تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

أحرص على صلاحه وأنه أشار عليه بإمساك زوجه لصلاحها به ، وأما صلة (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) فهي توطئة للثانية.

واعلم أن المأثور الصحيح في هذه الحادثة : أن زيد بن حارثة بقيت عنده زينب سنين فلم تلد له ، فكان إذا جرى بينه وبينها ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلّت عليه بسؤددها وغضّت منه بولايته فلما تكرّر ذلك عزم على أن يطلقها وجاء يعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعزمه على ذلك لأنه تزوجها من عنده.

وروي عن علي زين العابدين : أن الله أوحى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سينكح زينب بنت جحش. وعن الزهري : نزل جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمه أن الله زوّجه زينب بنت جحش وذلك هو ما في نفسه. وذكر القرطبي أنه مختار بكر بن العلاء القشيري (١) وأبي بكر بن العربي.

والظاهر عندي : أن ذلك كان في الرؤيا كما أري أنه قال لعائشة : «أتاني بك الملك في المنام في سرقة من حرير يقول لي : هذه امرأتك فأكشف فإذا هي أنت فأقول : إن يكن هذا من عند الله يمضه».

فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد : «أمسك عليك زوجك» توفية بحقّ النصيحة وهو أمر نصح وإشارة بخير لا أمر تشريع لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المقام متصرف بحق الولاء والصحبة لا بصفة التشريع والرسالة ، وأداء هذه الأمانة لا يتأكد أنه كان يعلم أن زينب صائرة زوجا له لأن علم النبي بما سيكون لا يقتضي إجراءه إرشاده أو تشريعه بخلاف علمه أو ظنه فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم أن أبا جهل مثلا لا يؤمن ولم يمنعه ذلك من أن يبلغه الرسالة ويعاوده الدعوة ، ولأن رغبته في حصول شيء لا تقتضي إجراء أمره على حسب رغبته إن كانت رغبته تخالف ما يحمل الناس عليه ، كما كان يرغب أن يقوم أحد بقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح قبل أن يسمع منه إعلانه بالتوبة من ارتداده حين جاء به عثمان بن عفان يوم الفتح تائبا.

ولذلك كله لا يعد تصميم زيد على طلاق زينب عصيانا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن أمره في ذلك كان على وجه التوفيق بينه وبين زوجه. ولا يلزم أحدا المصير إلى إشارة المشير كما اقتضاه حديث بريرة مع زوجها مغيث إذ قال لها : «لو راجعته؟ فقالت : يا رسول الله

__________________

(١) هو من المالكية ، توفي سنة ٣٤٤. ترجمه في «المدارك».

٢٦١

تأمرني؟ قال : لا إنما أنا أشفع ، قالت : لا حاجة لي فيه».

وقوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) يؤذن بأنه جواب عن كلام صدر من زيد بأن جاء زيد مستشيرا في فراق زوجه ، أو معلما بعزمه على فراقها.

و (أَمْسِكْ عَلَيْكَ) معناه : لازم عشرتها ، فالإمساك مستعار لبقاء الصحبة تشبيها للصاحب بالشيء الممسك باليد.

وزيادة (عَلَيْكَ) لدلالة (على) على الملازمة والتمكن مثل (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] أو لتضمن (أَمْسِكْ) معنى احبس ، أي ابق في بيتك زوجك ، وأمره بتقوى الله تابع للإشارة بإمساكها ، أي اتق الله في عشرتها كما أمر الله ولا تحد عن واجب حسن المعاشرة ، أي اتق الله بملاحظة قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٢٩].

وجملة (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) عطف على جملة (تَقُولُ). والإتيان بالفعل المضارع في قوله : (وَتُخْفِي) للدلالة على تكرر إخفاء ذلك وعدم ذكره والذي في نفسه علمه بأنه سيتزوج زينب وأن زيدا يطلّقها وذلك سرّ بينه وبين ربّه ليس مما يجب عليه تبليغه ولا مما للناس فائدة في علمه حتى يبلّغوه ؛ ألا ترى أنه لم يعلم عائشة ولا أباها برؤيا إتيان الملك بها في سرقة من حرير إلا بعد أن تزوجها.

فما صدق «ما في نفسك» هو التزوج بزينب وهو الشيء الذي سيبديه الله لأن الله أبدى ذلك في تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ولم يكن أحد يعلم أنه سيتزوجها ولم يبد الله شيئا غير ذلك ، فلزم أن يكون ما أخفاه في نفسه أمرا يصلح للإظهار في الخارج ، أي أن يكون من الصور المحسوسة.

وليست جملة (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) حالا من الضمير في (تَقُولُ) كما جعله في «الكشاف» لأن ذلك مبني على توهم أن الكلام مسوق مساق العتاب على أن يقول كلاما يخالف ما هو مخفيّ في نفسه ولا يستقيم له معنى ، إذ يفضي إلى أن يكون اللائق به أن يقول له غير ذلك وهو ينافي مقتضى الاستشارة ، ويفضي إلى الطعن في صلاحية زينب للبقاء في عصمة زيد ، وقد استشعر هذا صاحب «الكشاف» فقال : «فإن قلت فما ذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد : أريد مفارقتها ، وكان من الهجنة أن يقول له : افعل فإني أريد نكاحها. قلت : كأنّ الذي أراد منه عزوجل أن يصمت عند ذلك أو يقول : أنت أعلم بشأنك حتى لا يخالف سرّه في ذلك علانيته» ا ه وهو بناء على أساس كونه عتابا

٢٦٢

وفيه وهن.

وجملة (وَتَخْشَى النَّاسَ) عطف على جملة (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) ، أي تخفي ما سيبديه الله وتخشى الناس من إبدائه.

والخشية هنا كراهية ما يرجف به المنافقون ، والكراهة من ضروب الخشية إذ الخشية جنس مقول على أفراده بالتشكيك فليست هي خشية خوف ، إذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يخاف أحدا من ظهور تزوجه بزينب ، ولم تكن قد ظهرت أراجيف المنافقين بعد ، ولكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوسم من خبثهم وسوء طويتهم ما يبعثهم على القالة في الناس لفتنة الأمة ، فكان يعلم ما سيقولونه ويمتعض منه ، كما كان منهم في قضية الإفك ، ولم تكن خشية تبلغ به مبلغ صرفه عما يرغبه بدليل أنه لم يتردد في تزوج زينب بعد طلاق زيد ، ولكنها استشعار في النفس وتقدير لما سيرجفه المنافقون.

