تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

والغليظ : من صفات الأجسام وهو القوي الخشن ، وأطلق على الشديد من الأحوال على وجه الاستعارة بجامع الشدة على النفس وعدم الطاقة على احتماله. وتقدم قوله (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) في سورة هود [٥٨] كما أطلق الكثير على القوي.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥))

عطف على جملة (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [لقمان : ٢١] باعتبار أن ما وجدوا عليه آباءهم هو الإشراك مع الله في الإلهية ، وإن سألهم سائل : من خلق السماوات والأرض يقولوا خلقهن الله ، وذلك تسخيف لعقولهم التي تجمع بين الإقرار لله بالخلق وبين اعتقاد إلهية غيره.

والمراد بالسماوات والأرض : ما يشمل ما فيها من المخلوقات ومن بين ذلك حجارة الأصنام ، وتقدم نظيرها في سورة العنكبوت. وعبر هنا ب (لا يَعْلَمُونَ) وفي سورة العنكبوت [٦٣] ب (لا يَعْقِلُونَ) تفننا في المخالفة بين القصتين مع اتحاد المعنى.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦))

موقع هذه الجملة من التي قبلها موقع النتيجة من الدليل في قوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) فلذلك فصلت ولم تعطف لأنها بمنزلة بدل الاشتمال من التي قبلها ، كما تقدم آنفا في قوله (يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] ؛ فإنه لما تقرر إقرارهم لله بخلق السماوات والأرض لزمهم إنتاج أن ما في السموات والأرض ملك لله ومن جملة ذلك أصنامهم. والتصريح بهذه النتيجة لقصد التهاون بهم في كفرهم بأن الله يملكهم ويملك ما في السماوات والأرض ، فهو غني عن عبادتهم محمود من غيرهم.

وضمير (هُوَ) ضمير فصل مفاده اختصاص الغنى والحمد بالله تعالى ، وهو قصر قلب ، أي ليس لآلهتهم المزعومة غنى ولا تستحق حمدا. وتقدم الكلام على الغني الحميد عند قوله (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) في أول السورة لقمان [١٢].

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧))

١٢١

تكرر فيما سبق من هذه السورة وصف الله تعالى بإحاطة العلم بجميع الأشياء ظاهرة وخفية فقال فيما حكى من وصية لقمان : (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) إلى قوله (لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] ، وقال بعد ذلك (فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [لقمان : ٢٣] فعقب ذلك بإثبات أن لعلم الله تعالى مظاهر يبلّغ بعضها إلى من اصطفاه من رسله بالوحي مما تقتضي الحكمة إبلاغه ، وأنه يستأثر بعلم ما اقتضت حكمته عدم إبلاغه ، وأنه لو شاء أن يبلغ ما في علمه لما وفّت به مخلوقاته الصالحة لتسجيل كلامه بالكتابة فضلا على الوفاء بإبلاغ ذلك بواسطة القول. وقد سلك في هذا مسلك التقريب بضرب هذا المثل ؛ وقد كان ما قصّ من أخبار الماضين موطئا لهذا فقد جرت قصة لقمان في هذه السورة كما جرت قصة أهل الكهف وذي القرنين في سورة الكهف [١٠٩] فعقبتا بقوله في آخر السورة : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) وهي مشابهة للآية التي في سورة لقمان. فهذا وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من الآيات المتفرقة.

ولما في اتصال الآية بما قبلها من الخفاء أخذ أصحاب التأويل من السلف من أصحاب ابن عباس في بيان إيقاع هذه الآية في هذا الموقع. فقيل : سبب نزولها ما ذكره الطبري وابن عطية والواحدي عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطاء بن يسار بروايات متقاربة : أن اليهود سألوا رسول الله أو أغروا قريشا بسؤاله لمّا سمعوا قول الله تعالى في شأنهم : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] فقالوا : كيف وأنت تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن سألوه : هي في علم الله قليل ، ثم أنزل الله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآيتين أو الآيات الثلاث.

وعن السدّي قالت قريش : ما أكثر كلام محمد! فنزلت : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ).

وعن قتادة قالت قريش : سيتمّ هذا الكلام لمحمد وينحسر ـ أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يقول بعده كلاما ـ. وفي رواية : سينفد هذا الكلام. وهذه يرجع بعضها إلى أن هذه الآية نزلت بالمدينة فيلزم أن يكون وضعها في هذا الموضع من السورة بتوقيف نبوي للمناسبة التي ذكرناها آنفا ، وبعضها يرجع إلى أنها مكية فيقتضي أن تكون نزلت في أثناء نزول سورة لقمان على أن توضع عقب الآيات التي نزلت قبلها.

١٢٢

و (كَلِماتُ) جمع كلمة بمعنى الكلام كما في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] أي : الكلام المنبئ عن مراد الله من بعض مخلوقاته مما يخاطب به ملائكته وغيرهم من المخلوقات والعناصر المعدودة للتكون التي يقال لها : كن فتكون ، ومن ذلك ما أنزله من الوحي إلى رسله وأنبيائه من أول أزمنة الأنبياء وما سينزله على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لو فرض إرادة الله أن يكتب كلامه كله صحفا ففرضت الأشجار كلها مقسمة أقلاما ، وفرض أن يكون البحر مدادا فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد لنفد البحر ونفدت الأقلام وما نفدت كلمات الله في نفس الأمر.

وأما قوله تعالى : وتمت كلمات (رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] فالتمام هنالك بمعنى التحقق والنفوذ ، وتقدم قوله تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) في سورة الأنفال [٧]. وقد نظمت هذه الآية بإيجاز بديع إذ ابتدئت بحرف (لَوْ) فعلم أن مضمونها أمر مفروض ، وأن ل (لَوْ) استعمالات كما حققه في «مغنى اللبيب» عن عبارة سيبويه. وقد تقدم عند قوله تعالى (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) في سورة الأنفال [٢٣].

