تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

أي نشرب ونقامر من أثمان إبلنا. وتقدم بيانه عند قوله تعالى (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) في سورة النساء [٥].

و (مِنْ) في قوله (مِنْ رِباً) وقوله (مِنْ زَكاةٍ) بيانية مبينة لإبهام (ما) الشرطية في الموضعين. وتقدم الربا في سورة البقرة.

وقوله (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) جواب الشرط. ومعنى (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) أنه عمل ناقص عند الله غير زاك عنده ، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير. وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة ، ولموافقة معنى قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧٦] ، ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) وقوله لا تأكلوا («الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) في سورة آل عمران [١٣٠]. وهذا المعنى مروي عن السدّي والحسن. وقد استقام بتوجيهه المعنى من جهة العربية في معنى (فِي) من قوله (فِي أَمْوالِ النَّاسِ).

ويجوز أن يكون لفظ (رِباً) في الآية أطلق على الزيادة في مال لغيره ، أي إعطاء المال لذوي الأموال قصد الزيادة في أموالهم تقربا إليهم ، فيشمل هبة الثواب والهبة للزلفى والملق. ويكون الغرض من الآية التنبيه على أن ما كانوا يفعلونه من ذلك لا يغني عنهم من موافقة مرضاة الله تعالى شيئا وإنما نفعه لأنفسهم. ودرج على هذا المعنى جم غفير من المفسرين فيصير المعنى : وما أعطيتم من زيادة لتزيدوا في أموال الناس ، وتصير كلمة لتربوا توكيدا لفظيّا ليعلق به قوله (فِي أَمْوالِ النَّاسِ).

وقوله (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) إلخ رجوع إلى قوله (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) [الروم : ٣٨] الآية لأن ذلك الحق هو المسمى بالزكاة.

وجملة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) جواب (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) ، أي فمؤتوه المضعفون ، أي أولئك الذين حصل لهم الإضعاف وهو إضعاف الثواب. وضمير الفصل لقصر جنس المضعفين على هؤلاء ، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بإضعاف من عداهم لأن إضعاف من عداهم إضعاف دنيوي زائل. واسم الإشارة في قوله (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) للتنويه بهؤلاء والدلالة على أنهم أحرياء بالفلاح. واسم الإشارة إظهار في مقام الإضمار اقتضاه مقام اجتلاب اسم الإشارة.

وقرأ الجمهور (آتَيْتُمْ) بهمزتين ، أي أعطيتم. وقرأه ابن كثير (آتَيْتُمْ) بهمزة

٦١

واحدة ، أي قصدتم ، أي فعلتم. وقرأ الجمهور (لِيَرْبُوَا) بتحتية مفتوحة وفتحة إعراب على واو (لِيَرْبُوَا). وكتب في المصاحف بألف بعد الواو وليس واو جماعة بالاتفاق ، ورسم المصحف سنة. وقرأ نافع لتربوا بتاء الخطاب مضمومة وواو ساكنة هي واو الجماعة.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

هذا الاستئناف الثاني من الأربعة التي أقيمت عليها دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس وإبطال ما زعموه من الإشراك في الإلهية كما أنبأ عنه قوله (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) ، وإدماجا للاستدلال على وقوع البعث. وقد جاء هذا الاستئناف على طريقة قوله : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس : ٣٤] واطّرد الافتتاح بمثله في الآيات التي أريد بها إثبات البعث كما تقدم عند قوله تعالى : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، وسيأتي في الآيتين بعد هذه.

و (ثُمَ) مستعمل في معنيي التراخي الزمني والرتبي.

و (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) استفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك زيدت (مِنْ) الدالة على تحقيق نفي الجنس كله في قوله (مِنْ شَيْءٍ). والمعنى: ما من شركائكم من يفعل شيئا من ذلكم. ف (مِنْ) الأولى بيانية هي بيان الإبهام الذي في (مَنْ يَفْعَلُ) ، فيكون (مَنْ يَفْعَلُ) مبتدأ وخبره محذوف دل عليه الاستفهام ، تقديره : حصل ، أو وجد ، أو هي تبعيضية صفة لمقدر ، أي هل أحد من شركائكم. و (مِنْ) الثانية في قوله (مِنْ ذلِكُمْ) تبعيضية في موضع الحال (مِنْ شَيْءٍ). و (مِنْ) الثالثة زائدة لاستغراق النفي.

وإضافة (شركاء) إلى ضمير المخاطبين من المشركين لأن المخاطبين هم الذين خلعوا على الأصنام وصف الشركاء لله فكانوا شركاء بزعم المخاطبين وليسوا شركاء في نفس الأمر ، وهذا جار مجرى التهكم ، كقول خالد بن الصعق لعمرو بن معديكرب في مجمع من مجامع العرب بظاهر الكوفة فجعل عمرو يحدثهم عن غاراته فزعم أنه أغار على نهد فخرجوا إليه يقدمهم خالد بن الصعق وأنه قتله ، فقال له خالد بن الصعق : «مهلا أبا ثور قتيلك يسمع» أي القتيل بزعمك. والقرينة قوله «يسمع» كما أن القرينة في هذه الآية هي جملة التنزيه عن الشريك. والإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى الخلق ، والرزق ، والإماتة ،

٦٢

والإحياء ، وهي مصادر الأفعال المذكورة. وأفرد اسم الإشارة بتأويل المذكور.

وجملة (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) مستأنفة لإنشاء تنزيه الله تعالى عن الشريك في الإلهية. وموقعها بعد الجملتين السابقتين موقع النتيجة بعد القياس ، فإن حاصل معنى الجملة الأولى أن الإله الحق وهو مسمى اسم الجلالة هو الذي خلق ورزق ويميت ويحيي ، فهذا في قوة مقدمة هي صغرى قياس ، وحاصل الجملة الثانية أن لا أحد من الأصنام بفاعل ذلك ، وهذه في قوة مقدمة هي كبرى قياس وهو من الشكل الثاني ، وحاصل معنى تنزيه الله عن الشريك أن لا شيء من الأصنام بإله. وهذه نتيجة قياس من الشكل الثاني. ودليل المقدمة الصغرى إقرار الخصم ، ودليل المقدمة الكبرى العقل. وقرأ الجمهور تشركون بفوقية على الخطاب تبعا للخطاب في (آتَيْتُمْ) [الروم : ٣٩]. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١))

