تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

واللام في قوله (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) لام كي ، أي : أخذنا منهم ميثاقا غليظا لنعظّم جزاء للذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ولنشدّد العذاب جزاء للذين يكفرون بما جاءتهم به رسل الله ، فيكون من دواعي ذكر هذا الميثاق هنا أنه توطئة لذكر جزاء الصادقين وعذاب الكافرين زيادة على ما ذكرنا من دواعي ذلك آنفا. وهذه علة من علل أخذ الميثاق من النبيئين وهي آخر العلل حصولا فأشعر ذكرها بأن لهذا الميثاق عللا تحصل قبل أن يسأل الصادقون عن صدقهم ، وهي ما في الأعمال المأخوذ ميثاقهم عليها من جلب المصالح ودرء المفاسد ، وذلك هو ما يسأل العاملون عن عمله من خير وشر.

وضمير (لِيَسْئَلَ) عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلم إلى الغيبة.

والمراد بالصادقين أمم الأنبياء الذين بلغهم ما أخذ على أنبيائهم من الميثاق ، ويقابلهم الكافرون الذين كذبوا أنبياءهم أو الذين صدقوهم ثم نقضوا الميثاق من بعد ، فيشملهم اسم الكافرين.

والسؤال : كناية عن المؤاخذة لأنها من ثواب جواب السؤال أعني إسداء الثواب للصادقين وعذاب الكافرين ، وهذا نظير قوله تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] ، أي : لا يتعقب أحد فعله ولا يؤاخذه على ما لا يلائمه ، وقول كعب بن زهير :

وقيل : إنك منسوب ومسئول

وجملة (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) عطف على جملة (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) وغيّر فيها الأسلوب للدلالة على تحقيق عذاب الكافرين حتى لا يتوهم أنهم يسألون سؤال من يسمع جوابهم أو معذرتهم ، ولإفادة أن إعداد عذابهم أمر مضى وتقرر في علم الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩))

ابتداء لغرض عظيم من أغراض نزول هذه السورة والذي حفّ بآيات وعبر من ابتدائه ومن عواقبه تعليما للمؤمنين وتذكيرا ليزيدهم يقينا وتبصيرا. فافتتح الكلام بتوجيه الخطاب إليهم لأنهم أهله وأحقّاء به ، ولأن فيه تخليد كرامتهم ويقينهم وعناية الله بهم ولطفه لهم وتحقيرا لعدوّهم ومن يكيد لهم ، وأمروا أن يذكروا هذه النعمة ولا ينسوها لأن في ذكرها تجديدا للاعتزاز بدينهم والثقة بربهم والتصديق لنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واختيرت للتذكير بهذا اليوم مناسبة الأمر بعدم طاعة الكافرين والمنافقين لأن من

٢٠١

النعم التي حفّت بالمؤمنين في يوم الأحزاب أن الله ردّ كيد الكافرين والمنافقين فذكّر المؤمنون بسابق كيد المنافقين في تلك الأزمة ليحذروا مكائدهم وأراجيفهم في قضية التبنّي وتزوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلّقة متبناه ، ولذلك خصّ المنافقون بقوله : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [الأحزاب : ١٢] الآيات ؛ على أن قضية إبطال التبنّي وإباحة تزوّج مطلق الأدعياء كان بقرب وقعة الأحزاب.

و (إِذْ) ظرف للزمن الماضي متعلق ب (نِعْمَةَ) لما فيها من معنى الإنعام ، أي : اذكروا ما أنعم الله به عليكم زمان جاءتكم جنود فهزمهم الله بجنود لم تروها.

وهذه الآية وما بعدها تشير إلى ما جرى من عظيم صنع الله بالمؤمنين في غزوة الأحزاب فلنأت على خلاصة ما ذكره أهل السير والتفسير ليكون منه بيان لمطاوي هذه الآيات.

وكان سبب هذه الغزوة أن قريشا بعد وقعة أحد تهادنوا مع المسلمين لمدة عام على أن يلتقوا ببدر من العام القابل فلم يقع قتال ببدر لتخلف أبي سفيان عن الميعاد ، فلم يناوش أحد الفريقين الفريق الآخر إلا ما كان من حادثة غدر المشركين بالمسلمين وهي حادثة بئر معونة حين غدرت قبائل عصيّة ، ورعل ، وذكوان من بني سليم بأربعين من المسلمين إذ سأل عامر بن مالك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوجههم إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام. وكان ذلك كيدا كاده عامر بن مالك وذلك بعد أربعة أشهر من انقضاء غزوة أحد.

فلما أجلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النضير لما ظهر من غدرهم به وخيسهم بالعهد الذي لهم مع المسلمين ، هنالك اغتاظ كبراء يهود قريظة بعد الجلاء وبعد أن نزلوا بديار بني قريظة وبخيبر فخرج سلّام بن أبي الحقيق ـ بتشديد لام سلّام وضم حاء الحقيق وفتح قافه ـ وكنانة بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ـ بضم حاء حيي وفتح همزة وطاء أخطب ـ وغيرهم في نفر من بني النضير فقدموا على قريش لذلك وتآمروا مع غطفان على أن يغزوا المدينة فخرجت قريش وأحابيشها وبنو كنانة في عشرة آلاف وقائدهم أبو سفيان ، وخرجت غطفان في ألف قائدهم عيينة بن حصن ، وخرجت معهم هوازن وقائدهم عامر بن الطفيل.

وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عزمهم على منازلة المدينة أبلغته إياه خزاعة وخاف المسلمون كثرة عدوّهم ، وأشار سلمان الفارسي أن يحفر خندق يحيط بالمدينة تحصينا لها من دخول العدوّ فاحتفره المسلمون والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم يحفر وينقل التراب ، وكانت غزوة الخندق سنة أربع في رواية ابن وهب وابن القاسم عن مالك. وقال ابن إسحاق : سنة خمس. وهو الذي اشتهر عند الناس وجرى عليه ابن رشد في «جامع البيان والتحصيل» اتباعا لما اشتهر ، وقول مالك أصحّ.