و (مِنْ شَجَرَةٍ) بيان لما الموصولة وهو في معنى التمييز فحقه الإفراد ، ولذلك لم يقل : من أشجار. والأقلام : جمع قلم وهو العود المشقوق ليرفع به المداد ويكتب به ، أي : لو تصير كل شجرة أقلاما بمقدار ما فيها من أغصان صالحة لذلك. والأقلام هو الجمع الشائع لقلم فيرد للكثرة والقلة. و (يَمُدُّهُ) بفتح الياء التحتية وضم الميم ، أي : يزيده مدادا. والمداد ـ بكسر الميم ـ الحبر الذي يكتب به. يقال : مد الدّواة يمدها. فكان قوله (يَمُدُّهُ) متضمنا فرض أن يكون البحر مدادا ثم يزاد فيه إذا نشف مداده سبعة أبحر ، ولو قيل : يمده ، بضم الميم من أمد لفات هذا الإيجاز.

والسبعة : تستعمل في الكناية عن الكثرة كثيرا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والكافر يأكل في سبعة أمعاء» فليس لهذا العدد مفهوم ، أي والبحر يمده أبحر كثيرة.

ومعنى (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ما انتهت ، أي : فكيف تحسب اليهود ما في التوراة هو منتهى كلمات الله ، أو كيف يحسب المشركون أن ما نزل من القرآن أوشك أن يكون انتهاء القرآن ، فيكون المثل على هذا الوجه الآخر واردا مورد المبالغة في كثرة ما سينزل من القرآن إغاظة للمشركين ، فتكون (كَلِماتُ اللهِ) هي القرآن ، لأن المشركين لا يعرفون كلمات الله التي لا يحاط بها.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تذييل ، فهو لعزته لا يغلبه الذين يزعمون عدم الحاجة

١٢٣

إلى القرآن ينتظرون انفحام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو لحكمته لا تنحصر كلماته لأن الحكمة الحق لا نهاية لها.

وقرأ الجمهور برفع (وَالْبَحْرُ) على أن الجملة الاسمية في موضع الحال والواو واو الحال وهي حال من (ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ) ، أي : تلك الأشجار كائنة في حال كون البحر مدادا لها ، والواو يحصل بها من الربط والاكتفاء عن الضمير لدلالتها على المقارنة. وقرأ أبو عمرو ويعقوب (وَالْبَحْرُ) ـ بالنصب ـ عطفا على اسم (إنّ).

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))

استئناف بياني متعلق بقوله (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) [لقمان : ٢٣] لأنه كلما ذكر أمر البعث هجس في نفوس المشركين استحالة إعادة الأجسام بعد اضمحلالها فيكثر في القرآن تعقيب ذكر البعث بالإشارة إلى إمكانه وتقريبه. وكانوا أيضا يقولون : إن الله خلقنا أطوارا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة وكيف يحيي جميع الأمم والأجيال التي تضمنتها الأرض في القرون الكثيرة ، وكان أبيّ بن خلف وأبو الأسد ـ أو أبو الأسدين ـ ونبيه ، ومنبّه ، ابنا الحجاج من بني سهم ، يقولون ذلك وربما أسرّ به بعضهم. وضميرا المخاطبين مراد بهما جميع الخلق فهما بمنزلة الجنس ، أي ما خلق جميع الناس أول مرة ولا بعثهم ، أي خلقهم ثاني مرة إلا كخلق نفس واحدة لأن خلق نفس واحدة هذا الخلق العجيب دال على تمام قدرة الخالق تعالى فإذا كان كامل القدرة استوى في جانب قدرته القليل والكثير والبدء والإعادة.

وفي قوله (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد مجابهتهم بالاستدلال المفحم.

وفي قوله (كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) حذف مضاف دل عليه (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ). والتقدير : إلا كخلق وبعث نفس واحدة. وذلك إيجاز كقول النابغة :

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل

التقدير : على مخافة وعل. والمقصود : إن الخلق الثاني كالخلق الأول في جانب القدرة.

وجملة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) : إما واقعة موقع التعليل لكمال القدرة على ذلك الخلق العجيب استدلالا بإحاطة علمه تعالى بالأشياء والأسباب وتفاصيلها وجزئياتها ومن

١٢٤

شأن العالم أن يتصرف في المعلومات كما يشاء لأن العجز عن إيجاد بعض ما تتوجه إليه الإرادة إنما يتأتى من خفاء السبب الموصل إلى إيجاده ، وإذ قد كان المشركون أو عقلاؤهم يسلمون أن الله يعلم كل شيء جعل تسليمهم ذلك وسيلة إلى إقناعهم بقدرته تعالى على كل شيء ، وإما واقعة موقع الاستئناف البياني لما ينشأ عن الإخبار بأن بعثهم كنفس من تعجب فريق ممن أسروا إنكار البعث في نفوسهم الذين أومأ إليهم قوله آنفا : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [لقمان : ٢٣] ، ولأجل هذا لم يقل : إن الله عليم قدير.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩))

استدلال على ما تضمنته الآية قبلها من كون الخلق الثاني وهو البعث في متناول قدرة الله تعالى بأنه قادر على تغيير أحوال ما هو أعظم حالا من الإنسان ، وذلك بتغيير أحوال الأرض وأفقها بين ليل ونهار في كل يوم وليلة تغييرا يشبه طروّ الموت على الحياة في دخول الليل في النهار ، وطروّ الحياة على الموت في دخول النهار على الليل ، وبأنه قادر على أعظم من ذلك بما سخره من سير الشمس والقمر.

فهذا الاستدلال على إمكان البعث بقياس التمثيل بإمكان ما هو أعظم منه من شئون المخلوقات بعد أن استدل عليه بالقياس الكلي الذي اقتضاه قوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان : ٢٨] من إحاطة العلم الإلهي بالمعلومات المقتضي إحاطة قدرته بالممكنات لأنها جزئيات المعلومات وفرع عنها. والخطاب لغير معين ، والمقصود به المشركون بقرينة (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). والرؤية علمية ، والاستفهام لإنكار عدم الرؤية بتنزيل العالمين منزلة غير عالمين لعدم انتفاعهم بعلمهم.

والإيلاج : الإدخال. وهو هنا تمثيل لتعاقب الظلمة والضياء بولوج أحدهما في الآخر كقوله (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧]. وتقدم الكلام على نظيره في قوله (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أول سورة آل عمران [٢٧] ، وقوله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الآية في سورة الحج [٦١] مع اختلاف الغرضين.