موقع هذه الآية ومعناها صالح لعدة وجوه من الموعظة ، وهي من جوامع كلم القرآن. والمقصد منها هو الموعظة بالحوادث ماضيها وحاضرها للإقلاع عن الإشراك وعن تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما موقعها فيجوز أن تكون متصلة بقوله قبلها (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآيات [الروم : ٩] ، فلما طولبوا بالإقرار على ما رأوه من آثار الأمم الخالية ، أو أنكر عليهم عدم النظر في تلك الآثار ، أتبع ذلك بما أدّى إليه طريق الموعظة من قوله (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [الروم : ٢٧] ، ومن ذكر الإنذار بعذاب الآخرة ، والتذكير بدلائل الوحدانية ونعم الله تعالى ، وتفريع استحقاقه تعالى الشكر لذاته ولأجل إنعامه استحقاقا مستقرا إدراكه في الفطرة البشرية ، وما تخلل ذلك من الإرشاد والموعظة ، عاد الكلام إلى التذكير بأن ما حلّ بالأمم الماضية من المصائب ما كان إلا بما كسبت أيديهم ، أي بأعمالهم ، فيوشك أن يحلّ مثل ما حلّ بهم بالمخاطبين الذين كسبت أيديهم مثل ما كسبت أيدي أولئك.

فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع النتيجة من مجموع الاستدلال أو موقع الاستئناف البياني بتقدير سؤال عن سبب ما حلّ بأولئك الأمم. ويجوز أن تقع هذه الآية موقع التكملة لقوله (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ) [الروم : ٣٣] الآية ، فهي خبر مستعمل

٦٣

في التنديم على ما حلّ بالمكذبين المخاطبين من ضرّ ليعلموا أن ذلك عقاب من الله تعالى فيقلعوا عنه خشية أن يحيط بهم ما هو أشد منه ، كما يؤذن به قوله عقب ذلك (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). فالإتيان بلفظ الناس في قوله (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) إظهار في مقام الإضمار لزيادة إيضاح المقصود ، ومقتضى الظاهر أن يقال «بما كسبت أيديهم». فالآية تشير إلى مصائب نزلت ببلاد المشركين وعطلت منافعها ، ولعلها مما نشأ عن الحرب بين الروم وفارس ، وكان العرب منقسمين بين أنصار هؤلاء وأنصار أولئك ، فكان من جراء ذلك أن انقطعت سبل الأسفار في البر والبحر فتعطلت التجارة وقلّت الأقوات بمكة والحجاز كما يقتضيه سوق هذه الموعظة في هذه السورة المفتتحة ب (غُلِبَتِ الرُّومُ) [الروم : ٢].

فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع الاستئناف البياني لسبب مسّ الضر إياهم حتى لجئوا إلى الضراعة إلى الله ، وما بينها وبين جملة (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) [الروم : ٣٣] إلى آخره اعتراض واستطراد تخلل في الاعتراض. ويجوز أن يكون موقعها موقع الاعتراض بين ذكر ابتهال الناس إلى الله إذا أحاط بهم ضر ثم إعراضهم عن عبادته إذا أذاقهم منه رحمة وبين ذكر ما حلّ بالأمم الماضية اعتراضا ينبئ أن الفساد الذي يظهر في العالم ما هو إلا من جراء اكتساب الناس وأن لو استقاموا لكان حالهم على صلاح.

و (الْفَسادُ) : سوء الحال ، وهو ضد الصلاح ، ودل قوله : (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) على أنه سوء الأحوال في ما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها. ثم التعريف في (الْفَسادُ) : إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين ، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برّها وبحرها أنه فساد في أحوال البر والبحر ، لا في أعمال الناس بدليل قوله (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضارّه ، مثل حبس الأقوات من الزرع والثمار والكلأ ، وفي موتان الحيوان المنتفع به ، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى ، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض.

وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلّة الحيتان واللؤلؤ والمرجان فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر ، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس. وقيل : أريد بالبر البوادي وأهل الغمور وبالبحر المدن والقرى ، وهو عن مجاهد وعكرمة وقال : إن العرب تسمي الأمصار

٦٤

بحرا. قيل : ومنه قول سعد بن عبادة في شأن عبد الله بن أبيّ ابن سلول : «ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوّجوه». يعني بالبحرة : مدينة يثرب وفيه بعد. وكأنّ الذي دعا إلى سلوك هذا الوجه في إطلاق البحر أنه لم يعرف أنه حدث اختلال في سير الناس في البحر وقلة فيما يخرج منه. وقد ذكر أهل السير أنّ قريشا أصيبوا بقحط وأكلوا الميتة والعظام ، ولم يذكروا أنهم تعطلت أسفارهم في البحر ولا انقطعت عنهم حيتان البحر ، على أنهم ما كانوا يعرفون بالاقتيات من الحيتان.

وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون الباء في قوله (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) للعوض ، أي جزاء لهم بأعمالهم ، كالباء في قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ، ويكون اللام في قوله (لِيُذِيقَهُمْ) على حقيقة معنى التعليل.

ويجوز أن يكون المراد بالفساد : الشرك قاله قتادة والسدّي فتكون هذه الآية متصلة بقوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) إلى قوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الروم : ٤٠] ، فتكون الجملة إتماما للاستدلال على وحدانية الله تعالى تنبيها على أن الله خلق العالم سالما من الإشراك وأن الإشراك ظهر بما كسبت أيدي الناس من صنيعهم. وهذا معنى قوله في الحديث القدسي في «صحيح مسلم» : «إني خلقت عبادي حنفاء كلّهم ، وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي» الحديث.

فذكر البر والبحر لتعميم الجهات بمعنى : ظهر الفساد في جميع الأقطار الواقعة في البر والواقعة في الجزائر والشطوط ، ويكون الباء في قوله (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) للسببية ، ويكون اللام في قوله (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) لام العاقبة ، والمعنى : فأذقناهم بعض الذي عملوا ، فجعلت لام العاقبة في موضع الفاء كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ، أي فأذقنا الذين أشركوا بعض ما استحقوه من العذاب لشركهم. ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام محكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالا سيئة مفسدة ، فكانت وشائج لأمثالها :

وهل ينبت الخطي إلا وشيجة

فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٤ ـ ٦] ،

٦٥

وعلى هذا الوجه يكون محمل الباء ومحمل اللام مثل محملهما على الوجه الرابع. وأطلق الظهور على حدوث حادث لم يكن ، فشبه ذلك الحدوث بعد العدم بظهور الشيء الذي كان مختفيا.