والتعريف في (النَّاسَ) للعهد ، أي تخشى المنافقين ، أي يؤذوك بأقوالهم.

وجملة (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) معترضة لمناسبة جريان ذكر خشية الناس ، والواو اعتراضية وليست واو الحال ، فمعنى الآية معنى قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة : ٤٤]. وحملها على معنى الحال هو الذي حمل كثيرا من المفسرين على جعل الكلام عتابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (أَحَقُ) اسم تفضيل مسلوب المفاضلة فهو بمعنى حقيق ، إذ ليس في الكلام السابق ما يفيد وقوع إيثار خشية الناس على خشية الله ، ولا ما يفيد تعارضا بين الخشيتين حتى يحتاج إلى ترجيح خشية الله على خشية الناس ، والمعنى : والله حقيق بأن تخشاه.

وليس في هذا التركيب ما يفيد أنه قدم خشية الناس على خشية الله ، لأن الله لم يكلفه شيئا فعمل بخلافه.

وبهذا تعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فعل إلا ما يرضي الله ، وقد قام بعمل الصاحب الناصح حين أمر زيدا بإمساك زوجه وانطوى على علم صالح حين خشي ما سيفترصه المنافقون من القالة إذا تزوج زينب خفية أن يكون قولهم فتنة لضعفاء الإيمان كقوله للرجلين اللذين رأياه في الليل مع زينب فأسرعا خطاهما فقال : «على رسلكما إنما هي زينب. فكبر ذلك عليهما وقالا : سبحان الله يا رسول الله. فقال : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما».

٢٦٣

فمقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأمة مقام الطبيب الناصح في بيمارستان يحوي أصنافا من المرضى إذا رأى طعاما يجلب لما لا يصلح ببعض مرضاه أن ينهى عن إدخاله خشية أن يتناوله من المرضى من لا يصلح ذلك بمرضه ويزيد في علته أو يفضي إلى انتكاسه.

وليس في قوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ) عتاب ولا لوم ، ولكنه تذكير بما حصل له من توقيه قالة المنافقين. وحمله كثير من المفسرين على معنى العتاب وليس من سياق الكلام ما يقتضيه فأحسبهم مخطئين فيه ، ولكنه تشجيع له وتحقير لأعداء الدين وتعليم له بأن يمضي في سبيله ويتناول ما أباح الله له ولرسله من تناول ما هو مباح من مرغوباتهم ومحباتهم إذا لم يصدهم شيء من ذلك عن طاعة ربهم كما قال تعالى : (ما كانَ عَلَى) النبي (مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً* الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ) رسالات (اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) [الأحزاب : ٣٨ ، ٣٩] ، وأن عليه أن يعرض عن قول المنافقين ، وعلى نحو قوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، فهذا جوهر ما أشارت إليه الآية ، وليس فيها ما يشير إلى غير ذلك.

وقد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة ، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة ، فلا تصغ ذهنك إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية من تبسيط في حال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أمر زيدا بإمساك زوجه ، فإن ذلك من مختلقات القصاصين ؛ فإما أن يكون ذلك اختلافا من القصاص لتزيين القصة ، وإما أن يكون كله أو بعضه من أراجيف المنافقين وبهتانهم فتلقفه القصاص وهو الذي نجزم به. ومما يدل لذلك أنك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثرا مسندا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى زيد أو إلى زينب أو إلى أحد من الصحابة رجالهم ونسائهم ، ولكنها كلها قصص وأخبار وقيل وقال.

ولسوء فهم الآية كبر أمرها على بعض المسلمين واستفزّت كثيرا من الملاحدة وأعداء الإسلام من أهل الكتاب. وقد تصدى أبو بكر بن العربي في «الأحكام» لوهن أسانيدها وكذلك عياض في «الشفاء».

والآن نريد أن ننقل مجرى الكلام إلى التسليم بوقوع ما روي من الأخبار الواهية السند لكي لا نترك في هذه الآية مهواة لأحد. ومجموع القصة من ذلك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بيت زيد يسأل عنه فرأى زينب متفضلة ، وقيل رفعت الريح ستار البيت فرأى النبي عليه الصلاة والسلام زينب فجأة على غير قصد فأعجبه حسنها وسبّح لله ، وأن زينب

٢٦٤

علمت أنه وقعت منه موقع الاستحسان وأن زيدا علم ذلك وأنه أحب أن يطلقها ليؤثر بها مولاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه لما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك قال له : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) (وهو يودّ طلاقها في قلبه ويعلم أنها صائرة زوجا له).

وعلى تفاوت أسانيده في الوهن ألقي إلى الناس في القصة فانتقل غثه وسمينه ، وتحمّل خفه ورزينه ، فأخذ منه كلّ ما وسعه فهمه ودينه ، ولو كان كله واقعا لما كان فيه مغمز في مقام النبوءة.

فأما رؤيته زينب في بيت زيد إن كانت عن عمد فذلك أنه استأذن في بيت زيد ، فإن الاستئذان واجب فلا شك أنه رأى وجهها وأعجبته ولا أحسب ذلك لأن النساء لم يكنّ يسترن وجوههن قال تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) [النور : ٣١] (أي الوجه والكفين) وزيد كان من أشد الناس اتصالا بالنبيء ، وزينب كانت ابنة عمته وزوج مولاه ومتبنّاه ، فكانت مختلطة بأهله ، وهو الذي زوجها زيدا ، فلا يصح أن يكون ما رآها إلا حين جاء بيت زيد ، وإن كانت الريح رفعت الستر فرأى من محاسنها وزينتها ما لم يكن يراه من قبل ، فكذلك لا عجب فيه لأن رؤية الفجأة لا مؤاخذة عليها ، وحصول الاستحسان عقب النظر الذي ليس بحرام أمر قهري لا يملك الإنسان صرفه عن نفسه ، وهل استحسان ذات المرأة إلا كاستحسان الرياض والجنّات والزهور والخيل ونحو ذلك مما سماه الله زينة إذا لم يتبعه النظار نظرة.

وأما ما خطر في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مودة تزوجها فإن وقع فما هو بخطب جليل لأنه خاطر لا يملك المرء صرفه عن نفسه وقد علمت أن قوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ) ليس بلوم ، وأن قوله : (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ليس فيه لوم ولا توبيخ على عدم خشية الله ولكنه تأكيد لعدم الاكتراث بخشية الناس.