٢٠٢

وعند ما تم حفر الخندق أقبلت جنود المشركين وتسمّوا بالأحزاب لأنهم عدة قبائل تحزبوا ، أي : صاروا حزبا واحدا ، وانضمّ إليهم بنو قريظة فكان ورود قريش من أسفل الوادي من جهة المغرب ، وورود غطفان وهوازن من أعلى الوادي من جهة المشرق ، فنزل جيش قريش بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة ـ بزاي معجمة مضمومة وغين معجمة وبعضهم يرويه بالعين المهملة ـ وبعضهم يقول : والغابة ، والتحقيق هو الأول كما في «الروض الأنف» ، ونزل جيش غطفان وهوازن بذنب نقمى إلى جانب أحد ، وكان جيش المسلمين ثلاثة آلاف ؛ وخرج المسلمون إلى خارج المدينة فعسكروا تحت جبل سلع وجعلوا ظهورهم إلى الجبل والخندق بينهم وبين العدوّ ، وجعل المسلمون نساءهم وذراريهم في آطام المدينة. وأمّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم ، ودام الحال كذلك بضعا وعشرين ليلة لم تكن بينهم فيها حرب إلا مصارعة بين ثلاثة فرسان اقتحموا الخندق من جهة ضيقة على أفراسهم فتقاتلوا في السبخة بين الخندق وسلع وقتل أحدهم قتله علي بن أبي طالب وفرّ صاحباه ، وأصاب سهم غرب سعد بن معاذ في أكحله فكان منه موته في المدينة. ولحقت المسلمين شدّة من الحصار وخوف من كثرة جيش عدوّهم حتى همّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يصالح الأحزاب على أن يعطيهم نصف ثمر المدينة في عامهم ذلك يأخذونه عند طيبه وكاد أن يكتب معهم كتابا في ذلك ، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقال سعد بن معاذ : قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فأبطل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان عزم عليه.

وأرسل الله على جيش المشركين ريحا شديدة فأزالت خيامهم وأكفأت قدورهم وأطفأت نيرانهم ، واختلّ أمرهم ، وهلك كراعهم وخفهم ، وحدث تخاذل بينهم وبين قريظة وظنت قريش أن قريظة صالحت المسلمين وأنهم ينضمون إلى المسلمين على قتال الأحزاب ، فرأى أهل الأحزاب الرأي في أن يرتحلوا فارتحلوا عن المدينة وانصرف جيش المسلمين راجعا إلى المدينة.

فقوله تعالى (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) ذكر توطئة لقوله (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) إلخ لأن ذلك هو محلّ المنّة. والريح المذكورة هنا هي ريح الصّبا وكانت باردة وقلعت الأوتاد والأطناب وسفت التراب في عيونهم وماجت الخيل بعضها في بعض وهلك كثير من خيلهم وإبلهم وشائهم. وفيها قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدبور».

والجنود التي لم يروها هي جنود الملائكة الذين أرسلوا الريح وألقوا التخاذل بين

٢٠٣

الأحزاب وكانوا وسيلة إلقاء الرعب في نفوسهم.

وجملة (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) في موقع الحال من اسم الجلالة في قوله (نِعْمَةَ اللهِ) وهي إيماء إلى أن الله نصرهم على أعدائهم لأنه عليم بما لقيه المسلمون من المشقة والمصابرة في حفر الخندق والخروج من ديارهم إلى معسكرهم خارج المدينة وبذلهم النفوس في نصر دين الله فجازاهم الله بالنصر المبين كما قال (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠].

وقرأ الجمهور (بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة ومحملها على الالتفات.

والجنود الأوّل جمع جند ، وهو الجمع المتّحد المتناصر ولذلك غلب على الجمع المجتمع لأجل القتال فشاع الجند بمعنى الجيش. وذكر جنود هنا بلفظ الجمع مع أن مفرده مؤذن بالجماعة مثل قوله تعالى (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) [ص : ١١] فجمعه هنا لأنهم كانوا متجمعين من عدة قبائل لكل قبيلة جيش خرجوا متساندين لغزو المسلمين في المدينة ، ونظيره قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) في سورة البقرة [٢٤٩].

والجنود الثاني جمع جند بمعنى الجماعة من صنف واحد. والمراد بهم ملائكة أرسلوا لنصر المؤمنين وإلقاء الرعب والخوف في قلوب المشركين.

[١٠ ـ ١١] (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١))

(إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) [الأحزاب : ٩] بدل مفصّل من مجمل. والمراد ب (فوق) و (أَسْفَلَ) فوق جهة المدينة وأسفلها.

و (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) عطف على البدل وهو من جملة التفصيل ، والتعريف في (الْأَبْصارُ) و (الْقُلُوبُ) و (الْحَناجِرَ) للعهد ، أي : أبصار المسلمين وقلوبهم وحناجرهم ، أو تجعل اللام فيها عوضا عن المضافات إليها ، أي : زاغت أبصاركم وبلغت قلوبكم حناجركم.

والزيغ : الميل عن الاستواء إلى الانحراف. فزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه ، أو أن يريد التوجه إلى صوب فيقع إلى صوب آخر من شدة الرعب والانذعار.

و (الْحَناجِرَ) : جمع حنجرة ـ بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم ـ : منتهى الحلقوم وهي رأس الغلصمة. وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من

٢٠٤

الفزع والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارّها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجاوزها من الضيق ؛ فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعود بهيئة قلب تجاوز موضعه وذهب متصاعدا طالبا الخروج ، فالمشبه القلب نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين. وليس الكلام على الحقيقة ، فإن القلوب لا تتجاوز مكانها ، وقريب منه قولهم : تنفّس الصعداء ، وبلغت الروح التراقي.

وجملة (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) يجوز أن تكون عطفا على جملة (زاغَتِ الْأَبْصارُ) ، ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء.

وفي صيغة المضارع معنى التعجيب من ظنونهم لإدماج العتاب بالامتنان فإن شدة الهلع الذي أزاغ الأبصار وجعل القلوب بمثل حالة أن تبلغ الحناجر ، دل على أنهم أشفقوا من أن يهزموا لما رأوا من قوة الأحزاب وضيق الحصار أو خافوا طول مدة الحرب وفناء الأنفس ، أو أشفقوا من أن تكون من الهزيمة جراءة للمشركين على المسلمين ، أو نحو ذلك من أنواع الظنون وتفاوت درجات أهلها.

والمؤمن وإن كان يثق بوعد ربه لكنه لا يأمن غضبه من جراء تقصيره ، ويخشى أن يكون النصر مرجّأ إلى زمن آخر ، فإن ما في علم الله وحكمته لا يحاط به.

وحذف مفعولا (تَظُنُّونَ) بدون وجود دليل يدل على تقديرهما فهو حذف لتنزيل الفعل منزلة اللازم ، ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف اقتصارا ، أي : للاقتصار على نسبة فعل الظن لفاعله ، والمقصود من هذا التنزيل أن تذهب نفس السامع كل مذهب ممكن ، وهو حذف مستعمل كثيرا في الكلام الفصيح وعلى جوازه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) [النجم : ٣٥] وقوله : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) [الفتح : ١٢] ، وقول المثل : من يسمع يخل ، ومنعه سيبويه والأخفش.

