تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣ ، ١٤] و (إِذا) الفجائية تقتضي أن يكون ما بعدها مبتدأ. وجيء بخبر المبتدأ جملة فعلية لإفادة التقوّي الحاصل من تحمل الفعل ضمير المبتدأ فكأنه أعيد ذكره كما أشار إليه صاحب «المفتاح». وجيء بالمضارع لاستحضار الصورة العجيبة في ذلك الخروج كقوله (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [يس : ٥١].

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦))

أتبع ذكر إقامة الله تعالى السماوات والأرض بالتذكير بأن كل العقلاء في السماوات والأرض عبيد لله تعالى فيكون من مكملات ما تضمنته جملة (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم : ٢٥] فعطفت عليها هذه الجملة زيادة لبيان معنى إقامته السماء والأرض.

فاللام في قوله (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لام الملك ، واللام في قوله (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) لام التقوية ، أي تقوية تعدية العامل إلى معموله لضعف العامل بكونه فرعا في العمل ، وبتأخيره عن معموله. وعليه تكون (مَنْ) صادقة على العقلاء كما هو الغالب في استعمالها. وظاهر معنى القنوت امتثال الأمر ، فيجوز أن يكون المعنى : أنهم منقادون لأمره. وإذ قد كان في العقلاء عصاة كثيرون تعيّن تأويل القنوت باستعماله في الامتثال لأمر التكوين ، أو في الشهادة لله بالوحدانية بدلالة الحال ، وهذا هو المقصود هنا لأن هذا الكلام أورد بعد ذكر الآيات الستّ إيراد الفذلكة بإثبات الوحدانية فلا يحمل قنوتهم على امتثالهم لما يأمرهم الله به من أمر التكليف مباشرة أو بواسطة لأن المخلوقات متفاوتون في الامتثال للتكليف ؛ فالشيطان أمره الله مباشرة بالسجود لآدم فلم يمتثل ، وآدم أمره الله مباشرة أن لا يأكل من الشجرة فأكل منها ؛ إلا أن ذلك قبل ابتداء التكليف.

والمخلوقات السماوية ممتثلون لأمره ساعون في مرضاته قال تعالى (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧]. وأما المخلوقات الأرضية العقلاء فهم مخلوقون للطاعة قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، فزيغ الزائغين عن طاعة الله تعالى انحراف منهم عن الفطرة التي فطروا عليها ، وهم في انحرافهم متفاوتون ؛ فالضالّون الذين أشركوا بالله فجعلوا له أندادا ، والعصاة الذين لم يخرجوا عن توحيده ، ولكنهم ربما خالفوا بعض أوامره قليلا أو كثيرا ، هم في ذلك آخذون بجانب من الإباق متفاوتون فيه. فجملة (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) معطوفة على جملة (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ

٤١

تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم : ٢٥]. ويجوز أن تكون جملة (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) تكملة لجملة (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥] على معنى : وله يومئذ من في السموات والأرض كل له قانتون ، فالقنوت بمعنى الامتثال الواقع في ذلك اليوم وهو امتثال الخضوع لأن امتثال التكليف قد انقضى بانقضاء الدنيا ، أي لا يسعهم إلا الخضوع فيها يأمر الله به من شأنهم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤] ، فتكون الجملة معطوفة على جملة (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥]. والقنوت تقدم في قوله (قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) في سورة النحل [١٢٠].

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

تقدم نظير صدر هذه الآية في هذه السورة وأعيد هنا ليبنى عليه قوله (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) تكملة للدليل إذ لم تذكر هذه التكملة هناك. فهذا ابتداء بتوجيه الكلام إلى المشركين لرجوعه إلى نظيره المسوق إليهم. وهذا أشبه بالتسليم الجدلي في المناظرة ، ذلك لأنهم لما اعترفوا بأن الله هو بادئ خلق الإنسان ، وأنكروا إعادته بعد الموت ، واستدل عليهم هنالك بقياس المساواة ، ولما كان إنكارهم الإعادة بعد الموت متضمنا تحديد مفعول القدرة الإلهية جاء التنازل في الاستدلال إلى أن تحديد مفعول القدرة لو سلم لهم لكان يقتضي إمكان البعث بقياس الأحرى فإن إعادة المصنوع مرة ثانية أهون على الصانع من صنعته الأولى وأدخل تحت تأثير قدرته فيما تعارفه الناس في مقدوراتهم. فقوله (أَهْوَنُ) اسم تفضيل ، وموقعه موقع الكلام الموجّه ، فظاهره أن (أَهْوَنُ) مستعمل في معنى المفاضلة على طريقة إرخاء العنان والتسليم الجدلي ، أي الخلق الثاني أسهل من الخلق الأول ، وهذا في معنى قوله تعالى (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥]. ومراده : أن إعادة الخلق مرة ثانية مساوية لبدء الخلق في تعلق القدرة الإلهية ، فتحمل صيغة التفضيل على معنى قوة الفعل المصوغة له كقوله (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف : ٣٣]. وللإشارة إلى أن قوله (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) مجرد تقريب لأفهامهم عقب بقوله (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي ثبت له واستحق الشأن الأتم الذي لا يقاس بشئون الناس المتعارفة وإنما لقصد التقريب لأفهامكم.

٤٢

و (الْأَعْلى) : معناه الأعظم البالغ نهاية حقيقة العظمة والقوة. قال حجة الإسلام في «الإحياء» : «لا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء الشمس ولكنهم ينالون منها ما تحيا به أبصارهم وقد تأنق بعضهم في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام المجيد إلى فهم الإنسان لعلو درجة الكلام المجيد وقصور رتبة الأفهام البشرية فإن الناس إذا أرادوا أن يفهموا الدواب ما يريدون من تقديمها وتأخيرها ونحوه ورأوها تقصر عن فهم الكلام الصادر عن العقول مع حسنه وترتيبه نزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إليها بأصوات يضعونها لائقة بها من الصفير ونحوه من الأصوات القريبة من أصواتها» ا ه.