وإنما تظهر مجالات النفوس في ميادين الفتوة بمقدار مصابرتها على الكمال في مقاومة ما ينشأ عن تلك المرائي من ضعف في النفوس وخور العزائم وكفاك دليلا على تمكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا المقام وهو أفضل من ترسخ قدمه في أمثاله أنه لم يزل يراجع زيدا في إمساك زوجه مشيرا عليه بما فيه خير له وزيد يرى ذلك إشارة ونصحا لا أمرا وشرعا.

ولو صح أن زيدا علم مودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج زينب فطلقها زيد لذلك دون أمر من النبي عليه الصلاة والسلام ولا التماس لما كان عجبا فإنهم كانوا يؤثرون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على

٢٦٥

أنفسهم ، وقد تنازل له دحية الكلبي عن صفية بنت حيي بعد أن صارت له في سهمه من مغانم خيبر ، وقد عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف أن يتنازل له عن إحدى زوجتيه يختارها للمؤاخاة التي آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما.

وأما إشارة النبي عليه الصلاة والسلام على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة ، وقد يشير المرء بالشيء يعلمه مصلحة وهو يوقن أن إشارته لا تمتثل. والتخليط بين الحالين تخليط بين التصرف المستند لما تقتضيه ظواهر الأحوال وبين ما في علم الله في الباطن ، وأشبه مقام به مقام موسى مع الخضر في القضايا الثلاث. وليس هذا من خائنة الأعين ، كما توهمه من لا يحسن ، لأن خائنة الأعين المذمومة ما كانت من الخيانة والكيد.

وليس هو أيضا من الكذب لأن قول النبي عليه الصلاة والسّلام لزيد (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) لا يناقض رغبته في تزوجها وإنما يناقضه لو قال : إنّي أحب أن تمسك زوجك ، إذ لا يخفى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار. ومن حق المستشار إعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير ، وإن كان صلاح المشير في خلافه ، فضلا على كون ما في هذه القصة إنما هو تخالف بين النصيحة وبين ما علمه الناصح من أن نصحه لا يؤثّر.

فإن قلت : فما معنى ما روي في الصحيح عن عائشة أنها قالت : لو كان رسول الله كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) الآية.

قلت : أرادت أن رغبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تزوج زينب أو إعلام الله إياه بذلك كان سرا في نفسه لم يطلع عليه أحد إذ لم يؤمر بتبليغة إلى أحد. وعلى ذلك السر انبنى ما صدر منه لزيد من قوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ). فلما طلقها زيد ورام تزوجها علم أن المنافقين سيرجفون بالسوء ، فلما أمره الله بذكر ذلك للأمة وتبليغ خبره بلّغه ولم يكتمه مع أنه ليس في كتمه تعطيل شرع ولا نقص مصلحة ، فلو كان كاتما لكتم هذه الآية التي هي حكاية سر في نفسه وبينه وبين ربّه تعالى ، ولكنه لما كان وحيا بلّغه لأنه مأمور بتبليغ كل ما أنزل إليه.

واعلم أن للحقائق نصابها ، وللتصرفات موانعها وأسبابها ، وأن الناس قد تمتلكهم العوائد ، فتحول بينهم وبين إدراك الفوائد ، فإذا تفشّت أحوال في عاداتهم استحسنوها ولو

٢٦٦

ساءت ، وإذا ندرت المحامد دافعوها إذا رامت مداخلة عقولهم وشاءت ، وكل ذلك من تحريف الفطرة عن وضعها ، والمباعدة بين الحقائق وشرعها.

ولما جاء الإسلام أخذ يغزو تلك الجيوش ليقلعها من أقاصيها ، وينزلها من صياصيها ، فالحسن المشروع ما تشهد الفطرة لحسنه ، والقبيح الممنوع الذي أماتته الشريعة وأمرت بدفنه.

(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً).

تفريع على جملة (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) الآية ، وقد طوي كلام يدل عليه السياق ، وتقديره : فلم يقبل منك ما أشرت عليه ولم يمسكها.

ومعنى (قَضى) استوفى وأتم. واسم (زَيْدٌ) إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : فلما قضى منها وطرا ، أي قضى الذي أنعم الله وأنعمت عليه ، فعدل عن مقتضى الظاهر للتنويه بشأن زيد. قال القرطبي : قال السهيلي : كان يقال له زيد بن محمد فلما نزع عنه هذا الشرف حين نزل (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) [الأحزاب : ٥] وعلم الله وحشته من ذلك شرّفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي أنه سماه في القرآن ، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم نوّه غاية التنويه ا ه.

والوطر : الحاجة المهمة ، والنهمة قال النابغة :

فمن يكن قد قضى من خلة وطرا

فإنني منك ما قضّيت أوطاري

والمعنى : فلما استتم زيد مدة معاشرة زينب فطلقها ، أي فلما لم يبق له وطر منها.

ومعنى (زَوَّجْناكَها) أذنّا لك بأن تتزوجها ، وكانت زينب أيّما فتزوجها الرسول عليه الصّلاة والسّلام برضاها. وذكر أهل السير : أنها زوّجها إياه أخوها أبو أحمد الضرير واسمه عبد بن جحش ، فلما أمره الله بتزوجها قال لزيد بن حارثة : ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ ، قال زيد : فجئتها فوليتها ظهري توقيرا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقلت : يا زينب أرسل رسول الله يذكرك. فقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي ، وقامت إلى مسجدها وصلّت صلاة الاستخارة فرضيت ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل فبنى بها. وكانت زينب تفخر على نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول : زوجكنّ آباؤكن وزوّجني ربّي. وهذا يقتضي إن لم يتول أخوها أبو أحمد تزويجها فتكون هذه خصوصية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الذين يشترطون

٢٦٧

الولي في النكاح كالمالكيّة دون قول الحنفية. ولم يذكر في الروايات أنّ النبي عليه الصلاة والسلام أصدقها فعدّه بعض أهل السير من خصوصياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون في تزوّجها خصوصيتان نبويّتان.

وأشار إلى حكمة هذا التزويج في إقامة الشريعة ، وهي إبطال الحرج الذي كان يتحرجه أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دعيّه ، فلما أبطله الله بالقول إذ قال : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الأحزاب : ٤] أكد إبطاله بالفعل حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج أن يقول قائل : إن ذاك وإن صار حلالا فينبغي التنزه عنه لأهل الكمال ، فاحتيط لانتفاء ذلك بإيقاع التزوج بامرأة الدعيّ من أفضل الناس وهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والجمع بين اللام وكي توكيد للتعليل كأنه يقول : ليست العلة غير ذلك ، ودلت الآية على أن الأصل في الأحكام التشريعية أن تكون سواء بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة حتى يدل دليل على الخصوصية.

