تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

صباحاه (كلمة ينادي بها من يطلب النجدة) فاجتمعوا إليه فقال : أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا : نعم. قال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فهذا يشير إلى تمثيل الحالة التي استخلصها بقوله : (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). وما في (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ) من معنى التقريب.

وشمل اسم النذير جوامع ما في الشريعة من النواهي والعقوبات وهو قسم الاجتناب من قسمي التقوى فإن المنهيات متضمنة مفاسد فهي مقتضية تخويف المقدمين على فعلها من سوء الحال في العاجل والآجل.

والداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى ترك عبادة غير الله ويدعوهم إلى اتباع ما يأمرهم به الله. وأصل دعاه إلى فلان : أنه دعاه إلى الحضور عنده ، يقال : ادع فلانا إليَّ. ولما علم أن الله تعالى منزه عن جهة يحضرها الناس عنده تعين أن معنى الدعاء إليه الدعاء إلى ترك الاعتراف بغيره (كما يقولون : أبو مسلم الخراساني يدعو إلى الرضى من آل البيت) فشمل هذا الوصف أصول الاعتقاد في شريعة الإسلام مما يتعلق بصفات الله لأن دعوة الله دعوة إلى معرفته وما يتعلق بصفات الدعاة إليه من الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم.

وزيادة (بِإِذْنِهِ) ليفيد أن الله أرسله داعيا إليه ويسّر له الدعاء إليه مع ثقل أمر هذا الدعاء وعظم خطره وهو ما كان استشعره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مبدأ الوحي من الخشية إلى أن أنزل عليه (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ١ ، ٢] ، ومثله قوله تعالى لموسى : (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [طه : ٦٨] ، فهذا إذن خاص وهو الإذن بعد الإحجام المقتضي للتيسير ، فأطلق اسم الإذن على التيسير على وجه المجاز المرسل. ونظيره قوله تعالى خطابا لعيسى عليه‌السلام : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠] وقوله حكاية عن عيسى (فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ) طائرا (بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ٤٩].

وقوله (وَسِراجاً مُنِيراً) تشبيه بليغ بطريق الحالية وهو طريق جميل ، أي أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها والتي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها وأوقفت الناس على دخائلها ، كما يضيء السراج الوقّاد ظلمة المكان. وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله في الأديان من مسالك للتبديل والتحريف فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم ، فإن العلم يشبّه بالنور فناسبه السراج المنير. وهذا وصف شامل لجميع

٢٨١

الأوصاف التي وصف بها آنفا فهو كالفذلكة وكالتذييل.

ووصف السراج ب (مُنِيراً) مع أن الإنارة من لوازم السراج هو كوصف الشيء بالوصف المشتق من لفظه في قوله : شعر شاعر ، وليل أليل لإفادة قوة معنى الاسم في الموصوف به الخاص فإن هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أوضح الهدى. وإرشاده أبلغ إرشاد.

روى البخاري في كتاب «التفسير» من صحيحه في الكلام على سورة الفتح عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : «إن هذه الآية التي في القرآن : يا أيها النبي (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) قال في التوراة : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأمّيين ، أنت عبدي ورسولي سمّيتك المتوكّل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق ، ولا يدفع السيّئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح (أو ويغفر) ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح (أو فيفتح) به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفاء» ا ه.

وقول عبد الله بن عمرو «في التوراة» يعني بالتوراة : أسفار التوراة وما معها من أسفار الأنبياء إذ لا يوجد مثل ذلك فيما رأيت من الأسفار الخمسة الأصليّة من التوراة. وهذا الذي حدث به عبد الله بن عمرو ورأيت مقاربه في سفر النبي أشعياء من الكتب المعبر عنها بالتوراة تغليبا وهي الكتب المسماة بالعهد القديم ؛ وذلك في الإصحاح الثاني والأربعين منه بتغيير قليل (أحسب أنه من اختلاف الترجمة أو من تفسيرات بعض الأحبار وتأويلاتهم) ، ففي الإصحاح الثاني والأربعين منه «هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرّت به نفسي ، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم ، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته ، قصبة مرضوضة لا تقصف ، وفتيلة خامدة لا تطفأ ، إلى الأمان يخرج الحق ، لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر (١) شريعته أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم لنفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن ، الجالسين في الظلمة ، أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر».

__________________

(١) الجزائر : جزيرة العرب ، لقوله في هذا السفر في هذا «الإصحاح» : «والجزائر وسكانها لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها (قيدار)» فإن قيدار اسم ابن إسماعيل كما في سفر التكوين. فأراد : نسل قيدار وهم الإسماعيليون وهم الأميون.

٢٨٢

وإليك نظائر صفته التي في التوراة من صفاته في القرآن : يا أيها النبي (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) نظيرها هذه الآية وحرزا للأميين ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) سورة الجمعة [٢]) أنت عبدي ورسولي ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) سورة الكهف [١]) سميتك المتوكل ((وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) سورة الأحزاب [٣]) ليس بفظ ولا غليظ ((وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (سورة آل عمران [١٥٩]) ولا صخّاب في الأسواق ((وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) سورة لقمان [١٩]) ولا يدفع السيئة بالسيئة (و (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) سورة فصلت [٣٤]) ولكن يعفو ويصفح ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) سورة العقود [١٣]) ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) سورة المائدة [٣]) ويفتح به أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا ((خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) في سورة البقرة [٧] في ذكر الذين كفروا مقابلا لذكر المؤمنين في قوله قبله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الآية [٢]).

ولنذكر هنا ما في سفر أشعياء ونقحم فيه بيان مقابلة كلماته بالكلمات التي جاءت في حديث عبد الله بن عمرو.

جاء في «الإصحاح» الثاني والأربعين من سفر أشعياء : هو ذا عبدي (أنت عبدي) «الذي أعضده مختاري (ورسولي) الذي سرت به نفسي ، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم لا يصيح (ليس بفظّ) ولا يرفع (ولا غليظ) ولا يسمع في الشارع صوته (ولا صخّاب في الأسواق) قصبة مرضوضة لا يقصف (ولا يدفع السيئة بالسيئة) وفتيلة خامدة لا يطفا (يعفو ويصفح) إلى الأمان يخرج الحق (وحرزا) لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض (ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء) وتنتظر الجزائر شريعته (للأميين) أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك (سميتك المتوكل) وأحفظك (ولن يقبضه الله) وأجعلك عهدا للشعب أرسلناك شاهدا (ونورا للأمم) (مبشرا) لنفتح عيون العمي (ونفتح به أعينا عميا) لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن (وآذانا صمّا) الجالسين في الظلمة (وقلوبا غلفا). أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر» (بأن يقولوا لا إله إلا الله).