وضمّن (تَظُنُّونَ) معنى تلحقون ، فعدي بالباء فالباء للملابسة. قال سيبويه : قولهم : ظننت به ، معناه : جعلته موضع ظنّي. وليست الباء هنا بمنزلتها في (كَفى بِاللهِ حَسِيباً) [النساء : ٦] ، أي : ليست زائدة ، ومجرورها معمول للفعل قبلها كأنك قلت: ظننت في الدار ، ومثله : شككت فيه ، أي : فالباء عنده بمعنى (في). والوجه أنها للملابسة كقول دريد بن الصّمّة :

فقلت لهم : ظنوا بألفي مدجج

سراتهم في الفارسي المسرد

وسيأتي تفصيل ذلك عند قوله تعالى (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة الصافات [٨٧].

٢٠٥

وانتصب (الظُّنُونَا) على المفعول المطلق المبين للعدد ، وهو جمع ظن. وتعريفه باللام تعريف الجنس ، وجمعه للدلالة على أنواع من الظن كما في قول النابغة :

أتيتك عاريا خلقا ثيابي

على خوف تظن بي الظنون

وكتب (الظُّنُونَا) في الإمام بألف بعد النون ، زيدت هذه الألف في النطق للرعاية على الفواصل في الوقوف ، لأن الفواصل مثل الأسجاع تعتبر موقوفا عليها لأن المتكلم أرادها كذلك. فهذه السورة بنيت على فاصلة الألف مثل القصائد المقصورة ، كما زيدت الألف في قوله تعالى (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب : ٦٦] وقوله : (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧].

وعن أبي علي في «الحجة» : من أثبت الألف في الوصل لأنها في المصحف كذلك وهو رأس آية ورءوس الآيات تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع ، فأما في طرح الألف في الوصل فإنه ذهب إلى أن ذلك في القوافي وليس رءوس الآي بقواف.

فأما القراء فقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بإثبات الألف في الوصل والوقف. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي بحذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف. وقرأ أبو عمرو وحمزة ويعقوب بحذف الألف في الوصل والوقف ، وقرأ خلف بإثبات الألف بعد النون في الوقف وحذفها في الوصل. وهذا اختلاف من قبيل الاختلاف في وجوه الأداء لا في لفظ القرآن. وهي كلها فصيحة مستعملة والأحسن الوقف عليها لأن الفواصل كالأسجاع والأسجاع كالقوافي.

والإشارة ب (هُنالِكَ) إلى المكان الذي تضمنه قوله (جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) [الأحزاب : ٩] وقوله (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ). والأظهر أن تكون الإشارة إلى الزمان الذي دلت عليه (إِذْ) في قوله : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ). وكثيرا ما ينزّل أحد الظرفين منزلة الآخر ولهذا قال ابن عطية : (هُنالِكَ) : ظرف زمان والعامل فيه (ابْتُلِيَ) ا ه. قلت : ومنه دخول (لات) على (هنّا) في قول حجل بن نضلة :

خنت نوار ولات هنّا حنت

وبدا الذي كانت نوار أجنت

فإن (لات) خاصة بنفي أسماء الزمان فكان (هنّا) إشارة إلى زمان منكر وهو لغة في (هنا). ويقولون : يوم هنا ، أي يوم أول ، فيشيرون إلى زمن قريب ، وأصل ذلك مجاز توسع فيه وشاع.

والابتلاء : أصله الاختبار ، ويطلق كناية عن إصابة الشدة لأن اختبار حال الثبات والصبر لازم لها ، وسمى الله ما أصاب المؤمنين ابتلاء إشارة إلى أنه لم يزعزع إيمانهم.

والزلزال : اضطراب الأرض ، وهو مضاعف زلّ تضعيفا يفيد المبالغة ، وهو هنا

٢٠٦

استعارة لاختلال الحال اختلالا شديدا بحيث تخيّل مضطربة اضطرابا شديدا كاضطراب الأرض وهو أشدّ اضطرابا للحاقه أعظم جسم في هذا العالم. ويقال : زلزل فلان ، مبنيا للمجهول تبعا لقولهم : زلزلت الأرض ، إذ لا يعرف فاعل هذا الفعل عرفا. وهذا هو غالب استعماله قال تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) الآية [البقرة : ٢١٤].

والمراد بزلزلة المؤمنين شدة الانزعاج والذعر لأن أحزاب العدو تفوقهم عددا وعدة.

[١٢ ـ ١٣] (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣))

عطف على (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) [الأحزاب : ١٠] فإن ذلك كله مما ألحق بالمسلمين ابتلاء فبعضه من حال الحرب وبعضه من أذى المنافقين ، ليحذروا المنافقين فيما يحدث من بعد ، ولئلا يخشوا كيدهم فإن الله يصرفه كما صرف أشدّه يوم الأحزاب.

وقول المنافقين هذا يحتمل أن يكونوا قالوه علنا بين المسلمين قصدوا به إدخال الشك في قلوب المؤمنين لعلهم يردونهم عن دينهم فأوهموا بقولهم (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) إلخ ... أنهم ممن يؤمن بالله ورسوله ، فنسبة الغرور إلى الله ورسوله إما على معنى التشبيه البليغ وإما لأنهم بجهلهم يجوزون على الله أن يغرّ عباده ، ويحتمل أنهم قالوا ذلك بين أهل ملتهم فيكون نسبة الوعد إلى الله ورسوله تهكما كقول فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧].

والغرور : ظهور الشيء المكروه في صورة المحبوب ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) في سورة آل عمران [١٩٦] ، وقوله تعالى : (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) في سورة الأنعام [١١٢]. والمعنى : أن الله وعدهم النصر فكان الأمر هزيمة وهم يعنون الوعد العام وإلّا فإن وقعة الخندق جاءت بغتة ولم يرو أنهم وعدوا فيها بنصر. و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم الذين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر فأخلصوا يومئذ النفاق وصمّموا عليه.

والمراد بالطائفة الذين قالوا : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه. كذا قال السدي. وقال الأكثر : هو أوس بن قيظي أحد بني حارثة ،

٢٠٧

وهو والد عرابة بن أوس الممدوح بقول الشمّاخ :

رأيت عرابة الأوسيّ يسمو

إلى الخيرات منقطع القرين

في جماعة من منافقي قومه. والظاهر هو ما قاله السدّي لأن عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، فهو الذي يدعو أهل يثرب كلّهم.

وقوله (لا مُقامَ لَكُمْ) قرأه الجمهور بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام ، أي : الوجود. وقرأه حفص عن عاصم بضم الميم ، أي : محلّ الإقامة. والنفي هنا بمعنى نفي المنفعة فلما رأى هذا الفريق قلة جدوى وجودهم جعلها كالعدم ، أي لا فائدة لكم في ذلك ، وهو يروم تخذيل الناس كما فعل يوم أحد.

