تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

نودي وهو مضاف إلى ياء المتكلم حذفت ياء المتكلم لجواز حذفها في النداء وكراهية تكرر الأمثال ، وأشير إلى الياء المحذوفة بإلزامه الكسر في أحوال الإعراب الثلاثة لأن الكسرة دليل على ياء المتكلم. وتقدم في سورة يوسف. والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له ، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير ، ففيه حث على الامتثال للموعظة.

ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتها عن مبادئ الفساد والضلال ، فإن إصلاح الاعتقاد أصل لإصلاح العمل. وكان أصل فساد الاعتقاد أحد أمرين هما الدهرية والإشراك ، فكان قوله (لا تُشْرِكْ بِاللهِ) يفيد إثبات وجود إله وإبطال أن يكون له شريك في إلهيته. وقرأ حفص عن عاصم في المواضع الثلاثة في هذه السورة (يا بُنَيَ) بفتح الياء مشددة على تقدير : يا بنيّا بالألف وهي اللغة الخامسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ثم حذفت الألف واكتفي بالفتحة عنها ، وهذا سماع.

وجملة (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) تعليل للنهي عنه وتهويل لأمره ، فإنه ظلم لحقوق الخالق ، وظلم المرء لنفسه إذ يضع نفسه في حضيض العبودية لأخس الجمادات ، وظلم لأهل الإيمان الحق إذ يبعث على اضطهادهم وأذاهم ، وظلم لحقائق الأشياء بقلبها وإفساد تعلقها. وهذا من جملة كلام لقمان كما هو ظاهر السياق ، ودل عليه الحديث في «صحيح مسلم» عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام : ٨٢] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). وجوّز ابن عطية أن تكون جملة (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) من كلام الله تعالى ، أي : معترضة بين كلم لقمان. فقد روي عن ابن مسعود أنهم لما قالوا ذلك أنزل الله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، وانظر من روى هذا ومقدار صحته.

[١٤ ـ ١٥] (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥))

١٠١

إذا درجنا على أن لقمان لم يكن نبيئا مبلغا عن الله وإنما كان حكيما مرشدا كان هذا الكلام اعتراضا بين كلامي لقمان لأن صيغة هذا الكلام مصوغة على أسلوب الإبلاغ والحكاية لقول من أقوال الله. والضمائر ضمائر العظمة جرّته مناسبة حكاية نهي لقمان لابنه عن الإشراك وتفظيعه بأنه ظلم عظيم. فذكر الله هذا لتأكيد ما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بتعميم النهي في الأشخاص والأحوال لئلا يتوهم متوهم أن النهي خاص بابن لقمان أو ببعض الأحوال فحكى الله أن الله أوصى بذلك كل إنسان وأن لا هوادة فيه ولو في أحرج الأحوال وهي حال مجاهدة الوالدين أولادهم على الإشراك. وأحسن من هذه المناسبة أن تجعل مناسبة هذا الكلام أنه لما حكى وصاية لقمان لابنه بما هو شكر الله بتنزيهه عن الشرك في الإلهية بيّن الله أنه تعالى أسبق منّة على عباده إذ أوصى الأبناء ببر الآباء فدخل في العموم المنة على لقمان جزاء على رعيه لحق الله في ابتداء موعظة ابنه فالله أسبق بالإحسان إلى الذين أحسنوا برعي حقه. ويقوي هذا التفسير اقتران شكر الله وشكر الوالدين في الأمر.

وإذا درجنا على أن لقمان كان نبيئا فهذا الكلام مما أبلغه لقمان لابنه وهو مما أوتيه من الوحي ويكون قد حكي بالأسلوب الذي أوحي به إليه على نحو أسلوب قوله (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) [لقمان : ١٢] وهذا الاحتمال أنسب بسياق الكلام ، ويرجحه اختلاف الأسلوب بينها وبين آيتي سورة العنكبوت وسورة الأحقاف لأن ما هنا حكاية ما سبق في أمة أخرى والأخريين خطاب أنف لهذه الأمة. وقد روي أن لقمان لما أبلغ ابنه هذا قال له : إن الله رضيني لك فلم يوصني بك ولم يرضك لي فأوصاك بي.

والمقصود من هذا الكلام هو قوله (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي) إلى آخره ... وما قبله تمهيد له وتقرير لواجب بر الوالدين ليكون النهي عن طاعتهما إذا أمرا بالإشراك بالله نهيا عنه في أولى الحالات بالطاعة حتى يكون النهي عن الشرك فيما دون ذلك من الأحوال مفهوما بفحوى الخطاب مع ما في ذلك من حسن الإدماج المناسب لحكمة لقمان سواء كان هذا من كلام لقمان أو كان من جانب الله تعالى.

وعلى كلا الاعتبارين لا يحسن ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن هذه الآية نزلت في قضية إسلام سعد بن أبي وقاص وامتعاض أمه ، لعدم مناسبته السياق ، ولأنه قد تقدم أن نظير هذه الآية في سورة العنكبوت نزل في ذلك ، وأنها المناسبة لسبب النزول فإنها أخليت عن الأوصاف التي فيها ترقيق على الأم بخلاف هذه ، ولا وجه لنزول آيتين في

١٠٢

غرض واحد ووقت مختلف وسيجيء بيان الموصى به.

والوهن ـ بسكون الهاء ـ مصدر وهن يهن من باب ضرب. ويقال : وهن ـ بفتح الهاء ـ على أنه مصدر وهن يوهن كوجل يوجل. وهو الضعف وقلة الطاقة على تحمل شيء. وانتصب (وَهْناً) على الحال من (أُمُّهُ) مبالغة في ضعفها حتى كأنها نفس الوهن ، أي واهنة في حمله ، و (عَلى وَهْنٍ) صفة ل (وَهْناً) أي وهنا واقعا على وهن ، كما يقال : رجع عودا على بدء ، إذا استأنف عملا فرغ منه فرجع إليه ، أي : بعد بدء ، أو (عَلى) بمعنى (مع) كما في قول الأحوص :

إني على ما قد علمت محسّد

أنمي على البغضاء والشنآن

فإن حمل المرأة يقارنه التعب من ثقل الجنين في البطن ، والضعف من انعكاس دمها إلى تغذية الجنين ، ولا يزال ذلك الضعف يتزايد بامتداد زمن الحمل فلا جرم أنه وهن على وهن.