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧))

عطف على جملة (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) [الأحزاب : ٤٥] عطف الإنشاء على الخبر لا محالة

٢٨٣

وهي أوضح دليل على صحة عطف الإنشاء على الخبر إذ لا يتأتّى فيها تأويل مما تأوله المانعون لعطف الإنشاء على الخبر وهم الجمهور والزمخشري والتفتازانيّ مما سنذكره إن شاء الله عند قوله تعالى : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) إلى قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) في سورة الصف [١١ ـ ١٣] ، فالجملة المعطوف عليها إخبار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه أرسله متلبسا بتلك الصفات الخمس. وهذا أمر له بالعمل بصفة المبشر ، فلاختلاف مضمون الجملتين عطفت هذه على الأولى.

والفضل : العطاء الذي يزيده المعطي زيادة على العطية. فالفضل كناية عن العطية أيضا لأنه لا يكون فضلا إلا إذا كان زائدا على العطية. والمراد أن لهم ثواب أعمالهم الموعود بها وزيادة من عند ربهم ، قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

ووصف (كَبِيراً) مستعار للفائق في نوعه. قال ابن عطية : قال لي أبي رضي‌الله‌عنه (١) : هذه أرجى آية عندي في كتاب الله لأن الله قد أمر نبيئه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا. وقد بين الله تعالى الفضل الكبير ما هو في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [الشورى : ٢٢] فالآية التي في هذه السورة خبر ، والآية التي في حم عسق تفسير لها ا ه.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨))

جاء في مقابلة قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الأحزاب : ٤٧] بقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) تحذيرا له من موافقتهم فيما يسألون منه وتأييدا لفعله معهم حين استأذنه المنافقون في الرجوع عن الأحزاب فلم يأذن لهم ، فنهي عن الإصغاء إلى ما يرغبونه فيترك ما أحلّ له من التزوّج ، أو فيعطي الكافرين من الأحزاب ثمر النخل صلحا أو نحو ذلك ، والنهي مستعمل في معنى الدوام على الانتهاء.

وعلم من مقابلة أمر التبشير للمؤمنين بالنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين أن الكافرين والمنافقين هم متعلّق الإنذار من قوله : (وَنَذِيراً) [الأحزاب : ٤٥] لأن وصف

__________________

(١) هو أبو بكر بن غالب بن عطية القيسي الغرناطي المالكي مفتي غرناطة ، توفي بها سنة ٥١٨.

٢٨٤

«بشيرا» قد أخذ متعلّقه فقد صار هذا ناظرا إلى قوله : (وَنَذِيراً) [الأحزاب : ٤٥].

وقوله : (وَدَعْ أَذاهُمْ) يجوز أن يكون فعل (دَعْ) مرادا به أن لا يعاقبهم فيكون (دَعْ) مستعملا في حقيقته وتكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي دع أذاك إياهم. ويجوز أن يكون (دَعْ) مستعملا مجازا في عدم الاكتراث وعدم الاغتمام ، فما يقولونه مما يؤذي ويكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي لا تكترث بما يصدر منهم من أذى إليك فإنك أجلّ من الاهتمام بذلك ، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. وأكثر المفسرين اقتصروا على هذا الاحتمال الأخير. والوجه : الحمل على كلا المعنيين ، فيكون الأمر بترك أذاهم صادقا بالإعراض عما يؤذون به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أقوالهم ، وصادقا بالكف عن الإضرار بهم ، أي أن يترفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مؤاخذتهم على ما يصدر منهم في شأنه ، وهذا إعراض عن أذى خاص لا عموم له ، فهو بمنزلة المعرف بلام العهد ، فليست آيات القتال بناسخة له.

وهذا يقتضي أنه يترك أذاهم ويكلهم إلى عقاب آجل وذلك من معنى قوله : (شاهِداً) [الأحزاب : ٤٥] لأنه يشهد عليهم بذلك كقوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ* وَأَبْصِرْهُمْ) [الصافات : ١٧٤ ـ ١٧٥].

والتوكل : الاعتماد وتفويض التدبير إلى الله. وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [١٥٩] وقوله : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) في سورة العقود [٢٣] ، أي اعتمد على الله في تبليغ الرسالة وفي كفايته إياك شر عدوك ، فهذا ناظر إلى قوله : (وَداعِياً إِلَى اللهِ) [الأحزاب : ٤٦].

وقوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) تذييل لجملة (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

والمعنى : فإن الله هو الوكيل الكافي في الوكالة ، أي المجزي من توكّل عليه ما وكله عليه فالباء تأكيد ، وتقدم قوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) في سورة النساء [٨١]. والتقدير : كفى الله و (وَكِيلاً) تمييز.

فقد جاءت هذه الجمل الطلبية مقابلة وناظرة للجمل الإخبارية من قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) إلى (وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٥ ، ٤٦] فقوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الأحزاب : ٤٧] ناظرا إلى قوله : (وَمُبَشِّراً) [الأحزاب : ٤٥].

وقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) ناظر إلى قوله : (وَنَذِيراً) [الأحزاب : ٤٥] لأنه جاء في

٢٨٥

مقابلة بشارة المؤمنين كما تقدم.

وقوله : (وَدَعْ أَذاهُمْ) ناظر إلى قوله : (شاهِداً) [الأحزاب : ٤٥] كما علمت. وقوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ناظر إلى قوله : (وَداعِياً إِلَى اللهِ) [الأحزاب : ٤٦]. وأما قوله : (وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٦] فلم يذكر له مقابل في هذه المطالب إلا أنه لما كان كالتذييل للصفات كما تقدم ناسب أن يقابله ما هو تذييل للمطالب ، وهو قوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً). وهذا أقرب من بعض ما في «الكشاف» من وجوه المقابلة ومن بعض ما للآلوسي فانظرهما واحكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩))

جاءت هذه الآية تشريعا لحكم المطلقات قبل البناء بهن أن لا تلزمهن عدّة بمناسبة حدوث طلاق زيد بن حارثة زوجه زينب بنت جحش لتكون الآية مخصصة لآيات العدة من سورة البقرة ، فإن الأحزاب نزلت بعد البقرة ، وليخصص بها أيضا آية العدّة في سورة الطلاق النازلة بعدها لئلّا يظنّ ظانّ أن العدة من آثار العقد على المرأة سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل. قال ابن العربي : وأجمع علماء الأمة على أن لا عدّة على المرأة إذا لم يدخل بها زوجها لهذه الآية.

