تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

الذين كان الكبر خلقهم فهم لا يرضون لأنفسهم بالانقياد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم وقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١].

وقوله تعالى : (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) موضع سجدة من سجدات تلاوة القرآن رجاء أن يكون التالي من أولئك الذين أثنى الله عليهم بأنهم إذا ذكّروا بآيات الله سجدوا ، فالقارئ يقتدي بهم.

وجملة (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) حال من الموصول ، أي : الذين إذا ذكّروا بها خرّوا ومن حالهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، أو استئناف. وجيء فيها بالمضارع لإفادة تكرر ذلك وتجدده منهم في أجزاء كثيرة من الأوقات المعدة لاضطجاع وهي الأوقات التي الشأن فيها النوم.

والتجافي : التباعد والمتاركة. والمعنى : أن تجافي جنوبهم عن المضاجع يتكرر في الليلة الواحدة ، أي : يكثرون السهر بقيام الليل والدعاء لله ؛ وقد فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصلاة الرجل في جوف الليل ، كما سيأتي في حديث معاذ عند الترمذي.

و (الْمَضاجِعِ) : الفرش جمع مضجع ، وهو مكان الضجع ، أي : الاستلقاء للراحة والنوم. وأل فيه عوض عن المضاف إليه ، أي عن مضاجعهم كقوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١]. وهذا تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام. وقد صرح بهذا المعنى عبد الله بن رواحة بقوله يصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو سيد أصحاب هذا الشأن :

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وجملة (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) يجوز أن تكون حالا من ضمير (جُنُوبُهُمْ) والأحسن أن تجعل بدل اشتمال من جملة (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ).

وانتصب (خَوْفاً وَطَمَعاً) على الحال بتأويل خائفين وطامعين ، أي : من غضبه وطمعا في رضاه وثوابه ، أي هاتان صفتان لهم. ويجوز أن ينتصبا على المفعول لأجله ، أي لأجل الخوف من ربهم والطمع في رحمته.

ولما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم. ثم عظم الله

١٦١

جزاءهم إذ قال : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ، أي : لا تبلغ نفس من أهل الدنيا معرفة ما أعد الله لهم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله تعالى : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» فدلّ على أن المراد ب (نَفْسٌ) في هذه الآية أصحاب النفوس البشرية. فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة ، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات ، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركّبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسموعات مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن ، ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ ، ومثل الأشجار من زبرجد ، والأزهار من ياقوت ، وتراب من مسك وعنبر ، فكل ذلك قليل في جانب ما أعدّ لهم في الجنة من هذه الموصوفات ولا تبلغه صفات الواصفين لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر فلذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا خطر على قلب بشر» ، وهذا كقولهم في تعظيم شيء: هذا لا يعلمه إلا الله. قال الشاعر :

فلم يدر إلا الله ما هيجت لنا

عشية آناء الديار وشامها

وعبر عن تلك النعم ب (ما أُخْفِيَ) لأنها مغيبة لا تدرك إلا في عالم الخلود.

وقرة الأعين : كناية عن المسرة كما تقدم في قوله تعالى : (وَقَرِّي عَيْناً) في سورة مريم [٢٦].

وقرأ الجمهور أخفي بفتح الياء بصيغة الماضي المبني للمجهول. وقرأ حمزة ويعقوب أخفي بصيغة المضارع المفتتح بهمزة المتكلم والياء ساكنة ، و (جَزاءً) منصوب على الحال من (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) وقد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جزاء على هذه الأعمال الصالحات في حديث أغرّ رواه الترمذي عن معاذ بن جبل قال : «قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسّره الله عليه : تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت» ثم قال : «ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) حتى بلغ (يَعْمَلُونَ ...)» الحديث.

[١٨ ـ ٢٠] (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

١٦٢

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠))

فرع بالفاء على ما تقدم من الآيات من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين استفهام بالهمزة مستعمل في إنكار المساواة بين المؤمن والكافر ، وهو إنكار بتنزيل السامع منزلة المتعجب من البون بين جزاء الفريقين في ذلك اليوم فكان الإنكار موجها إلى ذلك التعجب في معنى الاستئناف البياني. والكاف للتشبيه في الجزاء.

وجملة (لا يَسْتَوُونَ) عطف بيان للمقصود من الاستفهام.

والفاسق هنا هو : من ليس بمؤمن بقرينة قوله بعده (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). فالمراد : الفسق عن الإيمان الذي هو الشرك وهو إطلاق كثير في القرآن. ثم أكد كلا الجزاءين بذكر مرادف لمدلوله مع زيادة فائدة ، فجملة (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) [السجدة : ١٧] إلى آخرها.

وجملة (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) إلى (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [السجدة : ١٤].

ومن الموصولة في الموضعين عامة بقرينة التفصيل بالجمع في قوله (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ. و (أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا). فليست الآية نازلة في معيّن كما قيل.

و (الْمَأْوى) : المكان الذي يؤوى إليه ، أي يرجع إليه.

والتعريف باللام فيه للعهد ، أي مأوى المؤمنين ، قال تعالى : (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) [النجم : ١٥]. ولك أن تجعل اللام عوضا عن المضاف إليه ، أي مأواهم بقرينة قوله في مقابل (فَمَأْواهُمُ النَّارُ). وإضافة (جَنَّاتُ) إلى (الْمَأْوى) من إضافة الموصوف إلى الصفة لقصد التخفيف وهي واقعة في الكلام وإن اختلف البصريون والكوفيون في تأويلها خلافا لا طائل تحته ، وذلك مثل قولهم : مسجد الجامع ، وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤] ، وقولهم : عشاء الآخرة. والمعنى : فلهم الجنات المأوى لهم ، أي الموعودون بها.

