تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في سورة البقرة [٢١٧] حملا للمطلق في آية سورة الأحزاب ونحوها على المقيّد في آية سورة البقرة تغليبا للجانب الفروعي في هذه المسألة على الجانب الاعتقادي.

وتعرف هذه المسألة بمسألة الموافاة ، أي : استمرار المرتدّ على الردّة إلى انقضاء حياته فيوافي يوم القيامة مرتدا. فمالك وأبو حنيفة لم يريا شرط الموافاة والشافعي اعتبر الموافاة. والمعتزلة قائلون بمثل ما قال به مالك وأبو حنيفة. وحكى الفخر عن المعتزلة اعتبار الموافاة على الكفر ، وانظر ما تقدم في قوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في سورة البقرة [٢١٧]. والمعنى : أنهم لا تنفعهم قرباتهم ولا جهادهم.

وجملة (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) خبر مستعمل في لازمه وهو تحقيرهم وأن الله لمّا أخرجهم من حظيرة الإسلام فأحبط أعمالهم لم يعبأ بهم ولا عدّ ذلك ثلمة في جماعة المسلمين.

وكان المنافقون يدلون بإظهار الإيمان ويحسبون أن المسلمين يعتزون بهم ، قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الحجرات : ١٧].

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

لما ذكر حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض من فتنتهم في المسلمين وإذا هم حين مجيء جنود الأحزاب وحين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ثني عنان الكلام الآن إلى حالهم حين أنعم الله على المسلمين بانكشاف جنود الأحزاب عنهم ، فأفاد بأن انكشاف الأحزاب حصل على حين غفلة من المنافقين فلذلك كانوا يشتدّون في ملام المسلمين ويسلقونهم بألسنة حداد على أن تعرضوا للعدوّ الكثير ، وكان الله ساعتئذ قد هزم الأحزاب فانصرفوا وكفى الله المؤمنين شرهم ، وليس للمنافقين وساطة في ذلك. ولعلهم كانوا لا يودّون رجوع الأحزاب دون أن يأخذوا المدينة ، فتكون جملة (يَحْسَبُونَ) استئنافا ابتدائيا مرتبطا بقوله (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) [الأحزاب : ٩] إلخ ... جاء عودا على بدء بمناسبة ذكر أحوال المنافقين ، فإن قوله :

٢٢١

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) يؤذن بانهزام الأحزاب ورجوعهم على أعقابهم ، أي : وقع ذلك ولم يشعر به المنافقون. ويجوز أن يكون المعنى : أنهم كانوا يسلقون المؤمنين اعتزازا بالأحزاب لأن الأحزاب حلفاء لقريظة وكان المنافقون أخلّاء لليهود فكان سلقهم المسلمين في وقت ذهاب الأحزاب وهم لا يعلمون ذلك ولو علموه لخفّضوا من شدتهم على المسلمين ، فتكون جملة (يَحْسَبُونَ) حالا من ضمير الرفع في (سَلَقُوكُمْ) [الأحزاب : ١٩] أي : فعلوا ذلك حاسبين الأحزاب محيطين بالمدينة ومعتزين بهم فظهرت خيبتهم فيما قدروا.

وأما قوله (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) فهو وصف لجبن المنافقين ، أي : لو جاء الأحزاب كرّة أخرى لأخذ المنافقون حيطتهم فخرجوا إلى البادية بين الأعراب القاطنين حول المدينة وهم غفار وأسلم وغيرهم ، قال تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) [التوبة : ١٢٠] الآية.

والودّ هنا مستعمل كناية عن السعي لحصول الشيء المودود لأن الشيء المحبوب لا يمنع من تحصيله إلا مانع قاهر فهو لازم للودّ.

والبادي : ساكن البادية. وتقدم عند قوله تعالى (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) في سورة الحج [٢٥].

و (الْأَعْرابِ) : هم سكان البوادي بالأصالة ، أي : يؤدّوا الالتحاق بمنازل الأعراب ما لم يعجزوا لما دل عليه قوله عقبه (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) ، أي : لو لم يستطيعوا ذلك فكانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا.

و (لَوْ) حرف يفيد التمني بعد فعل ودّ ونحوه. أنشد الجاحظ وعبد القاهر :

يودّون لو خاطوا عليك جلودهم

ولا تمنع الموت النفوس الشحائح

وتقدم عند قوله تعالى (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) في سورة البقرة [٩٦].

والسؤال عن الأنباء لقصد التجسس على المسلمين للمشركين وليسرّهم ما عسى أن يلحق المسلمين من الهزيمة.

ومعنى (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) أنهم إذا فرض أن لا يتمكنوا من الخروج إلى البادية وبقوا في المدينة مع المسلمين ما قاتلوا مع المسلمين إلا قتالا قليلا ، أي : ضعيفا لا يؤبه به ، وإنما هو تعلة ورياء ، وتقدم نظيره آنفا.

٢٢٢

والأنباء : جمع نبأ وهو : الخبر المهم ، وتقدم عند قوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) في سورة الأنعام [٣٤].

وقرأ الجمهور (يَسْئَلُونَ) ـ بسكون السين فهمزة ـ مضارع سأل. وقرأ رويس عن يعقوب يساءلون ـ بفتح السين مشددة وألف بعدها الهمزة ـ مضارع تساءل ، وأصله : يتساءلون أدغمت التاء في السين.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١))

بعد توبيخ المنافقين والذين في قلوبهم مرض أقبل الكلام على خطاب المؤمنين في عموم جماعتهم ثناء على ثباتهم وتأسّيهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تفاوت درجاتهم في ذلك الائتساء ، فالكلام خبر ولكن اقترانه بحرفي التوكيد في (لَقَدْ) يومئ إلى تعريض بالتوبيخ للذين لم ينتفعوا بالأسوة الحسنة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض فلذلك أتي بالضمير مجملا ابتداء من قوله (لَكُمْ) ، ثم فصّل بالبدل منه بقوله (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) ، أي : بخلاف لمن لم يكن كأولئك ، فاللام في قوله : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) توكيد للام التي في المبدل منه مثل قوله تعالى (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) [المائدة : ١١٤] ، فمعنى هذه الآية قريب من معنى قوله تعالى في سورة براءة في قصة تبوك : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ* لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) [التوبة : ٨٧ ، ٨٨] الآية.