وقوله (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صفة للمثل أو حال منه ، أي كان استحقاقه المثل الأعلى مستقرا في السماوات والأرض ، أي في كائنات السماوات والأرض ، فالمراد : أهلها ، على حدّ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، أي هو موصوف بأشرف الصفات وأعظم الشئون على ألسنة العقلاء وهي الملائكة والبشر المعتد بعقولهم ولا اعتداد بالمعطّلين منهم لسخافة عقولهم وفي دلائل الأدلة الكائنة في السماوات وفي الأرض ، فكل تلك الأدلة شاهدة بأن لله المثل الأعلى. ومن جملة المثل الأعلى عزته وحكمته تعالى ؛ فخصّا بالذكر هنا لأنهما الصفتان اللتان تظهر آثارهما في الغرض المتحدث عنه وهو بدء الخلق وإعادته ؛ فالعزة تقتضي الغنى المطلق فهي تقتضي تمام القدرة. والحكمة تقتضي عموم العلم. ومن آثار القدرة والحكمة أنه يعيد الخلق بقدرته وأن الغاية من ذلك الجزاء وهو من حكمته.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨))

أتبع ضرب المثل لإمكان إعادة الخلق عقب دليل بدئه بضرب مثل لإبطال الشرك عقب دليليه المتقدمين في قوله تعالى (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [الروم : ١٩] وقوله (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الروم : ١٩] لينتظم الدليل على هذين الأصلين المهمين : أصل الوحدانية ، وأصل البعث ، وينكشف بالتمثيل والتقريب بعد نهوضه بدليل العقل. والخطاب للمشركين.

وضرب المثل : إيقاعه ووضعه ، وعليه فانتصاب (مَثَلاً) على المفعول به ، أو يراد

٤٣

بضربه جعله ضربا ، أي مثلا ونظيرا ، وعليه فانتصاب (مَثَلاً) على المفعولية المطلقة لأن (مَثَلاً) حينئذ يرادف ضربا مصدر ضرب بهذا المعنى. وقد تقدم عند قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في سورة البقرة [٢٦]. واللام في (لَكُمْ) لام التعليل ، أي ضرب مثلا لأجلكم ، أي لأجل إفهامكم.

و (مِنْ) في قوله (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ابتدائية متعلقة ب (ضَرَبَ) أي جعل لكم مثلا منتزعا من أنفسكم. والأنفس هنا جنس الناس كقوله (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] أي مثلا من أحوال جماعتكم إذ لا تخلو الجماعة عن ناس لهم عبيد وهم يعرفون أحوال العبيد مع سادتهم سواء منهم من يملك عبيدا ومن لا عبيد له. فالخطاب لجميع الأمة باعتبار وجود فريق فيهم ينطبق عليهم هذا المثل. والاستفهام مستعمل في الإنكار ومناط الإنكار قوله (فِي ما رَزَقْناكُمْ) إلى آخره ، أي من شركاء لهم هذا الشأن.

و (مِنْ) في قوله (مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) تبعيضية ، و (مِنْ) في قوله (مِنْ شُرَكاءَ) زائدة مؤكدة لمعنى النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري. فالجمع بين هذه الحروف في كلام واحد من قبيل الجناس التام.

والشركاء : جمع شريك ، وهو المشارك في المال لقوله (فِي ما رَزَقْناكُمْ) ، والفاء للتفريع على الشركة ، أي فتكونوا متساوين فيما أنتم فيه شركاء.

وجملة (تَخافُونَهُمْ) في موضع الحال من ضمير الفاعل في (سَواءٌ). والخوف : انفعال نفساني ينشأ من توقع إصابة مكروه يبقى ، وهو هنا التوقي من التفريط في حظوظهم من الأرزاق وليس هو الرعب بقرينة قوله (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، أي كما تتوقون أنفسكم من إضاعة حقوقكم عندهم.

والأنفس الثاني بمعنى : أنفس الذين لهم شركاء مما ملكت أيمانهم من المخاطبين لأنهم بعض المخاطبين.

وهذا المثل تشبيه هيئة مركبة بهيئة مركبة ؛ شبهت الهيئة المنتزعة من زعم المشركين أن الأصنام شركاء لله في التصرف ودافعون عن أوليائهم ما يريده الله من تسلط عقاب أو نحوه إذ زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وهم مع ذلك يعترفون بأنها مخلوقة لله فإنهم يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك. هذه الهيئة شبهت بهيئة ناس لهم عبيد صاروا شركاء في أرزاق سادتهم شركة على السواء فصار سادتهم يحذرون إذا أرادوا أن

٤٤

يتصرفوا في تلك الأرزاق أن يكون تصرفهم غير مرضي لعبيدهم ، وهذا التشبيه وإن كان منصرفا لمجموع المركب من الهيئتين قد بلغ غاية كمال نظائره إذ هو قابل للتفريق في أجزاء ذلك المركب بتشبيه مالك الخلق كلهم بالذين يملكون عبيدا ، وتشبيه الأصنام التي هي مخلوقة لله تعالى بمماليك الناس ، وتشبيه تشريك الأصنام في التصرف مع الخالق في ملكه بتشريك العبيد في التصرف في أرزاق سادتهم ، وتشبيه زعمهم عدول الله عن بعض ما يريده في الخلق لأجل تلك الأصنام ، وشفاعتها بحذر أصحاب الأرزاق من التصرف في حظوظ عبيدهم الشركاء تصرفا يأبونه. فهذه الهيئة المشبه بها هيئة قبيحة مشوهة في العادة لا وجود لأمثالها في عرفهم فكانت الهيئة المشبهة منفية منكرة ، ولذلك أدخل عليها استفهام الإنكار والجحود لينتج أن الصورة المزعومة للأصنام صورة باطلة بطريق التصوير والتشكيل إبرازا لذلك المعنى الاعتقادي الباطل في الصورة المحسوسة المشوهة الباطلة. ولذلك عقب بجملة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، أي نفصل الدلائل على الاعتقاد الصحيح تفصيلا كهذا التفصيل وضوحا بينا ، وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الروم : ٢٤] استئناف ابتدائي. والقوم الذين يعقلون هم المتنزهون عن المكابرة والإعراض ، والطالبون للحق والحقائق لوفرة عقولهم ، فيزداد المؤمنون يقينا ويؤمن الغافلون والذين تروج عليهم ضلالات المشركين ثم تنكشف عنهم بمثل هذه الدلائل البينة.