والابتداء بالليل لأن أمره أعجب كيف تغشى ظلمته تلك الأنوار النهارية ، والجمع بين إيلاج الليل وإيلاج النهار لتشخيص تمام القدرة بحيث لا تلازم عملا متماثلا. والكلام على تسخير الشمس والقمر مضى في سورة الأعراف.

١٢٥

وتنوين (كُلٌ) هو المسمى تنوين العوض عن المضاف إليه ، والتقدير : كلّ من الشمس والقمر يجري إلى أجل.

والجري : المشي السريع ؛ استعير لانتقال الشمس في فلكها وانتقال الأرض حول الشمس وانتقال القمر حول الأرض ، تشبيها بالمشي السريع لأجل شسوع المسافات التي تقطع في خلال ذلك.

وزيادة قوله (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) للإشارة إلى أن لهذا النظام الشمسي أمدا يعلمه الله فإذا انتهى ذلك الأمد بطل ذلك التحرك والتنقل ، وهو الوقت الذي يؤذن بانقراض العالم ؛ فهذا تذكير بوقت البعث. فيجوز أن يكون (إِلى أَجَلٍ) ظرفا لغوا متعلقا بفعل (يَجْرِي) ، أي : ينتهي جريه ، أي سيره عند أجل معيّن عند الله لانتهاء سيرهما. ويجوز أن يكون (إِلى أَجَلٍ) متعلقا بفعل (سَخَّرَ) أي : جعل نظام تسخير الشمس والقمر منتهيا عند أجل مقدّر.

وحرف (إِلى) على التقديرين للانتهاء. وليست (إِلى) بمعنى اللام عند صاحب «الكشاف» هنا خلافا لابن مالك وابن هشام ، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) في سورة فاطر [١٣].

و (أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عطف على (أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) ، فهو داخل في الاستفهام الإنكاري بتنزيل العالم منزلة غيره لعدم جريه على موجب العلم ، فهم يعلمون أن الله خبير بما يعملون ولا يجرون على ما يقتضيه هذا العلم في شيء من أحوالهم.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠))

كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة موجه إلى غير معين ، والمقصود به المشركون بقرينة قوله وأن ما تدعون (مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) بتاء الخطاب في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم. والمشار إليه هو المذكور آنفا وهو الإيلاج والتسخير. وموقع هذه الجملة موقع النتيجة من الدليل فلها حكم بدل الاشتمال ولذلك فصلت ولم تعطف فإنهم معترفون بأن الله هو فاعل ذلك فلزمهم الدليل ونتيجته.

١٢٦

والمعنى : أن إيلاج الليل في النهار وعكسه وتسخير الشمس والقمر مسبب عن انفراد الله تعالى بالإلهية ، فالباء للسببية ، وهو ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة. وضمير الفصل مفيد للاختصاص ، أي : هو الحق لا أصنامكم ولا غيرها مما يدّعى إلهية غيره تعالى.

و (الْحَقُ) : هنا بمعنى الثابت ، ويفهم أن المراد حقية ثبوت إلهيته بقرينة السياق ولمقابلته بقوله وأن ما تدعون (مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) ، والمعنى : لما كان ذلك الصنع البديع مسببا عن انفراد الله بالإلهية كان ذلك أيضا دليلا على انفراد الله بالإلهية للتلازم بين السبب والمسبب. والتعريف في (الْحَقُ) و (الْباطِلُ) تعريف الجنس. وإنما لم يؤت بضمير الفصل في الشق الثاني لأن ما يدعونه من دون الله من أصنامهم يشترك معها في أنه باطل.

وذكر ضمير الفصل في نظيره من سورة الحج [٧٣] لاقتضاء المقام ذلك كما تقدم.

والظاهر أنا إذا جعلنا الباء في (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) باء السببية أن يكون قوله وأن ما تدعون (مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) عطفا على الخبر وهو مجموع (بِأَنَّ اللهَ). فالتقدير : ذلك أن ما تدعون من دونه الباطل. ويقدر حرف جر مناسب للمعنى حذف قبل (أَنَ) وهو حرف (على) أي : ذلك دال. وهذا كما قدر حرف (عن) في قوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء : ١٢٧] ولا يكون عطفا على مدخول باء السببية إذ ليس لبطلان آلهتهم أثر في إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر ، أو تقدر لام العلة ، أي ذلك ، لأن ما تدعونه باطل ؛ فلذلك لم يكن لها حظ في إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر باعتراف المشركين. وقوله (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) واقع موقع الفذلكة لما تقدم من دلالة إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر لأنه إذا استقر أنّ ما ذكر دال على أن الله هو الحق بالإلهية ، ودال على أن ما يدعونه باطل ، ثبت أنه العلي الكبير دون أصنامهم.

وقد اجتلب ضمير الفصل هنا للدلالة على الاختصاص وسلب العلو والعظمة عن أصنامهم.

والأحسن أن نجعل الباء للملابسة أو المصاحبة وهي ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة ، فإن شأن الباء التي للملابسة أن تكون ظرفا مستقرا بل قال الرضيّ : إنها لا تكون إلّا كذلك ، أي أنها لا تتعلق إلا بنحو الخبر أو الحال كما قال :

وما لي بحمد الله لحم ولا دم

أي : حالة كوني ملابسا حمد الله ، أي : غير ساخط من قضائه ، ويقال : أنت بخير النظرين ، أي : مستقر. فالتقدير : ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير ملابس لحقيّة إلهية

١٢٧

الله تعالى ، ويكون المعطوفان معطوفين على المجرور بالباء ، أي ملابس لكون الله إلها حقا ، ولكون ما تدعون من دونه باطل الإلهية ولكون الله هو العلي الكبير. والملابسة المفادة بالباء هي ملابسة الدليل للمدلول وبذلك يستقيم النظم بدون تكلف ، ويزداد وقوع جملة (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) إلى آخرها في موقع النتيجة وضوحا.

وضمير الفصل في قوله (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) للاختصاص كما تقدم في قوله: (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [لقمان : ٢٦].

و (الْعَلِيُ) : صفة مشتقة من العلوّ المعنويّ المجازي وهو القدسية والشرف.

و (الْكَبِيرُ) : وصف مشتق من الكبر المجازي وهو عظمة الشأن. وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحج [٦٣] مع زيادة ضمير الفصل في قوله وأن ما تدعون (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ).