١٦٣

وانتصب (نُزُلاً) على الحال من (جَنَّاتُ الْمَأْوى). والنزل بضمتين مشتق من النزول فيطلق على ما يعد للنزيل من العطاء والقرى قال في «الكشاف» : النزل : عطاء النازل ، ثم صار عاما ، أي : يطلق على العطاء ولو بدون ضيافة مجازا مرسلا. قلت : ويطلق على محل نزول الضيف ولأجل هذه الإطلاقات يختلف المفسرون في المراد منه في بعض الآيات رعيا لما يناسب سياق الكلام. وفسره الزجاج في هذه الآية ونحوها بالمنزل ، وفسره في قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) [الصافات : ٦٢] فقال : «يقول أذلك خير في باب الأنزال التي تمكن معها الإقامة أم نزل أهل النار» وقد تقدم في آخر سورة آل عمران [١٦٣] ، والباء في (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) للسببية.

وقوله : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) تقدم نظيره في سورة الحج [٢٢].

ويتجه في هذه الآية أن يقال : لما ذا أظهر اسم النار في قوله (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ) مع أن اسم النار تقدم في قوله (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) فكان مقتضى الظاهر الإضمار بأن يقال: وقيل لهم ذوقوا عذابها. وهذا السؤال أورده ابن الحاجب في «أماليه» وأجاب بوجهين : أحدهما أن سياق الآية التهديد وفي إظهار لفظ النار من التخويف ما ليس في الإضمار ، الثاني : أن الجملة حكاية لما يقال لهم يومئذ فناسب أن يحكى كما قيل لهم وليس فيما يقال لهم تقدّم ذكر النار.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١))

إخبار بأن لهم عذابا آخر لا يبلغ مبلغ عذاب النار الموعودين به في الآخرة فتعين أن العذاب الأدنى عذاب الدنيا. والمقصود من هذا : التعريض بتهديدهم لأنهم يسمعون هذا الكلام أو يبلغ إليهم. وهذا إنذار بما لحقهم بعد نزول الآية وهو ما محنوا به من الجوع والخوف وكانوا في أمن منهما وما يصيبهم يوم بدر من القتل والأسر ويوم الفتح من الذل.

وجملة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) استئناف بياني لحكمة إذاقتهم العذاب الأدنى في الدنيا بأنه لرجاء رجوعهم ، أي رجوعهم عن الكفر بالإيمان. والمراد : رجوع من يمكن رجوعه وهم الأحياء منهم. وإسناد الرجوع إلى ضمير جميعهم باعتبار القبيلة والجماعة ، أي لعل جماعتهم ترجع. وكذلك كان فقد آمن كثير من الناس بعد يوم بدر وبخاصة بعد فتح مكة ، فصار من تحقق فيهم الرجوع المرجوّ مخصوصين من عموم (الَّذِينَ فَسَقُوا) في قوله

١٦٤

تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) الآية [السجدة : ٢٠] ، فبقي ذلك الوعيد للذين ماتوا على الشرك ، وهي مسألة الموافاة عند الأشعري.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

عطف على جملة (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) [السجدة : ١٥] إلى آخرها حيث اقتضت أن الذين قالوا : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠] ليسوا كأولئك فانتقل إلى الإخبار عنهم بأنهم أشد الناس ظلما لأنهم يذكّرون بآيات الله حين يتلى عليهم القرآن فيعرضون عن تدبرها ويلغون فيها ، فآيات الله مراد بها القرآن.

وجيء في عطف جملة (أَعْرَضَ) بحرف (ثُمَ) لقصد الدلالة على تراخي رتبة الإعراض عن الآيات بعد التذكير بها تراخي استبعاد وتعجيب من حالهم كقول جعفر بن علبة الحارثي :

لا يكشف الغماء إلا ابن حرة

يرى غمرات الموت ثم يزورها

أي : عجيب إقدامه على مواقع الهلاك بعد مشاهدة غمرات الموت تغمر الذين أقدموا على تلك المواقع.

و (مَنْ) للاستفهام الإنكاري كقوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة : ١١٤] أي : لا أظلم منه ، أي لا أحد أظلم منه لأنه ظلم نفسه بحرمانها من التأمل فيما فيه نفعه ، وظلم الآيات بتعطيل نفعها في بعض من أريد انتفاعهم بها ، وظلم الرسول عليه الصلاة والسلام بتكذيبه والإعراض عنه ، وظلم حق ربه إذ لم يمتثل ما أراد منه.

وجملة (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن تفظيع ظلم الذي ذكّر بآيات ربّه فأعرض عنها لأن السامع يترقب جزاء ذلك الظالم. والمراد بالمجرمين هؤلاء الظالمون ، عدل عن ذكر ضميرهم لزيادة تسجيل فظاعة حالهم بأنهم مجرمون مع أنهم ظالمون ، وقد يقال : إن المجرمين أعم من الظالمين فيكون دخولهم في الانتقام من المجرمين أخرويّا وتصير جملة (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) تذييلا.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي

١٦٥

إِسْرائِيلَ (٢٣))

لما جرى ذكر إعراض المشركين عن آيات الله وهي آيات القرآن في قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [السجدة : ٢٢] ، استطرد إلى تسلية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ما لقي من قومه هو نظير ما لقيه موسى من قوم فرعون الذين أرسل إليهم فالخبر مستعمل في التسلية بالتنظير والتمثيل. فهذه الجملة وما بعدها إلى قوله (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [السجدة : ٢٥] معترضات. وموقع التأكيد بلام القسم وحرف التحقيق هو ما استعمل فيه الخبر من التسلية لا لأصل الأخبار لأنه أمر لا يحتاج إلى التأكيد ، وبه تظهر رشاقة الاعتراض بتفريع (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) على الخبر الذي قبله.

وأريد بقوله (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أرسلنا موسى ، فذكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله ، وإدماج ذكر (الْكِتابَ) للتنويه بشأن موسى وليس داخلا في تنظير حال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال موسى عليه‌السلام في تكذيب قومه إياه لأن موسى لم يكذبه قومه ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) الآيات ، وليتأتى من وفرة المعاني في هذه الآية ما لا يتأتى بدون ذكر (الْكِتابَ).

وجملة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) معترضة وهو اعتراض بالفاء ، ومثله وارد كثيرا في الكلام كما تقدم عند قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) الآية في سورة النساء [١٣٥]. ويأتي عند قوله تعالى : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) في سورة ص [٥٧].