وجملة (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) في موضع التعليل للوصاية بالوالدين قصدا لتأكيد تلك الوصاية لأن تعليل الحكم يفيده تأكيدا ، ولأن في مضمون هذه الجملة ما يثير الباعث في نفس الولد على أن يبرّ بأمه ويستتبع البرّ بأبيه. وإنما وقع تعليل الوصاية بالوالدين بذكر أحوال خاصة بأحدهما وهي الأم اكتفاء بأن تلك الحالة تقتضي الوصاية بالأب أيضا للقياس فإن الأب يلاقي مشاقّ وتعبا في القيام على الأم لتتمكن من الشغل بالطفل في مدة حضانته ثم هو يتولى تربيته والذبّ عنه حتى يبلغ أشدّه ويستغني عن الإسعاف كما قال تعالى (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٤] ، فجمعهما في التربية في حال الصغر مما يرجع إلى حفظه وإكمال نشأته ، فلما ذكرت هنا الحالة التي تقتضي البر بالأم من الحمل والإرضاع كانت منبهة إلى ما للأب من حالة تقتضي البرّ به على حساب ما تقتضيه تلك العلة في كليهما قوة وضعفا. ولا يقدح في القياس التفاوت بين المقيس والمقيس عليه في قوة الوصف الموجب للإلحاق. وقد نبّه على هذا القياس تشريكهما في التحكم عقب ذلك بقوله (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) وقوله (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً). وحصل من هذا النظم البديع قضاء حق الإيجاز.

وأمّا رجحان الأم في هذا الباب عند التعارض في مقتضيات البرور تعارضا لا يمكن معه الجمع فقال ابن عطية في «تفسيره» : شرك الله في هذه الآية الأم والأب في رتبة الوصية بهما ثم خصص الأم بذكر درجة الحمل ودرجة الرضاع فتحصل للأم ثلاث مراتب

١٠٣

وللأب واحدة ، وأشبه ذلك قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال له رجل : من أبرّ؟ قال : أمّك. قال : ثم من؟ قال : أمّك. قال : ثم من؟ قال : أمّك. قال : ثم من؟ قال : أباك. فجعل له الربع من المبرّة. وهذا كلام منسوب مثله لابن بطّال في شرح «صحيح البخاري». ولا يخفى أن مساق الحديث لتأكيد البر بالأم إذ قد يقع التفريط في الوفاء بالواجب للأم من الابن اعتمادا على ما يلاقيه من اللين منها بخلاف جانب الأب فإنه قوي ولأبنائه توقّ من شدته عليهم ، فهذا مساق الحديث ولا معنى لأخذه على ظاهره حتى نذهب إلى تجزئة البرّ بين الأم والأب أثلاثا أو أرباعا وهو ما استشكله القرافي في «فائدة من الفرق الثالث والعشرين» ، وحسبنا نظم هذه الآية البديع في هذا الشأن. وأما لفظ الحديث فهو مسوق لتأكيد البر بالأم خشية التفريط فيه. وليس معنى «ثمّ» فيه إلا محاكاة قول السائل «ثمّ من» بقرينة أنه عطف بها لفظ الأم في المرتين ولا معنى لتفضيل الأم على نفسها في البر. وإذ كان السياق مسوقا للاهتمام تعين أن عطف الأب على الأم في المرة الثالثة عطف في الاهتمام فلا ينتزع منه ترجيح عند التعارض. ولعل الرسول عليه الصلاة والسلام علم من السائل إرادة الترخيص له في عدم البرّ. وقد قال مالك لرجل سأله : أن أباه في بلد السودان كتب إليه أن يقدم عليه وأن أمه منعته فقال له مالك : أطع أباك ولا تعص أمك (١). وهذا يقتضي إعراضه عن ترجيح جانب أحد الأبوين وأنه متوقف في هذا التعارض ليحمل الابن على ترضية كليهما. وقال الليث : يرجح جانب الأم. وقال الشافعي : يرجح جانب الأب.

وجملة (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) عطف على جملة (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ) إلخ ، فهي في موقع الحال أيضا. وفي الجملة تقدير ضمير رابط إياها بصاحبها ، إذ التقدير : وفصالها إياه ، فلما أضيف الفصال إلى مفعوله علم أن فاعله هو الأم.

والفصال : اسم للفطام ، فهو فصل عن الرضاعة. وتقدم في قوله (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) في سورة البقرة [٢٣٣]. وذكر الفصال في معرض تعليل حقية الأم بالبرّ ، لأنه يستلزم الإرضاع من قبل الفصال ، وللإشارة إلى ما تتحمله الأم من كدر الشفقة على الرضيع حين فصاله ، وما تشاهده من حزنه وألمه في مبدأ فطامه. وذكر لمدة فطامه أقصاها وهو عامان لأن ذلك أنسب بالترقيق على الأم ، وأشير إلى أنه قد يكون الفطام قبل العامين بحرف الظرفية لأن الظرفية تصدق مع استيعاب المظروف جميع الظرف ، ولذلك فموقع (فِي)

__________________

(١) نقله القرافي في المسألة الأولى من الفرق الثالث والعشرين عن «مختصر» الجامع.

١٠٤

أبلغ من موقع (من) التبعيضية في قول سبرة بن عمرو الفقعسي :

ونشرب في أثمانها ونقامر

لأنه يصدق بأن يستغرق الشراب والمقامرة كامل أثمان إبله. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) في سورة النساء [٥]. وقد حمله علي بن أبي طالب أو ابن عباس على هذا المعنى فأخذ منه أن أقل مدة الحمل ستة أشهر جمعا بين هذه الآية وآية سورة الأحقاف كما سيأتي هنالك.

وجملة (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) تفسير لفعل (وَصَّيْنَا). و (أَنِ) تفسيرية ، وإنما فسرت الوصية بالوالدين بما فيه الأمر بشكر الله مع شكرهما على وجه الإدماج تمهيدا لقوله (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي) إلخ.