والنكاح : هو العقد بين الرجل والمرأة لتكون زوجا بواسطة وليها. وهو حقيقة في العقد لأن أصل النكاح حقيقة هو الضمّ والإلصاق فشبه عقد الزواج بالالتصاق والضم بما فيه من اعتبار انضمام الرجل والمرأة فصارا كشيئين متّصلين. وهذا كما سمي كلاهما زوجا ، ولا يعرف في كلام العرب إطلاق النكاح على غير معنى العقد دون معنى الوطء ولذلك يقولون : نكحت المرأة فلانا ، أي تزوجته ، كما يقولون : نكح فلان امرأة. وزعم كثير من مدوّني اللغة أن النكاح حقيقة في إدخال شيء في آخر. فأخذوا منه أنه حقيقة في الوطء ، ودرج على ذلك الأزهري والجوهري والزمخشري ، وهو بعيد ، وعلى ما بنوه أخطأ المتنبي في استعماله إذ قال :

أنكحت صم حصاها خفّ يعملة

تغشمرت بي إليك السهل والجبلا

ولا حجة في كلامه ، ولذلك تأوله أبو العلاء المعرّي في معجز أحمد بأنه أراد جمعت بين صم الحصى وخف اليعملة.

٢٨٦

وتعليق الحكم في العدّة بالمؤمنات جرى على الغالب لأن نساء المؤمنين يومئذ لم يكنّ إلا مؤمنات وليس فيهن كتابيات فينسحب هذا الحكم على الكتابية كما شملها حكم الاعتداد إذا وقع مسيسها بطرق القياس.

والمس والمسيس : كناية عن الوطء ، كما سمي ملامسة في قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء : ٤٣].

والعدّة بكسر العين : هي في الأصل اسم هيئة من العدّ بفتح العين وهو الحساب فأطلقت العدّة على الشيء المعدود ، يقال : جاء عدة رجال ، وقال تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) البقرة [١٨٤]. وغلب إطلاق هذا اللفظ في لسان الشرع على المدة المحددة لانتظار المرأة زواجا ثانيا ، لأن انتظارها مدة معدودة الأزمان إما بالتعيين وإما بما يحدث فيها من طهر أو وضع حمل فصار اسم جنس ولذلك دخلت عليه (مِنْ) التي تدخل على النكرة المنفية لإفادة العموم ، أي فما لكم عليهن من جنس العدة.

والخطاب في (لَكُمْ) للأزواج الذين نكحوا المؤمنات. وجعلت العدة لهم ، أي لأجلهم لأن المقصد منها راجع إلى نفع الأزواج بحفظ أنسابهم ولأنهم يملكون مراجعة الأزواج ما دمن في مدة العدّة كما أشار إليه قوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١]. وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) [البقرة : ٢٢٨]. ومع ذلك هي حق أوجبه الشرع ، فلو رام الزوج إسقاط العدّة عن المطلقة لم يكن له ذلك لأن ما تتضمنه العدّة من حفظ النسب مقصد من أصول مقاصد التشريع فلا يسقط بالإسقاط.

ومعنى : (تَعْتَدُّونَها) تعدّونها عليهن ، أي تعدّون أيّامها عليهن ، كما يقال : اعتدت المرأة ، إذا قضت أيام عدّتها.

فصيغة الافتعال ليست للمطاوعة ولكنها بمعنى الفعل مثل : اضطرّ إلى كذا. ومحاولة حمل صيغة المطاوعة على معروف معناها تكلف.

ويشبه هذا من راجع المعتدة في مدة عدّتها ثم طلقها قبل أن يمسّها فإن المراجعة تشبه النكاح وليست عينه إذ لا تفتقر إلى إيجاب وقبول. وقد اختلف الفقهاء في اعتدادها من ذلك الطلاق ، فقال مالك والشافعي في أحد قوليه وجمهور الفقهاء : إنها تنشئ عدة مستقبلة من يوم طلقها بعد المراجعة ولا تبني على عدّتها التي كانت فيها لأن الزوج نقض

٢٨٧

تلك العدة بالمراجعة. ولعل مالكا نظر إلى أن المسيس بعد المراجعة قد يخفى أمره بخلاف البناء بالزوجة في النكاح فلعله إنما أوجب استئناف العدة لهذه التهمة احتياطا للأنساب. وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي في أحد قوليه وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي والحسن وأبو قلابة وقتادة والزهري : تبني على عدتها الأولى التي راجعها فيها لأن طلاقه بعد المراجعة ودون أن يمسها بمنزلة إرداف طلاق ثان على المرأة وهي في عدتها فإن الطلاق المردف لا اعتداد له بخصوصه. ونسب القرطبي إلى داود الظاهري أنه قال : المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدّتها ثم فارقها قبل أن يمسها إنه ليس عليها أن تتمّ عدتها ولا عدة مستقبلة لأنها مطلقة قبل الدخول بها ا ه. وهو غريب ، وكلام ابن حزم في «المحلّى» صريح في أنها تبتدئ العدة فلعله من قول ابن حزم وليس مذهب داود ، وكيف لو راجعها بعد يوم أو يومين من تطليقها فبما ذا تعرف براءة رحمها.

وفاء التفريع في قوله : (فَمَتِّعُوهُنَ) لأن حكم التمتيع مقرّر من سورة البقرة [٢٣٦] في قوله : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) إلخ. والمتعة : عطية يعطيها الزوج للمرأة إذا طلقها. وقد تقدم قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦] فلذلك جيء بالأمر بالتمتيع مفرعا على الطلاق قبل المسيس.