والإسوة بكسر الهمزة وضمها اسم لما يؤتسى به ، أي : يقتدى به ويعمل مثل عمله.

وحق الأسوة أن يكون المؤتسى به هو القدوة ولذلك فحرف (فِي) جاء على أسلوب ما يسمى بالتجريد المفيد للمبالغة إذ يجرد من الموصوف بصفة موصوف مثله ليكون كذاتين ، كقول أبي خالد الخارجي :

وفي الرحمن للضعفاء كاف

أي الرحمن كاف. فالأصل : رسول الله إسوة ، فقيل : في رسول الله إسوة. وجعل متعلق الائتساء ذات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون وصف خاص ليشمل الائتساء به في أقواله بامتثال أوامره واجتناب ما ينهى عنه ، والائتساء بأفعاله من الصبر والشجاعة والثبات. وقرأ الجمهور (أُسْوَةٌ) بكسر الهمزة. وقرأ عاصم بضم الهمزة وهما لغتان.

٢٢٣

و (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) بدل من الضمير في (لَكُمْ) بدل بعض من كل أو شبه الاشتمال لأن المخاطبين بضمير (لَكُمْ) يشتملون على من يرجون الله واليوم الآخر ، أو هو بدل مطابق إن كان المراد بضمير (لَكُمْ) خصوص المؤمنين ، وفي إعادة اللام في البدل تكثير للمعاني المذكورة بكثرة الاحتمالات وكل يأخذ حظه منها.

فالذين ائتسوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ثبت لهم أنهم ممن يرجون الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. وفيه تعريض بفريق من الذين صدّهم عن الائتساء به ممن كانوا منافقين أو في قلوبهم مرض من الشك في الدين.

وفي الآية دلالة على فضل الاقتداء بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه الإسوة الحسنة لا محالة ولكن ليس فيها تفصيل وتحديد لمراتب الائتساء والواجب منه والمستحب وتفصيله في أصول الفقه. واصطلاح أهل الأصول على جعل التأسّي لقبا لاتّباع الرسول في أعماله التي لم يطالب بها الأمة على وجه التشريع. وذكر القرطبي عن الخطيب البغدادي أنه روي عن عقبة بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قال : في جوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢))

لما ذكرت أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض المؤذنة بما يداخل قلوبهم من الخوف وقلة الإيمان والشك فيما وعد الله به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من النصر ابتداء من قوله (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [الأحزاب : ١٢] قوبلت أقوال أولئك بأقوال المؤمنين حينما نزلت بهم الأحزاب ورأوا كثرتهم وعددهم وكانوا على بصيرة من تفوقهم عليهم في القوة والعدد أضعافا وعلموا أنهم قد ابتلوا وزلزلوا ، كل ذلك لم يخر عزائمهم ولا أدخل عليهم شكا فيما وعدهم الله من النصر.

وكان الله وعدهم بالنصر غير مرة منها قوله في سورة البقرة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة : ٢١٤]. فلما رأى المسلمون الأحزاب وابتلوا وزلزلوا ورأوا مثل الحالة التي وصفت في تلك الآية علموا أنهم منصورون عليهم ، وعلموا أن ذلك هو الوعد الذي وعدهم الله بآية سورة البقرة.

٢٢٤

وكانت آية البقرة نزلت قبل وقعة الأحزاب بعام ، كذا روي عن ابن عباس ، وأيضا فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر المسلمين : أن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع أو عشر ، فلما رأى المؤمنون الأحزاب وزلزلوا راجعهم الثبات الناشئ عن قوة الإيمان وقالوا : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) ، أي : من النظر ومن الإخبار بمسير الأحزاب وصدّقوا وعد الله إياهم بالنصر وإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمسير الأحزاب ، فالإشارة ب (هذا) إلى ما شاهدوه من جيوش الأحزاب وإلى ما يتبع ذلك من الشدة والصبر عليها وكل ذلك وعد الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم أخبروا عن صدق الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فيما أخبرا به وصدقوا الله فيما وعدهم من النصر خلافا لقول المنافقين : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١٢] فالوعد راجع إلى الأمرين والصدق كذلك.

والوعد : إخبار مخبر بأنه سيعمل عملا للمخبر ـ بالفتح ـ.

ففعل (صَدَقَ) فيما حكي من قول المؤمنين (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) مستعمل في الخبر عن صدق مضى وعن صدق سيقع في المستقبل محقق وقوعه بحيث يجعل استقباله كالمضي مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] فهو مستعمل في معنى التحقق. أو هو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، ولا شك أن محمل الفعل على الصدق في المستقبل أنسب بمقام الثناء على المؤمنين وأعلق بإناطة قولهم بفعل (رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) دون أن يقال : ولما جاءت الأحزاب. فإن أبيت استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فاقصره على المجاز واطرح احتمال الإخبار عن الصدق الماضي.

وضمير (زادَهُمْ) المستتر عائد إلى ما عاد إليه اسم الإشارة ، أي : وما زادهم ما رأوا إلا إيمانا وتسليما ، أي : بعكس حال المنافقين إذ زادهم شكا في تحقق الوعد ، والمعنى : وما زاد ذلك المؤمنين إلا إيمانا ، أي : ما زاد في خواطر نفوسهم إلا إيمانا ، أي : لم يزدهم خوفا على الخوف الذي من شأنه أن يحصل لكل مترقّب أن ينازله العدوّ الشديد ، بل شغلهم عن الخوف والهلع شاغل الاستدلال بذلك على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبرهم به وفيما وعدهم الله على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام من النصر فأعرضت نفوسهم عن خواطر الخوف إلى الاستبشار بالنصر المترقب.