[٣١ ـ ٣٢] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))

استئناف جاء على سنن الاستئنافين اللذين قبله في قوله (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [لقمان : ٢٠] وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) [لقمان : ٢٩] ، وجيء بها غير متعاطفة لئلا يتوهم السامع أن العطف على ما تخلل بينها ، وجاء هذا الاستئناف الثالث دليلا ثالثا على عظيم حكمة الله في نظام هذا العالم وتوفيق البشر للانتفاع بما هيّأه الله لانتفاعهم به. فلما أتى الاستئنافان الأولان على دلائل صنع الله في السماوات والأرض جاء في هذا الثالث دليل على بديع صنع الله بخلق البحر وتيسير الانتفاع به في إقامة نظام المجتمع البشري. وتخلص منه إلى اتخاذ فريق من الناس موجبات الشكر دواعي كفر.

فكان خلق البحر على هذه الصفة العظيمة ميسرا للانتفاع بالأسفار فيه حين لا تغني طرق البر في التنقل غناء فجعله قابلا لحمل المراكب العظيمة ، وألهم الإنسان لصنع تلك المراكب على كيفية تحفظها من الغرق في عباب البحر ، وعصمهم من توالي الرياح والموج في أسفارهم ، وهداهم إلى الحيلة في مصانعتها إذا طرأت حتى تنجلي ، ولذلك وصف هذا الجري بملابسة نعمة الله فإن الناس كلما مخرت بهم الفلك في البحر كانوا

١٢٨

ملابسين لنعمة الله عليهم بالسلامة إلا في أحوال نادرة ، وقد سميت هذه النعمة أمرا في قوله (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) في سورة الحج [٦٥] ، أي : بتقديره ونظام خلقه.

وتقدم تفصيله في قوله (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) في سورة العنكبوت [٦٥] ، وفي قوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآيات من سورة يونس [٢٢] وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) في سورة الحج [٦٥].

ويتعلق (لِيُرِيَكُمْ) ب (تَجْرِي) أي : تجري في البحر جريا ، علة خلقه أن يريكم الله بعض آياته ، أي : آياته لكم فلم يذكر متعلق الآيات لظهوره من قوله (لِيُرِيَكُمْ) وجري الفلك في البحر آية من آيات القدرة في بديع الصنع أن خلق ماء البحر بنظام ، وخلق الخشب بنظام ، وجعل لعقول الناس نظاما فحصل من ذلك كله إمكان سير الفلك فوق عباب البحر. والمعنى : أن جري السفن فيه حكم كثيرة مقصودة من تسخيره ، منها أن يكون آية للناس على وجود الصانع ووحدانيته وعلمه وقدرته. وليس يلزم من لام التعليل انحصار الغرض من المعلّل في مدخولها لأن العلل جزئية لا كلية.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لها موقع التعليل لجملة (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ). ولها موقع الاستئناف البياني إذ يخطر ببال السامع أن يسأل : كيف لم يهتد المشركون بهذه الآيات؟ فأفيد أن الذي ينتفع بدلالتها على مدلولها هو (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ، ثناء على هذا الفريق صريحا ، وتعريضا بالذين لم ينتفعوا بدلالتها. واقتران الجملة بحرف (أَنَ) لأنه يفيد في مثل هذا المقام معنى التعليل والتسبب. وجعل ذلك عدة آيات لأن في ذلك دلائل كثيرة ، أي : الذين لا يفارقهم الوصفان.

والصبّار : مبالغة في الموصوف بالصبر ، والشّكور كذلك ، أي : الذين لا يفارقهم الوصفان. وهذان وصفان للمؤمنين الموحّدين في الصبر للضراء والشكر للسراء إذ يرجون بهما رضى الله تعالى الذي لا يتوكلون إلا عليه في كشف الضر والزيادة من الخير. وقد تخلقوا بذلك بما سمعوا من الترغيب في الوصفين والتحذير من ضديهما قال : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة : ١٧٧] ، وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧] فهم بين رجاء الثواب وخوف العقاب لأنهم آمنوا بالحياة الخالدة ذات الجزاء وعلموا أن مصيرهم إلى الله الذي أمر ونهى ، فصارا لهم خلقا تطبعوا عليه فلم يفارقاهم البتة أو إلا نادرا ؛ فأما المشركون فنظرهم قاصر على الحياة الحاضرة فهم أسراء العالم الحسيّ فإذا أصابهم ضر ضجروا وإذا أصابهم نفع بطروا ، فهم أخلياء من الصبر والشكر ، فلذلك كان

١٢٩

قوله (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) كناية رمزية عن المؤمنين وتعريضا رمزيا بالمشركين. ووجه إيثار خلقي الصبر والشكر هنا للكناية بهما ، من بين شعب الإيمان ، أنهما أنسب بمقام السير في البحر إذ راكب البحر بين خطر وسلامة وهما مظهر الصبر والشكر ، كما تقدم في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) الآية في سورة يونس [٢٢].

وفي قوله (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) حسن التخلص إلى التفصيل الذي عقبه في قوله (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) الآية ، فعطف على آيات سير الفلك إشارة إلى أن الناس يذكرون الله عند تلك الآيات عند الاضطرار ، وغفلتهم عنها في حال السلامة ، وهو ما تقدم مثله في قوله في سورة العنكبوت [٦٥] : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) وقوله في سورة يونس [٢٢] : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) الآيات.

والغشيان : مستعار للمجيء المفاجئ لأنه يشبه التغطية ، وتقدم في قوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) في سورة الأعراف [٥٤].

والظّلل : بضم الظاء وفتح اللام : جمع ظلّة بالضم وهي : ما أظلّ من سحاب.

والفاء في قوله (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) تدلّ على مقدر كأنه قيل : فلما نجاهم انقسموا فمنهم مقتصد ومنهم غيره كما سيأتي. وجعل ابن مالك الفاء داخلة على جواب لما أي رابطة للجواب ومخالفوه يمنعون اقتران جواب (فَلَمَّا) بالفاء كما في «مغني اللبيب».