و (يَثْرِبَ) : اسم مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال أبو عبيدة يثرب : اسم أرض والمدينة في ناحية منها ، أي : اسم أرض بما فيها من الحوائط والنخل والمدينة في تلك الأرض. سميت باسم يثرب من العمالقة ، وهو يثرب بن قانية الحفيد الخامس لإرم بن سام بن نوح. وقد روي عن البراء بن عازب وابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن تسميتها يثرب وسماها طابة.

وفي قوله (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) محسّن بديعيّ ، وهو الاتزان لأن هذا القول يكون منه مصراع من بحر السريع من عروضه الثانية المخبولة المكشوفة إذ صارت مفعولات بمجموع الخبل والكشف إلى فعلن فوزنه مستفعلن مستفعلن فعلن.

والمراد بقوله (فَرِيقٌ مِنْهُمُ) جماعة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، وليسوا فريقا من الطائفة المذكورة آنفا ، بل هؤلاء هم أوس بن قيظي وجمع من عشيرته بني حارثة وكان بنو حارثة أكثرهم مسلمين وفيهم منافقون ، فجاء منافقوهم يعتذرون بأن منازلهم عورة ، أي : غير حصينة.

وجملة (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ) عطف على جملة (قالَتْ طائِفَةٌ) ، وجيء فيها بالفعل المضارع للإشارة إلى أنهم يلحّون في الاستئذان ويكررونه ويجددونه.

والعورة : الثغر بين الجبلين الذي يتمكن العدو أن يتسرب منه إلى الحي ، قال لبيد :

وأجنّ عورات الثغور ظلامها

والاستئذان : طلب الإذن وهؤلاء راموا الانخذال واستحيوا. ولم يذكر المفسرون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن لهم. وذكر أهل السير أن ثمانين منهم رجعوا دون إذنه. وهذا يقتضي أنه لم يأذن لهم وإلا لما ظهر تميزهم عن غيرهم ، وأيضا فإن في الفعل المضارع من قوله

٢٠٨

(يَسْتَأْذِنُ) إيماء إلى أنه لم يأذن لهم وستعلم ذلك ، ومنازل بني حارثة كانت في أقصى المدينة قرب منازل بني سلمة فإنهما كانا حيين متلازمين قال تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) [آل عمران : ١٢٢] هما بنو حارثة وبنو سلمة في غزوة أحد. وفي الحديث : أن بني سلمة راموا أن ينقلوا منازلهم قرب المسجد فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم» أي خطاكم. فهذا الفريق منهم يعتلّون بأن منازلهم بعيدة عن المدينة وآطامها.

والتأكيد بحرف (إِنَ) في قولهم (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) تمويه لإظهار قولهم (بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) في صورة الصدق. ولما علموا أنهم كاذبون وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم كذبهم جعلوا تكذيبه إياهم في صورة أنه يشك في صدقهم فأكدوا الخبر.

وجملة (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) إلى قوله (مَسْؤُلاً) [الأحزاب : ١٥] معترضة بين جملة (يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ) إلخ وجملة (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) [الأحزاب : ١٦]. فقوله : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) تكذيب لهم فإن المدينة كانت محصنة يومئذ بخندق وكان جيش المسلمين حارسها.

ولم يقرن هذا التكذيب بمؤكد لإظهار أن كذبهم واضح غير محتاج إلى تأكيد.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤))

موقع هذه الآية زيادة تقرير لمضمون جملة (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) [الأحزاب : ١٣] فإنها لتكذيبهم في إظهارهم التخوف على بيوتهم ، ومرادهم خذل المسلمين. ولم أجد فيما رأيت من كلام المفسرين ولا من أهل اللغة من أفصح عن معنى (الدخول) في مثل هذه الآية وما ذكروا إلّا معنى الولوج إلى المكان مثل ولوج البيوت أو المدن ، وهو الحقيقة. والذي أراه أن الدخول كثر إطلاقه على دخول خاص وهو اقتحام الجيش أو المغيرين أرضا أو بلدا لغزو أهله ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) إلى قوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) [المائدة : ٢١] ، وأنه يعدّى غالبا إلى المغزوّين بحرف على. ومنه قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) إلى قوله : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : ٢٤] فإنه ما يصلح إلا معنى دخول القتال والحرب لقوله : (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) لظهور أنه لا يراد : إذا دخلتم دخول ضيافة أو تجول أو تجسس ، فيفهم من الدخول في مثل هذا المقام معنى الغزو والفتح كما

٢٠٩

نقول : عام دخول التتار بغداد ، ولذلك فالدخول في قوله : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) هو دخول الغزو فيتعين أن يكون ضمير (دُخِلَتْ) عائدا إلى مدينة يثرب لا إلى البيوت من قولهم (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) [الأحزاب : ١٣] ، والمعنى : لو غزيت المدينة من جوانبها إلخ ...

وقوله (عَلَيْهِمْ) يتعلق ب (دُخِلَتْ) لأن بناء (دُخِلَتْ) للنائب مقتض فاعلا محذوفا. فالمراد : دخول الداخلين على أهل المدينة كما جاء على الأصل في قوله (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) في سورة العقود [٢٣].

والأقطار : جمع قطر ـ بضم القاف وسكون الطاء ـ وهو الناحية من المكان. وإضافة (أقطار) وهو جمع تفيد العموم ، أي : من جميع جوانب المدينة وذلك أشد هجوم العدوّ على المدينة كقوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) [الأحزاب : ١٠]. وأسند فعل (دُخِلَتْ) إلى المجهول لظهور أن فاعل الدخول قوم غزاة. وقد أبدى المفسرون في كيفية نظم هذه الآية احتمالات متفاوتة في معاني الكلمات وفي حاصل المعنى المراد ، وأقربها ما قاله ابن عطية على غموض فيه ، ويليه ما في «الكشاف». والذي ينبغي التفسير به أن تكون جملة (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) في موضع الحال من ضمير (يُرِيدُونَ) [الأحزاب : ١٣] أو من ضمير (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) زيادة في تكذيب قولهم (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) [الأحزاب : ١٣].

والضمير المستتر في (دُخِلَتْ) عائد إلى المدينة لأن إضافة الأقطار يناسب المدن والمواطن ولا يناسب البيوت. فيصير المعنى : لو دخل الغزاة عليهم المدينة وهم قاطنون فيها.

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي ، وكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالواو لا ب (ثُمَ) لأن المذكور بعد (ثُمَ) هنا داخل في فعل شرط (لَوْ) ووارد عليه جوابها ، فعدل عن الواو إلى (ثُمَ) للتنبيه على أن ما بعد (ثُمَ) أهم من الذي قبلها كشأن (ثُمَ) في عطف الجمل ، أي : أنهم مع ذلك يأتون الفتنة ، و (الْفِتْنَةَ) هي أن يفتنوا المسلمين ، أي : الكيد لهم وإلقاء التخاذل في جيش المسلمين. ومن المفسرين من فسّر الفتنة بالشرك ولا وجه له ومنهم من فسرها بالقتال وهو بعيد.