وقد جعل الله التمتيع جبرا لخاطر المرأة المنكسر بالطلاق وتقدم في سورة البقرة أن المتعة حق للمطلقة سواء سمي لها صداق أم لم يسم بحكم آية سورة الأحزاب لأن الله أمر بالتمتيع للمطلقة قبل البناء مطلقا فكان عمومها في الأحوال كعمومها في الذوات ، وليست آية البقرة بمعارضة لهذه الآية إذ ليس فيها تقييد بشرط يقتضي تخصيص المتعة بالتي لم يسم لها صداق لأنها نازلة في رفع الحرج عن الطلاق قبل البناء وقبل تسمية الصداق ، ثم أمرت بالمتعة لتينك المطلقتين فالجمع بين الآيتين ممكن.

والسراح الجميل : هو الخلي عن الأذى والإضرار ومنع الحقوق.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ

٢٨٨

الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

نداء رابع خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن خاص به هو بيان ما أحلّ له من الزوجات والسراري وما يزيد عليه وما لا يزيد مما بعضه تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل ، ومما بعضه يتساوى فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع الأمة وبعضه خاص به أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعة عليه ، أو مما روعي في تخصيصه به علوّ درجته.

ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوّج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش وقالوا : تزوج من كانت حليلة متبنّاه ، أراد الله أن يجمع في هذه الآية من يحل للنبي تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون. ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها) للنبي الآية ، ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعا لتكون جامعة للأحوال ، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال.

فأما تقرير ما هو مشروع فذلك من قوله تعالى : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) إلى قوله : (وَبَناتِ خالاتِكَ) ، وأما تشريع ما لم يكن مشروعا فذلك من قوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) إلى قوله : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) [الأحزاب : ٥٢].

فقوله تعالى : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) خبر مراد به التشريع. ودخول حرف (إنّ) عليه لا ينافي إرادة التشريع إذ موقع (إنّ) هنا مجرد الاهتمام ، والاهتمام يناسب كلّا من قصد الإخبار وقصد الإنشاء ، ولذلك عطفت على مفعول (أَحْلَلْنا) معطوفات قيدت بأوصاف لم يكن شرعها معلوما من قبل وذلك في قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ) وما عطف عليه باعتبار تقييدهن بوصف (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) ، وفي قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها) باعتبار تقييدها بوصف الإيمان وتقييدها ب «إن وهبت نفسها للنبي وأراد النبي أن يستنكحها». هذا تفسير الآية على ما درج عليه المفسرون على اختلاف قليل بين أقوالهم.

٢٨٩

وعندي : أن الآية امتنان وتذكير بنعمة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وتؤخذ من الامتنان الإباحة ويؤخذ من ظاهر قوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) [الأحزاب : ٥٢] الاقتصار على اللاتي في عصمته منهن وقت نزول الآية ، ولتكون هذه الآية تمهيدا لقوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) إلخ.

وسيجيء ما لنا في معنى قوله : (مِنْ بَعْدُ) وما لنا في موضع قوله إن أراد النبي (أَنْ يَسْتَنْكِحَها).

ومعنى (أَحْلَلْنا لَكَ) الإباحة له ، ولذلك جاءت مقابلته بقوله عقب تعداد المحلّلات له (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ).

وإضافة أزواج إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفيد أنّهن الأزواج اللاتي في عصمته ، فيكون الكلام إخبارا لتقرير تشريع سابق ومسوقا مساق الامتنان ، ثم هو تمهيد لما سيتلوه من التشريع الخاص بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) إلى قوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) [الأحزاب : ٥٢]. وهذا هو الوجه عندي في تفسير هذه الآية.

وحكى ابن الفرس عن الضحاك وابن زيد أن المعنى بقوله : (أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أن الله أحلّ له أن يتزوج كل امرأة يصدقها مهرها فأباح له كل النساء ، وهذا بعيد عن مقتضى إضافة أزواج إلى ضميره. وعن التعبير ب (آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) بصيغة المضيّ. واختلف أهل التأويل في محمل هذا الوجه مع قوله تعالى في آخر الآية : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) فقال قوم : هذه ناسخة لقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) ولو تقدمت عليها في التلاوة. وقال آخرون : هي منسوخة بقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ).

و (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) صفة ل (أَزْواجَكَ) ، أي وهن النسوة اللاتي تزوجتهن على حكم النكاح الذي يعم الأمة ، فالماضي في قوله : (آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) مستعمل في حقيقته. وهؤلاء فيهن من هن من قراباته وهن القرشيات منهن : عائشة ، وحفصة ، وسودة ، وأم سلمة ، وأم حبيبة ، وفيهن من لسن كذلك وهنّ : جويرية من بني المصطلق ، وميمونة بنت الحارث من بني هلال ، وزينب أم المساكين من بني هلال ، وكانت يومئذ متوفاة ، وصفية بنت حيي الإسرائيلية.

وعطف على هؤلاء نسوة أخر وهنّ ثلاثة أصناف :

٢٩٠

«الصنف الأول» : ما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه ، أي مما أعطاه الله من الفيء ، وهو ما ناله المسلمون من العدوّ بغير قتال ولكن تركه العدو ، أو مما أعطي للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل مارية القبطية أمّ ابنه إبراهيم فقد أفاءها الله عليه إذ وهبها إليه المقوقس صاحب مصر ، وإنما وهبها إليه هدية لمكان نبوءته فكانت بمنزلة الفيء لأنها ما لوحظ فيها إلا قصد المسالمة من جهة الجوار ، إذ لم تكن له مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابق صحبة ولا معرفة ، والمعروف أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتسرّ غير مارية القبطية. وقيل : إنه تسرى جارية أخرى وهبتها له زوجه زينب ابنة جحش ولم يثبت. وقيل أيضا : إنه تسرى ريحانة من سبي قريظة اصطفاها لنفسه ولا تشملها هذه الآية لأنها ليست من الفيء ولكن من المغنم إلا أن يراد ب (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) المعنى الأعم للفيء وهو ما يشمل الغنيمة. وهذا الحكم يشركه فيه كثير من الأمة من كل من أعطاه أميره شيئا من الفيء ، كما قال تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الحشر : ٧] فمن أعطاه الأمير من هؤلاء الأصناف أمة من الفيء حلّت له.

وقوله : (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) وصف لما ملكت يمينك وهو هنا وصف كاشف لأن المراد به مارية القبطية ، أو هي وريحانة إن ثبت أنّه تسراها.