والمقتصد : الفاعل للقصد وهو التوسط بين طرفين ، والمقام دليل على أن المراد الاقتصاد في الكفر لوقوع تذييله بقوله (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) ولقوله في نظيره في سورة العنكبوت [٦٥] (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) ، وقد يطلق المقتصد على الذي يتوسط حاله بين الصلاح وضده. كما قال تعالى : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) [المائدة : ٦٦].

والجاحد الكفور : هو المفرط في الكفر والجحد. والجحود : الإنكار والنفي. وتقدم عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) في سورة الأنعام [٣٣]. وعلم أن هنالك قسما ثالثا وهو الموقن بالآيات الشاكر للنعمة وأولئك هم المؤمنون. قال في سورة فاطر [٣٢] (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) ، وهذا الاقتصار

١٣٠

كقول جرير :

كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم

من العبيد وثلث من مواليها

أي : والثلث الآخر من أنفسهم.

والختّار : الشديد الختر ، والختر : أشدّ الغدر.

وجملة (وَما يَجْحَدُ) إلى آخرها تذييل لأنها تعم كل جاحد سواء من جحد آية سير الفلك وهول البحر ويجحد نعمة الله عليه بالنجاة ومن يجحد غير ذلك من آيات الله ونعمه. والمعنى : ومنهم جاحد بآياتنا. وفي الانتقال من الغيبة إلى التكلم في قوله (بِآياتِنا) التفات.

والباء في (بِآياتِنا) لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول مثل قوله (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] ، وقول النابغة :

لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا

وقوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩].

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣))

إن لم يكن (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطابا خاصا بالمشركين فهو عام لجميع الناس كما تقرر في أصول الفقه ، فيعم المؤمن والمشرك والمعطل في ذلك الوقت وفي سائر الأزمان إذ الجميع مأمورون بتقوى الله وأن الخطوات الموصلة إلى التقوى متفاوتة على حسب تفاوت بعد السائرين عنها ، وقد كان فيما سبق من السورة حظوظ للمؤمنين وحظوظ للمشركين فلا يبعد أن تعقّب بما يصلح لكلا الفريقين ، وإن كان الخطاب خاصا بالمشركين جريا على ما روي عن ابن عباس أن (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لأهل مكة ، فالمراد بالتقوى : الإقلاع عن الشرك.

وموقع هذه الآية بعد ما تقدمها من الآيات موقع مقصد الخطبة بعد مقدماتها إذ كانت المقدمات الماضية قد هيّأت النفوس إلى قبول الهداية والتأثر بالموعظة الحسنة ، وإن لاصطياد الحكماء فرصا يحرصون على عدم إضاعتها ، وأحسن مثلها قول الحريري في

١٣١

«المقامة الحادية عشرة» : «فلما ألحدوا الميت ، وفات قول ليت ، أشرف شيخ من رباوة ، متحضر بهراوة ، فقال : لمثل هذا فليعمل العاملون ، فاذكروا أيها الغافلون ، وشمروا أيها المقصرون» إلخ ... فأما القلوب القاسية ، والنفوس المتعاصية ، فلن تأسوها آسية. ولاعتبار هذا الموقع جعلت الجملة استئنافا لأنها بمنزلة الفذلكة والنتيجة.

والتقوى تبتدئ من الاعتراف بوجود الخالق ووحدانيته وتصديق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنتهي إلى اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات في الظاهر والباطن في سائر الأحوال. وتقدم تفصيلها عند قوله تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) في سورة البقرة [٢] وتقدم نظير هذا في سورة الحج [٣٢].

وخشية اليوم : الخوف من أهوال ما يقع فيه إذ الزمان لا يخشى لذاته ، فانتصب (يَوْماً) على المفعول به. والأمر بخشيته تتضمن وقوعه فهو كناية عن إثبات البعث وذلك حظ المشركين منه الذين لا يؤمنون به حتى صار سمة عليهم قال تعالى (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [الفرقان : ٢١].

وجملة (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) إلخ صفة يوم وحذف منها العائد المجرور ب (في) توسعا بمعاملته معاملة العائد المنصوب كقوله (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) في سورة البقرة [٤٨].

وجزى إذا عدي ب (عَنْ) فهو بمعنى قضى عنه ودفع عنه ، ولذلك يقال للمتقاضي : المتجازي.

وجملة (وَلا مَوْلُودٌ) إلخ عطف على الصفة و (مَوْلُودٌ) مبتدأ. و (هُوَ) ضمير فصل. و (جازٍ) خبر المبتدأ.

وذكر الوالد والولد هنا لأنهما أشد محبة وحمية من غيرهم فيعلم أن غيرهما أولى بهذا النفي ، قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) الآية [عبس : ٣٤ ـ ٣٥].

وابتدئ بالوالد لأنه أشد شفقة على ابنه فلا يجد له مخلصا من سوء إلا فعله. ووجه اختيار هذه الطريقة في إفادة عموم النفي هنا دون طريقة قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) في سورة البقرة [١٢٣] ، أن هذه الآية نزلت بمكة وأهلها يومئذ خليط من مسلمين وكافرين ، وربما كان الأب مسلما والولد كافرا وربما كان

١٣٢

العكس ، وقد يتوهم بعض الكافرين حين تداخلهم الظنون في مصيرهم بعد الموت أنه إذا ظهر صدق وعيد القرآن إياهم فإن من له أب مسلم أو ابن مسلم يدفع عنه هنالك بما يدلّ به على ربّ هذا الدين ، وقد كان قارا في نفوس العرب التعويل على المولى والنصير تعويلا على أن الحمية والأنفة تدفعهم إلى الدفاع عنهم في ذلك الجمع وإن كانوا من قبل مختلفين لهم لضيق عطن أفهامهم يقيسون الأمور على معتادهم. وهذا أيضا وجه الجمع بين نفي جزاء الوالد عن ولده وبين نفي جزاء الوالد عن والده ليشمل الفريقين في الحالتين فلا يتوهم أن أحد الفريقين أرجى في المقصود.