وفي ذكر لفظ قوم وإجراء الصفة عليه إيماء إلى أن هذه الآيات لا ينتفع بها إلا من كان العقل من مقومات قوميته كما تقدم في قوله تعالى (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤] ، وتقدمت له نظائر كثيرة. والقول في إيثار وصف العقل هنا دون غيره من أوصاف النظر والفكر كالقول فيما تقدم عند قوله (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) إلى قوله (يَعْقِلُونَ) [الروم : ٢٤].

وفي هذا تعريض بالمتصلبين في شركهم بأنهم ليسوا من أهل العقول ، وليسوا ممن ينتفعون كقوله تعالى (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وقوله (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧١].

وقوله (كَذلِكَ) تقدم نظيره في قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].

٤٥

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

إضراب إبطالي لما تضمنه التعريض الذي في قوله (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الروم : ٢٨] إذ اقتضى أن الشأن أن ينتفع الناس بمثل هذا المثل فيقلع المشركون منهم عن إشراكهم ويلجوا حظيرة الإيمان ، ولكنهم اتبعوا أهواءهم وما تسوله لهم نفوسهم ولم يطلبوا الحق ويتفهموا دلائله فهم عن العلم بمنأى. فالتقدير : فما نفعتهم الآيات المفصلة بل اتبعوا أهواءهم.

و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) : المشركون (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] وتقييد اتباع الهوى بأنه بغير علم تشنيع لهذا الاتباع فإنه اتباع شهوة مع جهالة ، فإن العالم إذا اتبع الهوى كان متحرزا من التوغل في هواه لعلمه بفساده ، وليس ما هنا مماثلا لقوله تعالى (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠] في أنه قيد كاشف من حيث إن الهوى لا يكون إلا ملتبسا بمغايرة هدى الله.

والفاء في (فَمَنْ يَهْدِي) للتفريع ، أي يترتب على اتباعهم أهواءهم بغير علم انتفاء الهدى عنهم أبدا. ومن اسم استفهام إنكاري بمعنى النفي فيفيد عموم نفي الهادي لهم ، إذ التقدير : لا أحد يهدي من أضل الله لا غيرهم ولا أنفسهم ، فإنهم من عموم ما صدق (فَمَنْ يَهْدِي).

ومعنى (مَنْ أَضَلَّ اللهُ) : من قدّر له الضلال وطبع على قلبه ، فإسناد الإضلال إلى الله إسناد لتكوينه على ذلك لا للأمر به وذلك بيّن. ومعنى انتفاء هاديهم : أن من يحاوله لا يجد له في نفوسهم مسلكا. ثم عطف على جملة نفي هداهم خبر آخر عن حالهم وهو (ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ردّا على المشركين الزاعمين أنهم إذا أصابوا خطيئة عند الله أن الأصنام تشفع لهم عند الله.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠))

الفاء فصيحة. والتقدير : إذا علمت أحوال المعرضين عن دلائل الحق فأقم وجهك للدين. والأمر مستعمل في طلب الدوام. والمقصود : أن لا تهتم بإعراضهم ، كقوله تعالى

٤٦

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : ٢٠] وقوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) [هود : ١١٢] (أي من آمن) وقوله (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف : ١٠٨].

فالمعنى : فأقم وجهك للدين والمؤمنون معك ، كما يؤذن به قوله بعده (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) [الروم : ٣١] بصيغة الجمع.

وإقامة الوجه : تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره غير ملتفت يمينا ولا شمالا. وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشيء والتمحض للشغل به بحال قصر النظر إلى صوب قبالته غير ملتفت يمنة ولا يسرة ، وهذا كقوله تعالى (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ) [الأعراف : ٢٩] وقوله حكاية عن إبراهيم (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩] وقوله تعالى (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران : ٢٠] ، أي أعطيته لله ، وذلك معنى التمحيض لعبادة الله وأن لا يلتفت إلى معبود غيره.

والتعريف في (الدِّينُ) للعهد وهو دينهم الذي هم عليه وهو دين الإسلام. و (حَنِيفاً) يجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر في فعل أقم فيكون حالا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كان وصفا لإبراهيم عليه‌السلام في قوله تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٠] ، وهذا هو الأظهر في تفسيره. ويجوز كونه حالا من الدين على ما فسر به الزجاج فيكون استعارة بتشبيه الدين برجل حنيف في خلوّه من شوائب الشرك ، فيكون الحنيف تمثيلية وفي إثباته للدين استعارة تصريحية.

وحنيف : صيغة مبالغة في الاتصاف بالحنف وهو الميل ، وغلب استعمال هذا الوصف في الميل عن الباطل ، أي العدول عنه بالتوجه إلى الحق ، أي عادلا ومنقطعا عن الشرك كقوله تعالى (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقد مضى في سورة البقرة [١٣٥].

و (فِطْرَتَ اللهِ) بدل من (حَنِيفاً) بدل اشتمال فهو في معنى الحال من (الدِّينُ) أيضا وهو حال ثانية فإن الحال كالخبر تتعدد بدون عطف على التحقيق عند النحاة. وهذا أحسن لأنه أصرح في إفادة أن هذا الدين مختص بوصفين هما : التبرؤ من الإشراك ، وموافقته الفطرة ، فيفيد أنه دين سمح سهل لا عنت فيه. ونظيره قوله تعالى (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً) [الكهف : ١ ، ٢] أي الدين الذي هو فطرة الله لأن التوحيد هو الفطرة ، والإشراك تبديل للفطرة. والفطرة أصله اسم هيئة من الفطر وهو الخلق مثل الخلقة كما بيّنه قوله (الَّتِي فَطَرَ

٤٧

النَّاسَ عَلَيْها) أي جبل الناس وخلقهم عليها ، أي متمكنين منها. فحرف الاستعلاء مستعار لتمكن ملابسة الصفة بالموصوف تمكنا يشبه تمكن المعتلي على شيء ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥] ، وحقيقة المعنى : التي فطر الناس بها.

ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها ، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسان وتفكيره ولم يلقّن اعتقادا ضالا لاهتدى إلى التوحيد بفطرته. قال ابن عطية : والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أي الفطرة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الإنسان التي هي معدّة ومهيّئة لأن يميز بها مصنوعات الله ، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه. ا ه.

وإن لم أر من أتقن الإفصاح عن معنى كون الإسلام هو الفطرة فأبينه : بأن الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق ، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسدا وعقلا ، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية ، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية ، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية ، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع ، وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية ، وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية.

وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتابه «النجاة» فقال : «ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأيا ولم يعتقد مذهبا ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة ، ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات ، ثم يعرض على ذهنه شيئا ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة ، وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلا ، وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كانت كاذبة ، وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست محسوسة بالذات بل هي مبادئ للمحسوسات. فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها : إما شهادة الكل مثل : أنّ العدل جميل ، وإما شهادة الأكثر ؛ وإما شهادة العلماء أو الأفاضل منهم. وليست

٤٨

الذائعات من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديق بها في الفطرة فما كان من الذائعات ليس بأوّلي عقلي ولا وهميّ فإنها غير فطرية ، ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبا وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان (١) ، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس (٢) أو الاستقراء الكثير ، أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقا صرفا فلا يفطن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق ، ا ه. فوصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة العقلية ، وأما تشريعاته وتفاريعه فهي : إما أمور فطرية أيضا ، أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به ، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته.

وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة. وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه وقد بينته في كتابي المسمى «مقاصد الشريعة الإسلامية». واعلم أن شواهد الفطرة قد تكون واضحة بينة وقد تكون خفية ، كما يقتضيه كلام الشيخ ابن سينا ، فإذا خفيت المعاني الفطرية أو التبست بغيرها فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هم العلماء الحكماء الذين تمرسوا بحقائق الأشياء والتفريق بين متشابهاتها ، وسبروا أحوال البشر ، وتعرضت أفهامهم زمانا لتصاريف الشريعة ، وتوسموا مراميها ، وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء.

إن المجتمع الإنساني قد مني عصورا طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل ، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها ، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته ، فتلك يخاف منها أن تتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحق ، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كلّ سبيل ، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خير دليل. وكون الإسلام هو الفطرة ، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه ، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية ، وهذا ما أفاده قوله (ذلِكَ الدِّينُ

__________________

(١) وهذا ما أشار إليه قوله تعالى : وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [العنكبوت : ٢٥].

(٢) قال تعالى حكاية عن قوم كذبوا الرسل : تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا [إبراهيم : ١٠] ، وقال : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦].

٤٩

الْقَيِّمُ). فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح بجميع الأمم ، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحا للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحا يسرا لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة.

وفي قوله (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) بيان لمعنى الإضافة في قوله (فِطْرَتَ اللهِ) وتصريح بأن الله خلق الناس سالمة عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة والعادات الذميمة ، وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جرّاء التلقي والتعود ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصّرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء» ، أي كما تولد البهيمة من إبل أو بقر أو غنم كاملة جمعاء أي بذيلها ، أي تولد كاملة ويعمد بعض الناس إلى قطع ذيلها وجدعه وهي الجدعاء ، و (تحسون) تدركون بالحس ، أي حاسّة البصر. فجعل اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة ، أي في تفاريعهما. وفي «صحيح مسلم» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما يرويه عن ربه : «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ـ أي غير مشركين ـ وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» الحديث (١).

وجملة (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) مبيّنة لمعنى (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) فهي جارية مجرى حال ثالثة من (الدِّينُ) على تقدير رابط محذوف. والتقدير : لا تبديل لخلق الله فيه ، أي في هذا الدين ، فهو كقوله في حديث أم زرع في قول الرابعة : زوجي كليل تهامة لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة أي في ذلك الليل.

فمعنى (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أنه الدين الحنيف الذي ليس فيه تبديل لخلق الله خلاف دين أهل الشرك ، قال تعالى عن الشيطان : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) [النساء : ١١٩]. ويجوز أن تكون جملة (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) معترضة لإفادة النهي عن تغيير خلق الله فيما أودعه الفطرة. فتكون (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) خبرا مستعملا في معنى النهي على وجه المبالغة كقوله (لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩]. فنفي الجنس مراد به جنس من التبديل خاص بالوصف لا نفي وقوع جنس التبديل فهو من العام المراد به الخصوص

__________________

(١) أخرجه مسلم في صفة أهل الجنة من كتاب «الجنة والنار». وهو حديث طويل.

٥٠

بالقرينة. واسم الإشارة لزيادة تمييز هذا الدين مع تعظيمه.

و (الْقَيِّمُ) : وصف بوزن فيعل مثل هيّن وليّن يفيد قوة الاتصاف بمصدره ، أي البالغ قوة القيام مثل استقام الذي هو مبالغة في قام كاستجاب.

والقيام : حقيقته الانتصاب ضد القعود والاضطجاع ، ويطلق مجازا على انتفاء الاعوجاج يقال : عود مستقيم وقيم ، فإطلاق القيم على الدين تشبيه انتفاء الخطإ عنه باستقامة العود وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ، كما في قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً) [الكهف : ١ ، ٢] وقال تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) في سورة براءة [٣٦].

ويطلق أيضا على الرعاية والمراقبة والكفالة بالشيء لأنها تستلزم القيام والتعهد قال تعالى (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] ، ومنه قلنا لراعي التلامذة ومراقب أحوالهم : قيّم. ويطلق القيم على المهيمن والحافظ. والمعاني كلها صالحة للحمل عليها هنا ، فإن هذا الكتاب معصوم عن الخطأ ومتكفل بمصالح الناس ، وشاهد على الكتب السالفة تصحيحا ونسخا قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) وتقدم في طالع سورة المائدة [٤٨]. فهذا الدين به قوام أمر الأمة. قال عمر بن الخطاب لمعاذ بن جبل : يا معاذ ما قوام هذه الأمة؟ قال : الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والصلاة وهي الدين ، والطاعة وهي العصمة ، فقال عمر : صدقت. يريد معاذ بالإخلاص التوحيد كقوله تعالى (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) [البينة : ٥].

والاستدراك في قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لدفع توهم واهم يقول إذا كان هو دين الفطرة وهو القيّم فكيف أعرض كثير من الناس عنه بعد تبليغه ، فاستدرك ذلك بأنهم جهال لا علم عندهم فإن كان قد بلغهم فإنهم جهلوا معانيه لإعراضهم عن التأمل ولا يعلمون منه إلا ما لا يفيدهم مهمهم لأنهم لم يسعوا في أن يبلغهم على الوجه الصحيح ؛ ففعل (لا يَعْلَمُونَ) غير متطلب مفعولا بل هو منزل منزلة اللازم لأن المعنى لا علم عندهم على نحو ما قرر في نظيره في أول هذه السورة.