وجملة (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) تذييل لجملة (زَوَّجْناكَها). وأمر الله يجوز أن يراد به من أمر به من إباحة تزوج من كنّ حلائل الأدعياء ، فهو بمعنى الأمر التشريعي فيه. ومعنى (مَفْعُولاً) أنه متّبع ممتثل فلا يتنزه أحد عنه ، قال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢].

ويجوز أن يراد الأمر التكويني وهو ما علم أنه يكون وقدّر أسباب كونه ، فيكون معنى (مَفْعُولاً) واقعا ، والأمر من إطلاق السبب على المسبب ، والمفعول هو المسبب.

وتزوّج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب من أمر الله بالمعنيين.

[٣٨ ، ٣٩] (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩))

استئناف لزيادة بيان مساواة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأمة في إباحة تزوج مطلقة دعيّه وبيان أن ذلك لا يخل بصفة النبوءة لأن تناول المباحات من سنة الأنبياء ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) [المؤمنون : ٥١] ، وأن النبي إذا رام الانتفاع بمباح لميل نفسه إليه ينبغي له أن يتناوله لئلا يجاهد نفسه فيما لم يؤمر بمجاهدة النفس فيه ، لأن

٢٦٨

الأليق به أن يستبقي عزيمته ومجاهدته لدفع ما أمر بتجنبه.

وفي هذا الاستئناف ابتداء لنقض أقوال المنافقين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج امرأة ابنه.

ومعنى : (فَرَضَ اللهُ لَهُ) قدّره ، إذ أذنه بفعله. وتعدية فعل (فَرَضَ) باللام تدل على هذا المعنى بخلاف تعديته بحرف (على) كقوله : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) [الأحزاب : ٥٠].

والسّنّة : السيرة من عمل أو خلق يلازمه صاحبه. ومضى القول في هل السنة اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) في سورة آل عمران [١٣٧] ، وعلى الأول فانتصاب (سُنَّةَ اللهِ) هنا على أنه اسم وضع في موضع المصدر لدلالته على معنى فعل ومصدر. قال في «الكشاف» كقولهم : تربا وجندلا ، أي في الدعاء ، أي ترب تربا. وأصله : ترب له وجندل له. وجاء على مراعاة الأصل قول المعري :

تمنت قويقا والسراة حيالها

تراب لها من أينق وجمال

ساقه مساق التعجب المشوب بغضب.

وعلى الثاني فانتصاب (سُنَّةَ) على المفعول المطلق ، وعلى كلا الوجهين فالفعل مقدّر دل عليه المصدر أو نائبه. فالتقدير : سنّ الله سنته في الذين خلوا من قبل.

والمعنى : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم متّبع سنّة الأنبياء الذين سبقوه اتباعا لما فرض الله له كما فرض لهم ، أي أباح.

والمراد ب (الَّذِينَ خَلَوْا) : الأنبياء بقرينة سياق لفظ النبي ، أي الذين خلوا من قبل النبوءة ، وقد زاده بيانا قوله : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ) ، فالأنبياء كانوا متزوجين وكان لكثير منهم عدة أزواج ، وكان بعض أزواجهم أحب إليهم من بعضهن.

فإن وقفنا عند ما جاء في هذه الآية وما بيّنته الآثار الصحيحة فالعبرة بأحوال جميع الأنبياء.

وإن تلقّينا بشيء من الإغضاء بعض الآثار الضعيفة التي ألصقت بقصة تزوج زينب كان داود عليه‌السلام عبرة بالخصوص فقد كانت له زوجات كثيرات وكان قد أحب أن يتزوج زوجة (أوريا) وهي التي ضرب الله لها مثلا بالخصم الذين تسوّروا المحراب وتشاكوا بين يديه. وستأتي في سورة ص ، وقد ذكرت القصة في «سفر الملوك». ومحلّ

٢٦٩

التمثيل بداود في أصل انصراف رغبته إلى امرأة لم تكن حلالا له فصارت حلالا له ، وليس محلّ التمثيل فيما حفّ بقصة داود من لوم الله إياه على ذلك كما قال : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) [ص : ٢٤] الآية لأن ذلك منتف في قصة تزوّج زينب.

وجملة (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) معترضة بين الموصول والصفة إن كانت جملة (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ) صفة ل (الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ، أو تذييل مثل جملة (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٧] إن كانت جملة (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ) مستأنفة كما سيأتي ، والقول فيه مثل نظيره المتقدم آنفا.

والقدر بفتح الدال : إيجاد الأشياء على صفة مقصودة وهو مشتق من القدر بسكون الدال وهو الكمية المحددة المضبوطة ، وتقدم في قوله تعالى : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) في سورة الرعد [١٧] وقوله : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) في سورة الحجر [٢١]. ولما كان من لوازم هذا المعنى أن يكون مضبوطا محكما كثرت الكناية بالقدر عن الإتقان والصدور عن العلم. ومنه حديث : «كل شيء بقضاء وقدر» ، أي من الله.

واصطلح علماء الكلام : أن القدر اسم للإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه ، ويطلقونه على الشيء الذي تعلق به القدر وهو المقدور كما في هذه الآية ، فالمعنى : وكان أمر الله مقدّرا على حكمة أرادها الله تعالى من ذلك الأمر ، فالله لما أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بتزوج زينب التي فارقها زيد كان عالما بأن ذلك لائق برسوله عليه الصلاة والسلام كما قدر لأسلافه من الأنبياء.

وفي قوله : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ) جيء بالموصول دون اسم الإشارة أو الضمير لما في هذه الصلة من إيماء إلى انتفاء الحرج عن الأنبياء في تناول المباح بأن الله أراد منهم تبليغ الرسالة وخشية الله بتجنب ما نهى عنه ولم يكلفهم إشقاق نفوسهم بترك الطيبات التي يريدونها ، ولا حجب وجدانهم عن إدراك الأشياء على ما هي عليه من حسن الحسن وقبح القبيح ، ولا عن انصراف الرغبة إلى تناول ما حسن لديهم إذا كان ذلك في حدود الإباحة ، ولا كلّفهم مراعاة ميول الناس ومصطلحاتهم وعوائدهم الراجعة إلى الحيدة بالأمور عن مناهجها فإن في تناولهم رغباتهم المباحة عونا لهم على النشاط في تبليغ رسالات الله ، ولذلك عقب بقوله : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) ، أي لا يخشون أحدا خشية تقتضي فعل شيء أو تركه.