والمرية : الشك والتردد. وحرف الظرفية مجاز في شدة الملابسة ، أي لا يكن الشك محيطا بك ومتمكنا منك ، أي لا تكن ممتريا في أنك مثله سينالك ما ناله من قومه.

والخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالنهي مستعمل في طلب الدوام على انتفاء الشك فهو نهي مقصود منه التثبيت كقوله (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) [هود : ١٠٩] ، وليس لطلب إحداث انكفاف عن المرية لأنها لم تقع من قبل.

واللقاء : اسم مصدر لقي وهو الغالب في الاستعمال دون لقى الذي هو المصدر القياسي. واللقاء : مصادفة فاعل هذا الفعل مفعوله ، ويطلق مجازا على الإصابة كما يقال : لقيت عناء ، ولقيت عرق القربة ، وهو هنا مجاز ، أي لا تكن في مرية في أن يصيبك ما أصابه ، وضمير الغائب عائد إلى موسى. واللقاء مصدر مضاف إلى فاعله ، أي مما لقي

١٦٦

موسى من قوم فرعون من تكذيب ، أي من مثل ما لقي موسى ، وهذا المضاف يدل عليه المقام أو يكون جاريا على التشبيه البليغ كقوله : هو البدر ، أي : من لقاء كلقائه ، فيكون هذا في معنى آيات كثيرة في هذا المعنى وردت في القرآن كقوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) [الأنعام : ١٠] (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) [الأنعام : ٣٤] ، وقوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً* سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) [الإسراء : ٧٦ ، ٧٧]. هذا أحسن تفسير للآية وقريب منه مأثور عن الحسن.

ويجوز أن يكون ضمير (لِقائِهِ) عائدا إلى موسى على معنى : من مثل ما لقي موسى من إرساله وهو أن كانت عاقبة النصر له على قوم فرعون ، وحصول الاهتداء بالكتاب الذي أوتيه ، وتأييده باهتداء بني إسرائيل ، فيكون هذا المعنى بشارة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله سيظهر هذا الدين. ويجوز أن يكون ضمير (لِقائِهِ) عائدا إلى الكتاب كما في «الكشاف» لكن على أن يكون المعنى : فلا تكن في شك من لقاء الكتاب ، أي من أن تلقى من إيتائك الكتاب ما هو شنشنة تلقّي الكتب الإلهية كما تلقاها موسى. فالنهي مستعمل في التحذير ممن ظن أن لا يلحقه في إيتاء الكتاب من المشقة ما لقيه الرسل من قبله ، أي من جانب أذى قومه وإعراضهم. ويجوز أن يكون الخطاب في قوله (فَلا تَكُنْ) لغير معين وهو موجه للذين امتروا في أن القرآن أنزل من عند الله سواء كانوا المشركين أو الذين يلقنونهم من أهل الكتاب ، أي لا تمتروا في إنزال القرآن على بشر فقد أنزل الكتاب على موسى فلا تكونوا في مرية من إنزال القرآن على محمد. وهذا كقوله تعالى : (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) [الأنعام : ٩١]. فالنهي مستعمل في حقيقته من طلب الكف عن المرية في إنزال القرآن. وللمفسرين احتمالات أخرى كثيرة لا تسفر عن معنى بيّن ، ومن أبعدها حمل اللقاء على حقيقته وعود ضمير الغائب لموسى وأن المراد لقاؤه ليلة الإسراء وعده الله به وحقّقه له في هذه الآية قبل وقوعه. قال ابن عطية : وقال المبرد حين امتحن أبا إسحاق الزجاج بهذه المسألة (١).

وضمير النصب في (وَجَعَلْناهُ هُدىً) يجوز أن يعود على الكتاب أو على موسى وكلاهما سبب هدى ، فوصف بأنه هدى للمبالغة في حصول الاهتداء به وهو معطوف على

__________________

(١) لعله امتحنه بذلك حين جاءه ليلازمه للأخذ عنه ولم أعثر على تفصيل ذلك.

١٦٧

(آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وما بينهما اعتراض. وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يشكروا نعمة الله على أن أرسل إليهم محمد بالقرآن ليهتدوا فأعرضوا وكانوا أحق بأن يحرصوا على الاهتداء بالقرآن وبهدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤))

أشير إلى ما منّ الله به على بني إسرائيل إذ جعل منهم أئمة يهدون بأمر الله والأمر يشمل الوحي بالشريعة لأنه أمر بها ، ويشمل الانتصاب للإرشاد فإن الله أمر العلماء أن يبينوا الكتاب ويرشدوا إليه فإذا هدوا فإنما هدوا بأمره وبالعلم الذي آتاهم به أنبياؤهم وأحبارهم فأنعم الله عليهم بذلك لما صبروا وأيقنوا لما جاءهم من كتاب الله ومعجزات رسولهم فإن كان المراد من قوله (بِآياتِنا يُوقِنُونَ) دلائل صدق موسى عليه‌السلام ، فالمعنى : أنهم صبروا على مشاق التكليف والخروج بهم من أرض مصر وما لقوه من فرعون وقومه من العذاب والاضطهاد وتيههم في البرية أربعين سنة وتدبروا في الآيات ونظروا حتى أيقنوا.

وإن كان المراد من الآيات ما في التوراة من الشرائع والمواعظ فإطلاق اسم الآيات عليها مشاكلة تقديرية لما هو شائع بين المسلمين من تسمية جمل القرآن آيات لأنها معجزة في بلاغتها خارجة عن طوق تعبير البشر. فكانت دلالات على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا نحو ما وقع في حديث رجم اليهوديين من قول الراوي : فوضع اليهودي يده على آية الرجم ، أي الكلام الذي فيه حكم الرجم في التوراة فسماه الراوي آية مشاكلة لكلام القرآن. وفي هذا تعريض بالبشارة لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم يكونون أئمة لدين الإسلام وهداة للمسلمين إذ صبروا على ما لحقهم في ذات الله من أذى قومهم وصبروا على مشاق التكليف ومعاداة أهلهم وقومهم وظلمهم إياهم. وتقديم (بِآياتِنا) على (يُوقِنُونَ) للاهتمام بالآيات.