والتسليم : الانقياد والطاعة لأن ذلك تسليم النفس للمنقاد إليه ، وتقدم في قوله تعالى (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) في سورة النساء [٦٥]. ومن التسليم هنا تسليم أنفسهم لملاقاة عدوّ شديد دون أن يتطلبوا الإلقاء بأيديهم إلى العدوّ وأن يصالحوه بأموالهم. فقد ذكر ابن

٢٢٥

إسحاق وغيره أنه لما اشتدّ البلاء على المسلمين استشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ في أن يعطي ثلث ثمار المدينة تلك السنة عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان على أن يرجعا عن المدينة ، فقالا : يا رسول الله أهو أمر تحبه فنصنعه ، أم شيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به ، أم شيء تصنعه لنا؟ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزّنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأنت وذاك. فهذا موقف المسلمين في تلك الشدة وهذا تسليم أنفسهم للقتال.

ومن التسليم الرضى بما يأمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الثبات معه كما قال تعالى : (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥].

وإذ قد علم أنهم مؤمنون لقوله (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) إلى آخره ... فقد تعين أن الإيمان الذي زادهم ذلك هو زيادة على إيمانهم ، أي : إيمان مع إيمانهم.

والإيمان الذي زادهموه أريد به مظهر من مظاهر إيمانهم القويّ ، فجعل تكرر مظاهر الإيمان وآثاره كالزيادة في الإيمان لأن تكرر الأعمال يقوّي الباعث عليها في النفس يباعد بين صاحبه وبين الشك والارتداد فكأنه يزيد في ذلك الباعث ، وهذا من قبيل قوله تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) كما تقدم في سورة براءة [١٢٤] ، فكذلك القول في ضد الزيادة وهو النقص ، وإلا فإن حقيقة الإيمان وهو التصديق بالشيء إذا حصلت بمقوماتها فهي واقعة ، فزيادتها تحصيل حاصل ونقصها نقض لها وانتفاء لأصلها. وهذا هو محمل ما ورد في الكتاب والسنة من إضافة الزيادة إلى الإيمان وكذلك ما يضاف إلى الكفر والنفاق من الزيادة كقوله تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) [التوبة : ٩٧] وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة : ١٢٥]. وإلى هذا المحمل يرجع خلاف الأئمة في قبول الإيمان الزيادة والنقص فيؤول إلى خلاف لفظي.

٢٢٦

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣))

أعقب الثناء على جميع المؤمنين الخلص على ثباتهم ويقينهم واستعدادهم للقاء العدوّ الكثير يومئذ وعزمهم على بذل أنفسهم ولم يقدر لهم لقاؤه كما يأتي في قوله (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) [الأحزاب : ٢٥] بالثناء على فريق منهم كانوا وفّوا بما عاهدوا الله عليه وفاء بالعمل والنية ، ليحصل بالثناء عليهم بذلك ثناء على إخوانهم الذين لم يتمكنوا من لقاء العدوّ يومئذ ليعلم أن صدق أولئك يؤذن بصدق هؤلاء لأن المؤمنين يد واحدة.

والإخبار عنهم برجال زيادة في الثناء لأن الرجل مشتق من الرّجل وهي قوة اعتماد الإنسان كما اشتق الأبد من اليد ، فإن كانت هذه الآية نزلت مع بقية آي السورة بعد غزوة الخندق فهي تذكير بما حصل من المؤمنين من قبل ، وإن كانت نزلت يوم أحد فموضعها في هذه السورة إنما هو بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو تنبيه على المعنى الذي ذكرناه على تقدير : أنها نزلت مع سورة الأحزاب. وأيّا ما كان وقت نزول الآية فإن المراد منها : رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أحد وهم : عثمان بن عفان ، وأنس بن النضر ، وطلحة بن عبيد الله ، وحمزة ، وسعيد بن زيد ، ومصعب بن عمير. فأما أنس بن النضر وحمزة ومصعب بن عمير فقد استشهدوا يوم أحد ، وأما طلحة فقد قطعت يده يومئذ وهو يدافع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا. وسياق الآية وموقعها يقتضيان أنها نزلت بعد وقعة الخندق. وذكر القرطبي رواية البيهقي عن أبي هريرة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين انصرف من أحد مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف ودعا له ثمّ تلا (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) الآية.

ومعنى (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد وهو إخبار بأنه يفعل شيئا في المستقبل فإذا فعله فقد صدق. وفعل الصدق يستعمل قاصرا وهو الأكثر ، ويستعمل متعديا إلى المخبر ـ بفتح الباء ـ يقال : صدقه الخبر ، أي قال له الصدق ، ولذلك فإن تعديته هنا إلى (ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) إنما هو على نزع الخافض ، أي : صدقوا فيما عاهدوا الله عليه ، كقولهم في المثل : صدقني سنّ بكره ، أي : في سن بكره.

والنحب : النذر وما يلتزمه الإنسان من عهد ونحوه ، أي : من المؤمنين من وفّى بما

٢٢٧

عاهد عليه من الجهاد كقول أنس بن النضر حين لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكبر ذلك عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه ، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بعد ليرينّ الله ما أصنع فشهد أحدا وقاتل حتى قتل. ومثل الذين شهدوا أيام الخندق فإنهم قضوا نحبهم يوم قريظة.

وقد حمل بعض المفسرين (قَضى نَحْبَهُ) في هذه الآية على معنى الموت في الجهاد على طريقة الاستعارة بتشبيه الموت بالنذر في لزوم الوقوع ، وربما ارتقى ببعض المفسرين ذلك إلى جعل النحب من أسماء الموت ، ويمنع منه ما ورد في حديث الترمذي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في طلحة بن عبيد الله : «إنه ممن قضى نحبه» ، وهو لم يمت في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما قوله (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) فهو في معنى (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) وإنما ذكر هنا للتعريض بالمنافقين الذين عاهدوا الله لا يولّون الأدبار ثم ولوا يوم الخندق فرجعوا إلى بيوتهم في المدينة. وانتصب (تَبْدِيلاً) على أنه مفعول مطلق موكّد ل (بَدَّلُوا) المنفي. ولعل هذا التوكيد مسوق مساق التعريض بالمنافقين الذين بدّلوا عهد الإيمان لما ظنوا أن الغلبة تكون للمشركين.