ومحمل صيغة فعل (ظَهَرَ) على حقيقتها من المضي يقتضي أن الفساد حصل وأنه ليس بمستقبل ، فيكون إشارة إلى فساد مشاهد أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة. وقد تحمل صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به فكأنه قد وقع على طريقة (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١]. وأيّا ما كان الفساد من معهود أو شامل ، فالمقصود أن حلوله بالناس بقدرة الله كما دل عليه قوله (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) ، وأن الله يقدر أسبابه تقديرا خاصا ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم. وهو المراد بما كسبت أيديهم لأن إسناد الكسب إلى الأيدي جرى مجرى المثل في فعل الشر والسوء من الأعمال كلها ، دون خصوص ما يعمل منها بالأيدي لأن ما يكسبه الناس يكون بالجوارح الظاهرة كلها ، وبالحواس الباطنة من العقائد الضالة والأدواء النفسية.

و (بِما) موصولة ، وحذف العائد من الصلة ، وتقديره : بما كسبته أيدي الناس ، أي بسبب أعمالهم. وأعظم ما كسبته أيدي الناس من الأعمال السيئة الإشراك وهو المقصود هنا وإن كان الحكم عاما. ويعلم أن مراتب ظهور الفساد حاصلة على مقادير ما كسبت أيدي الناس ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسئل : أي الذنب أعظم؟ «أن تدعو لله ندّا وهو خلقك» ،وقال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] وقال : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [الجن : ١٦].

ويجري حكم تعريف (النَّاسِ) على نحو ما يجري في تعريف (الْفَسادُ) من عهد أو عموم ، فالمعهود هم المشركون وقد شاع في القرآن تغليب اسم (النَّاسِ) عليهم.

والإذاقة : استعارة مكنية ؛ شبه ما يصيبهم من الآلام فيحسون بها بإصابة الطعام حاسة المطعم. ولما كان ما عملوه لا يصيبهم بعينه تعين أن بعض الذي عملوا أطلق على جزاء العمل ولذلك فالبعضية تبعيض للجزاء ، فالمراد بعض الجزاء على جميع العمل لا الجزاء على بعض العمل ، أي أن ما يذيقهم من العذاب هو بعض ما يستحقونه. وفي هذا تهديد إن لم يقلعوا عن مساوئ أعمالهم كقوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥] ، ثم وراء ذلك عذاب الآخرة كما قال تعالى : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) [طه : ١٢٧].

٦٦

والعدول عن أن يقال : بعض أعمالهم إلى (بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) للإيماء إلى ما في الموصول من قوة التعريف ، أي أعمالهم المعروفة عندهم المتقرر صدورها منهم.

والرجاء المستفاد من (لعلّ) يشير إلى أن ما ظهر من فساد كاف لإقلاعهم عما هم اكتسبوه ، وأن حالهم حال من يرجى رجوعه فإن هم لم يرجعوا فقد تبين تمردهم وعدم إجداء الموعظة فيهم ، وهذا كقوله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة : ١٢٦].

والرجوع مستعار للإقلاع عن المعاصي كأنّ الذي عصى ربه عبد أبق عن سيّده ، أو دابة قد أبدت ، ثم رجع. وفي الحديث «الله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال : أرجع إلى مكاني ، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا دابته عنده».

وقرأ الجمهور (لِيُذِيقَهُمْ) بالياء التحتية ، أي ليذيقهم الله. ومعاد الضمير قوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [الروم : ٤٠]. وقرأه قنبل عن ابن كثير وروح عن عاصم بنون العظمة.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢))

لما وعظهم بما أصابهم من فساد الأحوال ونبههم إلى أنها بعض الجزاء على ما كسبت أيديهم عرّض لهم بالإنذار بفساد أعظم قد يحلّ بهم مثله وهو ما أصاب الذين من قبلهم بسبب ما كانوا عليه من نظير حال هؤلاء في الإشراك فأمرهم بالسير في الأرض والنظر في مصير الأمم التي أشركت وكذبت مثل عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم لأن كثيرا من المشركين قد اجتازوا في أسفارهم بديار تلك الأمم كما قال تعالى (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ـ ١٣٨]. فهذا تكرير وتأكيد لقوله السابق (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الروم : ٩] ، وإنما أعيد اهتماما بهذه العبرة مع مناسبة قوله (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) [الروم : ٤١].

والعاقبة : نهاية الأمر. والمراد بالعاقبة الجنس ، وهو متعدد الأفراد بتعدد الذين من قبل ، ولكل قوم عاقبة.

٦٧

وجملة (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) واقعة موقع التعليل لجملة (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) ، أي سبب تلك العاقبة المنظورة هو إشراك الأكثرين منهم ، أي أن أكثر تلك الأمم التي شوهدت عاقبتها الفظيعة كان من أهل الشرك فتعلمون أن سبب حلول تلك العاقبة بهم هو شركهم ، وبعض تلك الأمم لم يكونوا مشركين وإنما أصابهم لتكذيبهم رسلهم مثل أهل مدين قال تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) [القمر : ٤٣].

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣))

تفرع على الإنذار والتحذير من عواقب الشرك تثبيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شريعته ، ووعد بأن يأتيه النصر كقوله (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩] ، مع التعريض بالإرشاد إلى الخلاص من الشرك باتباع الدّين القيّم ، أي الحق. وهذا تأكيد للأمر بإقامة الوجه للدين في قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [الروم : ٣٠] ، فإن ذلك لما فرع على قوله (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الروم : ٩] ، وما اتصل من تسلسل الحجج والمواعظ فرع أيضا نظيره هذا على قوله (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) [الروم : ٤٢] وقد تقدم الكلام على نظير قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) وعلى معنى إقامة الوجه عند قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [الروم : ٣٠].

و (الْقَيِّمِ) بوزن فيعل ، وهي زنة تدل على قوة ما تصاغ منه ، أي : الشديد القيام ، والقيام هنا مجاز في الإصابة لأن الصواب يشبّه بالقيام ، وضده يشبه بالعوج ، وقد جمعهما قوله تعالى (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً) [الكهف : ١ ، ٢] فوصف الإسلام في الآية السابقة بالحنيف والفطرة ووصف هنا بالقيّم. وبين أقم و (الْقَيِّمِ) محسن الجناس.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الأمر إعراض عن صريح خطاب المشركين. والمقصود التعريض بأنهم حرموا أنفسهم من اتباع هذا الدين العظيم الذي فيه النجاة. يؤخذ هذا التعريض من أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالدوام على الإسلام ومن قوله عقب ذلك (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) الآية.