«الصنف الثاني» : نساء من قريب قرابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة أبيه أو من جهة أمه مؤمنات مهاجرات. وأغنى قوله : (هاجَرْنَ مَعَكَ) عن وصف الإيمان لأن الهجرة لا تكون إلا بعد الإيمان ، فأباح الله للنبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج من يشاء من نساء هذا الصنف بعقد النكاح المعروف ، فليس له أن يتزوج في المستقبل امرأة من غير هذا الصنف المشروط بشرط القرابة بالعمومة أو الخئولة وشرط الهجرة. وعندي : أن الوصفين ببنات عمه وعمّاته وبنات خاله وخالاته ، وبأنهن هاجرن معه غير مقصود بهما الاحتراز عمن لسن كذلك ولكنه وصف كاشف مسوق للتنويه بشأنهن.

وخص هؤلاء النسوة من عموم المنع تكريما لشأن القرابة والهجرة التي هي بمنزلة القرابة لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢]. وحكم الهجرة انقضى بفتح مكة. وهذا الحكم يتجاذبه الخصوصية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتعميم لأمته ، فالمرأة التي تستوفي هذا الوصف يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام ولأمته الذين تكون لهم قرابة بالمرأة كهذه القرابة تزوج أمثالها ، والمرأة التي لم تستوف هذا الوصف لا يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام تزوجها ، وهو الذي درج عليه

٢٩١

الجمهور ، ويؤيده خبر روي عن أمّ هاني بنت أبي طالب. وقال أبو يوسف : يجوز لرجال أمته نكاح أمثالها. وباعتبار عدم تقييد نساء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدد يكون هذا الإطلاق خاصا به دون أمته إذ لا يجوز لغيره تزوج أكثر من أربع.

وبنات عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هن بنات إخوة أبيه مثل : بنات العباس وبنات أبي طالب وبنات أبي لهب. وأما بنات حمزة فإنهن بنات أخ من الرضاعة لا يحللن له ، وبنات عماته هن بنات عبد المطلب مثل زينب بنت جحش التي هي بنت أميمة بنت عبد المطلب.

وبنات خاله هنّ بنات عبد مناف بن زهرة وهن أخوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد يغوث بن وهب أخو آمنة ، ولم يذكروا أن له بنات ، كما أني لم أقف على ذكر خالة لرسول الله فيما رأيت من كتب الأنساب والسير. وقد ذكر في «الإصابة» فريعة بنت وهب وذكروا هالة بنت وهب الزهرية إلا أنها لكونها زوجة عبد المطلب وابنتها صفية عمة رسول الله فقد دخلت من قبل في بنات عمه.

وإنما أفرد لفظ (عم) وجمع لفظ (عمات) لأن العم في استعمال كلام العرب يطلق على أخي الأب ويطلق على أخي الجد وأخي جد الأب وهكذا فهم يقولون : هؤلاء بنو عم أو بنات عم ، إذا كانوا لعم واحد أو لعدة أعمام ، ويفهم المراد من القرائن. قال الراجز أنشده الأخفش :

ما برئت من ريبة وذمّ

في حربنا إلا بنات العمّ

وقال رؤبة بن العجاج :

قالت بنات العم يا سلمى وإن

كان فقيرا معدما قالت وإن

فأما لفظ (العمة) فإنه لا يراد به الجنس في كلامهم ، فإذا قالوا : هؤلاء بنو عمة ، أرادوا أنهم بنو عمة معيّنة ، فجيء في الآية : (عَمَّاتِكَ) جمعا لئلا يفهم منه بنات عمة معينة. وكذلك القول في إفراد لفظ (الخال) من قوله : (بَناتِ خالِكَ) وجمع الخالة في قوله : (وَبَناتِ خالاتِكَ).

وقال قوم : المراد ببنات العم وبنات العمات : نساء قريش ، والمراد ببنات الخال : النساء الزهريات ، وهو اختلاف نظري محض لا ينبني عليه عمل لأن النبي قد عرفت أزواجه.

وقوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) صفة عائدة إلى (بَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ

٢٩٢

خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) كشأن الصفة الواردة بعد مفردات ، وهو شرط تشريع لم يكن مشروطا من قبل.

والمعية في قوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) معية المقارنة في الوصف المأخوذ من فعل (هاجَرْنَ) فليس يلزم أن يكنّ قد خرجن مصاحبات له في طريقه إلى الهجرة.

«الصنف الثالث» : امرأة تهب نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي تجعل نفسها هبة له دون مهر ، وكذلك كان النساء قبل الإسلام يفعلن مع عظماء العرب ، فأباح الله للنبي أن يتخذها زوجة له بدون مهر إذا شاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فهذا حقيقة لفظ (وَهَبَتْ) ، فالمراد من الهبة : تزويج نفسها بدون عوض ، أي بدون مهر ، وليست هذه من الهبة التي تستعمل في صيغ النكاح إذا قارنها ذكر صداق لأن ذلك اللفظ مجاز في النكاح بقرينة ذكر الصداق ويصح عقد النكاح به عندنا وعند الحنفية خلافا للشافعي.

فقوله : (وَامْرَأَتَ) عطف على (أَزْواجَكَ). والتقدير : وأحللنا لك امرأة مؤمنة.

والتنكير في (امْرَأَةً) للنوعية : والمعنى : ونعلمك أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة بقيد أن تهب نفسها لك وأن تريد أن تتزوجها فقوله : للنبي في الموضعين إظهار في مقام الإضمار. والمعنى : إن وهبت نفسها لك وأردت أن تنكحها. وهذا تخصيص من عموم قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) فإذا وهبت امرأة نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأراد نكاحها جاز له ذلك بدون ذينك الشرطين ولأجل هذا وصفت (امْرَأَةً) ب (مُؤْمِنَةً) ليعلم عدم اشتراط ما عدا الإيمان. وقد عدّت زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت تدعى في الجاهلية أمّ المساكين في اللاتي وهبن أنفسهن ، ولم تلبث عنده زينب هذه إلا قليلا فتوفيت وكان تزوجها سنة ثلاث من الهجرة فليست مما شملته الآية. ولم يثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج غيرها ممن وهبت نفسها إليه وهن : أم شريك بنت جابر الدوسية واسمها عزية ، وخولة بنت حكيم عرضت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسها فقالت عائشة : أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل ، وامرأة أخرى عرضت نفسها على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. روى ثابت البناني عن أنس قال : «جاءت امرأة إلى رسول الله فعرضت عليه نفسها فقالت : يا رسول الله ألك حاجة بي؟ فقالت ابنة أنس ـ وهي تسمع إلى رواية أبيها ـ : ما أقل حياءها ووا سوأتاه وا سوأتاه. فقال أنس : هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها». وعن سهل بن سعد أن امرأة عرضت نفسها على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يجبها. فقال رجل : «يا رسول الله زوجنيها ، إلى أن قال له ، ملّكناكها بما معك من القرآن» فهذا

٢٩٣

الصنف حكمه خاص بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أنه نكاح مخالف لسنة النكاح لأنه بدون مهر وبدون ولي.