وجملة (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) استئناف للوعظ والتحذير من مخالفة ما أوصى الله به من الشكر له. وتعريف (الْمَصِيرُ) تعريف الجنس ، أي مصير الناس كلهم. ولك أن تجعل أل عوضا عن المضاف إليه. وتقديم المجرور للحصر ، أي ليس للأصنام مصير في شفاعة ولا غيرها. وتقدم الكلام على نظير قوله (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) إلى (فَلا تُطِعْهُما) في سورة العنكبوت [٨] ، سوى أنه قال هنا (عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي) وقال في سورة العنكبوت (لِتُشْرِكَ بِي) فأما حرف (عَلى) فهو أدلّ على تمكن المجاهدة ، أي مجاهدة قوية للإشراك ، والمجاهدة : شدة السعي والإلحاح. والمعنى : إن ألحّا وبالغا في دعوتك إلى الإشراك بي فلا تطعهما. وهذا تأكيد للنهي عن الإصغاء إليهما إذا دعوا إلى الإشراك. وأما آية العنكبوت فجيء فيها بلام العلة لظهور أن سعدا كان غنيا عن تأكيد النهي عن طاعة أمه لقوة إيمانه.

وقال القرطبي : إن امرأة لقمان وابنه كانا مشركين فلم يزل لقمان يعظهما حتى آمنا ، وبه يزيد ذكر مجاهدة الوالدين على الشرك اتضاحا.

والمصاحبة : المعاشرة. ومنه حديث معاوية بن حيدة «أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال : أمّك» إلخ.

والمعروف : الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن ، أي صاحب والديك صحبة حسنة ، وانتصب (مَعْرُوفاً) على أنه وصف لمصدر محذوف مفعول مطلق ل (صاحِبْهُما) ، أي صحابا معروفا لأمثالهما. وفهم منه اجتناب ما ينكر في

١٠٥

مصاحبتهما ، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالمنكر ، وشمل ذلك أن يدعو الوالد إلى ما ينكره الله ولا يرضى به ولذلك لا يطاعان إذا أمرا بمعصية. وفهم من ذكر (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أثر قوله (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي) إلخ ... أن الأمر بمعاشرتهما بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف كالإحسان إليهما وصلتهما. وفي الحديث : أن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أمي جاءت راغبة أفأصلها؟ فقال : نعم ، صلي أمّك ، وكانت مشركة وهي قتيلة بنت عبد العزى. وشمل المعروف ما هو معروف لهما أن يفعلاه في أنفسهما ، وإن كان منكرا للمسلم فلذلك قال فقهاؤنا : إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر ، فإن كان الفعل منكرا في الدينين فلا يحلّ للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه. واتباع سبيل من أناب هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله ، أي الراجعين إليه ، وقد تقدم ذكر الإنابة في سورة الروم [٣٣] عند قوله (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) وفي سورة هود [٨٨]. فالمراد بمن أناب : المقلعون عن الشرك وعن المنهيات التي منها عقوق الوالدين وهم الذين يدعون إلى التوحيد ومن اتبعوهم في ذلك.

وجملة (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) معطوفة على الجمل السابقة و (ثُمَ) للتراخي الرتبي المفيد للاهتمام بما بعدها ، أي وعلاوة على ذلك كله إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. وضمير الجمع للإنسان والوالدين ، أي مرجع الجميع. وتقديم المجرور للاهتمام بهذا الرجوع أو هو للتخصيص ، أي لا ينفعكم شيء مما تأملونه من الأصنام. وفرع على هذا (فَأُنَبِّئُكُمْ) إلخ ... والإنباء كناية عن إظهار الجزاء على الأعمال لأن الملازمة بين إظهار الشيء وبين العلم به ظاهرة. وجملة (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) وعد ووعيد. وفي هذه الضمائر تغليب الخطاب على الغيبة لأن الخطاب أهم لأنه أعرف.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦))

تكرير النداء لتجديد نشاط السامع لوعي الكلام. وقرأ نافع وأبو جعفر (إِنْ تَكُ مِثْقالَ) برفع (مِثْقالَ) على أنه فاعل (تَكُ) من (كان) التامة. وإنما جيء بفعله بتاء المضارعة للمؤنثة ، وأعيد عليه الضمير في قوله (بِهَا) مؤنثا مع أن (مِثْقالَ) لفظ غير مؤنث لأنه أضيف إلى (حَبَّةٍ) فاكتسب التأنيث من المضاف إليه ، وهو استعمال كثير إذا

١٠٦

كان المضاف لو حذف لما اختل الكلام بحيث يستغنى بالمضاف إليه عن المضاف ، وعليه فضمير (إِنَّها) للقصة والحادثة وهو المسمى بضمير الشأن ، وهو يقع بصورة ضمير المفردة المؤنثة بتأويل القصة ، ويختار تأنيث هذا الضمير إذا كان في القصة لفظ مؤنث كما في قوله تعالى (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحج : ٤٦] ، ويكثر وقوع ضمير الشأن بعد (إنّ) كقوله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [طه : ٧٤] ، ومن ذلك تقدير ضمير الشأن اسما لحرف (أنّ) المفتوحة المخففة ، وهو يفيد الاهتمام بإقبال المخاطب على ما يأتي بعده ، فاجتمع في هذه الجملة ثلاثة مؤكدات : النداء ، وإنّ ، وضمير القصة ، لعظم خطر ما بعده المفيد تقرير وصفه تعالى بالعلم المحيط بجميع المعلومات من الكائنات ، ووصفه بالقدرة المحيطة بجميع الممكنات بقرينة قوله (يَأْتِ بِهَا اللهُ).

وقد أفيد ذلك بطريق دلالة الفحوى ؛ فذكر أدقّ الكائنات حالا من حيث تعلق العلم والقدرة به ، وذلك أدق الأجسام المختفي في أصلب مكان أو أقصاه وأعزّه منالا ، أو أوسعه وأشده انتشارا ، ليعلم أن ما هو أقوى منه في الظهور والدّنو من التناول أولى بأن يحيط به علم الله وقدرته. وقرأه الباقون بنصب (مِثْقالَ) على الخبرية ل (تَكُ) من (كان) الناقصة ، وتقدير اسم لها يدل عليه المقام مع كون الفعل مسندا لمؤنث ، أي إن تك الكائنة ، فضمير (إِنَّها) مراد منه الخصلة من حسنة أو سيئة أخذا من المقام.