وقرأ الجمهور (لَمَّا صَبَرُوا) بتشديد الميم وهي (لَمَّا) التي هي حرف وجود لوجود وتسمى التوقيتية ، أي : جعلناهم أئمة حين صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بتخفيف الميم على أنها مركبة من لام التعليل و (ما) المصدرية ، أي جعلناهم أئمة لأجل صبرهم وإيقانهم.

١٦٨

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥))

استئناف بياني لأن قوله تعالى (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [السجدة : ٢٤] يثير سؤالا في نفس السامع من المؤمنين الذين سمعوا ما في القرآن من وصف اختلاف بني إسرائيل وانحرافهم عن دينهم وشاهد كثير منهم بني إسرائيل في زمانه غير متحلّين بما يناسب ما قامت به أئمتهم من الهداية فيودّ أن يعلم سبب ذلك فكان في هذه الآية جواب ذلك تعليما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين.

والخطاب للنبي والمراد أمته تحذيرا من ذلك وإيماء إلى وجوب تجنب الاختلاف الذي لا يدعو إليه داع في مصلحة الأمة وفهم الدين.

والفصل : القضاء والحكم ، وهو يقتضي أن اختلافهم أوقعهم في إبطال ما جاءهم من الهدى فهو اختلاف غير مستند إلى أدلة ولا جار في مهيع أصل الشريعة ؛ ولكنه متابعة للهوى وميل لأعراض الدنيا كما وصفه القرآن في آيات كثيرة في سورة البقرة وغيرها كقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران : ١٠٥].

وليس منه اختلاف أئمة الدين في تفاريع الأحكام وفي فهم الدين مما لا ينقض أصوله ولا يخالف نصوصه وإنما هو إعمال لأصوله ولأدلته في الأحوال المناسبة لها وحمل متعارضها بعضه على بعض فإن ذلك كله محمود غير مذموم ؛ وقد اختلف أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته فلم يعنّف أحدا ، واختلفوا بعد وفاته فلم يعنّف بعضهم بعضا. ويشمل ما كانوا فيه يختلفون ما كان اختلافا بين المهتدين والضالين منهم وما كان اتفاقا من جميع أمتهم على الضلالة فإن ذلك خلاف بين المجمعين وبين ما نطقت به شريعتهم وسنّته أنبياؤهم ، ومن أعظم ذلك الاختلاف كتمانهم الشهادة ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجحدهم ما أخذ عليهم من الميثاق من أنبيائهم.

وضمير (هُوَ) في قوله (هُوَ يَفْصِلُ) ضمير فصل لقصر الفصل عليه تعالى إيماء إلى أن ما يذكر في القرآن من بيان بعض ما اختلفوا فيه على أنبيائهم ليس مطموعا منه أن يرتدعوا عن اختلافهم وإنما هو للتسجيل عليهم وقطع معذرتهم لأنهم لا يقبلون الحجة فلا يفصل بينهم إلا يوم القيامة.

١٦٩

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦))

عطف على جملة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [السجدة : ٢٢] ، ولما كان ذلك التذكير متصلا كقوله (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) [السجدة : ١٠] كان الهدي ، أي العلم المستفهم عنه بهذا الاستفهام شاملا للهدي إلى دليل البعث وإلى دليل العقاب على الإعراض عن التذكير فأفاد قوله (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) معنيين : أحدهما : إهلاك أمم كانوا قبلهم فجاء هؤلاء المشركون بعدهم ، وذلك تمثيل للبعث وتقريب لإمكانه. وثانيهما : إهلاك أمم كذبوا رسلهم ففيهم عبرة لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم.

والاستفهام إنكاري ، أي هم لم يهتدوا بدلائل النظر والاستدلال التي جاءهم بها القرآن فأعرضوا عنها ولا اتعظوا بمصارع الأمم الذين كذبوا أنبياءهم وفي مهلكهم آيات تزجر أمثالهم عن السلوك فيما سلكوه. فضمير (لَهُمْ) عائد إلى المجرمين أو إلى من ذكّر بآيات ربه. و (يَهْدِ) من الهداية وهي الدلالة والإرشاد ، يقال : هداه إلى كذا.

وضمن فعل (يَهْدِ) معنى يبيّن ، فعدي باللام فأفاد هداية واضحة بينة. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) في سورة [الأعراف : ١٠٠]. واختير فعل الهداية في هذه الآية لإرادة الدلالة الجامعة للمشاهدة ولسماع أخبار تلك الأمم تمهيدا لقوله في آخرها (أَفَلا يَسْمَعُونَ) ، ولأن كثرة ذلك المستفادة من (كَمْ) الخبرية إنما تحصل بترتيب الاستدلال في تواتر الأخبار ولا تحصل دفعة كما تحصل دلالة المشاهدات.

وفاعل (يَهْدِ) ما دلت عليه (كَمْ) الخبرية من معنى الكثرة. ولا يجوز عند الجمهور جعل (كَمْ) فاعل (يَهْدِ) لأن (كَمْ) الخبرية اسم له الصدارة في الاستعمال إذ أصله استفهام فتوسع فيه.

ويجوز جعل (كَمْ) فاعلا عند من لم يشترطوا أن تكون (كَمْ) الخبرية في صدر الكلام. وجوز في «الكشاف» أن يكون الفاعل جملة (كَمْ أَهْلَكْنا) على معنى الحكاية لهذا القول ، كما يقال : تعصم (لا إله إلا الله) الدماء والأموال ، أي هذه الكلمة أي النطق بها لتقلد الإسلام. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الجلالة دالا عليه المقام ، أي ألم يهد

١٧٠

الله لهم فإن الله بين لهم ذلك وذكّرهم بمصارع المكذبين ، وتكون جملة (كَمْ أَهْلَكْنا) على هذا استئنافا ، وتقدم (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) في أول الأنعام [٦].

ونيط الاستدلال هنا بالكثرة التي أفادتها (كَمْ) الخبرية لأن تكرر حدوث القرون وزوالها أقوى دلالة من مشاهدة آثار أمة واحدة.