والمراد ب (أَكْثَرَ النَّاسِ) المشركون إذ أعرضوا عن دعوة الإسلام ، وأهل الكتاب إذ أبوا اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومفارقة أديانهم بعد إبطالها لانتهاء صلاحية تفاريعها بانقضاء الأحوال التي شرعت لها انقضاء لا مطمع بعده لأن تعود.

٥١

ومقابل (أَكْثَرَ النَّاسِ) هم المؤمنون ، وشرذمة من علماء أهل الكتاب علموا أحقية الإسلام وبقوا على أديانهم عنادا : فهم يعلمون ويكابرون ، أو تحيّرا : فهم في شك بين علم وجهل.

[٣١ ـ ٣٢] (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

(مُنِيبِينَ) حال من ضمير (فَأَقِمْ) [الروم : ٣٠] للإشارة إلى أن الخطاب الموجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مراد منه نفسه والمؤمنون معه كما تقدم.

والمنيب : الملازم للطاعة. ويظهر أن معنى أناب صار ذا نوبة ، أي ذا رجوع متكرر وأن الهمزة فيه للصيرورة ، والنوبة : حصة من عمل يتوزعه عدد من الناس وأصلها : فعلة بصيغة المرة لأنها مرة من النّوب وهو قيام أحد مقام غيره ، ومنه النيابة ، ويقال : تناوبوا عمل كذا. وفي حديث عمر : «كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينزل يوما وأنزل يوما» الحديث ، فإطلاق المنيب على المطيع استعارة لتعهد الطاعة تعهدا متكررا ، وجعلت تلك الاستعارة كناية عن مواصلة الطاعة وملازمتها قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) في سورة هود [٧٥]. وفسّرت الإنابة أيضا بالتوبة. وقد قيل : إن ناب مرادف تاب ، وهو المناسب لقوله في الآية الموالية (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) [الروم : ٣٣]. والأمر الذي في قوله (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) مستعمل في طلب الدوام.

و (الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) هم المشركون لأنهم اتخذوا عدة آلهة. وإنما كررت (مِنَ) التبعيضية لاعتبار الذين فرقوا دينهم بدلا من المشركين بدلا مطابقا أو بيانا ، فإظهار حرف الجر ثانية مع الاستغناء عنه بالبدلية تأكيد بإظهار العامل كما تقدم في قوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) [المائدة : ١١٤] وشأن البدل والبيان أن يجوز معهما إظهار العامل المقدر فيخرجان عن إعراب التوابع إلى الإعراب المستقل ويكونان في المعنى بدلا أو بيانا ولهذا قال النحاة : إن البدل على نية تكرار العامل. وقال المحققون : إن البدل معرب بالعامل المقدر ، ومثله البيان وهما سيان. وتقدم الكلام على معنى (الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) في آخر سورة الأنعام [١٥٩].

وقرأ الجمهور (فَرَّقُوا) بتشديد الرّاء. وقرأه حمزة والكسائي فارقوا دينهم بألف

٥٢

بعد الفاء فالمراد بالدين دين الإسلام. ومعنى مفارقتهم إياه ابتعادهم منه ، فاستعيرت المفارقة للنبذ إذ كان الإسلام هو الدين الذي فطر الله عليه الناس فلما لم يتبعوه جعل إعراضهم عنه كالمفارقة لشيء كان مجتمعا معه ، وليس المراد الارتداد عن الإسلام.

والشيع : جمع شيعة وهي الجماعة التي تشايع ، أي توافق رأيا ، وتقدم قوله تعالى (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) في سورة مريم [٦٩].

والحزب : الجماعة الذين رأيهم ونزعتهم واحدة. و (بِما لَدَيْهِمْ) هو ما اتفقوا عليه. والفرح : الرضا والابتهاج. وهذه حالة ذميمة من أحوال أهل الشرك يراد تحذير المسلمين من الوقوع في مثلها ، فإذا اختلفوا في أمور الدين الاختلاف الذي يقتضيه اختلاف الاجتهاد أو اختلفوا في الآراء والسياسات لاختلاف العوائد فليحذروا أن يجرهم ذلك الاختلاف إلى أن يكونوا شيعا متعادين متفرقين يلعن بعضهم بعضا ويذيق بعضهم بأس بعض. وتقدم (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) في سورة المؤمنين [٥٣].

[٣٣ ـ ٣٤] (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤))

عطف على جملة (فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) [الروم : ٣٢] أي فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، وإذا مسهم ضر فدعوا الله وحده فرحمهم عادوا إلى شركهم وكفرهم نعمة الذي رحمهم. فالمقصود من الجملة هو قوله : (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ، فمحل انتظامه في مذام المشركين أنهم يرجعون إلى الكفر ، بخلاف حال المؤمنين فإنهم إذا أذاقهم الله رحمة بعد ضر شكروا نعمة ربهم وذلك من إنابتهم إلى الله. ونسج الكلام على هذا الأسلوب ليكون بمنزلة التذييل بما في لفظ (النَّاسَ) من العموم وإدماجا لفضيلة المؤمنين الذين لا يكفرون نعمة الرحيم. فالتعريف في (النَّاسَ) للاستغراق.

والضرّ ، بضم الضاد : سوء الحال في البدن أو العيش أو المال ، وهذا نحو ما أصاب قريشا من الشدة والقحط حتى كانوا يرون في الجو مثل الدخان من شدة الجفاف ، وحتى أكلوا العظام والميتة ، وقد أصاب ذلك مشركيهم ومؤمنيهم وكانت شدته على المشركين لأنهم كانوا في رفاهية ، فالشدة أقوى عليهم ، فأرسلوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستشفعون به أن يدعو الله بكشف الضر عنهم فدعا فأمطروا فعادوا إلى ترفهم ، قال تعالى : (فَارْتَقِبْ

٥٣

يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [الدخان : ١٠] الآيات ، فدعاؤهم ربهم يشمل طلبهم أن يدعو لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و (مُنِيبِينَ) حال من الناس كلهم أي استووا في الإنابة إليه أي راجعين إليه بعد ، واشتغل المشركون عنه بدعاء الأصنام ، قال تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) [الدخان : ١٥]. وتقدم (مُنِيبِينَ) آنفا.