والمردّ : مصدر ميمي من الردّ وهو الدفع ، و (لَهُ) يتعلق به ، و (مِنَ اللهِ) متعلق ب (يَأْتِيَ) و (مِنْ) ابتدائية. والمراد (باليوم) يوم عذاب في الدنيا وأنه إذا جاء لا يردّه عن المجازين به رادّ لأنه آت من الله. والظاهر أن المراد به يوم بدر.

٦٨

و (يَصَّدَّعُونَ) أصله يتصدّعون فقلبت التاء صادا لتقارب مخرجيهما لتأتي التخفيف بالإدغام. والتصدع : مطاوع الصدع ، وحقيقة الصدع : الكسر والشق ، ومنه تصدع القدح.

والمراد باليوم : يوم الحشر. والتصدع : التفرق والتمايز. ويكون ضمير الجمع عائدا إلى جميع الناس ، أي يومئذ يفترق المؤمنون من الكافرين على نحو قوله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) [الروم : ١٤ ـ ٦].

[٤٤ ـ ٤٥] (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

هذه الجملة تتنزل منزلة البيان لإجمال الجملة التي قبلها وهي (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) [الروم : ٤٣] ، إذ التثبيت على الدين بعد ذكر ما أصاب المشركين من الفساد بسبب شركهم يتضمن تحقير شأنهم عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، فبين ذلك بأنهم لا يضرون بكفرهم إلا أنفسهم ، والذي يكشف هذا المعنى تقديم المسند في قوله (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) فإنه يفيد تخصيصه بالمسند إليه ، أي فكفره عليه لا عليك ولا على المؤمنين ، ولهذا ابتدئ بذكر حال من كفر ثم ذكر بعده (مَنْ عَمِلَ صالِحاً). واقتضى حرف الاستعلاء أن في الكفر تبعة وشدة وضرّا على الكافر ، لأن (على) تقتضي ذلك في مثل هذا المقام ، كما اقتضى اللام في قوله (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أن لمجرورها نفعا وغنما ، ومنه قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦]. وقال توبة بن الحمير :

وقد زعمت ليلى بأني فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها

وأفرد ضمير (كُفْرُهُ) رعيا للفظ (مَنْ). وهذا التركيب من جوامع الكلم لدلالته على ما لا يحصى من المضارّ في الكفر على الكافر وأنه لا يضر غيره ، مع تمام الإيجاز ، وهو وعيد لأنه في معنى : من كفر فجزاؤه عقاب الله ، فاكتفي عن التصريح بذلك اكتفاء بدلالة (على) من قوله (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) وبمقابلة حالهم بحال من عمل صالحا بقوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ).

وأما قوله (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) فهو بيان أيضا لما في جملة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) [الروم : ٤٣] من الأمر بملازمة التحلّي بالإسلام وما في ذلك من الخير العاجل والآجل مع ما تقتضيه عادة القرآن من تعقيب النذارة بالبشارة والترهيب

٦٩

بالترغيب فهو كالتكملة للبيان. وإنما قوبل (مَنْ كَفَرَ) ب (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) ولم يقابل ب (من آمن) للتنويه بشأن المؤمنين بأنهم أهل الأعمال الصالحة دون الكافرين. فاستغني بذكر العمل الصالح عن ذكر الإيمان لأنه يتضمنه ، ولتحريض المؤمنين على الأعمال الصالحة لئلا يتّكلوا على الإيمان وحده فتفوتهم النجاة التامة. وهذا اصطلاح القرآن في الغالب أن يقرن الإيمان بالعمل الصالح كما في قوله تعالى قبل هذه الآية : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) [الروم : ١٤ ـ ١٦] حتى توهمت المعتزلة والخوارج أن العمل الصالح شرط في قبول الإيمان.

وتقديم (فَلِأَنْفُسِهِمْ) على (يَمْهَدُونَ) للاهتمام بهذا الاستحقاق وللرعاية على الفاصلة وليس للاختصاص.

و (يَمْهَدُونَ) يجعلون مهادا ، والمهاد : الفراش. مثلت حالة المؤمنين في عملهم الصالح بحال من يتطلب راحة رقاده فيوطئ فراشه ويسويه لئلا يتعرض له في مضجعه من النتوء أو اليبس ما يستفز منامه.

وتقديم (فَلِأَنْفُسِهِمْ) على (يَمْهَدُونَ) للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بذكر أنفس المؤمنين لأن قرينة عدم الاختصاص واضحة. وروعي في جمع ضمير (يَمْهَدُونَ) معنى (مَنْ) دون لفظها مع ما تقتضيه الفاصلة من ترجيح تلك المراعاة.

ويتعلق (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) ب (يَمْهَدُونَ) أي يمهدون لعلة أن يجزي الله إياهم من فضله. وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) للاهتمام بالتصريح بأنهم أصحاب صلة الإيمان والعمل الصالح وأن جزاء الله إياهم مناسب لذلك لتقرير ذلك في الأذهان ، مع التنويه بوصفهم ذلك بتكريره وتقريره كما أنبأ عن ذلك قوله عقبه (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

وقد فهم من قوله (مِنْ فَضْلِهِ) أن الله يجازيهم أضعافا لرضاه عنهم ومحبته إياهم كما اقتضاه تعليل ذلك بجملة (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) المقتضي أنه يحب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فحصل بقوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس فإن قوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) دل بصريحه على أنهم أهل الجزاء بالفضل ، ودل بمفهومه على أنهم أهل الولاية.

٧٠

وقوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) يدل بتعليله لما قبله على أن الكافرين محرومون من الفضل ، وبمفهومه على أن الجزاء موفور للمؤمنين فضلا وأن العقاب معيّن للكافرين عدلا.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦))

عود إلى تعداد الآيات الدالة على تفرده بالإلهية فهو عطف على جملة (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم : ٢٥] وما تخلل بينهما من أفانين الاستدلال على الوحدانية والبعث ومن طرائق الموعظة كان لتطرية نشاط السامعين لهذه الدلائل الموضّحة المبينة. والإرسال مستعار لتقدير الوصول ، أي يقدر تكوين الرياح ونظامها الذي يوجهها إلى بلد محتاج إلى المطر.