والإتيان : القدوم إلى مكان. وقد أشعر هذا الفعل بأنهم يخرجون من المدينة التي كانوا فيها ليفتنوا المسلمين ، وضمير النصب في أتوها عائد إلى (الْفِتْنَةَ) والمراد مكانها وهو مكان المسلمين ، أي لأتوا مكانها ومظنتها. وضمير (بِها) للفتنة ، والباء للتعدية.

وجملة (وَما تَلَبَّثُوا بِها) عطف على جملة (لَآتَوْها). والتلبّث : اللبث ، أي :

٢١٠

الاستقرار في المكان وهو هنا مستعار للإبطاء ، أي ما أبطئوا بالسعي في الفتنة ولا خافوا أن تؤخذ بيوتهم. والمعنى : لو دخلت جيوش الأحزاب المدينة وبقي جيش المسلمين خارجها ـ أي مثلا لأن الكلام على الفرض والتقدير ـ وسأل الجيش الداخل الفريق المستأذنين أن يلقوا الفتنة في المسلمين بالتفريق والتخذيل لخرجوا لذلك القصد مسرعين ولم يثبطهم الخوف على بيوتهم أن يدخلها اللصوص أو ينهبها الجيش : إما لأنهم آمنون من أن يلقوا سوءا من الجيش الداخل لأنهم أولياء له ومعاونون ، فهم منهم وإليهم ، وإما لأن كراهتهم الإسلام تجعلهم لا يكترثون بنهب بيوتهم.

والاستثناء في قوله (إِلَّا يَسِيراً) يظهر أنه تهكم بهم فيكون المقصود تأكيد النفي بصورة الاستثناء. ويحتمل أنه على ظاهره ، أي إلا ريثما يتأملون فلا يطيلون التأمل فيكون المقصود من ذكره تأكيد قلة التلبّث ، فهذا هو التفسير المنسجم مع نظم القرآن أحسن انسجام.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر لأتوها بهمزة تليها مثناة فوقية ، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف (لَآتَوْها) بألف بعد الهمزة على معنى : لأعطوها ، أي : لأعطوا الفتنة سائليها ، فإطلاق فعل أتوها مشاكلة لفعل (سُئِلُوا).

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥))

هؤلاء هم بنو حارثة وبنو سلمة وهم الذين قال فريق منهم (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) [الأحزاب : ١٣] واستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي كانوا يوم أحد جبنوا ثم تابوا وعاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم لا يولّون الأدبار في غزوة بعدها ، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما) [آل عمران : ١٢٢] ؛ فطرأ على نفر من بني حارثة نفاق وضعف في الإيمان فذكّرهم الله بذلك وأراهم أن منهم فريقا قلّبا لا يرعى عهدا ولا يستقر لهم اعتقاد وأن ذلك لضعف يقينهم وغلبة الجبن عليهم حتى يدعوهم إلى نبذ عهد الله. وهذا تنبيه للقبيلين ليزجروا من نكث منهم. وتأكيد هذا الخبر بلام القسم وحرف التحقيق وفعل كان ، مع أن الكلام موجه إلى المؤمنين تنزيلا للسامعين منزلة من يتردد في أنهم عاهدوا الله على الثبات.

٢١١

وزيادة (مِنْ قَبْلُ) للإشارة إلى أن ذلك العهد قديم مستقر وهو عهد يوم أحد. وجملة (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) بيان لجملة (عاهَدُوا).

والتولية : التوجه بالشيء وهي مشتقة من الولي وهو القرب ، قال تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤].

و (الْأَدْبارَ) : الظهور. وتولية الأدبار : كناية عن الفرار فإن الذي استأذنوا لأجله في غزوة الخندق أرادوا منه الفرار ألا ترى قوله (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) [الأحزاب : ١٣] ، والفرار مما عاهدوا الله على تركه.

وجملة (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) تذييل لجملة (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا) إلخ ... والمراد بعهد الله : كل عهد يوثقه الإنسان مع ربه.

والمسئول : كناية عن المحاسب عليه كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكلكم مسئول عن رعيته»، وكما تقدم آنفا عند قوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) [الأحزاب : ٨] وهذا تهديد.

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦))

جواب عن قولهم (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) [الأحزاب : ١٣] ولذلك فصّلت لأنها جرت على أسلوب التقاول والتجاوب ، وما بين الجملتين من قوله (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) إلى قوله (مَسْؤُلاً) [الأحزاب : ١٤ ـ ١٥] اعتراض كما تقدم. وهذا يرجح أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأذن لهم بالرجوع إلى المدينة وأنه ردّ عليهم بما أمره الله أن يقوله لهم ، أي : قد علم الله أنكم ما أردتم إلا الفرار جبنا والفرار لا يدفع عنكم الموت أو القتل ، فمعنى نفي نفعه : نفي ما يقصد منه لأن نفع الشيء هو أن يحصل منه ما يقصد له.

فقوله (مِنَ الْمَوْتِ) يتعلق ب (الْفِرارُ) و (فَرَرْتُمْ) وليس متعلقا ب (يَنْفَعَكُمُ) لأن متعلق (يَنْفَعَكُمُ) غير مذكور لظهوره من السياق ، فالفائدة مستغنية عن المتعلق ، أي : لن ينفعكم بالنجاة.

ومعنى نفي نفع الفرار وإن كان فيه تعاطي سبب النجاة ، هذا السبب غير مأذون فيه لوجوب الثبات في وجه العدوّ مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيتمحض في هذا الفرار مراعاة جانب الحقيقة وهو ما قدر للإنسان من الله إذ لا معارض له ، فلو كان الفرار مأذونا فيه لجاز

٢١٢

مراعاة ما فيه من أسباب النجاة ؛ فقد كان المسلمون مأمورين بثبات الواحد للعشرة من العدوّ فكان حينئذ الفرار من وجه عشرة أضعاف المسلمين غير مأذون فيه وأذن فيما زاد على ذلك ، ولما نسخ الله ذلك بأن يثبت المسلمون لضعف عددهم من العدوّ فالفرار فيما زاد على ذلك مأذون فيه ، وكذلك إذا كان المسلمون زحفا فإن الفرار حرام ساعتئذ.

وأحسب أن الأمر في غزوة الخندق كان قبل النسخ فلذلك وبّخ الله الذين أضمروا الفرار فإن عدد جيش الأحزاب يومئذ كان بمقدار أربعة أمثال جيش المسلمون ولم يكن المسلمون يومئذ زحفا فإن الحالة حالة حصار. ويجوز أن يكون المعنى أيضا : أنكم إن فررتم فنجوتم من القتل لا ينفعكم الفرار من الموت بالأجل وعسى أن تكون آجالكم قريبة.