والمس : مستعار للإصابة. وحقيقة المس : أنه وضع اليد على شيء ليعرف وجوده أو يختبر حاله ، وتقدم في قوله (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في العقود [٧٣]. واختبر هنا لما يستلزمه من خفة الإصابة ، أي يدعون الله إذا أصابهم خفيف ضر بله الضرّ الشديد.

والإذاقة : مستعارة للإصابة أيضا. وحقيقتها : إصابة المطعوم بطرف اللسان وهي أضعف إصابات الأعضاء للأجسام فهي أقلّ من المضغ والبلع ، وتقدم في قوله تعالى (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) في سورة العقود [٩٥] ، و (إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ) في سورة يونس [٢١]. واختبر فعل الإذاقة لما يدل عليه من إسراعهم إلى الإشراك عند ابتداء إصابة الرحمة لهم.

والرحمة : تخليصهم من الشدّة. و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لأن إشراكهم بالله بعد الدعاء والإنابة وحصول رحمته أعجب من إشراكهم السابق ، ففي التراخي الرتبي معنى التعجيب من تجدد إشراكهم ، وحرف المفاجأة (إِذا) يفيد أيضا أن هذا الفريق أسرعوا العودة إلى الشرك بحدثان ذوق الرحمة لتأصل الكفر منهم وكمونه في نفوسهم.

وضمير (مِنْهُ) عائد إلى الله تعالى. ومن ابتدائية متعلقة ب (أَذاقَهُمْ). و (رَحْمَةً) فاعل (أَذاقَهُمْ) ولم يؤنث لها الفعل لأن تأنيث مسمى الرحمة غير حقيقي ولأجل الفصل بالمجرور. وتقديم المجرور على الفاعل للاهتمام به ليظهر أن الذي أصابهم هو من فضل الله وتقديره لا غير ذلك. واللام في قوله (لِيَكْفُرُوا) لام التعليل وهي مستعارة لمعنى التسبب الذي حقه أن يفاد بالفاء لأنهم لما أشركوا لم يريدوا بشركهم أن يجعلوه علة للكفر بالنعمة ولكنهم أشركوا محبة للشرك فكان الشرك مفضيا إلى كفرهم نعمة الله خشية الإفضاء والتسبب بالعلة الغائية على نحو قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

وضمير (لِيَكْفُرُوا) عائد إلى الفريق باعتبار معناه.

٥٤

والإيتاء : إعطاء النافع ، أي بما أنعمنا عليهم من النعم التي هي نعمة الإيجاد والرزق وكشف الضر عنهم. ثم التفت عن الغيبة إلى الخطاب بقوله (فَتَمَتَّعُوا) توبيخا لهم وإنذارا ، وجيء بفاء التفريع في قوله (فَتَمَتَّعُوا) لأن الإنذار والتوبيخ مفرعان عن الكلام السابق. والأمر في (تمتعوا) مستعمل في التهديد والتوبيخ. والتمتع : الانتفاع بالملائم وبالنعمة مدة تنقضي.

والفاء في (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تفريع للإنذار على التوبيخ ، وهو رشيق. و (سوف تعلمون) إنذار بأنهم يعلمون في المستقبل شيئا عظيما ، والعلم كناية عن حصول الأمر الذي يعلم ، أي عن حلول مصائب بهم لا يعلمون كنهها الآن ، وهو إيماء إلى عظمتها وأنها غير مترقبة لهم. وهذا إشارة إلى ما سيصابون به يوم بدر من الاستئصال والخزي وهم كانوا يستعجلون بعذاب من جنس ما عذب به الأمم الماضية مثل عاد وثمود ، وكانت الغاية واحدة ، فإن إصابتهم بعذاب سيوف المسلمين أبلغ في كون استئصالهم بأيدي المؤمنين مباشرة ، وأظهر في إنجاء المؤمنين من عذاب لا يصيب الذين ظلموا خاصة وذلك هو المراد في قوله تعالى (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ* يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٥ ، ١٦]. والبطشة الكبرى : بطشة يوم بدر.

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥))

(أَمْ) منقطعة ، فهي مثل (بل) للإضراب هو إضراب انتقالي. وإذ كان حرف (أَمْ) حرف عطف فيجوز أن يكون ما بعدها إضرابا عن الكلام السابق فهو عطف قصة على قصة بمنزلة ابتداء ، والكلام توبيخ ولوم متصل بالتوبيخ الذي أفاده قوله (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الروم : ٣٤]. وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عن مخاطبتكم إلى مخاطبة المسلمين تعجيبا من حال أهل الشرك. ويجوز أن يكون ما بعدها متصلا بقوله (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الروم : ٢٩] فهو عطف ذم على ذم وما بينهما اعتراض.

وحيثما وقعت (أَمْ) فالاستفهام مقدّر بعدها لأنها ملازمة لمعنى الاستفهام. فالتقدير : بل أأنزلنا عليهم سلطانا وهو استفهام إنكاري ، أي ما أنزلنا عليهم سلطانا ، ومعنى الاستفهام الإنكاري أنه تقرير على الإنكار كأن السائل يسأل المسئول ليقر بنفي المسئول عنه.

٥٥

والسلطان : الحجة. ولما جعل السلطان مفعولا للإنزال من عند الله تعين أن المراد به كتاب كما قالوا (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣]. ويتعين أن المراد بالتكلم الدلالة بالكتابة كقوله تعالى (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩] ، أي تدل كتابته ، أي كتب فيه بقلم القدرة أن الشرك حق كقوله تعالى (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) [الزخرف : ٢١]. وقدم (بِهِ) على (يُشْرِكُونَ) للاهتمام بالتنبيه على سبب إشراكهم الداخل في حيز الإنكار للرعاية على الفاصلة.