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤))

لام التعليل يتنازعه من التعلق كل من (صَدَقُوا) و (ما بَدَّلُوا) [الأحزاب : ٢٣] أي : صدق المؤمنون عهدهم وبدّله المنافقون ليجزي الله الصادقين ويعذّب المنافقين.

ولام التعليل بالنسبة إلى فعل (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ) مستعمل في حقيقة معناه ، وبالنسبة إلى فعل (وَيُعَذِّبَ) مستعار لمعنى فاء العاقبة تشبيها لعاقبة فعلهم بالعلة الباعثة على ما اجترحوه من التبديل والخيس بالعهد تشبيها يفيد عنايتهم بما فعلوه من التبديل حتى كأنهم ساعون إلى طلب ما حقّ عليهم من العذاب على فعلهم ، أو تشبيها إياهم في عنادهم وكيدهم بالعالم بالجزاء الساعي إليه وإن كان فيه هلاكه.

والجزاء : الثواب لأن أكثر ما يستعمل فعل جزى أن يكون في الخير ، ولأن ذكر سبب الجزاء وهو (بِصِدْقِهِمْ) يدل على أنه جزاء إحسان ، وقد جاء الجزاء في ضد ذلك في قوله تعالى (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) في سورة الأنعام [٩٣]. وإظهار اسم الجلالة

٢٢٨

في مقام إضماره للدلالة على عظمة الجزاء.

وتعليق التعذيب على المشيئة تنبيه لهم بسعة رحمة الله وأنه لا يقطع رجاءهم في السعي إلى مغفرة ما أتوه بأن يتوبوا فيتوب الله عليهم فلما قابل تعذيبه إياهم بتوبته عليهم تعين أن التعذيب باق عند عدم توبتهم لقوله في الآية الأخرى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨]. والتوبة هنا هي التوبة من النفاق ، أي : هي إخلاص الإيمان ، وقد تاب كثير من المنافقين بعد ذلك ، منهم معتّب بن قشير.

وجملة (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) تعليل للجزاء والتعذيب كليهما على التوزيع ، أي غفور للمذنب إذا أناب إليه ، رحيم بالمحسن أن يجازيه على قدر نصبه.

وفي ذكر فعل (كانَ) إفادة أن المغفرة والرحمة صفتان ذاتيتان له كما قدمناه غير مرة ، من ذلك عند قوله تعالى (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا) في أول سورة يونس [٢].

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥))

عطف على جملة (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) [الأحزاب : ٩] وهو الأنسب بسياق الآيات بعدها ، أي أرسل الله عليهم ريحا وردّهم ، أو حال من ضمير (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) [الأحزاب : ٢٠] ، أي : يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وقد رد الله الأحزاب فذهبوا.

والرد : الإرجاع إلى المكان الذي صدر منه فإنّ ردهم إلى ديارهم من تمام النعمة على المسلمين بعد نعمة إرسال الريح عليهم لأن رجوعهم أعمل في اطمئنان المسلمين. وعبر عن الأحزاب بالذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو سبب خيبتهم العجيبة الشأن.

والباء في (بِغَيْظِهِمْ) للملابسة ، وهو ظرف مستقرّ في موضع الحال ، أي : ردهم مغيظين.

وإظهار اسم الجلالة دون ضمير المتكلم للتنبيه على عظم شأن هذا الرد العجيب كما تقدم في قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) [الأحزاب : ٢٤].

والغيظ : الحنق والغضب ، وكان غضبهم عظيما يناسب حال خيبتهم لأنهم تجشموا كلفة التجمّع والإنفاق وطول المكث حول المدينة بلا طائل وخابت آمالهم في فتح المدينة وأكل ثمارها وإفناء المسلمين ، وهم يحسبون أنها منازلة أيام قليلة ، ثم غاظهم ما لحقهم من النكبة بالريح والانهزام الذي لم يعرفوا سببه.

٢٢٩

وجملة (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) حال ثانية. ولك أن تجعل جملة (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) استئنافا بيانيا لبيان موجب غيظهم.

و (كَفَى) بمعنى أغنى ، أي : أراحهم من كلفة القتال بأن صرف الأحزاب. و (كَفَى) بهذا المعنى تتعدى إلى مفعولين يقال : كفيتك مهمك وليست هي التي تزاد الباء في مفعولها فتلك بمعنى : حسب.

وفي قوله (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) حذف مضاف ، أي كلفة القتال ، أو أرزاء القتال ، فإن المؤمنين كانوا يومئذ بحاجة إلى توفير عددهم وعددهم بعد مصيبة يوم أحد ولو التقوا مع جيش المشركين لكانت أرزاؤهم كثيرة ولو انتصروا على المشركين.

والقول في إظهار اسم الجلالة في قوله (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) كالقول في (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ).

وجملة (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) تذييل لجملة (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخرها.

والقوة : القدرة ، وقد تقدمت في قوله (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) في سورة [هود : ٨٠].

والعزة : العظمة والمنعة ، وتقدمت في قوله تعالى : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) في سورة [البقرة : ٢٠٦].

وذكر فعل (كانَ) للدلالة على أن العزة والقوة وصفان ثابتان لله تعالى ، ومن تعلّقات قوته وعزته أن صرف ذلك الجيش العظيم خائبين مفتضحين وألقى بينه وبين أحلافه من قريظة الشك ، وأرسل عليهم الريح والقرّ ، وهدى نعيما بن مسعود الغطفاني إلى الإسلام دون أن يشعر قومه فاستطاع النصح للمسلمين بالكيد للمشركين. ذلك كله معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٢٦ ـ ٢٧] (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

كان يهود قريظة قد أعانوا الأحزاب وحاصروا المدينة معهم وكان حييّ بن أخطب من بني النضير منضما إليهم وهو الذي حرّض أبا سفيان على غزو المدينة. فلما صرف الله الأحزاب أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغزو قريظة وهم فريق من اليهود يعرفون ببني قريظة وكانت منازلهم وحصونهم بالجنوب الشرقي من المدينة تعرف قريتهم باسمهم ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٣٠