ثم أوثرت جملة (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) بطرق من التوكيد لم تشتمل على مثلها جملة (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) ؛ فإنها نظمت جملة اسمية ، ووسّط فيها ضمير الفصل ، وجعل النفي فيها منصبّا إلى الجنس. ونكتة هذا الإيثار مبالغة تحقيق عدم جزء هذا الفريق عن الآخر إذ كان معظم المؤمنين من الأبناء والشباب ، وكان آباؤهم وأمهاتهم في الغالب على الشرك مثل أبي قحافة والد أبي بكر ، وأبي طالب والد علي ، وأم سعد بن أبي وقاص ، وأم أسماء بنت أبي بكر ، فأريد حسم أطماع آبائهم وما عسى أن يكون من أطماعهم أن ينفعوا آباءهم في الآخرة بشيء. وعبر فيها ب (مَوْلُودٌ) دون (ولد) لإشعار (مَوْلُودٌ) بالمعنى الاشتقاقي دون (ولد) الذي هو اسم بمنزلة الجوامد لقصد التنبيه على أن تلك الصلة الرقيقة لا تخول صاحبها التعرض لنفع أبيه المشرك في الآخرة وفاء له بما تومئ إليه المولودية من تجشّم المشقة من تربيته ، فلعله يتجشم الإلحاح في الجزاء عنه في الآخرة حسما لطمعه في الجزاء عنه ، فهذا تعكيس للترقيق الدنيوي في قوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٤] وقوله : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥].

وجملة (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) علة لجملتي (اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً). ووعد الله : هو البعث ، قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ : ٢٩ ـ ٣٠].

وأكد الخبر ب (إِنَ) مراعاة لمنكري البعث ، وإذ قد كانت شبهتهم في إنكاره مشاهدة الناس يموتون ويخلفهم أجيال آخرون ولم يرجع أحد ممن مات منهم (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] وقالوا : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام : ٢٩].

١٣٣

فرع على هذا التأكيد إبطال شبهتهم بقوله : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ، أي لا تغرنّكم حالة الحياة الدنيا بأن تتوهموا الباطل حقا والضرّ نفعا ، فإسناد التغرير إلى الحياة الدنيا مجاز عقلي لأن الدنيا ظرف الغرور أو شبهته ، وفاعل التغرير حقيقة هم الذين يضلّونهم بالأقيسة الباطلة فيشبهون عليهم إبطاء الشيء باستحالته فذكرت هنا وسيلة التغرير وشبهته ثم ذكر بعده الفاعل الحقيقي للتغرير وهو الغرور. و (الْغَرُورُ) ـ بفتح الغين ـ : من يكثر منه التغرير ، والمراد به الشيطان بوسوسته وما يليه في نفوس دعاة الضلالة من شبه التمويه للباطل في صورة وما يلقيه في نفوس أتباعهم من قبول تغريرهم.

وعطف (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) لأنه أدخل في تحذيرهم ممن يلقون إليهم الشبه أو من أوهام أنفسهم التي تخيل لهم الباطل حقا ليهموا آراءهم. وإذا أريد بالغرور الشيطان أو ما يشمله فذلك أشد في التحذير لما تقرر من عداوة الشيطان للإنسان ، كما قال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] وقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦] ، ففي التحذير شوب من التنفير.

والباء في قوله (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) هي كالباء في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦]. وقرر في «الكشاف» في سورة الانفطار معنى الباء بما يقتضي أنها للسببية ، وبالضرورة يكون السبب شأنا من شئون الله يناسب المقام لا ذات الله تعالى. والذي يناسب هنا أن يكون النهي عن الاغترار بما يسوّله الغرور للمشركين كتوهم أن الأصنام شفعاء لهم عند الله في الدنيا واقتناعهم بأنه إذا ثبت البعث على احتمال مرجوح عندهم شفعت لهم يومئذ أصنامهم ، أو يغرّهم بأن الله لو أراد البعث كما يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعث آباءهم وهم ينظرون ، أو أن يغرهم بأن الله لو أراد بعث الناس لعجّل لهم ذلك وهو ما حكى الله عنهم : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] فذلك كله غرور لهم مسبب بشئون الله تعالى. ففي هذا ما يوضح معنى الباء في قوله تعالى : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). وقد جاء مثله في سورة الحديد [١٤]. وهذا الاستعمال في تعدية فعل الغرور بالباء قريب من تعديته ب (من) الابتدائية في قول امرئ القيس :

أغرّك مني أن حبّك قاتلي

أي : لا يغرنّك من معاملتي معك أن حبك قاتلي.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي

١٣٤

نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

كان من جملة غرورهم في نفي البعث أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقته أمارة على أنه غير واقع. قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] وقال : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ* يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٧ ، ١٨] ، فلما جرى في الآيات قبلها ذكر يوم القيامة أعقبت بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله.

فجملة (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) مستأنفة استئنافا بيانيا لوقوعها جوابا عن سؤال مقدّر في نفوس الناس. والجمل الأربع التي بعدها إدماج لجمع نظائرها تعليما للأمة. وقال الواحدي والبغوي : إن رجلا من محارب خصفة من أهل البادية سماه في «الكشاف» الحارث بن عمرو ووقع في «تفسير القرطبي» وفي «أسباب النزول» للواحدي تسميته الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : متى الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وتركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وما ذا أكسب غدا؟ وبأي أرض أموت؟ ، فنزلت هذه الآية ، ولا يدرى سند هذا. ونسب إلى عكرمة ومقاتل ، ولو صح لم يكن منافيا لاعتبار هذه الجملة استئنافا بيانيا فإنه مقتضى السياق.

وقد أفاد التأكيد بحرف (إِنَ) تحقيق علم الله تعالى بوقت الساعة ، وذلك يتضمن تأكيد وقوعها. وفي كلمة (عِنْدَهُ) إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم لأن العندية شأنها الاستئثار. وتقديم عند وهو ظرف مسند على المسند إليه يفيد التخصيص بالقرينة الدالة على أنه ليس مراد به مجرد التقوي.

وجملة (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) عطف على جملة الخبر. والتقدير : وإن الله ينزل الغيث ، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث. والمقصود أيضا عنده علم وقت نزول الغيث وليس المقصود مجرد الإخبار بأنه ينزل الغيث لأن ذلك ليس مما ينكرونه ولكن نظمت الجملة بأسلوب الفعل المضارع ليحصل مع الدلالة على الاستئثار بالعلم به الامتنان بذلك المعلوم الذي هو نعمة.