[٣٦ ـ ٣٧] (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧))

أعيد الكلام على أحوال المشركين زيادة في بسط الحالة التي يتلقون بها الرحمة وضدها تلقيا يستوون فيه بعد أن ميز فيما تقدم حال تلقي المشركين للرحمة بالكفران المقتضي أن المؤمنين لا يتلقونها بالكفران. فأريد تنبيههم هنا إلى حالة تلقيهم ضد الرحمة بالقنوط ليحذروا ذلك ويرتاضوا برجاء الفرج والابتهال إلى الله في ذلك والأخذ في أسباب انكشافها. والرحمة أطلقت على أثر الرحمة وهو المنافع والأحوال الحسنة الملائمة كما ينبني عنه مقابلتها بالسيئة وهي ما يسوء صاحبه ويحزنه فالمقصد من هذه الآية تخلق المسلمين بالخلق الكامل ، ف (النَّاسَ) مراد به خصوص المشركين بقرينة أن الآية ختمت بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

وقدمت في هذه الآية إصابة الرحمة على إصابة السيئة عكس التي قبلها للاهتمام بالحالة التي جعلت مبدأ العبرة وأصل الاستدلال ، فقوله (فَرِحُوا بِها) وصف لحال الناس عند ما تصيبهم الرحمة ليبنى عليه ضده في قوله (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) لما يقتضيه القنوط من التذمر والغضب ، فليس في الكلام تعريض بإنكار الفرح حتى نضطر إلى تفسير الفرح بالبطر ونحوه لأنه عدول عن الظاهر بلا داع. والمعنى : أنهم كما يفرحون عند الرحمة ولا يخطر ببالهم زوالها ولا يحزنون من خشيته ، فكذلك ينبغي أن يصبروا عند ما يمسهم الضر ولا يقنطوا من زواله لأن قنوطهم من زواله غير جار على قياس حالهم عند ما تصيبهم رحمة حين لا يتوقعون زوالها ، فالقنوط هو محل الإنكار عليهم وهذا كقوله تعالى (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) [فصلت : ٤٩] في أن محل التعجيب هو اليأس والقنوط ، وتقدم ذكر الإذاقة آنفا. والقنوط : اليأس ، وتقدم في سورة الحجر [٥٥]

٥٦

عند قوله تعالى (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ).

وأدمج في خلال الإنكار عليهم قوله (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) لتنبيههم إلى أن ما يصيبهم من حالة سيئة في الدنيا إنما سببها أفعالهم التي جعلها الله أسبابا لمسببات مؤثرة لا يحيط بأسرارها ودقائقها إلا الله تعالى ، فما على الناس إلا أن يحاسبوا أنفسهم ويجروا أسباب إصابة السيئات ، ويتداركوا ما فات ، فذلك أنجى لهم من السيئات وأجدر من القنوط. وهذا أدب جليل من آداب التنزيل قال تعالى (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩].

وقرأ الجمهور (يَقْنَطُونَ) بفتح النون على أنه مضارع قنط من باب حسب. وقرأه أبو عمرو الكسائي بكسر النون على أنه مضارع قنط من باب ضرب وهما لغتان فيه.

ثم أنكر عليهم إهمال التأمل في سنّة الله الشائعة في الناس : من لحاق الضر وانفراجه ، ومن قسمة الحظوظ في الرزق بين بسط وتقتير فإنه كثير الوقوع كل حين فكما أنهم لم يقنطوا من بسط الرزق عليهم في حين تقتيره فكدحوا في طلب الرزق بالأسباب والدعاء فكذلك كان حقهم أن يتلقوا السوء النادر بمثل ما يتلقون به ضيق الرزق ، فيسعوا في كشف السيئة بالتوبة والابتهال إلى الله وبتعاطي أسباب زوالها من الأسباب التي نصبها الله تعالى ، فجملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) إلخ عطف على جملة (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها). والاستفهام إنكاري في معنى النفي ؛ أنكر عليهم عدم الرؤية تنزيلا لرؤيتهم ذلك منزلة عدم الرؤية لإهمال آثارها من الاعتبار بها. فالتقدير : إذا هم يقنطون كيف لم يروا بسط الله الرزق وتقتيره كأنهم لم يروا ذلك. والرؤية بصرية.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) تذييل ، أي في جميع ما ذكر آيات كثيرة حاصلة كثرتها من اشتمال كل حالة من تلك الأحوال على أسباب خفية وظاهرة ، ومسبباتها كذلك ، ومن تعدد أحوال الناس من الاعتبار بها والأخذ منها ، كل على حسب استعداده. وخص القوم المؤمنون بذلك لأنهم أعمق بصائر بما ارتاضت عليه أنفسهم من آداب الإيمان ومن نصب أنفسهم لطلب العلم والحكمة من علوم الدين وحكمة النبوءة.

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨))

فاء التفريع تفيد أن الكلام بعدها مترتب على الكلام الذي قبلها ، وقد اشتمل الكلام

٥٧

قبلها على لحاق آثار رحمة الله بالناس ، وإصابة السوء إياهم ، وعلى أن ما يصيبهم من السوء بما قدمت أيدي الناس ، وذكر بسط الرزق وتقديره. وتضمن ذلك أن الفرح يلهيهم عن الشكر ، وأن القنوط يلهيهم عن المحاسبة في الأسباب ، فكان الأمر بإيتاء الضعفاء والمنكوبين إرشادا إلى وسائل شكر النعمة عند حصولها شكرا من نوعها واستكشاف الضر عند نزوله ، وإلى أن من الحق التوسعة على المضيّق عليهم الرزق ، كما يحب أن يوسع عليه رزقه ؛ فالخطاب بالأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتبار من معه من المؤمنين ممن يحق عليه الإيتاء وهو الذي بسط له في الرزق ، أي فآتوا ذا القربى حقه بقرينة قوله (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٣٨] الآية ، ويجوز أن يكون خطابا لغير معيّن من المؤمنين.

والإيتاء : الإعطاء. وهو مشعر بأن المعطى مال ، ويقوي ذلك وقوع الآية عقب قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) [الروم : ٣٧]. وصيغة الأمر من قوله (فَآتِ) مجمل. والأصل في محملها الوجوب مع أن المأمور بإيتائه عبر عنه بأنه حق والأصل في الحق الوجوب. وظاهر الآية يقتضي أن المراد حق في مال المؤتي.