قد عاد إلى المدينة من الخندق ظهرا وكان بصدد أن يغتسل ويستقر فلما جاءه الوحي بأن يغزو قريظة نادى في الناس أن لا يصلينّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة. وخرج الجيش الذي كان بالخندق معه فنزلوا على قرية قريظة واستعصم أهل القرية بحصونهم فحاصرهم المسلمون نحوا من عشرين ليلة ، فلما جهدهم الحصار وخامرهم الرعب من أن يفتح المسلمون بلادهم فيستأصلوهم طمعوا أن يطلبوا أن يسلموا بلادهم على أن يحكّم حكم في صفة ذلك التسليم. ويقال لهذا النوع من المصالحة : النزول على حُكم حَكم ، فأرسلوا شاس بن قيس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضون أن ينزلوا على مثل ما نزلت عليه بنو النضير من الجلاء على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة ، فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبول ذلك وبعد مداولات نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم سعد أن تقتل المقاتلة وتسبى النساء والذّراري وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار فأمضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما حكم به سعد كما هو مفصل في السيرة.

ومعنى (ظاهَرُوهُمْ) ناصروهم وأعانوهم ، وتقدم في قوله تعالى : (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) في سورة براءة [٤].

والإنزال : الإهباط ، أي : من الحصون أو من المعتصمات كالجبال.

والصياصي : الحصون ، وأصلها أنها جمع صيصية وهي القرن للثّور ونحوه. قال عبد بني الحسحاس :

فأصبحت الثيران غرقى وأصبحت

نساء تميم يلتقطن الصّياصيا

أي : القرون لبيعها. كانوا يستعملون القرون في مناسج الصوف ويتخذون أيضا منها أوعية للكحل ونحوه ، فلما كان القرن يدافع به الثور عن نفسه سمي المعقل الذي يعتصم به الجيش صيصية والحصون صياصي.

والقذف : الإلقاء السريع ، أي : جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين. والفريق الذين قتلوا هم الرجال وكانوا زهاء سبعمائة والفريق الذين أسروا هم النساء والصبيان.

والخطاب من قوله (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) إلى آخره ... للمؤمنين تكملة للنعمة التي أنبأ عنها قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) [الأحزاب : ٩] الآية ، أي : فأهلكنا الجنود وردهم الله بغيظهن وسلطكم على أحلافهم

٢٣١

وأنصارهم. وتقديم المفعول في (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) للاهتمام بذكره لأن ذلك الفريق هم رجال القبيلة الذين بقتلهم يتم الاستيلاء على الأرض والأموال والأسرى ، ولذلك لم يقدم مفعول (تَأْسِرُونَ) إذ لا داعي إلى تقديمه فهو على أصله.

وقوله (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أي : تنزلوا بها غزاة وهي أرض أخرى غير أرض قريظة وصفت بجملة (لَمْ تَطَؤُها) أي : لم تمشوا فيها. فقيل : إن الله بشرهم بأرض أخرى يرثونها من بعد. قال قتادة : كنا نحدث أنها مكة. وقال مقاتل وابن رومان : هي خيبر ، وقيل : أرض فارس والروم. وعلى هذه التفاسير يتعين أن يكون فعل (أَوْرَثَكُمْ) مستعملا في حقيقته ومجازه ؛ فأما في حقيقته فبالنسبة إلى مفعوله وهو (أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) ، وأما استعماله في مجازه فبالنسبة إلى تعديته إلى (أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) ، أي : أن يورثكم أرضا أخرى لم تطئوها ، من باب : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] أو يؤوّل فعل (أَوْرَثَكُمْ) بمعنى : قدّر أن يورّثكم. وأظهر هذه الأقوال أنها أرض خيبر فإن المسلمين فتحوها بعد غزوة قريظة بعام وشهر. ولعلّ المخاطبين بضمير (أَوْرَثَكُمْ) هم الذين فتحوا خيبر لم ينقص منهم أحد أو فقد منه القليل ولأن خيبر من أرض أهل الكتاب وهم ممن ظاهروا المشركين فيكون قصدها من قوله (وَأَرْضاً) مناسبا تمام المناسبة.

وفي التذييل بقوله (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) إيماء إلى البشارة بفتح عظيم يأتي من بعده.

وعندي : أن المراد بالأرض التي لم يطئوها أرض بني النضير وأن معنى (لَمْ تَطَؤُها) لم تفتحوها عنوة ، فإن الوطء يطلق على معنى الأخذ الشديد ، قال الحارث بن وعلة الذهلي :

وطئتنا وطئا على حنق

وطء المقيّد نابت الهرم

ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) [الفتح : ٢٥] ، فإن أرض بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف.

[٢٨ ـ ٢٩] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩))

يستخلص مما ذكره ابن عطية رواية عن ابن الزبير ومما ذكره أبو حيان في «البحر

٢٣٢

المحيط» وغير ذلك : أن وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه لما فتحت على المسلمين أرض قريظة وغنموا أموالهم وكانت أرض النضير قبيل ذلك فيئا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسب أزواج رسول الله أن مثله مثل أحد من الرجال إذا وسّع عليهم الرزق توسّعوا فيه هم وعيالهم فلم يكن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يسألنه توسعة قبل أن يفيء الله عليه من أهل النضير وقبل أن يكون له الخمس من الغنائم ، فلما رأين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل لنفسه ولأزواجه أقواتهم من مال الله ورأين وفرة ما أفاء الله عليه من المال حسبن أنه يوسّع في الإنفاق فصار بعضهنّ يستكثرنه من النفقة كما دل عليه قول عمر لحفصة ابنته أمّ المؤمنين : «لا تستكثري النبي ولا تراجعيه في شيء وسليني ما بدا لك». ولكن الله أقام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقاما عظيما فلا يتعلق قلبه بمتاع الدنيا إلا بما يقتضيه قوام الحياة وقد كان يقول : «ما لي وللدنيا» وقال : «حبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب». وقد بينت وجه استثناء هذين في رسالة كتبتها في الحكمة الإلهية من رياضة الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه بتقليل الطعام.