وقد ورد أن النسوة اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع هن : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة الأنصارية الملقبة أمّ المساكين ، وأم شريك بنت جابر الأسدية أو العامرية ، وخولة بنت حكيم بنت الأوقص السلمية. فأما الأوليان فتزوجهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما من أمهات المؤمنين والأخريان لم يتزوجهما.

ومعنى (وَهَبَتْ نَفْسَها) للنبي أنها ملّكته نفسها تمليكا شبيها بملك اليمين ولهذا عطفت على (ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) ، وأردفت بقوله : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي خاصة لك أن تتخذها زوجة بتلك الهبة ، أي دون مهر وليس لبقية المؤمنين ذلك. ولهذا لما وقع في حديث سهل بن سعد المتقدم أن امرأة وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلم الرجل الحاضر أن النبي عليه الصلاة والسلام لا حاجة له بها سأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يزوجه إياها علما منه بأن تلك الهبة لا مهر معها ولم يكن للرجل ما يصدقها إياه ، وقد علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه ذلك فقال له ما عندك؟ قال : ما عندي شيء. قال : اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد فذهب ثم رجع فقال : لا والله ولا خاتما من حديد ، ولكن هذا إزاري فلها نصفه. قال سهل : ولم يكن له رداء ، فقال النبي : «وما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء ـ ثم قال له ـ ما ذا معك من القرآن؟ فقال : معي سورة كذا وسورة كذا لسور يعدّدها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ملكناكها بما معك من القرآن».

وفي قوله : (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها) للنبي إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : إن وهبت نفسها لك. والغرض من هذا الإظهار ما في لفظ النبي من تزكية فعل المرأة التي تهب نفسها بأنها راغبة لكرامة النبوءة.

وقوله : إن أراد النبي (أَنْ يَسْتَنْكِحَها) جملة معترضة بين جملة (إِنْ وَهَبَتْ) وبين (خالِصَةً) وليس مسوقا للتقييد إذ لا حاجة إلى ذكر إرادته نكاحها فإن هذا معلوم من معنى الإباحة ، وإنما جيء بهذا الشرط لدفع توهم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجبا عليه كما كان عرف أهل الجاهلية. وجوابه محذوف دل عليه ما قبله ، والتقدير : إن أراد أن يستنكحها فهي حلال له ، فهذا شرط مستقل وليس شرطا في الشرط الذي قبله.

والعدول عن الإضمار في قوله : (إِنْ أَرادَ) النبي بأن يقال : إن أراد أن يستنكحها

٢٩٤

لما في إظهار لفظ النبي من التفخيم والتكريم.

وفائدة الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطال عادة العرب في الجاهلية وهي أنهم كانوا إذا وهبت المرأة نفسها للرجل تعين عليه نكاحها ولم يجز له ردّها ، فأبطل الله هذا الالتزام بتخيير النبي عليه الصلاة والسلام في قبول هبة المرأة نفسها له وعدمه ، وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأن الرد مأذون به.

والسين والتاء في (يَسْتَنْكِحَها) ليستا للطلب بل هما لتأكيد الفعل كقول النابغة :

وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة

أبا جابر فاستنكحوا أم جابر

أي بنو حنّ قتلوا أبا جابر الطائي فصارت أم جابر المزوجة بأبي جابر زوجة بني حنّ ، أي زوجة رجل منهم. وهي مثل السين والتاء في قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) [آل عمران : ١٩٥].

فتبيّن من جعل جملة إن أراد النبي (أَنْ يَسْتَنْكِحَها) معترضة أن هذه الآية لا يصح التمثيل بها لمسألة اعتراض الشرط على الشرط كما وقع في رسالة الشيخ تقي الدين السبكي المجعولة لاعتراض الشرط على الشرط ، وتبعه السيوطي في الفن السابع من كتاب «الأشباه والنظائر النحوية» ، ويلوح من كلام صاحب «الكشاف» استشعار عدم صلاحية الآية لاعتبار الشرط في الشرط فأخذ يتكلف لتصوير ذلك.

وانتصب (خالِصَةً) على الحال من (امْرَأَةً) ، أي خالصة لك تلك المرأة ، أي هذا الصنف من النساء ، والخلوص معنيّ به عدم المشاركة ، أي مشاركة بقية الأمة في هذا الحكم إذ مادة الخلوص تجمع معاني التجرّد عن المخالطة. فقوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لبيان حال من ضمير الخطاب في قوله : (لَكَ) ما في الخلوص من الإجمال في نسبته. وقد دل وصف (امْرَأَةً) بأنها (مُؤْمِنَةً) أن المرأة غير المؤمنة لا تحل للنبي عليه الصلاة والسلام بهبة نفسها. ودل ذلك بدلالة لحن الخطاب أنه لا يحلّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج الكتابيات بله المشركات ، وحكى إمام الحرمين في ذلك خلافا. قال ابن العربي : والصحيح عندي تحريمها عليه. وبهذا يتميز علينا ؛ فإن ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر وإذا كان لا تحل له من لم تهاجر لنقصانها فضل الهجرة فأحرى أن لا تحلّ له الكتابية الحرة.

(قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ).

٢٩٥

جملة معترضة بين جملة (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) وبين قوله : (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أو هي حال سببي من المؤمنين ، أي حال كونهم قد علمنا ما نفرض عليهم.