ثم إن جملة (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ) إلى آخرها يجوز أن تكون في موضع الصفة للذين

٢٧٠

خلوا من قبل ، أي الأنبياء. وإذ قد علم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متبع ما أذن الله له اتباعه من سنّة الأنبياء قبله علم أنه متصف بمضمون جملة (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) بحكم قياس المساواة ، فعلم أن الخشية التي في قوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ) [الأحزاب : ٣٧] ليست خشية خوف توجب ترك ما يكرهه الناس أو فعل ما يرغبونه بحيث يكون الناس محتسبين على النبي عليه الصلاة والسلام ولكنها توقّع أن يصدر من الناس وهم المنافقون ما يكرهه النبي عليه الصلاة والسلام ويدل لذلك قوله : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) ، أي الله حسيب الأنبياء لا غيره.

هذا هو الوجه في سياق تفسير هذه الآيات ، فلا تسلك في معنى الآية مسلكا يفضي بك إلى توهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصلت منه خشية الناس وأن الله عرّض به في قوله : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) تصريحا بعد أن عرّض به تلميحا في قوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ) [الأحزاب : ٣٧] بل النبي عليه الصلاة والسلام لم يكترث بهم وأقدم على تزوج زينب ، فكل ذلك قبل نزول هذه الآيات التي ما نزلت إلا بعد تزوج زينب كما هو صريح قوله : (زَوَّجْناكَها) [الأحزاب : ٣٧] ولم يتأخر إلى نزول هذه الآية.

وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار في قوله : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) حيث تقدم ذكره لقصد أن تكون هذه الجملة جارية مجرى المثل والحكمة.

وإذ قد كان هذا وصف الأنبياء فليس في الآية مجال للاستدراك عليها بمسألة التقية في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) [آل عمران : ٢٨].

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

استئناف للتصريح بإبطال أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض وما يلقيه اليهود في نفوسهم من الشك.

وهو ناظر إلى قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الأحزاب : ٤]. والغرض من هذا العموم قطع توهّم أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولد من الرجال تجري عليه أحكام البنوّة حتى لا يتطرق الإرجاف والاختلاق إلى من يتزوجهن من أيامى المسلمين أصحابه مثل أمّ سلمة وحفصة.

٢٧١

و (مِنْ رِجالِكُمْ) وصف ل (أَحَدٍ) ، وهو احتراس لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بنات. والمقصود : نفي أن يكون أبا لأحد من الرجال في حين نزول الآية لأنه كان ولد له أولاد أو ولدان بمكة من خديجة وهم الطيّب والطاهر (أو هما اسمان لواحد) والقاسم ، وولد له إبراهيم بالمدينة من مارية القبطية ، وكلهم ماتوا صبيانا ولم يكن منهم موجود حين نزول الآية.

والمنفي هو وصف الأبوّة المباشرة لأنها الغرض الذي سيق الكلام لأجله والذي وهم فيه من وهم فلا التفات إلى كونه جدّا للحسن والحسين ومحسن أبناء ابنته فاطمة رضي‌الله‌عنها إذ ليس ذلك بمقصود ، ولا يخطر ببال أحد نفي أبوته لهم بمعنى الأبوة العليا ، أو المراد أبوّة الصلب دون أبوة الرّحم.

وإضافة (رجال) إلى ضمير المخاطبين والعدول عن تعريفه باللام لقصد توجيه الخطاب إلى الخائضين في قضية تزوج زينب إخراجا للكلام في صيغة التغليط والتغليظ.

وأما توجيهه بأنه كالاحتراز عن أحفاده وأنه قال : (مِنْ رِجالِكُمْ) وأما الأحفاد فهم من رجاله ففيه سماجة وهو أن يكون في الكلام توجيه بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريء من المخاطبين أعني المنافقين وليس بينه وبينهم الصلة الشبيهة بصلة الأبوة الثابتة بطريقة لحن الخطاب من قوله تعالى (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] كما تقدم.

واستدراك قوله : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) لرفع ما قد يتوهم من نفي أبوته ، من انفصال صلة التراحم والبرّ بينه وبين الأمة فذكّروا بأنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كالأب لجميع أمته في شفقته ورحمته بهم ، وفي برّهم وتوقيرهم إياه ، شأن كل نبيء مع أمته.

والواو الداخلة على (لكِنْ) زائدة و (لكِنْ) عاطفة ولم ترد (لكِنْ) في كلام العرب عاطفة إلّا مقترنة بالواو كما صرح به المرادي في «شرح التسهيل». وحرف (لكِنْ) مفيد الاستدراك.

وعطف صفة وخاتم النبيئين على صفة (رَسُولَ اللهِ) تكميل وزيادة في التنويه بمقامهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيماء إلى أن في انتفاء أبوته لأحد من الرجال حكمة قدّرها الله تعالى وهي إرادة أن لا يكون إلا مثل الرّسل أو أفضل في جميع خصائصه.

وإذ قد كان الرسل لم يخل عمود أبنائهم من نبيء كان كونه خاتم النبيئين مقتضيا أن لا يكون له أبناء بعد وفاته لأنهم لو كانوا أحياء بعد وفاته ولم تخلع عليهم خلعة النبوءة

٢٧٢

لأجل ختم النبوءة به كان ذلك غضا فيه دون سائر الرسل وذلك ما لا يريده الله به. ألا ترى أن الله لما أراد قطع النبوءة من بني إسرائيل بعد عيسى عليه‌السلام صرف عيسى عن التزوج.

فلا تجعل قوله : وخاتم النبيئين داخلا في حيّز الاستدراك لما علمت من أنه تكميل واستطراد بمناسبة إجراء وصف الرسالة عليه. وببيان هذه الحكمة يظهر حسن موقع التذييل بجملة (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) إذ أظهر مقتضى حكمته فيما قدره من الأقدار كما في قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) إلى قوله : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المائدة : ٩٧].

والآية نصّ في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيئين وأنه لا نبيء بعده في البشر لأن النبيئين عام فخاتم النبيئين هو خاتمهم في صفة النبوءة. ولا يعكر على نصيّة الآية أن العموم دلالته على الأفراد ظنية لأن ذلك لاحتمال وجود مخصّص. وقد تحققنا عدم المخصص بالاستقراء.