وقال عمر : «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه من خيل ولا ركاب فكانت لرسول الله خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة للمسلمين». وقد علمت أن أرض قريظة قسمت على المهاجرين بحكم سعد بن معاذ ، فلعل المهاجرين لما اتسعت أرزاقهم على أزواجهم أمّل أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكنّ كالمهاجرين فأراد الله أن يعلمهنّ سيرة الصالحات في العيش وغيره. وقد روي أن بعضهن سألنه أشياء من زينة الدنيا فأوحى إلى رسوله بهذه الآيات المتتابعات. وهذا مما يؤذن به وقع هذه الآيات عقب ذكر وقعة قريظة وذكر الأرض التي لم يطئوها وهي أرض بني النضير. وإذ قد كان شأن هذه السيرة أن يشق على غالب الناس وخاصة النساء أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينبئ أزواجه بها ويخيّرهنّ عن السّير عليها تبعا لحاله وبين أن يفارقهنّ. لذا فافتتاح هذه الأحكام بنداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ب : يا أيها النبي تنبيه على أن ما سيذكر بعد النداء له مزيد اختصاص به وهو غرض تحديد سيرة أزواجه معه سيرة تناسب مرتبة النبوءة ، وتحديد تزوجه وهو الغرض الثاني من الأغراض التي تقدم ذكرها في قوله يا أيها النبي (اتَّقِ اللهَ) [الأحزاب : ١].

والأزواج المعنيات في هذه الآية هن أزواجه التسع اللاتي توفّي عليهن. وهن : عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أمية المخزومية ، وجويرية بنت الحارث الخزاعية ، وميمونة بنت الحارث

٢٣٣

الهلالية من بني عامر بن صعصعة ، وسودة بنت زمعة العامرية القرشية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وصفية بنت حييّ النضيرية. وأما زينب بنت خزيمة الهلالية الملقبة أمّ المساكين فكانت متوفاة وقت نزول هذه الآية.

ومعنى (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) : إن كنتن تؤثرن ما في الحياة من الترف على الاشتغال بالطاعات والزهد ، فالكلام على حذف مضاف يقدر صالحا للعموم إذ لا دليل على إرادة شأن خاص من شئون الدنيا. وهذه نكتة تعدية فعل (تُرِدْنَ) إلى اسم ذات (الْحَياةَ) دون حال من شئونها.

وعطف (زِينَتَها) عطف خاص على عام ، وفي عطفه زيادة تنبيه على أن المضاف المحذوف عام ، وأيضا ففعل (تُرِدْنَ) يؤذن باختيار شيء على غيره فالمعنى : إن كنتن تردن الانغماس في شئون الدنيا ، وقد دلت على هذا مقابلته بقوله : (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) كما سيأتي.

و (فَتَعالَيْنَ) : اسم فعل أمر بمعنى : أقبلن ، وهو هنا مستعمل تمثيلا لحال تهيّؤ الأزواج لأخذ التمتيع وسماع التسريح بحال من يحضر إلى مكان المتكلم. وقد مضى القول على (تعال) عند قوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) في سورة آل عمران [٦١].

والتمتيع : أن يعطي الزوج امرأته حين يطلقها عطية جبرا لخاطرها لما يعرض لها من الانكسار. وتقدم الكلام عليها مفصلا عند قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) في سورة البقرة [٢٣٦]. وجزم (أُمَتِّعْكُنَ) في جواب (فَتَعالَيْنَ) وهو اسم فعل أمر وليس أمرا صريحا فجزم جوابه غير واجب فجيء به مجزوما ليكون فيه معنى الجزاء فيفيد حصول التمتيع بمجرد إرادة إحداهن الحياة الدنيا.

والسراح : الطلاق ، وهو من أسمائه وصيغة ، قال تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٣١].

والجميل : الحسن حسنا بمعنى القبول عند النفس ، وهو الطلاق دون غضب ولا كراهية لأنه طلاق مراعى فيه اجتناب تكليف الزوجة ما يشقّ عليها. وليس المذكور في الآية من قبيل التخيير والتمليك اللذين هما من تفويض الطلاق إلى الزوجة ، وإنما هذا تخيير المرأة بين شيئين يكون اختيارها أحدهما داعيا زوجها لأن يطلقها إن أراد ذلك.

٢٣٤

ومعنى (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) إن كنتن تؤثرن الله على الحياة الدنيا ، أي : تؤثرن رضى الله لما يريده لرسوله ، فالكلام على حذف مضاف. وإرضاء الله : فعل ما يحبه الله ويقرب إليه ، فتعدية فعل (تُرِدْنَ) إلى اسم ذات الله تعالى على تقدير تقتضيه صحة تعلق الإرادة باسم ذات لأن الذات لا تراد حقيقة فوجب تقدير مضاف ولزم أن يقدر عاما كما تقدم.

وإرادة رضى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك على تقدير ، أي : كل ما يرضي الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأول ذلك أن يبقين في عشرته طيّبات الأنفس.

وإرادة الدار الآخرة : إرادة فوزها ، فالكلام على حذف مضاف يقتضيه المقام أيضا ، فأسلوب الكلام جرى على إناطة الحكم بالأعيان وهو أسلوب يقتضي تقديرا في الكلام من قبيل دلالة الاقتضاء. وفي حذف المضافات وتعليق الإرادة بأسماء الأعيان الثلاثة مقصد أن تكون الإرادة متعلقة بشئون المضاف إليه التي تتنزل منزلة ذاته مع قضاء حق الإيجاز بعد قضاء حق الإعجاز. فالمعنى : إن كنتنّ تؤثرن ما يرضي الله ويحبه رسوله وخير الدار الآخرة فتخترن ذلك على ما يشغل عن ذلك كما دلت عليه مقابلة إرادة الله ورسوله والدار الآخرة بإرادة الحياة الدنيا وزينتها ، فإن المقابلة تقتضي إرادتين يجمع بين إحداهما وبين الأخرى ، فإن التعلق بالدنيا يستدعي الاشتغال بأشياء كثيرة من شئون الدنيا لا محيص من أن تلهي صاحبها عن الاشتغال بأشياء عظيمة من شئون ما يرضي الله وما يرضي رسوله عليه الصلاة والسلام وعن التملي من أعمال كثيرة مما يكسب الفوز في الآخرة فإن الله يحب أن ترتقي النفس الإنسانية إلى مراتب الملكية والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبتغي أن يكون أقرب الناس إليه وأعلقهم به سائرا على طريقته لأن طريقته هي التي اختارها الله له. وبمقدار الاستكثار من ذلك يكثر الفوز بنعيم الآخرة ، فالناس متسابقون في هذا المضمار وأولاهم بقصب السبق فيه أشدهم تعلّقا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك كانت همم أفاضل السلف ، وأولى الناس بذلك أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام وقد ذكّرهن الله تذكيرا بديعا بقوله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب : ٣٤] كما سيأتي.