و (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) حال من فاعل (أَوَلَمْ يَرَوْا) [السجدة : ٢٧] والمعنى: أنهم يمرون على المواضع التي فيها بقايا مساكنهم مثل حجر ثمود وديار مدين فتعضد مشاهدة مساكنهم الأخبار الواردة عن استئصالهم وهي دلائل إمكان البعث كما قال تعالى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦٠ ، ٦١] ، ودلائل ما يحيق بالمكذبين للرسل ؛ وفي كل أمة وموطن دلائل كثيرة متماثلة أو متخالفة.

ولما كان الذي يؤثر من أخبار تلك الأمم وتقلبات أحوالها وزوال قوتها ورفاهيتها أشدّ دلالة وموعظة للمشركين فرع عليه (أَفَلا يَسْمَعُونَ) استفهاما تقريريا مشوبا بتوبيخ لأن اجتلاب المضارع وهو (يَسْمَعُونَ) مؤذن بأن استماع أخبار تلك الأمم متكرر متجدد فيكون التوبيخ على الإقرار المستفهم عنه أوقع بخلاف ما بعده من قوله (أَفَلا يُبْصِرُونَ) [السجدة : ٢٧]. وقد شاع توجيه الاستفهام التقريري إلى المنفي ، وتقدم عند قوله تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) في سورة الأنعام [١٣٠] ، وقوله : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) في سورة الأعراف [١٤٨].

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧))

عطف على (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) [السجدة : ٢٦]. ونيط الاستدلال هنا بالرؤية لأن إحياء الأرض بعد موتها ثم إخراج النبت منها دلالة مشاهدة. واختير المضارع في قوله (نَسُوقُ) لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على القدرة الباهرة.

والسّوق : إزجاء الماشي من ورائه.

و (الْماءَ) : ماء المزن ، وسوقه إلى الأرض هو سوق السحاب الحاملة إياه بالرياح التي تنقل السحاب من جوّ إلى جوّ ؛ فشبهت هيئة الرياح والسحاب بهيئة السائق للدابة. والتعريف في (الْأَرْضِ) تعريف الجنس.

١٧١

و (الْجُرُزِ) : اسم للأرض التي انقطع نبتها ، وهو مشتق من الجرز ، وهو : انقطاع النبت والحشيش ، إما بسبب يبس الأرض أو بالرّعي ، والجرز : القطع. وسمي السيف القاطع جرازا ، قال الراجز يصف أسنان ناقة :

تنحي على الشوك جرازا مقضبا

والهرم تذريه إذ دراء عجبا

ف (الْأَرْضِ الْجُرُزِ) : التي انقطع نبتها. ولا يقال للأرض التي لا تنبت كالسباخ جرز. والزرع : ما نبت بسبب بذر حبوبه في الأرض كالشعير والبر والفصفصة وأكل الأنعام غالبه من الكلأ لا من الزرع فذكر الزرع بلفظه ، ثم ذكر أكل الأنعام يدلّ على تقدير : وكلأ. ففي الكلام اكتفاء. والتقدير : ونخرج به زرعا وكلأ تأكل منه أنعامهم وأنفسهم. والمقصود : الاستدلال على البعث وتقريبه وإمكانه بإخراج النبت من الأرض بعد أن زال ؛ فوجه الأول. وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بقوله (تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ). ثم فرع عليه استفهام تقريري بجملة (أَفَلا يُبْصِرُونَ). وتقدم بيان مثله آنفا في قوله (أَفَلا يَسْمَعُونَ) [السجدة : ٢١]. ونيط الحكم بالإبصار هنا لأن دلالة إحياء الأرض بعد موتها دلالة مشاهدة.

[٢٨ ـ ٣٠] (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

يجوز أن يكون عطفا على جملة (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [السجدة : ٢٢] ، أي : أعرضوا عن سماع الآيات والتدبر فيها وتجاوزوا ذلك إلى التكذيب والتهكم بها. ومناسبة ذكر ذلك هنا أنه وقع عقب الإشارة إلى دليل وقوع البعث وهو يوم الفصل. ويجوز أن يعطف على جملة (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠].

والمعنى : أنهم كذبوا بالبعث وما معه من الوعيد في الآخرة وكذّبوا بوعيد عذاب الدنيا الذي منه قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) [السجدة : ٢١].

و (الْفَتْحُ) : النصر والقضاء. والمراد به : نصر أهل الإيمان بظهور فوزهم وخيبة أعدائهم فإن خيبة العدوّ نصر لضده وكان المسلمون يتحدّون المشركين بأن الله سيفتح بينهم وينصرهم وتظهر حجتهم ، فكان الكافرون يكررون التهكم بالمسلمين بالسؤال عن وقت هذا الفتح استفهاما مستعملا في التكذيب حيث لم يحصل المستفهم عنه. وحكاية قولهم بصيغة

١٧٢

المضارع لإفادة التعجيب منه كقوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] مع إفادة تكرر ذلك منهم واتخاذهم إياه. والمعنى : إن كنتم صادقين في أنه واقع فبينوا لنا وقته فإنكم إذ علمتم به دون غيركم فلتعلموا وقته. وهذا من السفسطة الباطلة لأن العلم بالشيء إجمالا لا يقتضي العلم بتفصيل أحواله حتى ينسب الذي لا يعلم تفصيله إلى الكذب في إجماله.