وقد أجمع الصحابة على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الرسل والأنبياء وعرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العنسي فصار معلوما من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإسلام ولو كان معترفا بأن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول الله للناس كلّهم. وهذا النوع من الإجماع موجب العلم الضروري كما أشار إليه جميع علمائنا ولا يدخل هذا النوع في اختلاف بعضهم في حجّية الإجماع إذ المختلف في حجّيته هو الإجماع المستند لنظر وأدلة اجتهادية بخلاف المتواتر المعلوم بالضرورة في كلام الغزالي في خاتمة كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد» مخالفة لهذا على ما فيه من قلة تحرير. وقد حمل عليه ابن عطية حملة غير منصفة وألزمه إلزاما فاحشا ينزه عنه علمه ودينه فرحمة الله عليهما.

ولذلك لا يتردد مسلم في تكفير من يثبت نبوءة لأحد بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي إخراجه من حظيرة الإسلام ، ولا تعرف طائفة من المسلمين أقدمت على ذلك إلا البابيّة والبهائية وهما نحلتان مشتقة ثانيتهما من الأولى. وكان ظهور الفرقة الأولى في بلاد فارس في حدود سنة مائتين وألف وتسربت إلى العراق وكان القائم بها رجلا من أهل شيراز يدعوه أتباعه السيد علي محمد ، كذا اشتهر اسمه ، كان في أول أمره من غلاة الشيعة الإمامية. أخذ عن رجل

٢٧٣

من المتصوفين اسمه الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي الذي كان ينتحل التصوف بالطريقة الباطنية وهي الطريقة المتلقاة عن الحلاج. وكانت طريقته تعرف بالشيخية ، ولما أظهر نحلته علي محمد هذا لقب نفسه باب العلم فغلب عليه اسم الباب. وعرفت نحلته بالبابيّة وادعى لنفسه النبوءة وزعم أنه أوحي إليه بكتاب اسمه «البيان» وأن القرآن أشار إليه بقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٣ ـ ٤].

وكتاب «البيان» مؤلف بالعربيّة الضعيفة ومخلوط بالفارسية. وقد حكم عليه بالقتل فقتل سنة ١٢٦٦ في تبريز.

وأما البهائية فهي شعبة بن البابيّة تنسب إلى مؤسسها الملقّب ببهاء الله واسمه ميرزا حسين علي من أهل طهران تتلمذ للباب بالمكاتبة وأخرجته حكومة شاه العجم إلى بغداد بعد قتل الباب. ثم نقلته الدولة العثمانية من بغداد إلى أدرنة ثم إلى عكا ، وفيها ظهرت نحلته وهم يعتقدون نبوءة الباب وقد التفّ حوله أصحاب نحلة البابيّة وجعلوه خليفة الباب فقام اسم البهائية مقام اسم البابية فالبهائية هم البابية. وقد كان البهاء بنى بناء في جبل الكرمل ليجعله مدفنا لرفات (الباب) وآل أمره إلى أن سجنته السلطنة العثمانية في سجن عكا فلبث في السجن سبع سنوات ولم يطلق من السجن إلا عند ما أعلن الدستور التركي فكان في عداد المساجين السياسيين الذين أطلقوا يومئذ فرحل منتقلا في أوروبا وأميركا مدة عامين ثم عاد إلى حيفا فاستقرّ بها إلى أن توفي سنة ١٣٤٠ وبعد موته نشأ شقاق بين أبنائه وإخوته فتفرقوا في الزعامة وتضاءلت نحلتهم.

فمن كان من المسلمين متّبعا للبهائية أو البابية فهو خارج عن الإسلام مرتدّ عن دينه تجري عليه أحكام المرتدّ. ولا يرث مسلما ويرثه جماعة المسلمين ولا ينفعهم قولهم : إنا مسلمون ولا نطقهم بكلمة الشهادة لأنهم يثبتون الرسالة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنهم قالوا بمجيء رسول من بعده. ونحن كفّرنا الغرابية من الشيعة لقولهم : بأن جبريل أرسل إلى علي ولكنه شبّه له محمد بعليّ إذ كان أحدهما أشبه بالآخر من الغراب بالغراب (وكذبوا) فبلغ الرسالة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم أثبتوا الرسالة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنهم زعموه غير المعيّن من عند الله.

وتشبه طقوس البهائية طقوس الماسونية إلا أن البهائية تنتسب إلى التلقي من الوحي الإلهي ، فبذلك فارقت الماسونية وعدّت في الأديان والملل ولم تعد في الأحزاب.

وانتصب (رَسُولَ اللهِ) معطوفا على (أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) عطفا بالواو المقترنة ب (لكِنْ) لتفيد رفع النفي الذي دخل على عامل المعطوف عليه.

٢٧٤

وقرأ الجمهور وخاتم النبيئين بكسر تاء (خاتَمَ) على أنه اسم فاعل من ختم. وقرأ عاصم بفتح التاء على تشبيهه بالخاتم الذي يختم به المكتوب في أن ظهوره كان غلقا للنبوءة.

[٤١ ، ٤٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢))

إقبال على مخاطبة المؤمنين بأن يشغلوا ألسنتهم بذكر الله وتسبيحه ، أي أن يمسكوا عن مماراة المنافقين أو عن سبّهم فيما يرجفون به في قضية تزوج زينب فأمر المؤمنين أن يعتاضوا عن ذلك بذكر الله وتسبيحه خيرا لهم ، وهذا كقوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [البقرة : ٢٠٠] ، أي خير من التفاخر بذكر آبائكم وأحسابكم ، فذلك أنفع لهم وأبعد عن أن تثور بين المسلمين والمنافقين ثائرة فتنة في المدينة ، فهذا من نحو قوله لنبيّه (وَدَعْ أَذاهُمْ) [الأحزاب : ٤٨] ومن نحو قوله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٠٨] ، فأمروا بتشغيل ألسنتهم وأوقاتهم بما يعود بنفعهم وتجنب ما عسى أن يوقع في مضرة.

وفيه تسجيل على المنافقين بأن خوضهم في ذلك بعد هذه الآية علامة على النفاق لأن المؤمنين لا يخالفون أمر ربهم.

والجملة استئناف ابتدائي متصل بما قبله للمناسبة التي أشرنا إليها.

والذكر : ذكر اللسان وهو المناسب لموقع الآية بما قبلها وبعدها.

والتسبيح : يجوز أن يراد به الصلوات النوافل فليس عطف (وَسَبِّحُوهُ) على (اذْكُرُوا اللهَ) من عطف الخاص على العام.