والمثقال بكسر الميم : ما يقدر به الثقل ولذلك صيغ على زنة اسم الآلة.

والحبة : واحدة الحبّ وهو بذر النبات من سنابل أو قطنية بحيث تكون تلك الواحدة زريعة لنوعها من النبات ، وقد تقدم في سورة البقرة [٢٦١] قوله (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) وقوله (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) في سورة الأنعام [٩٥].

والخردل : نبت له جذر وساق قائمة متفرعة أسطوانية أوراقها كبيرة يخرج أزهارا صغيرة صفرا سنبلية تتحول إلى قرون دقيقة مربعة الزوايا تخرج بزورا دقيقة تسمى الخردل أيضا ، ولبّ تلك البزور شديد الحرارة يلدغ اللسان والجلد ، وهي سريعة التفتق ينفتق عنها قشرها بدقّ أو إذا بلت بمائع ، فتستعمل في الأدوية ضمّادات على المواضع التي فيها التهاب داخلي من نزلة أو ذات جنب وهو كثير الاستعمال في الطب قديما وحديثا. وقد أخذ الأطباء يستغنون عنه بعقاقير أخرى. وتقدم نظير هذا في سورة الأنبياء [٤٧] (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها).

١٠٧

وقوله (أَوْ فِي السَّماواتِ) عطف على (فِي صَخْرَةٍ) لأن الصخرة من أجزاء الأرض فذكر بعدها (أَوْ فِي السَّماواتِ) على معنى : أو كانت في أعزّ منالا من الصخرة ، وعطف عليه (أَوْ فِي الْأَرْضِ) وإنما الصخرة جزء من الأرض لقصد تعميم الأمكنة الأرضية فإن الظرفية تصدق بهما ، أي : ذلك كله سواء في جانب علم الله وقدرته ، كأنه قال : فتكن في صخرة أو حيث كانت من العالم العلوي والعالم السفلي وهو معنى قوله (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١].

والإتيان كناية عن التمكن منها ، وهو أيضا كناية رمزيّة عن العلم بها لأن الإتيان بأدق الأجسام من أقصى الأمكنة وأعمقها وأصلبها لا يكون إلا عن علم بكونها في ذلك المكان وعلم بوسائل استخراجها منه.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) يجوز أن تكون من كلام لقمان فهي كالمقصد من المقدمة أو كالنتيجة من الدليل ، ولذلك فصلت ولم تعطف لأن النتيجة كبدل الاشتمال يشتمل عليها القياس ولذلك جيء بالنتيجة كلية بعد الاستدلال بجزئية. وإنما لم نجعلها تعليلا لأن مقام تعليم لقمان ابنه يقتضي أن الابن جاهل بهذه الحقائق ، وشرط التعليل أن يكون مسلّما معلوما قبل العلم بالمعلّل ليصح الاستدلال به. ويجوز أن تكون معترضة بين كلام لقمان تعليما من الله للمسلمين.

واللطيف : من يعلم دقائق الأشياء ويسلك في إيصالها إلى من تصلح به مسلك الرفق ، فهو وصف مؤذن بالعلم والقدرة الكاملين ، أي يعلم ويقدر وينفذ قدرته ، وتقدم في قوله (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) في سورة الأنعام [١٠٣]. ففي تعقيب (يَأْتِ بِهَا اللهُ) بوصفه ب (اللطيف) إيماء إلى أن التمكن منها وامتلاكها بكيفية دقيقة تناسب فلق الصخرة واستخراج الخردلة منها مع سلامتهما وسلامة ما اتصل بهما من اختلال نظام صنعه. وهنا قد استوفى أصول الاعتقاد الصحيح.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] يجوز أن تكون من كلام لقمان وأن تكون معترضة من كلام الله تعالى.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧))

١٠٨

انتقل من تعليمه أصول العقيدة إلى تعليمه أصول الأعمال الصالحة فابتدأها بإقامة الصلاة ، والصلاة التوجه إلى الله بالخضوع والتسبيح والدعاء في أوقات معينة في الشريعة التي يدين بها لقمان ، والصلاة عماد الأعمال لاشتمالها على الاعتراف بطاعة الله وطلب الاهتداء للعمل الصالح. وإقامة الصلاة إدامتها والمحافظة على أدائها في أوقاتها. وتقدم في أول سورة البقرة. وشمل الأمر بالمعروف الإتيان بالأعمال الصالحة كلها على وجه الإجمال ليتطلّب بيانه في تضاعيف وصايا أبيه كما شمل النهي عن المنكر اجتناب الأعمال السيئة كذلك. والأمر بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يقتضي إتيان الآمر وانتهاءه في نفسه لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر ، ومصالح ومفاسد ، فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناس ونهيه إياهم. فهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى ، إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخير وبثّه في الناس وكفه عن الشر وزجره الناس عن ارتكابه ، ثم أعقب ذلك بأن أمره بالصبر على ما يصيبه. ووجه تعقيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملازمة الصبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يجران للقائم بهما معاداة من بعض الناس أو أذى من بعض فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوشك أن يتركهما. ولما كانت فائدة الصبر عائدة على الصابر بالأجر العظيم عدّ الصبر هنا في عداد الأعمال القاصرة على صاحبها ولم يلتفت إلى ما في تحمل أذى الناس من حسن المعاملة معهم حتى يذكر الصبر مع قوله (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [لقمان : ١٨] لأن ذلك ليس هو المقصود الأول من الأمر بالصبر.

والصبر : هو تحمل ما يحل بالمرء مما يؤلم أو يحزن. وقد تقدم في قوله تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) في سورة البقرة [٤٥].

وجملة (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) موقعها كموقع جملة (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى المذكور من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصاب. والتأكيد للاهتمام.