و (الْمَوْتِ) ، أريد به : الموت الزؤام وهو الموت حتف أنفه لأنه قوبل بالقتل. والمعنى : أن الفرار لا يدفع الموت الذي علم الله أنه يقع بالفار في الوقت الذي علم أن الفار يموت فيه ويقتل فإذا خيّل إلى الفارّ أن الفرار قد دفع عنه خطرا فإنما ذلك في الأحوال التي علم الله أنها لا يصيب الفارّ فيها أذى ولا بدّ له من موت حتف أنفه أو قتل في الإبان الذي علم الله أنه يموت فيه أو يقتل. ولهذا عقب بجملة (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) جوابا عن كلام مقدر دل عليه المذكور ، أي إن خيل إليكم أن الفرار نفع الذي فرّ في وقت ما فما هو إلّا نفع زهيد لأنه تأخير في أجل الحياة وهو متاع قليل ، أي : إعطاء الحياة مدة منتهية ، فإن (إِذاً) قد تكون جوابا لمحذوف دل عليه الكلام المذكور ، كقول العنبري :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان

إذن لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

فإن قوله : إذن لقام بنصري ، جواب وجزاء عن مقدر دل عليه : لم تستبح إبلي.

والتقدير : فإن استباحوا إبلي إذن لقام بنصري معشر ، وهو الذي أشعر كلام المرزوقي باختياره خلافا لما في «مغني اللبيب».

والأكثر أن (إِذاً) إن وقعت بعد الواو والفاء العاطفتين أن لا ينصب المضارع بعدها ، وورد نصبه نادرا.

والمقصود من الآية تخليق المسلمين بخلق استضعاف الحياة الدنيا وصرف هممهم إلى السعي نحو الكمال الذي به السعادة الأبدية سيرا وراء تعاليم الدين التي تقود النفوس إلى أوج الملكية.

٢١٣

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً).

يظهر أن هذه الجملة واقعة موقع التعليل لجملة (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ) الآية [الأحزاب : ١٦] ، فكأنه قيل : فمن ذا الذي يعصمكم من الله ، أي : فلا عاصم لكم من نفوذ مراده فيكم. وإعادة فعل (قُلْ) تكرير لأجل الاهتمام بمضمون الجملة.

والمعنى : لأن قدرة الله وإرادته محيطة بالمخلوقات فمتى شاء عطّل تأثير الأسباب أو عرقلها بالموانع فإن يشأ شرّا حرم الانتفاع بالأسباب أو الاتقاء بالموانع فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد ، ومتى شاء خيرا خاصا بأحد لطف له بتمهيد الأسباب وتيسيرها حتى يلاقي من التيسير ما لم يكن مترقبا ، ومتى لم تتعلق مشيئته بخصوص أرسل الأحوال في مهيعها وخلّى بين الناس وبين ما سببه في أحوال الكائنات فنال كل أحد نصيبا على حسب فطنته ومقدرته واهتدائه ، فإن الله أودع في النفوس مراتب التفكير والتقدير ؛ فأنتم إذا عصيتم الله ورسوله وخذلتم المؤمنين تتعرضون لإرادته بكم السوء فلا عاصم لكم من مراده ، فالاستفهام إنكاري في معنى النفي لاعتقادهم أن الحيلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنفعهم وأن الفرار يعصمهم من الموت إن كان قتال.

وجملة (مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) إلخ جواب الشرط في قوله (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) إلخ ، أو دليل الجواب عند نحاة البصرة.

والعصمة : الوقاية والمنع مما يكرهه المعصوم. وقوبل السوء بالرحمة لأن المراد سوء خاص وهو السوء المجعول عذابا لهم على معصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو سوء النقمة فهو سوء خاص مقدّر من الله لأجل تعذيبهم إن أراده ، فيجري على خلاف القوانين المعتادة.

وعطف (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) على (أَرادَ بِكُمْ) المجعول شرطا يقتضي كلاما مقدرا في الجواب المتقدم ، فإن إرادته الرحمة تناسب فعل (يَعْصِمُكُمْ) لأن الرحمة مرغوبة.

فالتقدير : أو يحرمكم منه إن أراد بكم رحمة ، فهو من دلالة الاقتضاء إيجازا للكلام ، كقول الراعي :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا

٢١٤

تقديره : وكحّلن العيون ، لأن العيون لا تزجج ولكنها تكحل حين تزجج الحواجب وذلك من التزيّن.

(وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

عطف على جملة (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) ، أو هي معترضة بين أجزاء القول ، والتقديران متقاربان لأن الواو الاعتراضية ترجع إلى العاطفة. والكلام موجه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس هو من قبيل الالتفات. والمقصود لازم الخبر وهو إعلام النبي عليه الصلاة والسلام ببطلان تحيلاتهم وأنهم لا يجدون نصيرا غير الله وقد حرمهم الله النصر لأنهم لم يعقدوا ضمائرهم على نصر دينه ورسوله. والمراد بالولي : الذي يتولى نفعهم ، وبالنصير : النصير في الحرب فهو أخص.

[١٨ ـ ١٩] (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩))

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ).

استئناف بياني ناشئ عن قوله (مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) [الأحزاب : ١٧] لأن ذلك يثير سؤالا يهجس في نفوسهم أنهم يخفون مقاصدهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يشعر بمرادهم من الاستئذان ، فأمر أن يقول لهم (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أي : فالله ينبئ رسوله بكم بأن فعل أولئك تعويق للمؤمنين. وقد جعل هذا الاستئناف تخلصا لذكر فريق آخر من المعوّقين.

و (قَدْ) مفيد للتحقيق لأنهم لنفاقهم ومرض قلوبهم يشكّون في لازم هذا الخبر وهو إنباء الله رسوله عليه الصلاة والسلام بهم ، أو لأنهم لجهلهم الناشئ عن الكفر يظنون أن الله لا يعلم خفايا القلوب. وذلك ليس بعجيب في عقائد أهل الكفر. ففي «صحيح البخاري» عن ابن مسعود : «اجتمع عند البيت قرشيان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر : يسمع

٢١٥

إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا. وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ)» [فصلت : ٢٢] فللتوكيد بحرف التحقيق موقع. ودخول (قَدْ) على المضارع لا يخرجها عن معنى التحقيق عند المحققين من أهل العربية ، وأن ما توهموه من التقليل إنما دل عليه المقام في بعض المواضع لا من دلالة (قَدْ) ، ومثله إفادة التكثير ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) في سورة البقرة [١٤٤] ، وقوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) في آخر سورة النور [٦٤].