ويجوز أن يكون المأمور به من التسبيح قول : سبحان الله ، فيكون عطف (وَسَبِّحُوهُ) على (اذْكُرُوا اللهَ) من عطف الخاص على العام اهتماما بالخاص لأن معنى التسبيح التنزيه عما لا يجوز على الله من النقائص فهو من أكمل الذكر لاشتماله على جوامع الثناء والتمجيد ، ولأن في التسبيح إيماء إلى التبرؤ مما يقوله المنافقون في حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون في معنى قوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) [النور : ١٦] فإن كلمة : سبحان الله ، يكثر أن تقال في مقام

٢٧٥

التبرّؤ من نسبة ما لا يليق إلى أحد كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله! المؤمن لا ينجس». وقول هند بنت عتبة حين أخذ على النساء البيعة «أن لا يزنين» : سبحان الله أتزني الحرّة.

والبكرة : أول النهار. والأصيل : العشيّ الوقت الذي بعد العصر. وانتصبا على الظرفية التي يتنازعها الفعلان (اذْكُرُوا اللهَ) .. و (سَبِّحُوهُ).

والمقصود من البكرة والأصيل إعمار أجزاء النهار بالذكر والتسبيح بقدر المكنة لأن ذكر طرفي الشيء يكون كناية عن استيعابه كقول طرفة :

لكالطّول المرخى وثنياه باليد

ومنه قولهم : المشرق والمغرب ، كناية عن الأرض كلّها ، والرأس والعقب كناية عن الجسد كله ، والظهر والبطن كذلك.

وقدّم البكرة على الأصيل لأن البكرة أسبق من الأصيل لا محالة. وليس الأصيل جديدا بالتقديم في الذكر كما قدم لفظ (تُمْسُونَ) في قوله في سورة الروم (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم : ١٧] لأن كلمة المساء تشمل أول الليل فقدم لفظ (تُمْسُونَ) هنالك رعيا لاعتبار الليل أسبق في حساب أيام الشهر عند العرب وفي الإسلام وليست كذلك كلمة الأصيل.

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣))

تعليل للأمر بذكر الله وتسبيحه بأن ذلك مجلبة لانتفاع المؤمنين بجزاء الله على ذلك بأفضل منه من جنسه وهو صلاته وصلاة ملائكته. والمعنى : أنه يصلي عليكم وملائكته إذا ذكرتموه ذكرا بكرة وأصيلا.

وتقديم المسند إليه على الخير الفعلي في قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) لإفادة التقوّي وتحقيق الحكم. والمقصود تحقيق ما تعلق بفعل (يُصَلِّي) من قول (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

والصلاة : الدعاء والذكر بخير ، وهي من الله الثناء. وأمره بتوجيه رحمته في الدنيا والآخرة ، أي اذكروه ليذكركم كقوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] وقوله في الحديث القدسي : «فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم».

٢٧٦

وصلاة الملائكة : دعاؤهم للمؤمنين فيكون دعاؤهم مستجابا عند الله فيزيد الذاكرين على ما أعطاهم بصلاته تعالى عليهم. ففعل (يُصَلِّي) مسند إلى الله وإلى ملائكته لأن حرف العطف يفيد تشريك المعطوف والمعطوف عليه في العامل ، فهو عامل واحد له معمولان فهو مستعمل في القدر المشترك الصالح لصلاة الله تعالى وصلاة الملائكة الصادق في كلّ بما يليق به بحسب لوازم معنى الصلاة التي تتكيّف بالكيفية المناسبة لمن أسندت إليه.

ولا حاجة إلى دعوى استعمال المشترك في معنييه على أنه لا مانع منه على الأصح ، ولا إلى دعوى عموم المجاز. واجتلاب (يُصَلِّي) بصيغة المضارع لإفادة تكرر الصلاة وتجددها كلما تجدد الذكر والتسبيح ، أو إفادة تجددها بحسب أسباب أخرى من أعمال المؤمنين وملاحظة إيمانهم.

وفي إيراد الموصول إشارة إلى أنه تعالى معروف عندهم بمضمون الصلة بحسب غالب الاستعمال : فإمّا لأن المسلمين يعلمون على وجه الإجمال أنهم لا يأتيهم خير إلّا من جانب الله تعالى ، فكل تفصيل لذلك الإجمال دخل في علمهم ، ومنه أنه يصلي عليهم ويأمر ملائكته بذلك ، وإمّا أن يكون قد سبق لهم علم بذلك تفصيلا من قبل : فبعض آيات القرآن كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥] فقد علم المسلمون أن استغفار الملائكة للمؤمنين بأمر من الله تعالى لقوله تعالى : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [يونس : ٣] ، والدعاء لأحد من الشفاعة له ، على أن من جملة صلة الموصول أن ملائكته يصلّون على المؤمنين. وذلك معلوم من آيات كثيرة ، وقد يكون ذلك بإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين فيما قبل نزول هذه الآية ، ويؤيد هذا المعنى قوله بعده (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) كما يأتي قريبا.

واللام في قوله : (لِيُخْرِجَكُمْ) متعلقة ب (يُصَلِّي). فعلم أن هذه الصلاة جزاء عاجل حاصل وقت ذكرهم وتسبيحهم.

والمراد ب (الظُّلُماتِ) : الضلالة ، وب (النُّورِ) : الهدى ، وبإخراجهم من الظلمات : دوام ذلك والاستزادة منه لأنهم لما كانوا مؤمنين كانوا قد خرجوا من الظلمات إلى النور (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦].

وجملة (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) تذييل.

٢٧٧

ودلّ الإخبار عن رحمته بالمؤمنين بإقحام فعل (كانَ) وخبرها لما تقتضيه (كانَ) من ثبوت ذلك الخبر له تعالى وتحققه وأنه شأن من شئونه المعروف بها في آيات كثيرة.

ورحمته بالمؤمنين أعمّ من صلاته عليهم لأنها تشمل إسداء النفع إليهم وإيصال الخير لهم بالأقوال والأفعال والألطاف.

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))

أعقب الجزاء العاجل الذي أنبأ عنه قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) [الأحزاب : ٤٣] بذكر جزاء آجل وهو ظهور أثر الأعمال التي عملوها في الدنيا وأثر الجزاء الذي عجّل لهم عليها من الله في كرامتهم يوم يلقون ربهم.

فالجملة تكملة للتي قبلها لإفادة أن صلاة الله وملائكته واقعة في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة.