والعزم مصدر بمعنى : الجزم والإلزام. والعزيمة : الإرادة التي لا تردد فيها. و (عَزْمِ) مصدر بمعنى المفعول ، أي من معزوم الأمور ، أي التي عزمها الله وأوجبها.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ

١٠٩

فَخُورٍ (١٨))

انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفخر عليهم ، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعدّ نفسه كواحد منهم.

وقرأ الجمهور ولا تصاعر. وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب (وَلا تُصَعِّرْ). يقال : صاعر وصعّر ، إذا أمال عنقه إلى جانب ليعرض عن جانب آخر ، وهو مشتق من الصعر بالتحريك لداء يصيب البعير فيلوي منه عنقه فكأنه صيغ له صيغة تكلف بمعنى تكلف إظهار الصعر وهو تمثيل للاحتقار لأن مصاعرة الخد هيئة المحتقر المستخف في غالب الأحوال. قال عمرو بن حني التغلبي يخاطب بعض ملوكهم :

وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه

أقمنا له من ميله فتقوّم

والمعنى : لا تحتقر الناس فالنهي عن الإعراض عنهم احتقارا لهم لا عن خصوص مصاعرة الخد فيشمل الاحتقار بالقول والشتم وغير ذلك فهو قريب من قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] إلا أن هذا تمثيل كنائي والآخر كناية لا تمثيل فيها.

وكذلك قوله (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) تمثيل كنائي عن النهي عن التكبر والتفاخر لا عن خصوص المشي في حال المرح فيشمل الفخر عليهم بالكلام وغيره.

والمرح : فرط النشاط من فرح وازدهاء ، ويظهر ذلك في المشي تبخترا واختيالا فلذلك يسمى ذلك المشي مرحا كما في الآية ، فانتصابه على الصفة لمفعول مطلق ، أي مشيا مرحا ، وتقدم في سورة الإسراء [٣٧]. وموقع قوله (فِي الْأَرْضِ) بعد (لا تَمْشِ) مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض هو الإيماء إلى أن المشي في مكان يمشي فيه الناس كلهم قويّهم وضعيفهم ، ففي ذلك موعظة للماشي مرحا أنه مساو لسائر الناس.

وموقع (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) موقع (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] كما تقدم. والمختال : اسم فاعل من اختال بوزن الافتعال من فعل خال إذا كان ذا خيلاء ، فهو خائل. والخيلاء : الكبر والازدهاء ، فصيغة الافتعال فيه للمبالغة في الوصف فوزن المختال مختيل فلما تحرّك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا ، فقوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) مقابل قوله ولا تصاعر خدك للناس ، وقوله (فَخُورٍ) مقابل قوله (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً).

والفخور : شديد الفخر. وتقدم في قوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً)

١١٠

في سورة النساء [٣٦].

ومعنى (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أن الله لا يرضى عن أحد من المختالين الفخورين ، ولا يخطر ببال أهل الاستعمال أن يكون مفاده أن الله لا يحب مجموع المختالين الفخورين إذا اجتمعوا بناء على ما ذكره عبد القاهر من أن (كُلَ) إذا وقع في حيز النفي مؤخرا عن أداته ينصبّ النفي على الشمول ، فإن ذلك إنما هو في (كُلَ) التي يراد منها تأكيد الإحاطة لا في (كُلَ) التي يراد منها الأفراد ، والتعويل في ذلك على القرائن. على أنّا نرى ما ذكره الشيخ أمر أغلبي غير مطرد في استعمال أهل اللسان ولذلك نرى صحة الرفع والنصب في لفظ (كل) في قول أبي النجم العجلي :

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع

وقد بينت ذلك في تعليقاتي على دلائل الإعجاز.

وموقع جملة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) يجوز فيه ما مضى في جملة (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] وجملة (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] ، وجملة (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان : ١٧].

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

بعد أن بيّن له آداب حسن المعاملة مع الناس قفّاها بحسن الآداب في حالته الخاصة ، وتلك حالتا المشي والتكلم ، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه.

والقصد : الوسط العدل بين طرفين ، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال : قصد في مشيه. فمعنى (اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) : ارتكب القصد.

والغضّ : نقص قوة استعمال الشيء. يقال : غضّ بصره ، إذا خفّض نظره فلم يحدّق. وتقدم قوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) في سورة النور [٣٠]. فغض الصوت : جعله دون الجهر. وجيء ب (مِنْ) الدالة على التبعيض لإفادة أنه يغض بعضه ، أي بعض جهره ، أي ينقص من جهورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار.

وجملة (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) تعليل علل به الأمر بالغض من صوته باعتبارها متضمنة تشبيها بليغا ، أي لأن صوت الحمير أنكر الأصوات. ورفع الصوت في

١١١

الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة.

و (أَنْكَرَ) : اسم تفضيل في كون الصوت منكورا ، فهو تفضيل مشتق من الفعل المبني للمجهول ومثله سماعي وغير شاذ ، ومنه قولهم في المثل : «أشغل من ذات النّحيين» أي أشد مشغولية من المرأة التي أريدت في هذا المثل.

وإنما جمع (الْحَمِيرِ) في نظم القرآن مع أن صوت مفردا ولم يقل الحمار لأن المعرف بلام الجنس يستوي مفرده وجمعه. ولذلك يقال : إن لام الجنس إذا دخلت على جمع أبطلت منه معنى الجمعيّة. وإنما أوثر لفظ الجمع لأن كلمة الحمير أسعد بالفواصل لأن من محاسن الفواصل والأسجاع أن تجري على أحكام القوافي ، والقافية المؤسسة بالواو أو الياء لا يجوز أن يرد معها ألف تأسيس فإن الفواصل المتقدمة من قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان : ١٢] هي : حميد ، عظيم ، المصير ، خبير ، الأمور ، فخور ، الحمير. وفواصل القرآن تعتمد كثيرا على الحركات والمدود والصيغ دون تماثل الحروف وبذلك تخالف قوافي القصائد. وهذا وفاء بما وعدت به عند الكلام على قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) من ذكر ما انتهى إليه تتبعي لما أثر من حكمة لقمان غير ما في هذه السورة وقد ذكر الألوسي في «تفسيره» منها ثمانيا وعشرين حكمة وهي :

قوله لابنه : أي بني ، إن الدنيا بحر عميق ، وقد غرق فيها أناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى ، وحشوها الإيمان ، وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيا.