والمبشرات : المؤذنة بالخير وهو المطر. وأصل البشارة : الخبر السارّ. شبهت الرياح برسل موجهة بأخبار المسرّة. وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في سورة البقرة [٢٥] ، وقوله (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) في سورة النحل [٥٨] ، وذلك أن الرياح تسوق سحاب المطر إلى حيث يمطر. وتقدم الكلام على الرياح في آيات كثيرة منها قوله تعالى (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) في سورة البقرة [١٦٤] وعلى كونها لواقح في سورة الحجر [٢٢].

وقوله (وَلِيُذِيقَكُمْ) عطف على (مُبَشِّراتٍ) لأن (مُبَشِّراتٍ) في معنى التعليل للإرسال. وتقدم الكلام على الإذاقة آنفا.

و (مِنْ رَحْمَتِهِ) صفة لموصوف محذوف دل عليه فعل (لِيُذِيقَكُمْ) أي : مذوقا. و (مِنْ) ابتدائية ، ورحمة الله : هي المطر.

وجريان الفلك بالرياح من حكمة خلق الرياح ومن نعمه ، وتقدم في آية سورة البقرة [١٦٤].

والتقييد بقوله (بِأَمْرِهِ) تعليم للمؤمنين وتحقيق للمنة ، أي : لو لا تقدير الله ذلك وجعله أسباب حصوله لما جرت الفلك ، وتحت هذا معان كثيرة يجمعها إلهام الله البشر لصنع الفلك وتهذيب أسباب سيرها. وخلق نظام الريح والبحر لتسخير سيرها كما دل على

٧١

ذلك قوله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، وقد تقدم ذلك في سورة الحج [٣٦] ، وتقدم هنالك معنى (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

هذه جملة معترضة مستطردة أثارها ذكر سير الفلك في عداد النعم فعقب ذلك بما كان سير الفلك فيه تذكير بنقمة الطوفان لقوم نوح ، وبجعل الله الفلك لنجاة نوح وصالحي قومه من نقمة الطوفان ، فأريد تحذير المكذبين من قريش أن يصيبهم ما أصاب المكذبين قبلهم ، وكان في تلك النقمة نصر المؤمنين ، أي نصر الرسل وأتباعهم ؛ ألا ترى إلى حكاية قول نوح : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) في سورة المؤمنين [٢٦] ، وقوله تعالى هنا : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) والواو اعتراضية وليست للعطف.

والانتقام : افتعال من النّقم وهو الكراهية والغضب ، وفعله كضرب وعلم قال تعالى (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) [الأعراف : ١٢٦]. وفي المثل : مثله كمثل الأرقم إن يقتل ينقم ـ بفتح القاف ـ وإن يترك يلقم. والانتقام : العقوبة لمن يفعل ما لا يرضي كأنه صيغ منه الافتعال للدلالة على حصول أثر النقم ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) وقوله (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) في سورة الأعراف [١٣٦].

وكلمة (حَقًّا عَلَيْنا) من صيغ الالتزام ، قال تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) [الأعراف : ١٠٥] ، وهو محقوق بكذا ، أي : لازم له ، قال الأعشى :

لمحقوقة أن تستجيبي لصوته

فإن وعد الصادق حق. قال تعالى : (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤]. وقد اختصر طريق الإفصاح عن هذا الغرض أعني غرض الوعد بالنصر والوعيد له فأدرج تحت ذكر النصر معنى الانتصار ، وأدرج ذكر الفريقين : فريق المصدقين الموعود ، وفريق المكذبين المتوعّد ، وقد أخلي الكلام أولا عن ذكرهما.

وعن أبي بكر شعبة راوي عاصم أنه كان يقف على قوله (حَقًّا) فيكون في (كانَ) ضمير يعود على الانتقام ، أي وكان الانتقام من المجرمين حقا ، أي : عدلا ، ثم يستأنف بقوله (عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وكأنه أراد التخلص من إيهام أن يكون للعباد حق على الله

٧٢

إيجابا فرارا من مذهب الاعتزال وهو غير لازم كما علمت. قال ابن عطية : وهو وقف ضعيف ، وكذلك قال الكواشي عن أبي حاتم.

[٤٨ ـ ٤٩] (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩))

جاءت هذه الجملة على أسلوب أمثالها كما تقدم في قوله (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [الروم : ٢٧] ، وجاءت المناسبة هنا لذكر الاستدلال بإرسال الرياح في قوله (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) [الروم : ٤٦] استدلالا على التفرّد بالتصرف وتصوير الصنع الحكيم الدال على سعة العلم ، ثم أعقب بالاستدلال بإرسال الرياح توسلا إلى ذكر إحياء الأرض بعد موتها المستدلّ به على البعث ، فقد أفادت صيغة الحصر بقوله (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) أنه هو المتصرف في هذا الشأن العجيب دون غيره ، وكفى بهذا إبطالا لإلهية الأصنام ، لأنها لا تستطيع مثل هذا الصنع الذي هو أقرب التصرفات في شئون نفع البشر. والتعبير بصيغة المضارع في : (يُرْسِلُ) ، و (فَتُثِيرُ) ، و (فَيَبْسُطُهُ) ، و (يَجْعَلُهُ) لاستحضار الصور العجيبة في تلك التصرفات حتى كأنّ السامع يشاهد تكوينها مع الدلالة على تجدد ذلك.

وجمع (الرِّياحَ) لما شاع في استعمالهم من إطلاقها بصيغة الجمع على ريح البشارة بالمطر لأن الرياح التي تثير السحاب هي الرياح المختلفة جهات هبوبها بين : جنوب وشمال وصبا ودبور ، بخلاف اسم الريح المفردة فإنه غلب في الاستعمال إطلاقه على ريح القوة والشدة لأنها تتصل واردة من صوب واحد فلا تزال تشتد. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا هبت الريح قال : «اللهم اجعلها رياحا لا ريحا» (١). وقد تقدم قوله تعالى (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) في سورة البقرة [١٦٤].

والإثارة : تحريك القارّ تحريكا يضطرب به عن موضعه. وإثارة السحاب إنشاؤه بما تحدثه الرياح في الأجواء من رطوبة تحصل من تفاعل الحرارة والبرودة.