والتحية : الكلام الذي يخاطب به عند ابتداء الملاقاة إعرابا عن السرور باللقاء من دعاء ونحوه. وهذا الاسم في الأصل مصدر حيّاه ، إذا قال له : أحياك الله ، أي أطال حياتك. فسمى به الكلام المعرب عن ابتغاء الخير للملاقى أو الثناء عليه لأنه غلب أن يقولوا : أحياك الله عند ابتداء الملاقاة فأطلق اسمها على كل دعاء وثناء يقال عند الملاقاة وتحية الإسلام : سلام عليك أو السلام عليكم ، دعاء بالسلامة والأمن ، أي من المكروه لأن السلامة أحسن ما يبتغى في الحياة. فإذا أحياه الله ولم يسلّمه كانت الحياة ألما وشرا ، ولذلك كانت تحية المؤمنين يوم القيامة السلام بشارة بالسلامة مما يشاهده الناس من الأهوال المنتظرة. وكذلك تحية أهل الجنة فيما بينهم تلذّذا باسم ما هم فيه من السلامة من أهوال أهل النار ، وتقدم في قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) في سورة يونس [١٠].

وإضافة التحية إلى ضمير المؤمنين من إضافة اسم المصدر إلى مفعوله ، أي تحية يحيّون بها.

ولقاء الله : الحضور من حضرة قدسه للحساب في المحشر. وتقدم تفصيل الكلام عليها عند قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في سورة البقرة [٢٢٣]. وهذا اللقاء عام لجميع الناس كما قال تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٧] فميّز

٢٧٨

الله المؤمنين يومئذ بالتحية كرامة لهم.

وجملة (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) حال من ضمير الجلالة ، أي يحييهم يوم يلقونه وقد أعد لهم أجرا كريما. والمعنى : ومن رحمته بهم أن بدأهم بما فيه بشارة بالسلامة وقد أعدّ لهم أجرا كريما إتماما لرحمته بهم.

والأجر : الثواب. والكريم : النفيس في نوعه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩]. والأجر الكريم : نعيم الجنة.

[٤٥ ـ ٤٦] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦))

هذا النداء الثالث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الله لما أبلغه بالنداء الأول ما هو متعلق بذاته ، وبالنداء الثاني ما هو متعلق بأزواجه وما تخلل ذلك من التكليف والتذكير ، ناداه بأوصاف أودعها سبحانه فيه للتنويه بشأنه ، وزيادة رفعة مقداره وبين له أركان رسالته ، فهذا الغرض هو وصف تعلقات رسالته بأحوال أمته وأحوال الأمم السالفة.

وذكر له هنا خمسة أوصاف هي : شاهد. ومبشّر. ونذير. وداع إلى الله. وسراج منير. فهذه الأوصاف ينطوي إليها وتنطوي على مجامع الرسالة المحمدية فلذلك اقتصر عليها من بين أوصافه الكثيرة.

والشاهد : المخبر عن حجة المدعي المحقّ ودفع دعوى المبطل ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهد بصحة ما هو صحيح من الشرائع وبقاء ما هو صالح للبقاء منها ويشهد ببطلان ما ألصق بها وبنسخ ما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها بما أخبر عنهم في القرآن والسنة ، قال تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨]. وفي حديث الحشر:«يسأل كل رسول هل بلّغ؟ فيقول : نعم. فيقول الله : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته» ... الحديث.

ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهد أيضا على أمته بمراقبة جريهم على الشريعة في حياته وشاهد عليهم في عرصات القيامة ، قال تعالى : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] فهو شاهد على المستجيبين لدعوته وعلى المعرضين عنها ، وعلى من استجاب للدعوة ثم بدّل. وفي حديث الحوض : «ليردنّ عليّ ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم

٢٧٩

اختلجوا دوني فأقول : يا رب أصيحابي أصيحابي. فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول تبّا وسحقا لمن أحدث بعدي» يعني : أحدثوا الكفر وهم أهل الردة كما في بعض روايات الحديث : «إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم». فلا جرم كان وصف الشاهد أشمل هذه الأوصاف للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصف كونه رسولا لهذه الأمة ، وبوصف كونه خاتما للشرائع ومتمّما لمراد الله من بعثة الرسل.

والمبشر : المخبر بالبشرى والبشارة. وهي الحادث المسرّ لمن يخبر به والوعد بالعطية ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبشر لأهل الإيمان والمطيعين بمراتب فوزهم. وقد تضمن هذا الوصف ما اشتملت عليه الشريعة من الدعاء إلى الخير من الأوامر وهو قسم الامتثال من قسمي التقوى ، فإن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، والمأمورات متضمنة المصالح فهي مقتضية بشارة فاعليها بحسن الحال في العاجل والآجل.

وقدمت البشارة على النذارة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلب عليه التبشير لأنه رحمة للعالمين ، ولكثرة عدد المؤمنين في أمته.

والنذير : مشتق من الإنذار وهو الإخبار بحلول حادث مسيء أو قرب حلوله ، والنبي عليه الصلاة والسلام منذر للذين يخالفون عن دينه من كافرين به ومن أهل العصيان بمتفاوت مؤاخذتهم على عملهم.

وانتصب (شاهِداً) على الحال من كاف الخطاب وهي حال مقدرة ، أي أرسلناك مقدّرا أن تكون شاهدا على الرسل والأمم في الدنيا والآخرة. ومثّل سيبويه للحال المقدرة بقوله : مررت برجل معه صقر صائدا به.

وجيء في جانب النذارة بصيغة فعيل دون اسم الفاعل لإرادة الاسم فإن النذير في كلامهم اسم للمخبر بحلول العدو بديار القوم. ومن الأمثال : أنا النذير العريان ، أي الآتي بخبر حلول العدوّ بديار قوم. والمراد بالعريان أنه ينزع عنه قميصه ليشير به من مكان مرتفع فيراه من لا يسمع نداءه ، فالوصف بنذير تمثيل بحال نذير القوم كما قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ : ٤٦] للإيماء إلى تحقيق ما أنذرهم به حتى كأنه قد حلّ بهم وكأنّ المخبر عنه مخبر عن أمر قد وقع ، وهذا لا يؤديه إلا اسم النذير ، ولذلك كثر في القرآن الوصف بالنذير وقلّ الوصف بمنذر. وفي الصحيح : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أنزل عليه : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] خرج حتى صعد الصفا ، فنادى : يا

٢٨٠