وفي اختيار الفعل المضارع إفادة أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض. ولا التفات إلى من قدروا : (يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) ، بتقدير (أن) المصدرية على طريقة قول طرفة :

١٣٥

ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى

للبون بين المقامين وتفاوت الدرجتين في البلاغة. وإذ قد جاء هذا نسقا في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلا خبرا عن مسند إليه مقدم مفيدا للاختصاص بالقرينة ؛ فالمعنى : وينفرد بعلم وقت نزول الغيث من قرب وبعد وضبط وقت.

وعطف عليه (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أي : ينفرد بعلم جميع أطواره من نطفة وعلقة ومضغة ثم من كونه ذكرا أو أنثى وإبان وضعه بالتدقيق. وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال. والمعنى : ينفرد بعلم جميع تلك الأطوار التي لا يعلمها الناس لأنه عطف على ما قصد منه الحصر فكان المسند الفعلي المتأخر عن المسند إليه مفيدا للاختصاص بالقرينة كما قلنا في قوله تعالى : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ).

وأما قوله (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) فقد نسج على منوال آخر من النظم فجعل سداه نفي علم أيّة نفس بأخص أحوالها وهو حال اكتسابها القريب منها في اليوم الموالي يوم تأملها ونظرها ، وكذلك مكان انقضاء حياتها للنداء عليهم بقلة علمهم ؛ فإذا كانوا بهذه المثابة في قلة العلم فكيف يتطلعون إلى علم أعظم حوادث هذا العالم وهو حادث فنائه وانقراضه واعتياضه بعالم الخلود. وهذا النفي للدراية بهذين الأمرين عن كل نفس فيه كناية عن إثبات العلم بما تكسب كل نفس والعلم بأي أرض تموت فيها كل نفس إلى الله تعالى ، فحصلت إفادة اختصاص الله تعالى بهذين العلمين فكانا في ضميمة ما انتظم معهما مما تقدمهما.

وعبر في جانب نفي معرفة الناس بفعل الدراية لأن الدراية علم فيه معالجة للاطلاع على المعلوم ولذلك لا يعبر بالدراية عن علم الله تعالى فلا يقال : الله يدري كذا ، فيفيد : انتفاء علم الناس بعد الحرص على علمه. والمعنى : لا يعلم ذلك إلا الله تعالى بقرينة مقابلتهما بقوله (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ). وقد علق فعل الدراية عن العمل في مفعولين بوقوع الاستفهامين بعدهما ، أي ما تدري هذا السؤال ، أي جوابه. وقد حصل إفادة اختصاص الله تعالى بعلم هذه الأمور الخمسة بأفانين بديعة من أفانين الإيجاز البالغ حد الإعجاز.

ولقبت هذه الخمسة في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمفاتح الغيب وفسر بها قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩]. ففي «صحيح البخاري» من حديث ابن عمر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفاتح الغيب خمس» ثم قرأ : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)

١٣٦

الآية ، ومن حديث أبي هريرة : «... في خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة جوابا عن سؤال جبريل : متى الساعة؟ ...».

ومعنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة : أنها هي الأمور المغيّبة المتعلقة بأحوال الناس في هذا العالم وأن التعبير عنها بالمفاتح أنها تكون مجهولة للناس فإذا وقعت فكأنّ وقوعها فتح لما كان مغلقا وأما بقية أحوال الناس فخفاؤها عنهم متفاوت ويمكن لبعضهم تعيينها مثل تعيين يوم كذا للزفاف ويوم كذا للغزو وهكذا مواقيت العبادات والأعياد ، وكذلك مقارنات الأزمنة مثل : يوم كذا مدخل الربيع ؛ فلا تجد مغيبات لا قبل لأحد بمعرفة وقوعها من أحوال الناس في هذا العالم غير هذه الخمسة فأما في العوالم الأخرى وفي الحياة الآخرة فالمغيبات عن علم الناس كثيرة وليست لها مفاتح علم في هذا العالم.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) مستأنفة ابتدائية واقعة موقع النتيجة لما تضمنه الكلام السابق من إبطال شبهة المشركين بقوله تعالى : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [لقمان : ٣٣] كموقع قوله في قصة [لقمان : ١٦] : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) عقب قوله : (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) الآية [لقمان : ١٦].

والمعنى : أن الله عليم بمدى وعده خبير بأحوالكم مما جمعه قوله (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) إلخ ولذا جمع بين الصفتين : صفة (عَلِيمٌ) وصفة (خَبِيرٌ) لأن الثانية أخص.

١٣٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٢ ـ سورة السجدة

أشهر أسماء هذه السورة هو سورة السجدة ، وهو أخصر أسمائها ، وهو المكتوب في السطر المجعول لاسم السورة من المصاحف المتداولة. وبهذا الاسم ترجم لها الترمذي في «جامعه» وذلك بإضافة كلمة سورة إلى كلمة السجدة. ولا بد من تقدير كلمة (الم) محذوفة للاختصار إذ لا يكفي مجرد إضافة سورة إلى السجدة في تعريف هذه السورة ، فإنه لا تكون سجدة من سجود القرآن إلا في سورة من السور.

وتسمى أيضا (الم تَنْزِيلُ) ؛ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله : «أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا ينام حتى يقرأ (الم* تَنْزِيلُ) [السجدة : ١ ، ٢] و (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك : ١].

وتسمى الم تنزيل السجدة. وفي «صحيح البخاري» عن أبي هريرة : «كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر الم تنزيل السجدة و (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الإنسان : ١]. قال شارحو «صحيح البخاري» ضبط اللام من كلمة (تَنْزِيلُ) بضمة على الحكاية ، وأما لفظ السجدة في هذا الحديث فقال ابن حجر : هو بالنصب. وقال العيني والقسطلاني بالنصب على أنه عطف بيان ـ يعني أنه بيان للفظ (الم تَنْزِيلُ) ـ ، وهذا بعيد ، لأن لفظ السجدة ليس اسما لهذه السورة إلا بإضافة (سورة) إلى (السجدة) ، فالوجه أن يكون لفظ (السجدة) في كلام أبي هريرة مجرورا بإضافة مجموع (الم تَنْزِيلُ) إلى لفظ (السجدة) ، وسأبين كيفية هذه الإضافة.