والبسط : النشر. والسماء : الجو الأعلى وهو جو الأسحبة.

__________________

(١) عن البيهقي بسند ضعيف.

٧٣

و (كَيْفَ) هنا مجردة عن معنى الاستفهام ، وموقعها المفعولية المطلقة من (فَيَبْسُطُهُ) لأنها نائبة عن المصدر ، أي : يبسطه بسطا كيفيته يشاؤها الله ، وقد تقدم في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) في سورة آل عمران [٦]. وتقدم أن من زعم أنها شرط لم يصادف الصواب.

و (كِسَفاً) بكسر ففتح في قراءة الجمهور جمع كسف بكسر فسكون ، ويقال : كسفة بهاء تأنيث وهو القطعة. وقد تقدم في قوله تعالى (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) في سورة الإسراء [٩٢]. وتقدم الكسف في قوله (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في سورة الشعراء [١٨٧]. والمعنى : أنه يبسط السحاب في السماء تارة ، أي يجعله ممتدا عاما في جو السماء وهو المدجن الذي يظلم به الجو ويقال المغلق ، ويجعله كسفا أي تارة أخرى كما دلت عليه المقابلة ، أي : يجعله غمامات لأن حالة جعله كسفا غير حالة بسطه في السماء ، فتعين أن يكون الجمع بينهما في الذكر مرادا منه اختلاف أحوال السحاب. والمقصود من هذا : أن اختلاف الحال آية على سعة القدرة.

والخطاب في (فَتَرَى الْوَدْقَ) خطاب لغير معيّن وهو كل من يتأتى منه سماع هذا وتتأتى منه رؤية الودق. والودق : المطر. وضمير (خِلالِهِ) للسحاب بحالتيه المذكورتين وهما حالة بسطه في السماء وحالة جعله كسفا فإن المطر ينزل من خلال السحاب المغلق والغمامات. والخلال : جمع خلل بفتحتين وهو الفرجة بين شيئين. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة النور [٤٣].

وذكر اختلاف أحوال العباد في وقت نزول المطر وفي وقت انحباسه بين استبشار وإبلاس إدماج للتذكير برحمة الله إياهم وللاعتبار باختلاف تأثرات نفوسهم في السراء والضراء ، وفي ذلك إيماء إلى عظيم تصرف الله في خلقة الإنسان إذ جعله قابلا لاختلاف الانفعال مع اتحاد العقل والقلب كما جعل السحاب مختلف الانفعال من بسط وتقطع مع اتحاد الفعل وهو خروج الودق من خلاله.

و (إِنْ) في قوله (وَإِنْ كانُوا) مخفّفة مهملة عن العمل ، واللام في قوله (لَمُبْلِسِينَ) اللام الفارقة بين إن المخففة وإن الشرطية.

والإبلاس : يأس مع انكسار. وقوله (مِنْ قَبْلِهِ) تكرير لقوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) [الروم : ٤٩] لتوكيد معنى قبلية نزول المطر وتقريره في نفوس السامعين. قال ابن

٧٤

عطية : أفاد التأكيد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار ا ه. يعني أن إعادة قوله (مِنْ قَبْلِهِ) زيادة تنبيه على الحالة التي كانت من قبل نزول المطر. وقال في «الكشاف» : «فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم» ا ه. يعني أن فائدة إعادة (مِنْ قَبْلِهِ) أن مدة ما قبل نزول المطر مدة طويلة فأشير إلى قوتها بالتوكيد.

وضمير (قَبْلِهِ) عائد إلى المصدر المأخوذ من (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أي تنزيله.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠))

رتب على ما تقرر من استحضار صورة تكوين أسباب المطر واستبشار الناس بنزوله بعد الإبلاس ، أن اعترض بذكر الأمر بالنظر إلى أثر الرحمة وإغاثة الله عباده حين يحيي لهم الأرض بعد موتها بالجفاف. والأمر بالنظر للاعتبار والاستدلال. والنظر : رؤية العين. وعبر عن الجفاف بالموت لأن قوام الحياة الرطوبة ، وعبر عن ضده بالإحياء. والخطاب بانظر لغير معين ليعم كل من يتأتى منه النظر مثل قوله (فَتَرَى الْوَدْقَ) [الروم : ٤٨].

و (رَحْمَةِ اللهِ) : هي صفته التي تتعلق بإمداد مخلوقاته ذوات الإدراك بما يلائمها ويدفع عنها ما يؤلمها وذلك هو الإنعام.

وأثر الشيء : ما ينشأ عنه مما يدل عليه. فرحمة الله دلت عليها الآثار الدالة على وجوده وتصرفه بما فيه رحمة للخلق. و (كَيْفَ) بدل من آثار أو مفعول لانظر أي : انظر هيئة إحياء الله الأرض بعد موتها ، تلك الحالة التي هي أثر من آثار رحمته الناس على حدّ قوله (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] إذ جعلوا (كَيْفَ) بدلا من الإبل بدل اشتمال وإن أباه ابن هشام في «مغني اللبيب». وقد مضى عند قوله (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) في سورة الفرقان [٤٥] ، وتقدم آنفا في قوله (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) [الروم : ٤٨].

وأطلق على إنبات الأرض إحياء وعلى قحولتها الموت على سبيل الاستعارة.

وجملة (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) استئناف وهو إدماج ؛ أدمج دليل البعث عقب

٧٥

الاعتبار بإحياء الأرض بعد موتها. وحرف التوكيد يفيد مع تقرير الخبر زيادة معنى فاء التسبب كقول بشار :

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير

إذ التقدير : فالنجاح في التبكير ، كما تقرر غير مرة. واسم الإشارة عائد إلى اسم الله تعالى بما أجري عليه من الإخبار بإحياء الأرض بعد موتها ليفيد اسم الإشارة معنى أنه جدير بما يرد بعده من الخبر عن المشار إليه. فالمعنى : أن الله الذي يحيي الأرض بعد موتها لمحيي الموتى ، تقريبا لتصور البعث. وعدل عن الموصول إلى الإشارة للإيجاز ، ولما في الإشارة من التعظيم. وذيل ذلك بقوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإنه يعم جميع الأشياء والبعث من جملتها إذ ليس هو إلا إيجاد خلق وهو مقدور لله تعالى كما أنشأ الخلق أول مرة. والشبه تام ، لأن إحياء الأرض إيجاد أمثال ما كان عليها من النبات فكذلك إحياء الموتى إيجاد أمثالهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم إلى أثر بالإفراد. وقرأه الباقون (إِلى آثارِ) بصيغة الجمع.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١))