والمعوّق : اسم فاعل من عوّق الدال على شدة حصول العوق. يقال : عاقه عن كذا ، إذا منعه وثبطه عن شيء ، فالتضعيف فيه للشدة والتكثير مثل : قطّع الحبل ، إذا قطعه قطعا كبيرة ، و (غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) [يوسف : ٢٣] ، أي : أحكمت غلقها. ويكون للتكثير في الفعل القاصر مثل : موّت المال ، إذ كثر الموت في الإبل ، وطوّف فلان ، إذا أكثر الطواف ، والمعنى : يعلم الله الذين يحرصون على تثبيط الناس عن القتال. والخطاب بقوله (مِنْكُمْ) للمنافقين الذين خوطبوا بقوله (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) [الأحزاب : ١٦].

ويجوز أن يكون القائلون لإخوانهم (هَلُمَّ إِلَيْنا) هم المعوّقين أنفسهم فيكون من عطف صفات الموصوف الواحد ، كقوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

ويجوز أن يكونوا طائفة أخرى وإخوانهم هم الموافقون لهم في النفاق ، فالمراد : الأخوة في الرأي والدين. وذلك أن عبد الله بن أبيّ ، ومعتّب بن قشير ، ومن معهما من الذين انخذلوا عن جيش المسلمين يوم أحد فرجعوا إلى المدينة كانوا يرسلون إلى من بقي من المنافقين في جيش المسلمين يقولون لهم (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي : ارجعوا إلينا. قال قتادة : هؤلاء ناس من المنافقين يقولون لهم : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ـ أي نفر قليل يأكلون رأس بعير ـ ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان ومن معه ـ تمثيلا بأنهم سهل تغلب أبي سفيان عليهم ـ.

و (هَلُمَ) اسم فعل أمر بمعنى أقبل في لغة أهل الحجاز وهي الفصحى ، فلذلك تلزم هذه الكلمة حالة واحدة عندهم لا تتغير عنها ، يقولون : هلمّ ، للواحد والمتعدد المذكّر والمؤنّث ، وهي فعل عند بني تميم فلذلك يلحقونها العلامات يقولون : هلمّ وهلمّي

٢١٦

وهلما وهلمّوا وهلممن. وتقدم في قوله تعالى (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) في سورة الأنعام [١٥٠]. والمعنى : انخذلوا عن جيش المسلمين وأقبلوا إلينا.

وجملة (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) كلام مستقل فيجوز أن تكون الجملة حالا من القائلين لإخوانهم (هَلُمَّ إِلَيْنا). ويجوز أن تكون عطفا على المعوّقين والقائلين لأن الفعل يعطف على المشتق كقوله تعالى (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ) [العاديات : ٣ ، ٤] وقوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ) [الحديد : ١٨] ، فالتقدير هنا : قد يعلم الله المعوّقين والقائلين وغير الآتين البأس ، أو والذين لا يأتون البأس. وليس في تعدية فعل العلم إلى (لا يَأْتُونَ) إشكال لأنه على تأويل كما أن عمل الناسخ في قوله (وَأَقْرَضُوا) [الحديد : ١٨] على تأويل ، أي : يعلم الله أنهم لا يأتون البأس إلا قليلا ، أي : يعلم أنهم لا يقصدون بجمع إخوانهم معهم الاعتضاد بهم في الحرب ولكن عزلهم عن القتال.

ومعنى (إِلَّا قَلِيلاً) إلا زمانا قليلا ، وهو زمان حضورهم مع المسلمين المرابطين ، وهذا كقوله (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ٤٦] ، أي : إيمانا ظاهرا ، ومثل قوله تعالى : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) [الرعد : ٣٣]. و (قَلِيلاً) صفة لمصدر محذوف ، أي : إتيانا قليلا ، وقلّته تظهر في قلة زمانه وفي قلة غنائه.

و (الْبَأْسَ) : الحرب وتقدم في قوله تعالى ليحصنكم (مِنْ بَأْسِكُمْ) في سورة الأنبياء [٨٠]. وإتيان الحرب مراد به إتيان أهل الحرب أو موضعها. والمراد : البأس مع المسلمين ، أي : مكرا بالمسلمين لا جبنا.

و (أَشِحَّةً) جمع شحيح بوزن أفعلة على غير قياس وهو فصيح وقياسه أشحّاء. وضمير الخطاب في قوله (عَلَيْكُمْ) للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين ، وهو انتقال من القول الذي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله لهم إلى كشف أحوالهم للرسول والمسلمين بمناسبة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في قوله (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ). وتقدم الشح عند قوله تعالى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) في سورة النساء [١٢٨].

و (أَشِحَّةً) حال من ضمير (يَأْتُونَ). والشحّ : البخل بما في الوسع مما ينفع الغير. وأصله : عدم بذل المال ، ويستعمل مجازا في منع المقدور من النصر أو الإعانة ، وهو يتعدّى إلى الشيء المبخول به بالباء وب (عَلَى) قال تعالى : (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) ويتعدى إلى الشخص الممنوع ب (عَلَى) أيضا لما في الشحّ من معنى الاعتداء فتعديته في قوله تعالى (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) من التعدية إلى الممنوع.

٢١٧

والمعنى : يمنعونكم ما في وسعهم من المال أو المعونة ، أي : إذا حضروا البأس منعوا فائدتهم عن المسلمين ما استطاعوا ومن ذلك شحّهم بأنفسهم وكل ما يشحّ به.

ويجوز جعل (عَلَى) هنا متعدية إلى المضنون به ، أي كما في البيت الذي أنشده الجاحظ :

لقد كنت في قوم عليك أشحة

بنفسك إلا أنّ ما طاح طائح

وجعل المعنى : أشحة في الظّاهر ، أي يظهرون أنهم يخافون عليكم الهلاك فيصدونكم عن القتال ويحسّنون إليكم الرجوع عن القتال ، وهذا الذي ذهب إليه في «الكشاف». وفرع على وصفهم بالشح على المسلمين قوله (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) إلى آخره.

والمجيء : مجاز مشهور من حدوث الشيء وحصوله. كما قال تعالى (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) [الإسراء : ٧].

و (الْخَوْفُ) : توقع القتال بين الجيشين ، ومنه سميت صلاة الخوف. والمقصود : وصفهم بالجبن ، أي : إذا رأوا جيوش العدوّ مقبلة رأيتهم ينظرون إليك. والظاهر أن الآية تشير إلى ما حصل في بعض أيام الأحزاب من القتال بين الفرسان الثلاثة الذين اقتحموا الخندق من أضيق جهاته وبين علي بن أبي طالب ومن معه من المسلمين كما تقدم.

