. وجيء بحرف المفاجأة في قوله (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) لإفادة سرعة خروجهم إلى الحشر كقوله (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ* فَإِذا

٤٠