وقوله : من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عزوجل حافظ ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزا ، والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية.

وقوله : ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع.

وقوله : يا بني إياك والدّين فإنه ذل النهار وهمّ الليل.

وقوله : يا بني ارج الله عزوجل رجاء لا يجرّئك على معصيته تعالى ، وخف الله سبحانه خوفا لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه.

وقوله : من كذب ذهب ماء وجهه ، ومن ساء خلقه كثر غمّه ، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم.

١١٢

وقوله : يا بني حملت الجندل والحديد وكلّ شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء ، وذقت المرار فلم أذق شيئا هو أمرّ من الفقر.

يا بني لا ترسل رسولك جاهلا فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك.

يا بني ، إياك والكذب ، فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه.

يا بني ، احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا.

يا بني ، لا تأكل شبعا على شبع فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله.

يا بني ، لا تكن حلوا فتبلع ولا تكن مرّا فتلفظ.

وقوله لابنه : لا يأكل طعامك إلّا الأتقياء ، وشاور في أمرك العلماء.

وقوله : لا خير لك في أن تتعلم ما لم تعلم ولمّا تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطبا فحمل حزمة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى.

وقوله : يا بني ، إذا أردت أن تواخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره.

وقوله : لتكن كلمتك طيبة ، وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.

وقوله : يا بني ، أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بدّ لك منه.

يا بنيّ ، كن كمن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء والناس منه في راحة.

وقوله : يا بني ، امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكتّ سالم ، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك.

وأنا أقفّي عليها ما لم يذكره الألوسي. فمن ذلك ما في «الموطأ» فيما جاء في طلب العلم من كتاب «الجامع» : مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال : يا بني ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة

١١٣

بوابل السماء. وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب «الجامع» أنه بلغه أنه قيل للقمان : ما بلغ بك ما نرى ـ يريدون الفضل؟ فقال : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني.

وفي «جامع المستخرجة» للعتبي قال مالك : بلغني أن لقمان قال لابنه : يا بني ليكن أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأة صالحة. وفي «أحكام القرآن» لابن العربي عن مالك : أن لقمان قال لابنه : يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراعا يذهبون ، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت واستقبلت الآخرة ، وإن دارا تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها. وقال : ليس غنى كصحة ، ولا نعمة كطيب نفس. وقال : يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبك معهم ، وقال : يا بني ، جالس العلماء وماشهم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم. وفي «الكشاف» : أنه قال لرجل ينظر إليه : إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وأن مولاه أمره بذبح شاة وأن يأتيه بأطيب مضغتين فأتاه باللسان والقلب ، ثم أمره بذبح أخرى وأن ألق منها أخبث مضغتين ، فألقى اللسان والقلب ؛ فسأله عن ذلك ، فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا.

ودخل على داود وهو يسرد الدروع فأراد أن يسأله عما ذا يصنع ، فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها داود لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت. فقال لقمان : الصمت حكمة وقليل فاعله. وفي «تفسير ابن عطية» : قيل لقمان : أيّ الناس شرّ؟ فقال : الذي لا يبالي أن يراه الناس سيّئا أو مسيئا.

وفي «تفسير القرطبي» : كان لقمان يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى. فقيل له ، فقال : ألا أكتفي إذا كفيت. وفيه : إن الحاكم بأشدّ المنازل وكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إن يصب فبالحريّ أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة. ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا. ومن يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصب الآخرة. وفي «تفسير البيضاوي» : أن داود سأل لقمان : كيف أصبحت؟ فقال : أصبحت في يدي غيري. وفي «درة التنزيل» المنسوب لفخر الدين الرازي : قال لقمان لابنه : إن الله رضيني لك فلم يوصني بك ولم يرضك لي فأوصاك بي. وفي «الشفاء» لعياض : قال لقمان لابنه : إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة.

١١٤

وفي كتاب «آداب النكاح» لقاسم بن يأمون التليدي الأخماسي (١) : أن من وصية لقمان : يا بني إنما مثل المرأة الصالحة كمثل الدهن في الرأس يليّن العروق ويحسن الشعر ، ومثلها كمثل التاج على رأس الملك ، ومثلها كمثل اللؤلؤ والجوهر لا يدري أحد ما قيمته. ومثل المرأة السوء كمثل السّيل لا ينتهي حتى يبلغ منتهاه : إذا تكلمت أسمعت ، وإذا مشت أسرعت ، وإذا قعدت رفعت ، وإذا غضبت أسمعت. وكل داء يبرأ إلّا داء امرأة السوء.

يا بني ، لأن تساكن الأسد والأسود (٢) خير من أن تساكنها : تبكي وهي الظالمة ، وتحكم وهي الجائرة ، وتنطق وهي الجاهلة وهي أفعى بلدغها.

وفي «مجمع البيان» للطبرسي : يا بني ، سافر بسيفك وخفّك وعمامتك وخبائك وسقائك وخيوطك ومخرزك ، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك ، وكن لأصحابك موافقا إلا في معصية الله عزوجل. يا بني ، إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم ، وأكثر التبسم في وجوههم ، وكن كريما على زادك بينهم ، فإذا دعوك فأجبهم ، وإذا استعانوا بك فأعنهم ، واستعمل طول الصمت وكثرة الصلاة ، وسخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد ، وإذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم ، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك ، ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر ، ولا تجب في مشورته حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته ، فإن من لم يمحض النصيحة من استشارة سلبه الله رأيه ، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم ، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم ، واسمع لمن هو أكبر منك سنّا. وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئا فقل نعم ولا تقل (لا) فإن (لا) عيّ ولؤم ، وإذا تحيرتم في الطريق فأنزلوا ، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا ، وإذا رأيتم شخصا واحدا فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه فإن الشخص الواحد في الفلاة مريب لعله يكون عين اللصوص أو يكون هو الشيطان الذي حيّركم. واحذروا الشخصين أيضا إلا أن تروا ما لا أرى لأن العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحق منه والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء ، صلّها واسترح منها فإنها دين ، وصلّ في جماعة ولو على رأس زجّ. وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها

__________________

(١) بالمكتبة الأحمدية عدد ٢١٢٨ وطبع في فاس سنة ١٣١٧.