وعن مجاهد وقتادة : صلة الرحم ـ أي بالمال ـ فرض من الله عزوجل لا تقبل صدقة أحد ورحمه محتاجة. وقال الحسن : حق ذي القربى المواساة في اليسر ، وقول ميسور في العسر. وقال ابن عطية : معظم ما قصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في المال حق سوى الزكاة» ، وللمساكين وابن السبيل حق ، وبيّن أن حق هذين في المال ا ه. أقول ولذلك قال جمع كثير : إن هذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وقال فريق : لم تنسخ بل للقريب حق في البر على كل حال ، أي لا نسخ في جميع ما تضمنته بل نسخ بعضه بآية المواريث وبقي ما عداه. قلت : وما بقي غير منسوخ مختلفة أحكامه ، وهو مجمل تبينه أدلة أخرى متفرقة من الشريعة.

و (الْقُرْبى) : قرب النسب والرحم. وتقدم عند قوله (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) في سورة النساء [٣٦]. و (الْمِسْكِينَ) تقدم في قوله (لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) في سورة التوبة [٦٠]. و (ابْنَ السَّبِيلِ) : المسافر المجتاز بالقرية أو بالحي.

ووقع الحق مجملا والحوالة في بيانه على ما هو متعارف بين الناس وعلى ما يبينه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكانت الصدقة قبل الهجرة واجبة على الجملة موكولة إلى حرص المؤمن. وقد أطلق عليها اسم الزكاة في آيات مكية كثيرة ، وقرنت بالصلاة ؛ فالمراد بها في تلك الآيات الصدقة الواجبة وكانت غير مضبوطة بنصب ثم ضبطت بأصناف ونصب ومقادير

٥٨

مخرجة عنها. قال أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه : «فإن الزكاة حق المال». وإنما ضبطت بعد الهجرة فصار ما عداها من الصدقة غير واجب. وقصر اسم الزكاة على الواجبة وأطلق على ما عداها اسم الصدقة أو البر أو نحو ذلك ، فجماع حق هؤلاء الثلاثة المواساة بالمال ، فدل على أن ذلك واجب لهم. وكان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بفرض الزكاة ، ثم إن لكل صنف من هؤلاء الثلاثة حقا ؛ فحقّ ذي القربى يختلف بحسب حاجته ؛ فللغني حقه في الإهداء تودّدا ، وللمحتاج حق أقوى. والظاهر أن المراد ذو القرابة الضعيف المال الذي لم يبلغ به ضعفه مبلغ المسكنة بقرينة التعبير عنه بالحق ، وبقرينة مقابلته بقوله لتربوا (فِي أَمْوالِ النَّاسِ) [الروم : ٣٩] على أحد الاحتمالات في تفسيره. وأما إعطاء القريب الغني فلعله غير مراد هنا وليس مما يشمله لفظ (حَقَّهُ) وإنما يدخل في حسن المعاملة المرغب فيها.

وحق المسكين : سد خلته. وحق ابن السبيل : الضيافة كما في الحديث «جائزته يوم وليلة» والمقصود إبطال عادة أهل الجاهلية إذ كانوا يؤثرون البعيد على القريب في الإهداء والإيصاء حبا للمدحة ، ويؤثرون بعطاياهم السادة وأهل السمعة تقربا إليهم ، فأمر المسلمون أن يتجنبوا ذلك ، قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) كما تقدم في سورة البقرة [١٨٠].

ولذلك عقب بقوله هنا (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي الذين يتوخّون بعطاياهم إرضاء الله وتحصيل ثوابه وهم المؤمنون. والإشارة بقوله (ذلِكَ خَيْرٌ) إلى الإيتاء المأخوذ من قوله (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) الآية.

وذكر الوجه هنا تمثيل كأن المعطي أعطى المال بمرأى من الله لأن الوجه هو محلّ النظر. وفيه أيضا مشاكلة تقديرية لأن هذا الأمر أريد به مقابلة ما كان يفعله أهل الجاهلية من الإعطاء لوجه المعطى من أهل الوجاهة في القوم فجعل هنا الإعطاء لوجه الله. والمراد : أنه لامتثال أمره وتحصيل رضاه.

واسم الإشارة في قوله (ذلِكَ خَيْرٌ) للتنويه بالمأمور به. و (خَيْرٌ) يجوز أن يكون تفضيلا والمفضّل عليه مفهوم من السياق أن ذلك خير من صنيع أهل الجاهلية الذين يعطون الأغنياء البعداء للرياء والسمعة ، أو المراد ذلك خير من بذل المال في المراباة التي تذكر بعد في قوله (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) الآية [الروم : ٣٩]. ويجوز أن يكون الخير ما قابل الشر ، أي ذلك فيه خير للمؤمنين ، وهو ثواب الله.

٥٩

وفي قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) صيغة قصر من أجل ضمير الفصل ، وهو قصر إضافي ، أي أولئك المتفردون بالفلاح ، وهو نجاح عملهم في إيتاء من ذكر لوجه الله تعالى لا للرياء والفخر. فمن آتى للرياء والفخر فلا فلاح له من إيتائه.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩))

لما جرى الترغيب والأمر ببذلك المال لذوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضى الله تعالى به وكان الربا فاشيا في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش. فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم ، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خلّة ، وشأن المقرض أنه ذو جدة فمعاملته المقترض منه بالربا افتراض لحاجته واستغلال لاضطراره ، وذلك لا يليق بالمؤمنين.

و (ما) شرطية تفيد العموم ، فالجملة معترضة بعد جملة (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) [الروم : ٣٨] إلخ. والواو اعتراضية. ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم. وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق.

فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجه الله الذين كانوا يقرضون بالربا قبل تحريمه.

ومعنى (آتَيْتُمْ) : آتى بعضكم بعضا لأن الإيتاء يقتضي معطيا وآخذا.

وقوله لتربوا (فِي أَمْوالِ النَّاسِ) خطاب للفريق الآخذ.

ولتربوا لتزيدوا ، أي لأنفسكم أموالا على أموالكم. وقوله : (فِي أَمْوالِ النَّاسِ فِي) للظرفية المجازية بمعنى (من) الابتدائية ، أي لتنالوا زيادة وأرباحا تحصل لكم من أموال الناس ، فحرف (فِي) هنا كالذي في قول سبرة الفقعسي :

ونشرب في أثمانها ونقامر (١)

__________________

(١) أوله : نحابي أكفاءنا ونهينها. وهو من شعر الحماسة يذكر فيه إبل الدية. قال ذلك من أبيات يذكر أن أحد بني أسد عيّره بأخذ الدية عن قتيل.

٦٠