واسم الإشارة في (هذَا الْفَتْحُ) مع إمكان الاستغناء عنه بذكر مبينه مقصود منه التحقير وقلة الاكتراث به كما في قول قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة

لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

إنباء بقلة اكتراثه بالموت ومنه قوله تعالى حكاية عنهم : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٣٦] فأمر الله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيبهم على طريقة الأسلوب الحكيم بأن يوم الفتح الحق هو يوم القيامة وهو يوم الفصل وحينئذ ينقطع أمل الكفار في النجاة والاستفادة من الندامة والتوبة ولا يجدون إنظارا لتدارك ما فاتهم ، أي إفادتهم هذه الموعظة خير لهم من تطلبهم معرفة وقت حلول يوم الفتح لأنهم يقولون يومئذ (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة : ١٢] مع ما في هذا الجواب من الإيماء إلى أن زمن حلوله غير معلوم للناس وأنه مما استأثر الله به فعلى من يحتاط لنجاة نفسه أن يعمل له من الآن فإنه لا يدري متى يحلّ به (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨]. ففي هذا الجواب سلوك الأسلوب الحكيم من وجهين : من وجه العدول عن تعيين يوم الفتح ، ومن وجه العدول بهم إلى يوم الفتح الحق ، وهم إنما أرادوا بالفتح نصر المسلمين عليهم في الحياة الدنيا.

وإظهار وصف (الَّذِينَ كَفَرُوا) في مقام الإضمار مع أنهم هم القائلون (مَتى هذَا الْفَتْحُ) لقصد التسجيل عليهم بأن كفرهم هو سبب خيبتهم. ثم فرع على جميع هذه المجادلات والدلالات توجيه الله خطابه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعرض عن هؤلاء القائلين المكذبين وأن لا يزيد في الإلحاح عليهم تأييسا من إيمان المجادلين منهم المتصدّين للتمويه على دهمائهم. وهذا إعراض متاركة عن الجدال وقتيا لا إعراض مستمر ، ولا عن الدعوة إلى الله ولا علاقة له بأحكام الجهاد المشروع في غير هذه الآية.

والانتظار : الترقب. وأصله مشتق من النظر فكأنه مطاوع : أنظره ، أي أراه فانتظر ، أي : تكلف أن ينظر. وحذف مفعول (انْتَظِرْ) للتهويل ، أي : انتظر أياما يكون لك فيها

١٧٣

النصر ، ويكون لهم فيها الخسران مثل سني الجوع إن كان حصلت بعد نزول هذه السورة ، ومثل يوم بدر ويوم فتح مكة وهما بعد نزول هذه السورة لا محالة ، ففي الأمر بالانتظار تعريض بالبشارة للمؤمنين بالنظر ، وتعريض بالوعيد للمشركين بالعذاب في الدارين.

وجملة (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) تعليل لما تضمنه الأمر بالانتظار من إضمار العذاب لهم. ومفعول (مُنْتَظِرُونَ) محذوف دل عليه السياق ، أي منتظرون لكم الفرصة لحربكم أو لإخراجكم قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] وقال: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) [التوبة : ٩٨] أي لم نكن ظالمين في تقدير العذاب لهم لأنهم بدءوا بالظلم.

١٧٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٣ ـ سورة الأحزاب

هكذا سميت سورة الأحزاب في المصاحف وكتب التفسير والسنة ، وكذلك رويت تسميتها عن ابن عباس وأبيّ بن كعب بأسانيد مقبولة. ولا يعرف لها اسم غيره. ووجه التسمية أن فيها ذكر أحزاب المشركين من قريش ومن تحزب معهم ، أرادوا غزو المسلمين في المدينة فردّ الله كيدهم وكفى الله المؤمنين القتال. وهي مدنية بالاتفاق ، وسيأتي عن ابن عباس أن آية (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) [الأحزاب : ٣٦] إلخ نزلت في تزويج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة في مكة. وهي التسعون في عداد السور النازلة من القرآن ، نزلت بعد سورة الأنفال ، وقبل سورة المائدة.

وكان نزولها على قول ابن إسحاق أواخر سنة خمس من الهجرة وهو الذي جرى عليه ابن رشد في «البيان والتحصيل». وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك : أنها كانت سنة أربع وهي سنة غزوة الأحزاب وتسمى غزوة الخندق حين أحاط جماعات من قريش وأحابيشهم (١) وكنانة وغطفان وكانوا عشرة آلاف وكان المسلمون ثلاثة آلاف وعقبتها غزوة قريظة والنضير. وعدد آيها ثلاث وسبعون باتفاق أصحاب العدد.

ومما يجب التنبيه عليه مما يتعلق بهذه السورة ما رواه الحاكم والنسائي وغيرهما عن زر بن حبيش قال : قال لي أبي بن كعب : كأيّن تعدون سورة الأحزاب؟ قال : قلت : ثلاثا وسبعين آية. قال : أقط ـ بهمزة استفهام دخلت على قط ، أي : حسب ـ فو الذي يحلف به أبيّ : إن كانت لتعدل سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتية نكالا من الله والله عزيز حكيم» فرفع فيما رفع ، أي : نسخ فيما نسخ من تلاوة

__________________

(١) أحابيش قريش : هم بنو المصطلق وبنو الهون اجتمعوا عند جبل بمكة يقال له : حبشيّ ـ بضم الحاء وسكون الباء ـ فحالفوا قريشا أنهم يد على غيرهم.

١٧٥

آياتها. وما رواه أبو عبيد القاسم بن سلّام بسنده وابن الأنباري بسنده عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن. وكلام الخبرين ضعيف السند. ومحمل الخبر الأول عند أهل العلم أن أبيّا حدّث عن سورة الأحزاب قبل أن ينسخ منها ما نسخ. فمنه ما نسخت تلاوته وحكمه ومنه ما نسخت تلاوته خاصة مثل آية الرجم. وأنا أقول : إن صح عن أبيّ ما نسب إليه فما هو إلا أن شيئا كثيرا من القرآن كان أبيّ يلحقه بسورة الأحزاب وهو من سور أخرى من القرآن مثل كثير من سورة النساء الشبيه ببعض ما في سورة الأحزاب أغراضا ولهجة مما فيه ذكر المنافقين واليهود ، فإن أصحاب رسول الله لم يكونوا على طريقة واحدة في ترتيب آي القرآن ولا في عدّة سور وتقسيم سوره كما تقدم في المقدمة الثامنة ولا في ضبط المنسوخ لفظه. كيف وقد أجمع حفاظ القرآن والخلفاء الأربعة وكافة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا الذين شذوا على أن القرآن هو الذي في المصحف وأجمعوا في عدد آيات القرآن على عدد قريب بعضه من بعض كما تقدم في المقدمة الثامنة.