عطف على جملة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) [الروم : ٤٩] وما بينهما اعتراض واستطراد لغرض قد علمته آنفا. وهذه الجملة سيقت للتنبيه على أن الكفران مطبوع في نفوسهم بحيث يعاودهم بأدنى سبب فهم إذا أصابتهم النعمة استبشروا ولم يشكروا وإذا أصابتهم البأساء أسرعوا إلى الكفران فصوّر لكفرهم أعجب صورة وهي إظهارهم إياه بحدثان ما كانوا مستبشرين منه إذ يكون الزرع أخضر والأمل في الارتزاق منه قريبا فيصيبه إعصار فيحترق فيضجّون من ذلك وتكون حالهم حالة من يكفر بالله وتجري على أقوالهم عبارات السخط والقنوط ، كما قال بعض رجّاز الأعراب إذ أصاب قومه قحط:

ربّ العباد ما لنا وما لك

قد كنت تسقينا فما بدا لك

أنزل علينا الغيث لا أبا لك فالضمير المنصوب في (فَرَأَوْهُ) عائد إلى أثر رحمة الله [الروم : ٥٠] وهو الزرع والكلأ والشجر. والاصفرار في الزرع ونحوه مؤذن بيبسه ، وسموا صفارا بضم الصاد وتخفيف الفاء : داء يصيب الزرع.

٧٦

والمصفر : اسم فاعل مقتض الوصف بمعناه في الحال ، أي فرأوه يصير أصفر ، فالتعبير ب (مُصْفَرًّا) لتصوير حدثان الاصفرار عليه دون أن يقال : فرأوه أصفر.

وظل : بمعنى صار ، والإتيان بفعل التصيير مع الإخبار عنه بالمضارع لتصوير مبادرتهم إلى الكفر ثم استمرارهم عليه. والحاصل أن المعنى أنه يغلب الكفر على أحوالهم. واعلم أن الإتيان بالأفعال الثلاثة ماضية لأن وقوعها في سياق الشرط يمحضها للاستقبال ، فأوثرت صيغة المضي لأنها أخف والمتكلم مخيّر في اجتلاب أيّ الصيغتين مع الشرط ، مثل قوله (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] بصيغة المضارع لأن المقام للنفي ب (لا) وهي لا تدخل على الماضي المسند إلى مفرد إلا في الدعاء.

[٥٢ ـ ٥٣] (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

الفاء للترتيب على قوله (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) [الروم : ٥١] المفيد أن الكفر غالب أحوالهم لأنهم بين كفر بالله وبين إعراض عن شكره ، أو الفاء فصيحة تدل على كلام مقدر ، أي إن كبر عليك إعراضهم وساءك استرسالهم على الكفر فإنهم كالموتى وإنك لا تسمع الموتى. وهذا معذرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونداء على أنه بذل الجهد في التبليغ. وفيما عدا الفاء فالآية نظير التي في آخر سورة النمل ونزيد هنا فنقول : إن تعداد التشابيه منظور فيه إلى اختلاف أحوال طوائف المشركين فكان لكل فريق تشبيه : فمنهم من غلب عليهم التوغل في الشرك فلا يصدقون بما يخالفه ولا يتأثرون بالقرآن والدعوة إلى الحق ؛ فهؤلاء بمنزلة الأموات أشباح بلا إدراك ، وهؤلاء هم دهماؤهم وأغلبهم ولذلك ابتدئ بهم. ومنهم من يعرض عن استماع القرآن وهم الذين يقولون : (فِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] ويقولون : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] وهؤلاء هم ساداتهم ومدبّرو أمرهم يخافون إن أصغوا إلى القرآن أن يملك مشاعرهم فلذلك يتباعدون عن سماعه ، ولهذا قيّد الذي شبهوا به بوقت توليهم مدبرين إعراضا عن الدعوة ، فهو تشبيه تمثيل. ومنهم من سلكوا مسلك ساداتهم واقتفوا خطاهم فانحرفت أفهامهم عن الصواب فهم يسمعون القرآن ولا يستطيعون العمل به ، وهؤلاء هم الذين اعتادوا متابعة أهوائهم وهم الذين قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] ويحصل من جميع ذلك تشبيه جماعتهم بجماعة تجمع أمواتا وصما وعميا فليس هذا من تعدد

٧٧

التشبه لمشبه واحد كالذي في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩].

وقرأ الجمهور : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَ) بتاء فوقية مضمومة وكسر ميم (تُسْمِعُ) ونصب (الصُّمَ) ، على أنه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأه ابن كثير ولا يسمع الصم بتحتية مفتوحة وبفتح ميم يسمع ورفع الصم على الفاعلية ليسمع. وقرأ الجمهور بهادي بموحدة وبألف بعد الهاء وبإضافة هادي إلى (الْعُمْيِ) ، وقرأه حمزة وحده تهدي بمثناة فوقية وبدون ألف بعد الهاء على الخطاب وبنصب العمي على المفعولية.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤))

هذا رابع استئناف من الأربعة المتقدمة رجوع إلى الاستدلال على عظيم القدرة في مختلف المصنوعات من العوالم لتقرير إمكانية البعث وتقريب حصوله إلى عقول منكريه لأن تعدد صور إيجاد المخلوقات وكيفياته من ابتدائها عن عدم أو من إعادتها بعد انعدامها وبتطور وبدونه مما يزيد إمكان البعث وضوحا عند منكريه ، فموقع هذه الآية كموقع قوله : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] ونظائرها كما تقدم ؛ ولذلك جاءت فاتحتها على أسلوب فواتح نظائرها وهذا ما يؤذن به تعقيبها بقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) [الروم : ٥٥] الآية.

ثم قوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) مبتدأ وصفة ، وقوله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) هو الخبر ، أي يخلق ما يشاء مما أخبر به وأنتم تنكرون. والضعف بضم الضاد في الآية وهو أفصح وهو لغة قريش. ويجوز في ضاده الفتح وهو لغة تميم. وروى أبو داود والترمذي عن عبد الله ابن عمر قال : قرأتها على رسول الله (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) ـ يعني بفتح الضاد ـ فأقرأني : من ضعف يعني بضم الضاد ـ. وقرأ الجمهور ألفاظ (ضَعْفٍ) الثلاثة ـ بضم الضاد ـ في الثلاثة. وقرأها عاصم وحمزة بفتح الضاد ، فلهما سند لا محالة يعارض حديث ابن عمر. والجمع بين هذه القراءة وبين حديث ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نطق بلغة الضم لأنها لغة قومه ، وأن الفتح رخصة لمن يقرأ بلغة قبيلة أخرى ، ومن لم يكن له لغة تخصه فهو مخيّر بين القراءتين. والضعف : الوهن واللين.