(٢) يريد ذكر الحيّات.

١١٥

لونا وألينها تربة وأكثرها عشبا. وإذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس ، وإذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض. وإذا ارتحلت فصلّ ركعتين ثم ودّع الأرض التي حللت بها وسلّم على أهلها فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة ، وإن استطعت أن لا تأكل طعاما حتى تبتدئ فتتصدق منه فافعل. وعليك بقراءة كتاب الله ـ لعله يعني الزبور ـ ما دمت راكبا ، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملا عملا ، وعليك بالدعاء ما دمت خاليا. وإياك والسير في أول الليل إلى آخره. وإياك ورفع الصوت في مسيرك. فقد استقصينا ما وجدنا من حكمة لقمان مما يقارب سبعين حكمة.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً).

رجوع إلى تعداد دلائل الوحدانية وما صحب ذلك من منة على الخلق ، فالكلام استئناف ابتدائي عن الكلام السابق ورجوع إلى ما سلف في أول السورة في قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) [لقمان : ١٠] فإنه بعد الاستدلال بخلق السماوات والأرض والحيوان والأمطار عاد هنا الاستدلال والامتنان بأن سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض. وقد مضى الكلام على هذا التسخير في تفسير قوله تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآيات من سورة إبراهيم [٣٢] ، وكذلك في سورة النحل [٣].

ومعنى (سَخَّرَ لَكُمْ) لأجلكم لأن من جملة ذلك التسخير ما هو منافع لنا من الأمطار والرياح ونور الشمس والقمر ومواقيت البروج والمنازل والاتجاه بها. والخطاب في (أَلَمْ تَرَوْا) يجوز أن يكون لجميع الناس مؤمنهم ومشركهم لأنه امتنان ، ويجوز أن يكون لخصوص المشركين باعتبار أنه استدلال.

والاستفهام في (أَلَمْ تَرَوْا) تقرير أو إنكار لعدم الرؤية بتنزيلهم منزلة من لم يروا آثار ذلك التسخير لعدم انتفاعهم بها في إثبات الوحدانية. والرؤية بصرية. ورؤية التسخير رؤية آثاره ودلائله. ويجوز أن تكون الرؤية علمية كذلك ، والخطاب للمشركين كما في قوله (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها).

١١٦

وإسباغ النعم : إكثارها. وأصل الإسباغ : جعل ما يلبس سابغا ، أي وافيا في الستر. ومنه قولهم : درع سابغة. ثم استعير للإكثار لأن الشيء السابغ كثير فيه ما يتخذ منه من سرد أو شقق أثواب ، ثم شاع ذلك حتى ساوى الحقيقة فقيل : سوابغ النعم.

والنعمة : المنفعة التي يقصد بها فاعلها الإحسان إلى غيره.

وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر (نِعَمَهُ) بصيغة جمع نعمة مضاف إلى ضمير الجلالة ، وفي الإضافة إلى ضمير الله تنويه بهذه النعم. وقرأ الباقون نعمة بصيغة المفرد ، ولما كان المراد الجنس استوى فيه الواحد والجمع.

والتنكير فيها للتعظيم فاستوى القراءتان في إفادة التنويه بما أسبغ الله عليهم. وانتصب (ظاهِرَةً وَباطِنَةً) على الحال على قراءة نافع ومن معه ، وعلى الصفة على قراءة البقية.

والظاهرة : الواضحة. والباطنة : الخفية وما لا يعلم إلا بدليل أو لا يعلم أصلا.

وأصل الباطنة المستقرة في باطن الشيء أي داخله ، قال تعالى : (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) [الحديد : ١٣] فكم في بدن الإنسان وأحواله من نعم يعلمها الناس أو لا يعلمها بعضهم ، أو لا يعلمها إلا العلماء ، أو لا يعلمها أهل عصر ثم تنكشف لمن بعدهم ، وكلا النوعين أصناف دينية ودنيوية.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١)).

الواو في قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) واو الحال. والمعنى : قد رأيتم أن الله سخّر لكم ما في السماوات وأنعم عليكم نعما ضافية في حال أن بعضكم يجادل في وحدانية الله ويتعامى عن دلائل وحدانيته. وجملة الحال هنا خبر مستعمل في التعجيب من حال هذا الفريق. ولك أن تجعل الواو اعتراضيّة والجملة معترضة بين جملة (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ) وبين جملة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [لقمان : ٢٥].

وقوله (وَمِنَ النَّاسِ) من الإظهار في مقام الإضمار كأنه قيل : ومنكم ، و (مِنَ) تبعيضية. والمراد بهذا الفريق : هم المتصدون لمحاجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتمويه على قومهم مثل النضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وعبد الله بن الزّبعرى.

١١٧

وشمل قوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) مراتب اكتساب العلم وهي إما : الاجتهاد والاكتساب ، أو التلقي من العالم ، أو مطالعة الكتب الصائبة. وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحج [٨].

وجملة (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) إلخ عطف على صلة (مِنَ) ، أي : من حالهم هذا وذاك ، وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة [١٧٠].

والضمير المنصوب في قوله (يَدْعُوهُمْ) عائد إلى الآباء ، أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو الآباء إلى العذاب فهم يتبعونهم إلى العذاب ولا يهتدون. و (لَوْ) وصلية ، والواو معها للحال.

والاستفهام تعجيبي من فظاعة ضلالهم وعما هم بحيث يتبعون من يدعوهم إلى النار ، وهذا ذم لهم. وهو وزان قوله في آية البقرة [١٧٠] : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً). والدعاء إلى عذاب السعير : الدعاء إلى أسبابه. والسعير تقدم في قوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) في سورة الإسراء [٩٧].