وأما الخبر عن عائشة فهو أضعف سندا وأقرب تأويلا فإن صحّ عنها ، ولا إخاله ، فقد تحدثت عن شيء نسخ من القرآن كان في سورة الأحزاب. وليس بعد إجماع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مصحف عثمان مطلب لطالب.

ولم يكن تعويلهم في مقدار القرآن وسوره إلّا على حفظ الحفاظ. وقد افتقد زيد بن ثابت آية من سورة الأحزاب لم يجدها فيما دفع إليه من صحف القرآن فلم يزل يسأل عنها حتى وجدها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري وقد كان يسمع رسول الله يقرؤها ، فلما وجدها مع خزيمة لم يشك في لفظها الذي كان عرفه ، وهي آية (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) إلى قوله (تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٢٣]. وافتقد الآيتين من آخر سورة براءة فوجدهما عند أبي خزيمة بن أوس ـ المشتهر بكنيته ـ.

وبعد فخبر أبيّ بن كعب خبر غريب لم يؤثر عن أحد من أصحاب رسول الله فنوقن بأنه دخله وهم من بعض رواته. وهو أيضا خبر آحاد لا ينتقض به إجماع الأمة على المقدار الموجود من هذه السورة متواترا. وفي «الكشاف» : وأما ما يحكى أن تلك الزيادة التي رويت عن عائشة كانت مكتوبة في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن ، أي الشاة ، فمن تأليفات الملاحدة والروافض ا ه.

ووضع هذا الخبر ظاهر مكشوف فإنه لو صدق هذا لكانت هذه الصحيفة قد هلكت

١٧٦

في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعده والصحابة متوافرون وحفاظ القرآن كثيرون فلو تلفت هذه الصحيفة لم يتلف ما فيها من صدور الحفاظ. وكون القرآن قد تلاشى منه كثير هو أصل من أصول الروافض ليطعنوا به في الخلفاء الثلاثة ، والرافضة يزعمون أن القرآن مستودع عند الإمام المنتظر فهو الذي يأتي بالقرآن وقر بعير. وقد استوعب قولهم واستوفى إبطاله أبو بكر بن العربي في كتاب «العواصم من القواصم».

أغراض هذه السورة

لكثير من آيات هذه السورة أسباب لنزولها ، وأكثرها نزل للرد على المنافقين أقوالا قصدوا بها أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأهم أغراضها : الرد عليهم قولهم لما تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة فقالوا : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك ، فأنزل الله تعالى إبطال التبنّي. وأن الحق في أحكام الله لأنه الخبير بالأعمال وهو الذي يقول الحق. وأن ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين أقوى ولاية ، ولأزواجه حرمة الأمهات لهم ، وتلك ولاية من جعل الله فهي أقوى وأشد من ولاية الأرحام. وتحريض المؤمنين على التمسك بما شرع الله لهم لأنه أخذ العهد بذلك على جميع النبيئين. والاعتبار بما أظهره الله من عنايته بنصر المؤمنين على أحزاب أعدائهم من الكفرة والمنافقين في وقعة الأحزاب ودفع كيد المنافقين. والثناء على صدق المؤمنين وثباتهم في الدفاع عن الدين. ونعمة الله عليهم بأن أعطاهم بلاد أهل الكتاب الذين ظاهروا الأحزاب.

وانتقل من ذلك إلى أحكام في معاشرة أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر فضلهن وفضل آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفضائل أهل الخير من المسلمين والمسلمات. وتشريع في عدّة المطلّقة قبل البناء. وما يسوغ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأزواج. وحكم حجاب أمهات المؤمنين ولبسة المؤمنات إذا خرجن. وتهديد المنافقين على الإرجاف بالأخبار الكاذبة. وختمت السورة بالتنويه بالشرائع الإلهية فكان ختامها من رد العجز على الصدر لقوله في أولها : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [الأحزاب : ٢] ، وتخلّل ذلك مستطردات من الأمر بالائتساء بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتحريض المؤمنين على ذكر الله وتنزيهه شكرا له على هديه. وتعظيم قدر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الله وفي الملأ الأعلى ، والأمر بالصلاة عليه والسلام. ووعيد المنافقين الذين يأتون بما يؤذي الله ورسوله والمؤمنين. والتحذير من التورط في ذلك كيلا يقعوا فيما وقع فيه الذين آذوا موسىعليه‌السلام.

١٧٧

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١))

افتتاح السورة بخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وندائه بوصفه مؤذن بأن الأهم من سوق هذه السورة يتعلق بأحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد نودي فيها خمس مرات في افتتاح أغراض مختلفة من التشريع بعضها خاص به وبعضها يتعلق بغيره وله ملابسة له.

فالنداء الأول : لافتتاح غرض تحديد واجبات رسالته نحو ربه.

والنداء الثاني : لافتتاح غرض التنويه بمقام أزواجه واقترابه من مقامه.

والنداء الثالث : لافتتاح بيان تحديد تقلبات شئون رسالته في معاملة الأمة.

والنداء الرابع : في طالعة غرض أحكام تزوجه وسيرته مع نسائه.

والنداء الخامس : في غرض تبليغه آداب النساء من أهل بيته ومن المؤمنات.

فهذا النداء الأول افتتح به الغرض الأصلي لبقية الأغراض وهو تحديد واجبات رسالته في تأدية مراد ربه تعالى على أكمل وجه دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله ، وهو نظير النداء الذي في قوله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة : ٦٧] الآية ، وقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١] الآيات.

ونداء النبي عليه الصلاة والسلام بوصف النبوءة دون اسمه العلم تشريف له بفضل هذا الوصف ليربأ بمقامه عن أن يخاطب بمثل ما يخاطب به غيره ولذلك لم يناد في القرآن بغير يا أيها النبي أو (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة : ٦٧] بخلاف الإخبار عنه فقد يجيء بهذا الوصف كقوله (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ) النبي [التحريم : ٨] (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِ) [الفرقان : ٣٠] (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١] النبي (أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦] ، ويجيء باسمه العلم كقوله (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) [الأحزاب : ٤٠].