والخطاب في (رَأَيْتَهُمْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقتضي أن هذا حكاية حالة وقعت لا فرض وقوعها ولهذا أتي بفعل (رَأَيْتَهُمْ) ولم يقل : فإذا جاء الخوف ينظرون إليك. ونظرهم إليه نظر المتفرس فيما ذا يصنع ولسان حالهم يقول : ألسنا قد قلنا لكم إنكم لا قبل لكم بقتال الأحزاب فارجعوا ، وهم يرونه أنهم كانوا على حق حين يحذرونه قتال الأحزاب ، ولذلك خصّ نظرهم بأنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل : ينظرون إليكم. وجيء بصيغة المضارع ليدل على تكرر هذا النظر وتجدده.

وجملة (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) حال من ضمير (يَنْظُرُونَ) لتصوير هيئة نظرهم نظر الخائف المذعور الذي يحدّق بعينيه إلى جهات يحذر أن تأتيه المصائب من إحداها.

والدور والدوران : حركة جسم رحويّة ـ أي كحركة الرحى ـ منتقل من موضع إلى موضع فينتهي إلى حيث ابتدأ. وأحسب أن هذا الفعل وما تصرف منه مشتقات من اسم الدّار ، وهي المكان المحدود المحيط بسكانه بحيث يكون حولهم. ومنه سميت الدارة لكل أرض تحيط بها جبال. وقالوا : دارت الرحى حول قطبها. وسموا الصنم : دوارا ـ بضم

٢١٨

الدال وفتحها ـ لأنه يدور به زائروه كالطواف. وسميت الكعبة دوارا أيضا ، وسموا ما يحيط بالقمر دارة. وسميت مصيبة الحرب دائرة لأنهم تخيلوها محيطة بالذي نزلت به لا يجد منها مفرّا ، قال عنترة :

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر

في الحرب دائرة على ابني ضمضم

فمعنى (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) أنها تضطرب في أجفانها كحركة الجسم الدائرة من سرعة تنقلها محملقة إلى الجهات المحيطة. وشبه نظرهم بنظر الذي يغشى عليه بسبب النزع عند الموت فإن عينيه تضطربان.

وذهاب الخوف مجاز مشهور في الانقضاء ، أي : زوال أسبابه بأن يترك القتال أو يتبين أن لا يقع قتال. وذلك عند انصراف الأحزاب عن محاصرة المدينة كما سيدل عليه قوله (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) [الأحزاب : ٢٠].

والسلق : قوة الصوت والصياح. والمعنى : رفعوا أصواتهم بالملامة على التعرض لخطر العدوّ الشديد وعدم الانصياع إلى إشارتهم على المسلمين بمسالمة المشركين ، وفسر السلق بأذى اللسان. قيل : سأل نافع بن الأرزق عبد الله بن عباس عن (سَلَقُوكُمْ) فقال : الطعن باللسان. فقال نافع : هل تعرف العرب ذلك؟ فقال : نعم ، أما سمعت قول الأعشى :

فيهم الخصب والسماحة والنج

دة فيهم والخاطب المسلاق

و (حِدادٍ) : جمع حديد ، وحديد : كل شيء نافذ فعل أمثاله قال تعالى (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : ٢٢].

وانتصب (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) على الحال من ضمير الرفع في (سَلَقُوكُمْ) ، أي : خاصموكم ولاموكم وهم في حال كونهم أشحة على ما فيه الخير للمسلمين ، أي أن خصامهم إياهم ليس كما يبدو خوفا على المسلمين واستبقاء عليهم ولكنه عن بغض وحقد ؛ فإن بعض اللوم والخصام يكون الدافع إليه حبّ الملوم وإبداء النصيحة له ، وأقوال الحكماء والشعراء في هذا المعنى كثيرة.

ويجوز أن يكون الخير هنا هو المال كقوله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة : ١٨٠]. وقوله : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] ، أي : هم في حالة السلم يسرعون إلى ملامكم ولا يواسونكم بأموالهم للتجهيز للعدوّ إن عاد إليكم. ودخلت (عَلَى) هنا على المبخول به.

٢١٩

(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

جيء باسم الإشارة لقصد تمييزهم بتلك الصفات الذميمة التي أجريت عليهم من قبل ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد من الحكم بعد اسم الإشارة ، كقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) في سورة البقرة [٥].

وقد أجري عليهم حكم انتفاء الإيمان عنهم بقوله (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) كشفا لدخائلهم لأنهم كانوا يوهمون المسلمين أنهم منهم كما قال تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) في سورة البقرة [١٤]. ورتب على انتفاء إيمانهم أن الله أحبط أعمالهم.

والإحباط : جعل شيء حابطا ، فالهمزة فيه للجعل مثل الإذهاب. والحبط حقيقته : أنه فساد ما يراد به الصلاح والنفع. ويطلق مجازا على إفساد ما كان نافعا أو على كون الشيء فاسدا ويظن أنه ينفع يقال : حبط حقّ فلان ، إذا بطل. والإطلاق المجازي ورد كثيرا في القرآن. وفعله من بابي سمع وضرب. ومصدره : الحبط ، واسم المصدر : الحبوط. ويقال : أحبط فلان الشيء ، إذا أبطله ، ومنه إحباط دم القتيل ، أي : إبطال حق القود به. فإحباط الأعمال : إبطال الاعتداد بالأعمال المقصود بها القربة والمظنون بها أنها أعمال صالحة لمانع منع من الاعتداد بها في الدين.

وقد صار لفظ الحبط والحبوط من الألفاظ الشرعية الاصطلاحية بين علماء الفقه والكلام ، فأطلق على عدم الاعتداد بالأعمال الصالحة بسبب الردة ، أي : الرجوع إلى الكفر ، أو بسبب زيادة السيئات على الحسنات بحيث يستحق صاحب الأعمال العذاب بسبب زيادة سيئاته على حسناته بحسب ما قدر الله لذلك وهو أعلم به ، ومن هذه الجهة عدّت مسألة الحبوط مع المسائل الكلامية ، أو بحيث ينظر في انتفاعه بما فعل من الواجبات عليه إذا ارتد عن الإسلام ثم عاد إلى الإسلام كمن حج ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام ، ومن هذه الجهة تعد مسألة الحبوط في مسائل الفقه ، فقال مالك وأبو حنيفة : الردة تحبط الأعمال بمجرد حصولها فإذا عاد إلى الإسلام وكان قد حجّ مثلا قبل ردّته وجبت عليه إعادة الحج تمسكا بإطلاق هذه الآية إذ ناطت الحبوط بانتفاء الإيمان ، ولم يريا أن هذا مما يحمل فيه المطلق على المقيّد احتياطا لأن هذا الحكم راجع إلى الاعتقادات ولا يكفي فيها الظن. وقال الشافعي : إذا رجع إلى الإسلام رجعت إليه أعماله الصالحة التي عملها قبل الردة تمسكا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ

٢٢٠