ولما كانت إرادتهن الله ورسوله والدار الآخرة مقتضية عملهنّ الصالحات وكان ذلك العمل متفاوتا ، وجعل الجزاء على ذلك بالإحسان فقال : (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) ليعلمن أن هذا الأجر حاصل لهن على قدر إحسانهن ؛ فهذا وجه ذكر وصف المحسنات وليس هو للاحتراز. وفي ذكر الإعداد إفادة العناية بهذا الأجر والتنويه به زيادة

٢٣٥

على وصفه بالعظيم.

وتوكيد جملة الجزاء بحرف (إِنْ) الذي ليس هو لإزالة التردد إظهار للاهتمام بهذا الأجر. وقد جاء في كتب السنة : أنه لما نزلت هذه الآية ابتدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعائشة فقال لها : «إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ، ثم تلا هذه الآية ، فقالت عائشة : أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنّي أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، وقال لسائر أزواجه مثل ذلك ، فقلن مثل ما قالت عائشة».

ولا طائل تحت الاشتغال بأن هذا التخيير هل كان واجبا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مندوبا ، فإنه أمر قد انقضى ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذي يخالف أمر الله تعالى بالوجوب أو الندب.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

تولى الله خطابهن بعد أن أمر رسوله بتخييرهنّ فخيرهنّ فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، فخاطبهن ربّهنّ خطابا لأنهن أصبحن على عهد مع الله تعالى أن يؤتيهنّ أجرا عظيما. وقد سمّاه عمر عهدا فإنه كان كثيرا ما يقرأ في صلاة الصبح سورة الأحزاب فإذا بلغ هذه الآية رفع بها صوته فقيل له في ذلك ، فقال : أذكّرهنّ العهد ، ولما كان الأجر الموعود منوطا بالإحسان أريد تحذيرهن من المعاصي بلوغا بهن إلى مرتبة الملكية مبالغة في التحذير إذ جعل عذاب المعصية على فرض أن تأتيها إحداهن عذابا مضاعفا. ونداؤهنّ للاهتمام بما سيلقى إليهن. وناداهنّ بوصف نساء النبي ليعلمن أن ما سيلقى إليهن خبر يناسب علوّ أقدارهنّ. والنساء هنا مراد به الحلائل ، وتقدم في قوله تعالى : (وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) في سورة آل عمران [٦١]. وقرأ الجمهور (يَأْتِ) بتحتية في أوله مراعاة لمدلول (مَنْ) الشرطية لأن مدلولها شيء فأصله عدم التأنيث. وقرأه يعقوب من تأت بفوقية في أوله مراعاة لما صدق (مَنْ) أي : إحدى النساء. وقرأ الجمهور (يُضاعَفْ) بتحتية في أوله للغائب وفتح العين مبنيا للنائب ورفع (الْعَذابُ) على أنه نائب فاعل. وقرأه ابن كثير وابن عامر نضعف بنون العظمة وبتشديد العين مكسورة ونصب (الْعَذابُ) على المفعولية ؛ فيكون إظهار اسم الجلالة في قوله بعده : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) إظهارا في مقام الإضمار. وقرأه أبو عمرو ويعقوب (يُضاعَفْ) بتحتية للغائب

٢٣٦

وتشديد العين مفتوحة. ومفاد هذه القراءات متّحد المعنى على التحقيق.

وروى الطبري عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي عبيدة معمر بن المثنّى : أن بين ضاعف وضعّف فرقا ، فأما ضاعف فيفيد جعل الشيء مثليه فتصير ثلاثة أعذبة. وأما ضعّف المشدّد فيفيد جعل الشيء مثله. قال الطبري : وهذا التفريق لا نعلم أحدا من أهل العلم ادعاه غيرهما. وصيغة التثنية في قوله (ضِعْفَيْنِ) مستعملة في إرادة الكثرة كقوله تعالى: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] لظهور أن البصر لا يرجع خاسئا وحسيرا من تكرّر النظر مرتين ، والتثنية ترد في كلام العرب كناية عن التكرير ، كقولهم : لبّيك وسعديك ، وقولهم : دواليك ، ولذلك لا نشتغل بتحديد المضاعفة المرادة في الآية بأنها تضعيف مرة واحدة بحيث يكون هذا العذاب بمقدار ما هو لأمثال الفاحشة مرتين أو بمقدار ذلك ثلاث مرات وذلك ما لم يشتغل به أحد من المفسرين ، وما إعراضهم عنه إلا لأن أفهامهم سبقت إلى الاستعمال المشهور في الكلام ، فما روي عن أبي عمرو وأبي عبيدة لا يلتفت إليه.

والفاحشة : المعصية ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأعراف : ٣٣] وكلما وردت الفاحشة في القرآن نكرة فهي المعصية وإذا وردت معرفة فهي الزنا ونحوه.

والمبيّنة : بصيغة اسم الفاعل مبالغة في بيان كونها فاحشة ووضوحه حتى كأنها تبيّن نفسها وكذلك قرأها الجمهور. وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء ، أي : يبيّنها فاعلها.

والمضاعفة : تكرير شيء ذي مقدار بمثل مقداره.

والضعف : مماثل عدد ما. وتقدم في قوله تعالى (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) في سورة الأعراف [٣٨]. ومعنى مضاعفة العذاب : أنه يكون ضعف عذاب أمثال تلك المعصية إذا صدرت من غيرهنّ ، وهو ضعف في القوة وفي المدة ، وأريد : عذاب الآخرة.