والمعنى : أن المؤمنين مستمر ما شرع لهم من قبل في أحكام الأزواج وما ملكت أيمانهم ، فلا يشملهم ما عيّن لك من الأحكام الخاصة المشروعة فيما تقدم آنفا ، أي قد علمنا أن ما فرضناه عليهم في ذلك هو اللائق بحال عموم الأمة دون ما فرضناه لك خاصة.

و (ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) موصول وصلته ، وتعدية (فَرَضْنا) بحرف (على) المقتضي للتكليف والإيجاب للإشارة إلى أن من شرائع أزواجهم وما ملكت أيمانهم ما يودّون أن يخفف عنهم مثل عدد الزوجات وإيجاب المهور والنفقات ، فإذا سمعوا ما خص به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوسعة في تلك الأحكام ودّوا أن يلحقوا به في ذلك ، فسجل الله عليهم أنهم باقون على ما سبق شرعه لهم في ذلك ، والإخبار بأن الله قد علم ذلك كناية عن بقاء تلك الأحكام لأن معناه أنّا لم نغفل عن ذلك ، أي لم نبطله بل عن علم خصصنا نبيئنا بما خصصناه به في ذلك الشأن ، فلا يشمل ما أحللناه له بقية المؤمنين.

وظرفية (فِي) مجازية لأن المظروف هو الأحكام الشرعية لا ذوات الأزواج وذوات ما ملكته الأيمان.

(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

تعليل لما شرعه الله تعالى في حق نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآيات السابقة من التوسعة بالازدياد من عدد الأزواج وتزوج الواهبات أنفسهن دون مهر ، وجعل قبول هبتها موكولا لإرادته ، وبما أبقى له من مساواته أمته فيما عدا ذلك من الإباحة فلم يضيّق عليه ، وهذا تعليم وامتنان.

والحرج : الضيق ، والمراد هنا أدنى الحرج ، وهو ما في التكليف من بعض الحرج الذي لا تخلو عنه التكاليف ، وأما الحرج القوي فمنفي عنه وعن أمته. ومراتب الحرج متفاوتة ، ومناط ما ينفى عن الأمة منها وما لا ينفى ، وتقديرات أحوال انتفاء بعضها للضرورة هو ميزان التكليف الشرعي فالله أعلم بمراتبها وأعلم بمقدار تحرج عباده وذلك مبين في مسائل العزيمة والرخصة من علم الأصول ، وقد حرر ملّاكه شهاب الدين القرافي في الفرق الرابع عشر من كتابه «أنواء البروق». وقد أشبعنا القول في تحقيق ذلك في كتابنا

٢٩٦

المسمى «مقاصد الشريعة الإسلامية».

وأعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلك في الأخذ بهذه التوسعات التي رفع الله بها قدره مسلك الكمّل من عباده وهو أكملهم فلم ينتفع لنفسه بشيء منها فكان عبدا شكورا كما قال في حديث استغفاره ربه في اليوم استغفارا كثيرا.

والتذييل بجملة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) تذييل لما شرعه من الأحكام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا للجملة المعترضة ، أي أن ما أردناه من نفي الحرج عنك هو من متعلقات صفتي الغفران والرحمة اللتين هما من تعلقات الإرادة والعلم فهما ناشئتان عن صفات الذات ، فلذلك جعل اتصاف الله بهما أمرا متمكّنا بما دلّ عليه فعل (كانَ) المشير إلى السابقية والرسوخ كما علمته في مواضع كثيرة.

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١))

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ).

استئناف بياني ناشئ عن قوله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) إلى قوله : (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) [الأحزاب : ٥٠] فإنه يثير في النفس تطلبا لبيان مدى هذا التحليل. والجملة خبر مستعمل في إنشاء تحليل الإرجاء والإيواء لمن يشاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والإرجاء حقيقته : التأخير إلى وقت مستقبل. يقال : أرجأت الأمر وأرجيته مهموزا ومخففا ، إذا أخرته.

وفعله ينصرف إلى الأحوال لا الذوات ، فإذا عدي فعله إلى اسم ذات تعين انصرافه إلى وصف من الأوصاف المناسبة والتي تراد منها ، فإذا قلت : أرجأت غريمي ، كان المراد : أنك أخرت قضاء دينه إلى وقت يأتي.

والإيواء : حقيقته جعل الشيء آويا ، أي راجعا إلى مكانه. يقال : آوى ، إذا رجع إلى حيث فارق ، وهو هنا مجاز في مطلق الاستقرار سواء كان بعد إبعاد أم بدونه ، وسواء كان بعد سبق استقرار بالمكان أم لم يكن.

ومقابلة الإرجاء بالإيواء تقتضي أن الإرجاء مراد منه ضد الإيواء أو أن الإيواء ضد

٢٩٧

الإرجاء وبذلك تنشأ احتمالات في المراد من الإرجاء والإيواء صريحهما وكنايتهما.

فضمير (مِنْهُنَ) عائد إلى النساء المذكورات ممن هن في عصمته ومن أحل الله له نكاحهن غيرهن من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ، والواهبات أنفسهن ، فتلك أربعة أصناف :

الصنف الأول : وهنّ اللاء في عصمة النبي عليه الصّلاة والسّلام فهن متصلن به فإرجاء هذا الصنف ينصرف إلى تأخير الاستمتاع إلى وقت مستقبل يريده ، والإيواء ضده. فيتعين أن يكون الإرجاء منصرفا إلى القسم فوسع الله على نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أباح له أن يسقط حق بعض نسائه في المبيت معهن فصار حق المبيت حقا له لا لهن بخلاف بقية المسلمين ، وعلى هذا جرى قول مجاهد وقتادة وأبي رزين ، قاله الطبري.

وقد كانت إحدى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسقطت عنه حقها في المبيت وهي سودة بنت زمعة ، وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة وكان ذلك قبل نزول هذه الآية ، ولما نزلت هذه الآية صار النبي عليه الصلاة والسلام مخيرا في القسم لأزواجه. وهذا قول الجمهور ، قال أبو بكر بن العربي : وهو الذي ينبغي أن يعول عليه. وهذا تخيير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه لم يأخذ لنفسه به تكرما منه على أزواجه. قال الزهري. ما علمنا أن رسول الله أرجأ أحدا من أزواجه بل آواهن كلّهن. قال أبو بكر بن العربي : وهو المعنى المراد. وقال أبو رزين العقيلي (١) : أرجأ ميمونة وسودة وجويرية وأم حبيبة وصفية ، فكان يقسم لهن ما شاء ، أي دون مساواة لبقية أزواجه. وضعفه ابن العربي.