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢))

هذا مقابل قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [لقمان : ٢٠] إلى قوله : (يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [لقمان : ٢١] ، فأولئك الذين اتبعوا ما وجدوا آباءهم عليه من الشرك على غير بصيرة فوقعوا في العذاب ، وهؤلاء الذين لم يتمسكوا بدين آبائهم وأسلموا لله لما دعاهم إلى الإسلام فلم يصدّهم عن اتباع الحق إلف ولا تقديس آباء ؛ فأولئك تعلقوا بالأوهام واستمسكوا بها لإرضاء أهوائهم ، وهؤلاء استمسكوا بالحق إرضاء للدليل وأولئك أرضوا الشيطان وهؤلاء اتّبعوا رضى الله.

وإسلام الوجه إلى الله تمثيل لإفراده تعالى بالعبادة كأنه لا يقبل بوجهه على غير الله ، وقد تقدم في قوله تعالى (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) في سورة البقرة [١١٢] ، وقوله (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) في سورة آل عمران [٢٠].

وتعدية فعل (يُسْلِمْ) بحرف (إِلَى) هنا دون اللام كما في آيتي سورة البقرة [١١٢] وسورة آل عمران [٢٠] عند الزمخشري مجاز في الفعل بتشبيه نفس الإنسان بالمتاع الذي

١١٨

يدفعه صاحبه إلى آخر ويكله إليه. وحقيقته أن يعدى باللام ، أي وجهه وهو ذاته سالما لله ، أي خالصا له كما في قوله تعالى (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) في سورة آل عمران [٢٠].

والإحسان : العمل الصالح والإخلاص في العبادة. وفي الحديث : «الإحسان أن تعبد الله كأنه تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». والمعنى : ومن يسلم إسلاما لا نفاق فيه ولا شك فقد أخذ بما يعتصم به من الهويّ أو التزلزل.

وقوله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) مضى الكلام على نظيره عند قوله تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) في سورة البقرة [٢٥] ، وهو ثناء على المسلمين. وتذييل هذا بقوله (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) إيماء إلى وعدهم بلقاء الكرامة عند الله في آخر أمرهم وهو الحياة الآخرة.

والتعريف في (الْأُمُورِ) للاستغراق ، وهو تعميم يراد به أن أمور المسلمين التي هي من مشمولات عموم الأمور صائرة إلى الله وموكولة إليه فجزاؤهم بالخير مناسب لعظمة الله.

والعاقبة : الحالة الخاتمة والنهاية. و (الْأُمُورِ) : جمع أمر وهو الشأن.

وتقديم (إِلَى اللهِ) للاهتمام والتنبيه إلى أن الراجع إليه يلاقي جزاءه وافيا.

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣))

لما خلا ذمّ الذين كفروا عن الوعيد وانتقل منه إلى مدح المسلمين ووعدهم عطف عنان الكلام إلى تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتهوين كفرهم عليه تسلية له وتعريضا بقلة العبء بهم لأن مرجعهم إلى الله فيريهم الجزاء المناسب لكفرهم ، فهو تعريض لهم بالوعيد.

وأسند النهي إلى كفرهم عن أن يكون محزنا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجازا عقليا في نهي الرسول عليه الصلاة والسلام عن مداومة الفكر بالحزن لأجل كفرهم لأنه إذا قلع ذلك من نفسه انتفى إحزان كفرهم إياه. وقرأ نافع (يَحْزُنْكَ) ـ بضم التحتية وكسر الزاي ـ مضارع أحزنه إذا جعله حزينا. وقرأ البقية (يَحْزُنْكَ) ـ بفتح التحتية وضم الزاي ـ مضارع حزنه بذلك المعنى ، وهما لغتان : الأولى لغة تميم ، والثانية لغة قريش ، والأولى أقيس وكلتاهما فصحى ولغة تميم من اللغات التي نزل بها القرآن وهي لغة عليا تميم وهم بنو دارم كما

١١٩

تقدم في المقدمة السادسة. وزعم أبو زيد والزمخشري : أن المستفيض أحزن في الماضي ويحزن في المستقبل ، يريدان الشائع على ألسنة الناس ، والقراءة رواية وسنة. وتقدم في سورة يوسف [١٣] (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) وفي سورة الأنعام [٣٣] (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ).

وجملة (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) واقعة موقع التعليل للنهي ، وهي أيضا تمهيد لوعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله يتولى الانتقام منهم المدلول عليه بقوله (فَنُنَبِّئُهُمْ) مفرعا على جملة (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) كناية عن المجازاة ؛ استعمل الإنباء وأريد لازمه وهو الإظهار كما تقدم آنفا.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لجملة (فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) ، فموقع حرف (إِنَ) هنا مغن عن فاء التسبب كما في قول بشار :

إن ذاك النجاح في التبكير

و (بِذاتِ الصُّدُورِ) : هي النوايا وأعراض النفس من نحو الحقد وتدبير المكر والكفر. ومناسبته هنا أن كفر المشركين بعضه إعلان وبعضه إسرار قال تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [الملك : ١٣] ، وتقدم في قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) في سورة الأنفال [٤٣].

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤))

استئناف بياني لأن قوله (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) [لقمان : ٢٣] يثير في نفوس السامعين سؤالا عن عدم تعجيل الجزاء إليهم ، فبيّن بأن الله يمهلهم زمنا ثم يوقعهم في عذاب لا يجدون منه منجى. وهذا الاستئناف وقع معترضا بين الجمل المتعاطفة.

والتمتيع : العطاء الموقت فهو إعطاء المتاع ، أي الشيء القليل. و (قَلِيلاً) صفة لمصدر مفعول مطلق ، أي تمتيعا قليلا ، وقلته بالنسبة إلى ما أعدّ الله للمسلمين أو لقلة مدته في الدنيا بالنسبة إلى مدة الآخرة ، وتقدم عند قوله تعالى (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في الأعراف [٢٤].

والاضطرار : الإلجاء ، وهو جعل الغير ذا ضرورة ، أي : لزوم ، وتقدم عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) في سورة البقرة [١٢٦].

١٢٠