وعنونها البخاري في «صحيحه» : «سورة تنزيل السجدة». ويجب أن يكون (تَنْزِيلُ) مضموما على حكاية لفظ القرآن ، فتميزت هذه السورة بوقوع سجدة تلاوة فيها من بين السور المفتتحة ب (الم) ، فلذلك فمن سماها سورة السجدة عنى تقدير مضاف أي سورة الم السجدة. ومن سماها تنزيل السجدة فهو على تقدير «ألمّ تنزيل السجدة» بجعل

١٣٨

(الم تَنْزِيلُ) اسما مركبا ثم إضافته إلى السجدة ، أي ذات السجدة ، لزيادة التمييز والإيضاح ، وإلّا فإن ذكر كلمة (تَنْزِيلُ) كاف في تمييزها عما عداها من ذوات (الم) ثم اختصر بحذف (الم) وإبقاء (تَنْزِيلُ) ، وأضيف (تَنْزِيلُ) إلى السجدة على ما سيأتي في توجيه تسميتها ألمّ تنزيل السجدة.

ومن سماها ألمّ السجدة فهو على إضافة ألمّ إلى السجدة إضافة على معنى اللام وجعل ألمّ اسما للسورة. ومن سموها ألمّ تنزيل السجدة لم يتعرضوا لضبطها في «شروح صحيح البخاري» ولا في النسخ الصحيحة من «الجامع الصحيح» ، ويتعين أن يكون (الم) مضافا إلى (تَنْزِيلُ) على أن مجموع المضاف والمضاف إليه اسم لهذه السورة محكي لفظه ، فتكون كلمة (تَنْزِيلُ) مضمومة على حكاية لفظها القرآني ، وأن يعتبر هذا المركب الإضافي اعتبار العلم مثل : عبد الله ، ويعتبر مجموع ذلك المركب الإضافي مضافا إلى السجدة إضافة المفردات ، وهو استعمال موجود ، ومنه قول تأبط شرا :

إني لمهد من ثنائي فقاصد

به لابن عمّ الصدق شمس بن مالك

إذ أضاف مجموع (ابن عم) إلى (الصدق) ، ولم يرد إضافة عم إلى الصدق. وكذلك قول أحد الطائيين في «ديوان الحماسة» :

داو ابن عمّ السوء بالنأي والغنى

كفى بالغنى والنأي عنه مداويا

فإنه ما أراد وصف عمه بالسوء ولكنه أراد وصف ابن عمه بالسوء. فأضاف مجموع ابن عمّ إلى السوء ، ومثله قول رجل من كلب في «ديوان الحماسة» :

هنيئا لابن عمّ السوء أنّي

مجاورة بني ثعل لبوني

وقال عيينة بن مرداس في «الحماسة» :

فلما عرفت اليأس منه وقد بدت

أيادي سبا الحاجات للمتذكر

فأضاف مجموع (أيادي سبا) وهو كالمفرد لأنه جرى مجرى المثل إلى الحاجات. وقال بعض رجّازهم :

أنا ابن عم الليل وابن خاله

إذا دجى دخلت في سرباله

فأضاف (ابن عم) إلى لفظ (الليل) ، وأضاف (ابن خال) إلى ضمير (الليل) على معنى أنا مخالط الليل ، ولا يريد إضافة عم ولا خال إلى الليل. ومن هذا اسم عبد الله بن قيس الرقيّات ، فالمضاف إلى (الرقيات) هو مجموع المركب إما (عبد الله) ، أو (ابن قيس)

١٣٩

لا أحد مفرداته. وهذه الإضافة قريبة من إضافة العدد المركب إلى من يضاف إليه مع بقاء اسم العدد على بنائه كما تقول : أعطه خمسة عشرة.

وتسمى هذه السورة أيضا سورة المضاجع لوقوع لفظ (الْمَضاجِعِ) في قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [السجدة : ١٦].

وفي «تفسير القرطبي» عن «مسند الدارمي» أن خالد بن معدان (١) سماها : المنجية.

قال : بلغني أن رجلا يقرؤها ما يقرأ شيئا غيرها ، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها وقالت : رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي فشفّعها الرب فيه وقال : اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة ا ه. وقال الطبرسي : تسمى (سورة سجدة لقمان) لوقوعها بعد سورة لقمان لئلا تلتبس بسورة (حم السجدة) ، أي كما سموا سورة (حم السجدة) وهي سورة فصّلت (سورة سجدة المؤمن) لوقوعها بعد سورة المؤمنين.

وهي مكية في إطلاق أكثر المفسرين وإحدى روايتين عن ابن عباس ، وفي رواية أخرى عنه استثناء ثلاث آيات مدنية وهي : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) إلى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة : ١٨ ـ ٢١]. قيل نزلت يوم بدر في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة وسيأتي إبطاله. وزاد بعضهم آيتين (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) إلى (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة : ١٦ ـ ١٧] لما روي في سبب نزولها وهو ضعيف. والذي نعوّل عليه أن السورة كلها مكية وأن ما خالف ذلك إن هو إلّا تأويل أو إلحاق خاص بعام كما أصّلنا في المقدمة الخامسة. نزلت بعد سورة النحل وقبل سورة نوح ، وقد عدّت الثالثة والسبعين في النزول. وعدّت آياتها عند جمهور العادّين ثلاثين ، وعدها البصريون سبعا وعشرين.

من أغراض هذه السورة

أولها التنويه بالقرآن أنه منزل من عند الله ، وتوبيخ المشركين على ادعائهم أنه مفترى بأنهم لم يسبق لهم التشرف بنزول كتاب. والاستدلال على إبطال إلهية أصنامهم بإثبات انفراد الله بأنه خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما. وذكر البعث والاستدلال على كيفية بدء خلق الإنسان ونسله ، وتنظيره بإحياء الأرض ، وأدمج في ذلك أن إحياء الأرض نعمة عليهم كفروا بمسديها. والإنحاء على الذين أنكروه ووعيدهم. والثناء على المصدقين

__________________

(١) خالد بن معدان الكلاعي الحمصي أبو عبد الله من فقهاء التابعين. توفي سنة ثلاث أو أربع أو ثمان ومائة ، روى عن جماعة من الصحابة مرسلا.

١٤٠