وفسر الإرجاء بمعنى التطليق ، والإيواء بمعنى الإبقاء في العصمة ، فيكون إذنا له بتطليق من يشاء تطليقها وإطلاق الإرجاء على التطليق غريب.

وقد ذكروا أقوالا أخر وأخبارا في سبب النزول لم تصح أسانيدها فهي آراء لا يوثق بها. ويشمل الإرجاء الصنف الثاني وهن ما ملكت يمينه وهو حكم أصلي إذ لا يجب للإماء عدل في المعاشرة ولا في المبيت.

ويشمل الإرجاء الصنف الثالث وهن : بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ، فالإرجاء تأخير تزوج من يحلّ منهن ، والإيواء العقد على إحداهن ، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أبو رزين بفتح الراء اسمه : لقيط. ويقال له العقيلي أو العامري وهو من بني المنتفق. وله صحبة.

٢٩٨

لم يتزوج واحدة بعد نزول هذه الآية ، وذلك إرجاء العمل بالإذن فيهن إلى غير أجل معين.

وكذلك إرجاء الصنف الرابع اللاء وهبن أنفسهن ، سواء كان ذلك واقعا بعد نزول الآية أم كان بعضه بعد نزولها فإرجاؤهن عدم قبول نكاح الواهبة ، عبر عنه بالإرجاء إبقاء على أملها أن يقبلها في المستقبل ، وإيواؤهن قبول هبتهن.

قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف (تُرْجِي) بالياء التحتية في آخره مخفّف (ترجئ) المهموز. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب ترجئ بالهمز في آخره. وقال الزجاج : الهمز أجود وأكثر. والمعنى واحد.

واتفق الرواة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يستعمل مع أزواجه ما أبيح له أخذا منه بأفضل الأخلاق ، فكان يعدل في القسم بين نسائه ، إلّا أن سودة وهبت يومها لعائشة طلبا لمسرّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما قوله : (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) فهذا لبيان أن هذا التخيير لا يوجب استمرار ما أخذ به من الطرفين المخيّر بينهما ، أي لا يكون عمله بالعزل لازم الدوام بمنزلة الظهار والإيلاء ، بل أذن الله أن يرجع إلى من يعزلها منهن ، فصرح هنا بأن الإرجاء شامل للعزل.

ففي الكلام جملة مقدرة دل عليها قوله : (ابْتَغَيْتَ) إذ هو يقتضي أنه ابتغى إبطال عزلها ، فمفعول (ابْتَغَيْتَ) محذوف دل عليه قوله : (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) كما هو مقتضى المقابلة بقوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ) ، فإن العزل والإرجاء مؤداهما واحد.

والمعنى : فإن عزلت بالإرجاء إحداهن فليس العزل بواجب استمراره بل لك أن تعيدها إن ابتغيت العود إليها ، أي فليس هذا كتخيير الرجل زوجه فتختار نفسها المقتضي أنها تبين منه. ومتعلق الجناح محذوف دل عليه قوله : (ابْتَغَيْتَ) أي ابتغيت إيواءها فلا جناح عليك من إيوائها.

و (مَنْ) يجوز أن تكون شرطية وجملة (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) جواب الشرط. ويجوز أن تكون موصولة مبتدأ فإن الموصول يعامل معاملة الشرط في كلامهم بكثرة إذا قصد منه العموم فلذلك يقترن خبر الموصول العام بالفاء كثيرا كقوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ

٢٩٩

فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣] ، وعليه فجملة (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) خبر المبتدأ اقترن بالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط ومفعول (عَزَلْتَ) محذوف عائد إلى (مَنْ) أي التي ابتغيتها ممن عزلتهن وهو من حذف العائد المنصوب.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً).

الإشارة إلى شيء مما تقدم وهو أقربه ، فيجوز أن تكون الإشارة إلى معنى التفويض المستفاد من قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الابتغاء المتضمن له فعل (ابْتَغَيْتَ) أي فلا جناح عليك في ابتغائهن بعد عزلهن ذلك أدنى لأن تقرّ أعينهنّ. والابتغاء : الرغبة والطلب ، والمراد هنا ابتغاء معاشرة من عزلهن.

فعلى الأول يكون المعنى أن في هذا التفويض جعل الحق في اختيار أحد الأمرين بيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق حقا لهن فإذا عين لإحداهن حالة من الحالين رضيته به لأنه يجعل الله تعالى على حكم قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) أن تكون (لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٣٦] فقرت أعين جميعهن بما عينت لكل واحدة لأن الذي يعلم أنه لا حق له في شيء كان راضيا بما أوتي منه ، وإن علم أنّ له حقا حسب أن ما يؤتاه أقل من حقه وبالغ في استيفائه. وهذا التفسير مروي عن قتادة وتبعه الزمخشري وابن العربي والقرطبي وابن عطية ، وهذا يلائم قوله : (وَيَرْضَيْنَ) ولا يلائم قوله : (أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) لأن قرة العين إنما تكون بالأمر المحبوب ، وقوله : (وَلا يَحْزَنَ) لأن الحزن من الأمر المكدّر ليس باختياري كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلا تلمني فيما لا أملك».

وعلى الوجه الثاني يكون المعنى : ذلك الابتغاء بعد العزل أقرب لأن تقرّ أعين اللاتي كنت عزلتهن. ففي هذا الوجه ترغيب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اختيار عدم عزلهن عن القسم وهو المناسب لقوله : (أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَ) كما علمت آنفا ، ولقوله : «ويرضين كلّهن» ، ولما فيما ذكر من الحسنات الوافرة التي يرغب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحصيلها لا محالة وهي إدخال المسرّة على المسلم وحصول الرضى بين المسلمين وهو مما يعزّز الأخوة الإسلامية المرغب فيها. ونقل قريب من هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد واختاره أبو علي الجبّائي وهو الأرجح لأن قرة العين لا تحصل على مضض ولأن الحط في الحق يوجب الكدر. ويؤيده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأخذ إلا به ولم يحفظ عنه أنه آثر إحدى أزواجه

٣٠٠