وجملة (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) معترضة ، وتقدم القول في نظيرها آنفا. والمعنى : أن الله يحقق وعيده ولا يمنعه من ذلك أنها زوجة نبيء ، قال تعالى : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) إلى قوله : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) [التحريم : ١٠].

والتعريف في (الْعَذابُ) تعريف العهد ، أي : العذاب الذي جعله الله للفاحشة.

٢٣٧

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١))

أعقب الوعيد بالوعد جريا على سنة القرآن كما تقدم في المقدمة العاشرة.

والقنوت : الطاعة ، والقنوت للرسول : الدوام على طاعته واجتلاب رضاه لأن في رضاه رضى الله تعالى ، قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠].

وقرأ الجمهور : (يَقْنُتْ) بتحتية في أوله مراعاة لمدلول (مَنْ) الشرطية كما تقدم في (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَ) [الأحزاب : ٣٠]. وقرأه يعقوب بفوقية في أوله مراعاة لما صدق (مَنْ) ، أي إحدى النساء ، كما تقدم في قوله تعالى : (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَ).

وأسند فعل إيتاء أجرهنّ إلى ضمير الجلالة بوجه صريح تشريفا لإيتائهن الأجر لأنه المأمول بهن ، وكذلك فعل (وَأَعْتَدْنا).

ومعنى (مَرَّتَيْنِ) توفير الأجر وتضعيفه كما تقدم في قوله تعالى : (ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠].

وضمير (أَجْرَها) عائد إلى (مَنْ) باعتبار أنها صادقة على واحدة من نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي إضافة الأجر إلى ضميرها إشارة إلى تعظيم ذلك الأجر بأنه يناسب مقامها وإلى تشريفها بأنها مستحقة ذلك الأجر. ومضاعفة الأجر لهن على الطاعات كرامة لقدرهنّ ، وهذه المضاعفة في الحالين من خصائص أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعظم قدرهن ، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة فضل الآتي بها. ودرجة أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عظيمة.

وقرأ الجمهور : (وَتَعْمَلْ) بالتاء الفوقية على اعتبار معنى (مَنْ) الموصولة المراد بها إحدى النساء وحسنه أنه معطوف على فعل (يَقْنُتْ) بعد أن تعلق به الضمير المجرور وهو ضمير نسوة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعمل بالتحتية مراعاة لمدلول (مَنْ) في أصل الوضع. وقرأ الجمهور (نُؤْتِها) بنون العظمة. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية على اعتبار ضمير الغائب عائدا إلى اسم الجلالة من قوله قبله (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) [الأحزاب : ٣٠].

والقول في (أَعْتَدْنا لَها) كالقول في (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ) [الأحزاب : ٢٩]. والتاء في (أَعْتَدْنا) بدل عن أحد الدالين من (أعدّ) لقرب مخرجيها وقصد التخفيف.

٢٣٨

والعدول عن المضارع إلى فعل الماضي في قوله : (أَعْتَدْنا) لإفادة تحقيق وقوعه.

والرزق الكريم : هو رزق الجنة قال تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) [البقرة: ٢٥] الآية. ووصفه بالكريم لأنه أفضل جنسه. وقد تقدم في قوله تعالى : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩].

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢))

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ).

أعيد خطابهن من جانب ربهنّ وأعيد نداؤهن للاهتمام بهذا الخبر اهتماما يخصّه.

وأحد : اسم بمعنى واحد مثل : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] وهمزته بدل من الواو. وأصله : وحد بوزن فعل ، أي متوحّد ، كما قالوا : فرد بمعنى منفرد. قال النابغة يذكر ركوبه راحلته :

كان رحلي وقد زال النهار بنا

يوم الجليل على مستأنس وحد

يريد على ثور وحشي منفرد. فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا : أحد ، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي ، قال تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس.

ونفي المشابهة هنا يراد به نفي المساواة مكنّى به عن الأفضلية على غيرهنّ مثل نفي المساواة في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٩٥] ، فلو لا قصد التفضيل ما كان لزيادة (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) وجد ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء [٩٥]. فالمعنى : أنتنّ أفضل النساء ، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة ، وسبب ذلك أنهن اتصلن بالنبيء عليه الصلاة والسلام اتصالا أقرب من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شئونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره ، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن ، ولأن إقباله عليهن إقبال خاص ، ألا ترى إلى قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حبّب إليكم من دنياكم النساء والطيب» ، وقال تعالى : (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) [النور : ٢٦]. ثم إن نساء النبي عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن.

٢٣٩

والتقييد بقوله : (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو إلهاب وتحريض على الازدياد من التقوى ، وقريب من هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحفصة : «إن عبد الله ـ يعني أخاها ـ رجل صالح لو كان يقوم من الليل» ، فلما أبلغت حفصة ذلك عبد الله بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام.

وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام ، أي إن دمتنّ على التقوى فإن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متّقيات من قبل ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله.

واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جميع نساء هذه الأمة. وقد اختلف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن الأشعري الوقف في ذلك ، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط. أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في «شرح الترمذي» في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه رأى ميزانا نزل من السماء فوزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ، فرجح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر ، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر ، ثم رفع الميزان. والجهات التي بنى عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شئون الرجال. وليس يلزم أن تكون بنات النبي ولا نساؤه سواء في الفضل. ومن العلماء من جزموا بتفضيل بنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي‌الله‌عنها وهو ظاهر كلام التفتازانيّ في كتاب «المقاصد». وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها.

والأحسن أن يكون الوقف على (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) ، وقوله (فَلا تَخْضَعْنَ) ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط.

(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

فرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادهنّ إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها ، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة ، وفيها منافقوها.

وابتدئ من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فإن الناس متفاوتون في لينه ، والنساء في كلامهن رقّة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولين النفس ما إذا انضمّ إلى لينها الجبليّ قربت هيئته من هيئة التدلّل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة. فإذا بدا ذلك على

٢٤٠