و (مِنْ) ابتدائية ، أي : مبتدأ خلقه من ضعف ، أي : من حالة ضعف ، وهي حالة كونه جنينا ثم صبيا إلى أن يبلغ أشده ، وهذا كقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧]

٧٨

يدل على تمكن الوصف من الموصوف حتى كأنه منتزع منه ، قال تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨].

والمعنى : أنه كما أنشأكم أطوارا تبتدئ من الوهن وتنتهي إليه فكذلك ينشئكم بعد الموت إذ ليس ذلك بأعجب من الإنشاء الأول وما لحقه من الأطوار ، ولهذا أخبر عنه بقوله: (يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

وذكر وصف العلم والقدرة لأن التطور هو مقتضى الحكمة وهي من شئون العلم ، وإبرازه على أحكم وجه هو من أثر القدرة. وتنكير (ضَعْفٍ) و (قُوَّةً) للنوعية ؛ ف (ضَعْفٍ) المذكور ثانيا هو عين (ضَعْفٍ) المذكور أولا ، و (قُوَّةً) المذكورة ثانيا عين (قُوَّةً) المذكورة أولا. وقولهم : النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، يريدون به التنكير المقصود منه الفرد الشائع لا التنكير المراد به النوعية. وعطف (وَشَيْبَةً) للإيماء إلى أن هذا الضعف لا قوة بعده وأن بعده العدم بما شاع من أن الشيب نذير الموت.

والشيبة : اسم مصدر الشيب. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) في سورة مريم [٤].

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥))

لما ذكر عدم انتفاع المشركين بآيات القرآن وشبهوا بالأموات والصم والعمي فظهرت فظاعة حالهم في العاجلة أتبع ذلك بوصف حالهم حين تقوم الساعة في استصحاب مكابرتهم التي عاشوا عليها في الدنيا ، بأن الله حين يعيد خلقهم وينشئ لهم أجساما كأجسامهم ويعيد إليهم عقولهم يكون تفكيرهم يومئذ على وفاق ما كانوا عليه في الدنيا من السفسطة والمغالطة والغرور ، فإذا نشروا من القبور وشعروا بصحة أجسامهم وعقولهم وكانوا قد علموا في آخر أوقات حياتهم أنهم ميتون خامرتهم حينئذ عقيدة إنكار البعث وحجتهم السفسطائية من قولهم (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سبأ : ٧] ، هنالك يريدون أن يقنعوا أنفسهم بصحة دليلهم القديم ويلتمسون اعتلالا لتخلف المدلول بعلة أن بعثهم ما كان إلا بعد ساعة قليلة من وقت الدفن قبل أن تنعدم أجزاء أجسامهم فيخيل إليهم أنهم محقّون في إنكاره في الدنيا إذ كانوا قد أخبروا أن البعث يكون بعد فناء الأجسام ، فهم أرادوا الاعتذار عن إنكارهم البعث

٧٩

حين تحققوه بما حاصله : أنهم لو علموا أن البعث يكون بعد ساعة من الحلول في القبر لأقروا به. وقد أنبأ عن هذا تسمية كلامهم هذا معذرة بقوله عقبه : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) [الروم : ٥٧]. وهذه فتنة أصيبوا بها حين البعث جعلها الله لهم ليكونوا هزأة لأهل النشور. ويتضح غلطهم وسوء فهمهم كما دل عليه قوله تعالى بعد ذلك: (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) الآية [الروم : ٥٦] وقد أومأ إلى أن هذا هو المراد من الآية أنه قال عقب ذلك : (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي كهذا الخطأ كانوا في الدنيا يصرفون عن الحق بمثل هذه الترهات. وتقدم شيء من هذا في المعنى عند قوله تعالى : (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً* نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) في سورة طه [١٠٣ ، ١٠٤]. وبلغ من ضلالهم في ذلك أنهم يقسمون عليه ، وهذا بعد ما يجري بينهم من الجدال من قول بعضهم : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) وقول بعضهم : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ، وقول آخرين : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف : ١٩] وبعض اليوم يصدق بالساعة ، كما حكي عنهم في هذه الآية. والظاهر أن هذا القسم يتخاطبون به فيما بينهم كما اقتضته آية سورة طه ، أو هو حديث آخر أعلنوا به حين اشتد الخلاف بينهم لأن المصير إلى الحلف يؤذن بمشادة ولجاج في الخلاف. وفي قوله : (السَّاعَةُ) و (ساعَةٍ) الجناس التام.

وجملة (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) استئناف بياني لأن غرابة حالهم من فساد تقدير المدة والقسم عليه مع كونه توهما يثير سؤال سائل عن مثار هذا الوهم في نفوسهم فكان قوله (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) بيانا لذلك. ومعناه : أنهم لا عجب في صدور ذلك منهم فإنهم كانوا يجيئون بمثل تلك الأوهام مدة كونهم في الدنيا ، فتصرفهم أوهامهم عن اليقين ، وكانوا يقسمون على عقائدهم كما في قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨] استخفافا بالأيمان ، وكذلك إشارة إلى انصرافهم عن الحق يوم البعث. والمشار إليه هو المشبه به والمشبه محذوف دل عليه كاف التشبيه ، والتقدير : إفكا مثل إفكهم هذا كانوا يؤفكون به في حياتهم الدنيا. والمقصود من التشبيه المماثلة والمساواة.

والإفك بفتح الهمزة : الصرف وهو من باب ضرب ، ويعدى إلى الشيء المصروف عنه بحرف (عن) ، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : (لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) في سورة العنكبوت [٦٠]. ولم يسند إفكهم إلى آفك معين لأن بعض صرفهم يكون من أوليائهم وأئمة دينهم ، وبعضه من طبع الله على قلوبهم.

وإقحام فعل (كانُوا) للدلالة على أن المراد في زمان قبل ذلك الزمن ، أي في زمن

٨٠