وقد يتعين إجراء اسمه العلم ليوصف بعده بالرسالة كقوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٩] وقوله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) [آل عمران : ١٤٤]. وتلك مقامات يقصد فيها تعليم الناس بأن صاحب ذلك الاسم هو رسول الله ، أو تلقين لهم بأن يسمّوه بذلك ويدعوه به ، فإن علم أسمائه من الإيمان لئلا يلتبس بغيره ، ولذلك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لي خمسة

١٧٨

أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب» تعليما للأمة. وقد أنهى أبو بكر ابن العربي أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سبعة وستين وأنهاها السيوطي إلى ثلاثمائة. وذكر ابن العربي أن بعض الصوفية قال : أسماء النبي ألفا اسم كما سيأتي عند قوله تعالى : يا أيها النبي (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) [الأحزاب : ٤٥].

والأمر للنبي بتقوى الله توطئة للنهي عن اتّباع الكافرين والمنافقين ليحصل من الجملتين قصر تقواه على التعلق بالله دون غيره ، فإن معنى (لا تُطِعِ) مرادف معنى : لا تتّق الكافرين والمنافقين ، فإن الطاعة تقوى ؛ فصار مجموع الجملتين مفيدا معنى : يا أيها النبي لا تتق إلا الله ، فعدل عن صيغة القصر وهي أشهر في الكلام البليغ وأوجز إلى ذكر جملتي أمر ونهي لقصد النص على أنه قصر إضافي أريد به أن لا يطيع الكافرين والمنافقين لأنه لو اقتصر على أن يقال : لا تتق إلا الله لما أصاخت إليه الأسماع إصاخة خاصة لأن تقوى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه أمر معلوم ، فسلك مسلك الإطناب لهذا ، كقول السموأل :

تسيل على حدّ الظبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

فجاء بجملتي إثبات السيلان يقيد ونفيه في غير ذلك القيد للنص على أنهم لا يكرهون سيلان دمائهم على السيوف ولكنهم لا تسيل دماؤهم على غير السيوف.

فإن أصل صيغة القصر أنها مختصرة من جملتي إثبات ونفي ، ولكون هذه الجملة كتكملة للتي قبلها عطفت عليها لاتحاد الغرض منهما. وقد تعين بهذا أن الأمر في قوله (اتَّقِ اللهَ) والنهي في قوله (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) مستعملان في طلب الاستمرار على ما هو ملازم له من تقوى الله ، فأشعر ذلك أن تشريعا عظيما سيلقى إليه لا يخلو من حرج عليه فيه وعلى بعض أمته ، وأنه سيلقى مطاعن الكافرين والمنافقين.

وفائدة هذا الأمر والنهي التشهير لهم بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقبل أقوالهم لييأسوا من ذلك لأنهم كانوا يدبرون مع المشركين المكايد ويظهرون أنهم ينصحون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويلحّون عليه بالطلبات نصحا تظاهرا بالإسلام.

والمراد بالكافرين المجاهرون بالكفر لأنه قوبل بالمنافقين ، فيجوز أن يكونوا المشركين كما هو غالب إطلاق هذا الوصف في القرآن والأنسب بما سيعقبه من قوله (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) [الأحزاب : ٤] إلى آخر أحكام التبنّي ، والموافق لما

١٧٩

روي في سبب نزولها على ضعف فيه سنبينه ؛ ويجوز أن يكونوا اليهود كما يقتضيه ما يروى في سبب النزول ، ولو حمل على ما يعمّ نوعي الكافرين المجاهرين لم يكن بعيدا.

والطاعة : العمل على ما يأمر به الغير أو يشير به لأجل إجابة مرغوبة. وماهيتها متفاوتة مقول عليها بالتشكيك ، ووقوع اسمها في سياق النهي يقتضي النهي عن كل ما يتحقق فيه أدنى ماهيتها ، مثل أن يعدل عن تزوج مطلّقة متبناه لقول المنافقين : إن محمدا ينهى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج زوج ابنه زيد بن حارثة ، وهو المعنى الذي جاء فيه قوله تعالى : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [الأحزاب : ٣٧] ، وقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ) [الأحزاب : ٤٨] عقب قضية امرأة زيد. ومثل نقض ما كان للمشركين من جعل الظهار موجبا مصير المظاهرة أمّا للمظاهر حراما عليه قربانها أبدا ، ولذلك أردفت الجملة بجملة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) تعليلا للنهي.

والمعنى : أن الله حقيق بالطاعة له دون الكافرين والمنافقين لأنه عليم حكيم فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح. ودخول (إِنَ) على الجملة قائم مقام فاء التعليل ومغن غناءها على ما بيّن في غير موضع ، وشاهده المشهور قول بشار :

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير

وقد ذكر الواحدي في «أسباب النزول» والثعلبي والقشيري والماوردي في «تفاسيرهم» : أن قوله تعالى (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) نزل بسبب أنه بعد وقعة أحد جاء إلى المدينة أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبو الأعور السّلمي عمرو بن سفيان من قريش وأذن لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمان في المدينة وأن ينزلوا عند عبد الله بن أبيّ ابن سلول ثم جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع عبد الله بن أبيّ ومعتّب بن قشير ، والجدّ بن قيس ، وطعمة بن أبيرق فسألوا رسول الله أن يترك ذكر آلهة قريش ، فغضب المسلمون وهمّ عمر بقتل النفر القرشيين ، فمنعه رسول الله لأنه كان أعطاهم الأمان ، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة فنزلت هذه الآية ، أي : ـ اتق الله في حفظ الأمان ولا تطع الكافرين ـ وهم النفر القرشيون ـ والمنافقين ـ وهم عبد الله بن أبيّ ومن معه ـ. وهذا الخبر لا سند له ولم يعرج عليه أهل النقد مثل الطبري وابن كثير.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢))

هذا تمهيد لما يرد من الوحي في شأن أحكام التبنّي وما يتصل بها ، ولذلك جيء

١٨٠